الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2580 12
الدرس الثامن

أصول الإيمان (1)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرَحِب بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العِلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ عبد الرحمن، ووفقنا الله وإيَّاكم للعلمِ النَّافعِ والعملِ الصَّالحِ.
{اللهم آمين..
أنهينا في الحلقة الماضية جُملةً من الأحاديثِ، وفي هذه الحلقة -بإذنِ الله- نقرأ مِن قَول المؤلف رحمه الله: (عَنْ عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ الْوَلِيدِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُبَادَةَ وَأَنَا أَتَخَايَلُ فِيهِ الْمَوْتَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَةَ، أَوْصِنِي وَاجْتَهِدْ، قَالَ: أَجْلِسُونِي فَأُجْلِسَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَطْعَمَ الإِيمَانَ وَلَنْ تَبْلُغَ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: قَالَ: يَا أَبَتَاهُ، وَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ مِنْ شَرِّهِ؟ قَالَ: تَعْلَمُ إِنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، يَا بُنَيَّ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ» يَا بُنَيَّ، إِنْ مُتَّ وَلَسْتَ عَلَى هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ. رواه أحمد)}.
بسم الله، الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وبعد:
فاللهُمَّ عَلِّمنا مَا ينفعنا، وارزقنا العلم النَّافع والعملَ الصَّالح.
هذا الحديث العظيم من أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي ساقها المُصنف -رحمه الله تعالى- في أصلٍ مِن أُصول الإيمان، وهو الإيمان بالقَدر، وتحت هذا الحديث مَسائلَ ينبغي أن ننبه عليها:
المسألة الأولى: في الحديث ذِكْرُ الوصية، والوصية منها ما هو واجبٌ، ومنها ما هو مُستحبٌ، فإذا كان على المكلف حُقوق؛ فجيب عليه أن يُبينها وأن يكتبها.
وهكذا ذكر أهل العلم أنَّ الوصية تتعلق بها الأحكام التَّكليفية الخمسة، فقد تجب، وقد تكون مُستحبة، وقد تكون سُنة، ....
والوصية التي طلبها الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ من أبيه هي الوصية الشَّرعية الدينية؛ لأنَّه تخايل فيه -أو توقَّع- أنَّه ربما يكون في آخر أيام عمره، فطلب منه الوصية؛ لأنَّه صَحِبَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَحِمَ الله السَّلف ما أحرصهم على الخير!
المسألة الثانية: عُبَادَةُ -رضي الله عنه- ذكر أمورًا تتعلق بمسائل الإيمان، فإنَّ عُبَادَة في هذا الأثر رتَّبَ ذَوق حَلاوة الإيمان وطعمه على الإيمان بالقَضَاءِ والقَدَر، ولا شكَّ أنَّ الإيمانَ بالقَضَاءِ والقَدَرِ رُكنٌ من أركان الإيمان، ولكنَّ النَّاس يتفاضلون في هذا الإيمان كما يتفاضلون في غيره.
فذكر عُبَادَة الميزان لهذا التفاضل، فقال: "أن تؤمنَ بالقدرِ خيره وشرِّه"، المحبوب مِنَ القَدَرِ والمكروه؛ لأنَّ القَدَرَ مما يقضي الله -عَزَّ وَجَلَّ- به منه ما هو محبوبٌ للنَّاس، ومنه ما هو مكروهٌ لهم، وهذا من طبيعة البشر، ومن طبيعة الإنسان، ولهذا لمَّا سأل عن ماهيَّة ذلك بقوله (يَا أَبَتَاهُ، وَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ مِنْ شَرِّهِ؟)، فهو استفهام في محله، قال: (تَعْلَمُ إِنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ)، تؤمن إيامنًا يَقينيًّا بهذا، وتعقد عليه قلبك.
وفي هذه المرتبة الطمأنينة الكاملة لما وقع من المقدور، وبه النَّاس يتفاضلون، فأصل الإيمان بالْقَدَر لا شكَّ أنَّه واجبٌ، وثَمَّ مراتب يتفاوت النَّاس فيها بحسب وقوع المقدور وبحسب ما في قُلوبهم، والله المستعان!
ولهذا لما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمرأة كما في صحيح البخاري: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي». قَالَت: "إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي"، ثم بعدما ذهبت بفترة وجاءت إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: "إني لَمْ أَعْرِفْكَ يَا رَسُول الله" فقال لها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» ، وبه يتفاضلون.
وهذا مِن ذَوق حلاوة الإيمان التي لا يُوفَّق لها إلا الكُمَّل مِن عِبَادِه.
إذن هذا الحديث دلَّ على أنَّ أصل الإيمان بالْقَدَر واجبٌ، ولكنَّ النَّاس يتفاضلون فيه كما يتفاضلون في سائرِ مَراتب الإيمانِ.
المسألة الثالثة: ذُكِر أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ أَوَلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ...»)، وهذه مسألة ذكرها أهل العلم، واختلفوا في أول مخلوقات الله، وابن القيم -رحمه الله- في النُّونيَّة قال:

وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُـــــونَ فِي الْقَلَـــــمِ الَّـــــــذي *** كُتِــبَ الْقَضَاءُ بِـهِ مِنَ الدَّيَّانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ الْعَــــرْشِ أَوْ هُوَ بَعْــــــــــدَهُ *** قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي الْعَلاَ الْهَمَدَانِي
وَالْحَــــــقُّ أَنَّ الْعَــــــــــــرْشَ قَبْــــلُ لأَنَّهُ *** وَقْــتَ الْكِتَابةِ كَانَ ذَا أَرْكَــانِ
وَكَتَابَــــةُ الْقَلَــــــمِ الشَّرِيـــــــفِ تَعَقَّبَـــتْ *** إِيجَادَهُ مِـنْ غَيْرِ فَصْلِ زَمَـانِ

هذه المسألة ذكرها أهل العلم، والصَّحيحُ أنَّ القَلَمَ مِن أوائلِ مخلوقات الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما جاء في الحديث، وكما ذكر ابن القيم أنَّ العرش قبله، والأمر في المسألة يَسير -بإذن الله؛ لأنَّ لكلٍ وجهة، ولكلٍ استدلال.

{قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي خُزَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا: هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ قَالَ: «مِنْ قَدَرِ اللَّهِ». رواه أحمد والتِّرمذيّ وحسّنه)}.
هذا مِن توفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ- للمصنف في إيراد هذا الحديث عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وله تعلق بمسائل، وهي مسألة فعل الأَسباب، وهل فعل الأسباب مِن الْقَدَر؟ وهل مطلوب من العبد أن يفعل السَّبب؟
ولهذا أحسنَ بإيراد هذا الحديث في هذا الموضع.
ولهذا نقول:
أولًا: العِبَادُ مأمورون بفعلِ الأسباب؛ لأنَّ الله ربطَ النتائج والثِّمار بمقدمات، وهذا يعرفه النَّاس جميعًا، فلا يظهر الزَّرع إِلَّا بالحرثِ والغَرسِ، ولا يقع الحَمْلَ والحَبَلَ إلا بالنِّكاح، وإمام المتوكلين محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ» ، وقد بيَّن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث أنَّ اتِّخاذ الأسباب يُعدُّ مِن قَدَرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وجهُ أنها من قدر الله: لأنَّ الْقَدَر يشمل السَّببَ والمسبَّب، والفعل و النتيجة؛ ولأنَّه كله داخلٌ في قَدَرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فلابدَّ أن يُعلم هذا، وهذه طريقة أهل السنة، بخلاف طريقة غيرهم من الضَّالين والمُنْحَرِفِين عَنِ الصِّراط المُستقيم، الذين يتركون فِعلَ الأسباب كما يَفعله بعض الطُّرقيَّة والمتصوِّفة من ترك فعل الأسباب وزعمهم أنَّ ذلك مِنَ التَّوكل.

ثانيًا: المحظور في فعلِ الأسبابِ ليس أن تفعل السَّبب، وإنَّما المحظور هو الالتفات إلى السَّببِ، إذن "فعل السَّبب مَطلوب، ولكن المحظور هو الالتفات إلى السَّببِ".
لاحظ العبارة! العُلماء يُعبرون بــ "الالتفات إلى السبب"، يقول العلماء: الالتفات إلى السَّببِ عملٌ قلبيٌّ خفيٌّ، لا يَطَّلع عليه إلا الله -عَزَّ وَجَلَّ"، وربما يظهر ذلك مِن فَلَتَاتِ لسانِ العبد، أنَّه قد التفتَ بقلبه إلى السَّبب فتعلَّق به.
ولهذا جاء في الحديث: «وَمَنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ وُكِّلَ إلَيْهِ» ، فالأصل أنَّه عمل قلبي، ولكن قد يظهر في فلتات اللسان، فقد جاء النَّهي عن ألفاظٍ مُعيَّنةٍ مِن جِهة هذا الملحظ، أي من جهة الالتفات إلى السَّبب، مثل قوله: "لَوْلا كَلْبُهُ هَذَا لأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلا الْبَطُّ فِي الدَّارِ لأَتَى اللُّصُوصُ" ، كما جاء عن ابن عباس وغيره، أو ما شاكل ذلك من الألفاظ التي قد يظهر منها الالتفات إلى السَّبب والتَّعلق به.
إذن فعل الأسباب مَطلوب، ولكن المحظور هو الالتفات إلى السَّببِ.

ثالثًا: لابدَّ أن يعتقد أهل الإيمان أنَّ أي سبب لا يؤثر إلا بتحقق شُروطه وانتفاء موانعه، وكل سبب له نتيجة لا شك في ذلك، وكل سبب له شروط، وهذه الشُّروط قد تكون سابقة، وله أركان قد تكون في نفس فعل السبب، وله موانع مجموعة، ولهذا لا يتحقق أثر السَّبب إلا بتحقق الشُّروط وانتفاء الموانع، وكل ذلك بقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبأمره، لا يخرج عن أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
مثال: كم مِنَ الدَّواء ما ينفع عند فلانٍ ولا ينفع عند ذاك لأمور.
- إمَّا لعدم تحقق الشُّروط، يكون شرط النَّفع أن يأخذه في الوقت الفُلاني، أو ما يتعلق به
- أو وجود مانع لا يناسبه، أو ما شاكل ذلك.
فهذا ينفع معه، وذاك لا ينفع معه!
إذن كله بيد الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى- وهذا يُشعرُكَ ويجعل قلبك مُنعقدًا على التَّعلق بمسبب الأسباب لا بالسَّببِ، فلا يَعْدُ السَّببُ أن يكون سببًا في حُصول المطلوب، والله تعالى هو الذي يَجعله مُؤثرًا -سُبْحَانَه وتَعَالَى- ولو شاء لنزع تأثيره فلا ينفع، وهو الذي يَصرف عن العبدِ مَوانع أثر السَّبب، فيجعل الأثر يتحقق.
إذن مَبدأه وَمُنتهاه إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ.
ولهذا فالتفات العبدِ إلى السَّببِ هذا يُؤثِّر في انتفاعه بالنَّتيجة، فيكله الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلى هذا السَّبب، لكن إذا فَعَلَ السَّبب وتعلق قلبه بربه -سُبْحَانَه وتَعَالَى- فهذا مَقام التَّوكُّل، فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو إمام المتوكلين فَعَلَ السَّبب، ولذا كان فِعْلُ الأسبابِ مَطلوبًا، ولكنَّ المحظور هو الالتفات إلى الأسباب.
إذن في كل الأمور لابد من الإنسان أن يفعل الأسباب، ولكنه لا يلتفت إليها، ولا يتعلق بها؛ بل يعلم أنَّ مبدأها ومُنتهاها من الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى- وأنَّ السَّبب لا يُعطي النتيجة إِلَّا بتحقق الشُّروط وانتفاء الموانع، ومن الشُّروط ما هو مَعلوم لك، ومنه ما هو ليس بمعلوم لك، ومن الموانع ما يعلمه ابن آدم، ومنها ما لا يعلمه، فقد يعلم الطَّبيب أثر السَّبب وقد لا يعلم بقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
إذن الأمرُ كُلُّهُ مُعلق بِقَدَرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ.


رابعًا: مَا يتعلق بفعلِ الأسبابِ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عبارة عظيمة نقلها عَن السَّلف، فقال: "وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِن العُلَمَاءِ. قَالُوا: الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ" ؛ لأنَّ التَّعلقَ بالأسبابِ قد يكون شركًا أصغرًا، وقد يكون شركًا أكبرًا بحسب ما يقوم في القلب.
قال: "وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَاباً نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ"، يأتي واحد يقول: أنا متوكلٌ على الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا أفعل الأسباب! هذا لا يقبله العقلاء!
هل يمكن للإنسان أن يقول: سيأتيني ولد وهو لم يأت بسبب الولد وهو الزواج؟! هذا نقص في العقل لو قاله إنسانٌ!
قال: "وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ"، يريد أن يتحقق السبب وهو لم يفعل الأسباب! فهو قدحٌ في الشرع، وعليه فالأسباب النافعة الموصلة للمسببات هي من قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا ما أشار إليه في هذا الحديث، فالدواء والرقية أسباب، لا تأثير لها إلا بقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فمبدؤها ومنهاها من الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى.
إذن يا عبد الله لا تتعلق بالأسباب، ولكن تعلق بِمُسَبب الأسباب، وليس معنى ذلك أَلَّا تفعلَ السَّبب، لا؛ بل احرص على فِعلِ الأسباب، فالمحظور هو التَّعلق بهذه الأسباب، والالتفات بالقلب إلى الأسباب، وكما ذكرنا أنَّ الالتفات إلى الأسباب عملٌ قلبيٌ، وهو من أعمال القلوب، ومقام التوكل هو أن يفعل السبب، وأن ينظر إلى السبب وألا يعدو أن يكون سبببًا، والأمور بيد الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى.
{قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». رَوَاهُ مُسْلِم)}.
هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، وهو مِن جَوَامِع كلم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد أوتي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جوامع الكلم، واختُصِرَ له الكلام اختصارًا، فكان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتكلم بالألفاظ المعدودة التي تتضمَّن مَعانٍ كثيرة، ومنها ما يضربها أهل العلم من جوامع كلم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الحديث، وهذا الحديث له علاقة بالقضاء والْقَدَر من جهة أنَّ فِعلَ الأسباب في تحصيل القُوة بكافَّة أجناسها وأنواعها كالقوَّة البدنيَّة والقوَّة المعنويَّة، هي مما يُحبه الله تعالى وَيَرضاه، ولهذا فعلى الأمة أفرادًا وجماعاتٍ أن يَسعوا في تحصيل هذه القُوة، يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- مُخاطبًا للأمة: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، وفي هذا الحديث يقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ». هذه هي المسألة الأولى.
المسألة الثانية: النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا تكلَّم عن المؤمن القوي؛ قَصَدَ القوة البدنية والقوة المعنوية، أي: -قوَّة الإيمان- هو أحب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّها تنفع.
ثُمَّ قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدها: «خَيْرٌ وَأَحَبُّ»؛ لأنَّه أنفع لنفسه ولمجتمعه وللمسلمين، والواجب أن يتحصل أهل الإيمان على القوة البدنية والقوة المعنوية، والقوة المعنوية تشمل أشياًء كثيرة كتحصيل العلوم النَّافعة، والعلوم الشَّرعية؛ كُلُّ هذه القُوى سلاح للفرد وللمجتمع، وهذا مما يحثُّ عليه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث، ومع هذا لما أخبر أنَّ «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»، قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»، لاحظ هذه العبارة العظيمة، وفيها ملحظ عظيم؛ لأنَّ المؤمن وإن كان ضعيفًا فإنَّه لا يخلو مِن الخير، وإن كان فيه ضعف مِن جِهة بدنه، أو من جهة ضعف قدراته الإيمانيَّة وما شاكل ذلك؛ لأنَّ هذا قد يقع الإنسان فيه، ففيه تسلية لكل مُؤمن، وإن ضعف بدنك فإنَّ الخير فيك ما دام الإيمان فيك، ولهذا فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث آخر شبَّه المؤمن بالنَّخلة التي لا يُعدَم منها خير، ولهذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ».
وفي الحديث الآخر تسلية لأهل الإيمان لمن يحصل له نقص في بدنه أو يحصل له عجز من أي وجهٍ من أنواع العجز، قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟!» ، رواه البخاري.
فلاحظ شموليَّة الإسلام لكل أفراده، وليس معنى ذلك أنَّ الإنسان يتوانى، بل يحرص أن يكون من أهل الإيمان، وممن وصفهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقوة في قوله: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ».
المسألة الثالثة: قال صلى الله عليه وسلم: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ»، هذا أمرٌ بفعل الأسباب، إذن يأمرك النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن تحرص على ما ينفعك في أمور دينك ودنياك، في تحصيل منافعك في الدِّين والدُّنيا، فلا تتوانى ولا تتواكل، ومع سعيك في تحصيل ما ينفعك استعن بالله، قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»، لأنَّ هذا شعار أهل الإيمان، قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، ولا يُمكن للإنسان أن يفعل شيئًا إِلَّا وَهُو يسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- الإعانة، وهذه الإعانة مُهمَّة جدًّا في كل شيء حتى في أمور الدِّين وأمور الدُّنيا، وهذه ترجع إلى مسألة التَّوفيق والخُذلان، فذاك أُعِينَ وذاكَ لَم يُعَن، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: 46]، لم يُعنهم.
إذن المأمور أن يستعين بالله -عَزَّ وَجَلَّ، ولذلك إذا سمع الإنسان قول المؤذن: "حي على الصلاة.. حي على الفلاح" يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، أي: لا تحول من حالٍ إلى حالٍ، ولا من حال فسادٍ إلى حال صلاحٍ ولا قوة لك على طاعة إلا بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
فارتباط هذه الأمور بمسألة الاستعانة بالله -عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّه لا مانع لما أعطى ولا مَعطي لما منع -سُبْحَانَه وتَعَالَى- ولهذا يقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لابن عباس: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ» ،
إذن حديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكمِّل شخصية المسلم منكافَّة الجوانب، فتكون شخصيته متاملة تسعى في طلب الخير ونفع النفس ونفع المجتمع، قال: «وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ».
المسألة الرابعة: قال: «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَ»، ولهذا أحكام (لَوْ) تستعمل على وجهين:
الأول: على وجه التَّحسُّر على الماضي والعجز من المقدور: فيتحسر على ما فات، ويجزع لوقوع الْقَدَر عليه، كما أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 156]، هذا من صفات أهل النَّفاق، أما أهل الإيمان فيعلمون أنَّ كُلَّ شَيءٍ بقدرٍ، وأنَّ قدر الله واقع، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾ [التغابن: 11]. قال علقمة: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى" إذن هذا هو الوجه الأول، وهو الممنوع، وهو التَّحسُّر والجزع على المقدور، والمطلوب من العبد قبل وقوع المقدور أن يحرص على ما ينفعه، أي يتقي ويفعل أسباب السَّلامة والوقاية، ومع ذلك فإذا وقع الْقَدَر ووقع القضاء فالمطلوب هو التَّسليم لله -عَزَّ وَجَلَّ.
الثَّاني: استعمالها فيما يُستقبل، تقول على وجه التَّمنِّي: لو أنِّي أملكُ مالاً لتصدقتُ به. وهذا جاء في الحديث ولا شيءَ فيهِ، أو لبيان علمٍ نافعٍ كما حدث من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيان الشَّريعة لمَّا ساق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الهديَ قال: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عَمْرَةً» ، أو كما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصة الخضر: «وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَبَرَ» .
إذن الممنوع من (لو) هو ما كان اعتراضًا على قدرِ الله أو تحسُّرًا على فواتِ شيءٍ وقعَ، أو احتجاجًا بالْقَدَر على المعصية كما قال أهل الشِّرك: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَ﴾ [الأنعام: 148].
أمَّا مَا بَقِيَ مِن المسائل فإنَّ الأصلَ فيها أَنَّه لا يُمنع، ولهذا فإنَّ البُخَاري -رحمه الله تعالى- عقدَ بابًا في صحيحه، وقال: "باب ما يجوز في الـــ (لَوْ)".
إذن الأصل الممنوع ما يكون للتَّحسُّر والجزع كما ذكرنا، فلا يعترض مُعترض بقول أنَّ (لَوْ) ممنوعة على الإطلاق، بل يُمنع فيها كما جاء في الحديث ما كان على التَّحسُّر على المُضيِّ، أو الجزع إذا وقع المقدور، أمَّا في غيرها فالأصل فيه الجواز.
المسألة الخامسة: قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». ما هو عمل الشَّيطان؟
لا شَكَّ أنَّ الشَّيطان يُوسوس، فالله وصفه بقوله: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾ [الناس: 4]، فَمِن وَسْوَسَته أن يُلقي الشَّيطان في القلبِ مُعارضة الْقَدَر، فيوسوس على العبد، ولا شك أنَّ في ذلك وقوع الحزَن في قلب المؤمن، والاعتراض على الْقَدَر، والذي يجب على المؤمن أنَّه إذا وقع الْقَدَر والقضاء فإنَّه يكون كما أرشده النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ»، وفي رواية: «قَدَّرَ اللَّهُ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ» ؛ لأنَّ الأمرَ أمرُهُ والحكم حُكمه، ولا يجوز الاعتراض على قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان.
ولاحظوا في هذا الحديث مباحث كثيرة جدًّا في مسائل الإيمان، ونواحِ تربوية عظيمة جدًّا ينبغي أن يتعلمها أهل الإيمان ويُعلمونها بعضهم.

{قال -رحمه الله: (باب ذكِرِ الملائكِةِ عليهم السلام والإيمان بهِم.
باب ذكِرِ الملائكِةِ عليهم السلام والإيمان بهِم وقول اللَّه تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبيينَ﴾ الآية [البقرة: 177]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ - يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ الآية [فاطر: 1])
}.
الإيمان بالملائكة -كما هو معلوم- مِن أركانِ الإيمانِ، وهنا المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر الآيات للدَّلالةِ على هذا الأصل من الإيمان بالملائكة، وتضمَّنت هذه الآيات مسائل لابد لطالب العِلم أن يَعلمها، ومباحث مسائل الإيمان بالملائكة طويلة جدًّا، ولكن نَذْكُر شيئًا مِنها وما له دلالة في الآيات التي تلوتها -وفقك الله لكل خير.
المسألة الأولى: الإيمانُ بالملائكةِ -كما ذكرنا- ركنٌ مِن أركانِ الإيمان، وهذا الإيمان يشمل الإيمان بوجودهم، والإيمان أنهم عباد الله، بأمره يعملون ويأتمرون؛ لأنَّهم مَوجودن، وأنَّهم عباد لله -عَزَّ وَجَلَّ- وأنَّهم بأمره يَعملون.
المسألة الثانية: الملائكة مُشتقة من "الألوكة" وهي الرِّسَالة، وهم خَلقٌ مِن خَلقِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما سوف يأتي في الأحاديث التَّصريح بأنهم خُلقوا مِن نُور، جعلهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- عنده في السَّماء، وكلفهم بأعمال ووظائف هم قائمون بها، ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: 4]، فهم يتنزلون على أهل الأرض، ولهم وظائف كثيرة جدًّا.
كذلك مما يَحسنُ التَّكلُّم عليه لإيراد المؤلف هذه الآيات: أنَّ الملائكة لها أجنحة، وهذه الأجنحة متعددة بحسب عطاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- فخلقهم متنوع، قال الله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ الآية [فاطر: 1].
المسألة التي بعدها مما له تَعَلُّق بالآيات: أنَّ وظائف الملائكة متعددة:
 مِنْهُم حَمَلَةَ العَرش الذين يَحمِلون العَرشَ كما ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
 و مِنْهُم الملائكة المُقَرَّبون، قال تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: 172].
 ومِنْهُم مَن يتنزَّل بالبُشرى على أهلِ الإيمان، قال تعالى: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، الآيات.
وساداتهم ثلاثة:
 جبرائيل: وقد أوكل الله تعالى له تبليغ الوحي.
 ميكائيل: جعل الله له -عَزَّ وَجَلَّ- أمر القِطْر -يعني: المطر.
 إسرافيل: أوكل الله له النَّفخ في الصُّور


{قال: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قالت: قال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وثبت في بعض أحاديث المعراج أنه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم رُفِع له البيت المعمور الذي هو في السَّماء السَّابعة، وقيل: في السادسة بمنزلة الكعبة في الأرض، وهو بِحيالِ الكعبةِ حُرمته في السَّماء ِكحرمة الكعبة في الأرض، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إِليه آخر ما عليهم.
وعن عائشة - رضي اللَّه عنها- قالت: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: «مَا فِي السَّمَاءِ مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، أَوْ قَائِمٌ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾». رواه محمد بن نصر وابن أبي حاتم وابن جرِيرٍ وأبو الشَّيخ.
روى الطبراني عن جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه عنهما - قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبعِ مَوضِعُ قَدَمٍ، وَلَا شِبرٌ، وَلَا كَفٌّ إلَّا وفيهِ ملَكٌ قائمٌ، أوَ ملَكٌ سَاجدٌ، أو ملَكٌ راكعٌ، فإذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ، قَالوا جَمِيعًا: مَا عبَدنَاكَ حقَّ عِبَادَتِكَ إلَّا أنَّا لَمْ نُشْرِكْ بِكَ شَيئً»)
}.
هذه الأحاديث وما ذكره المصنف -رحمه الله تعالى من قوله: (وثبت في بعض أحاديث المعراج أنه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم رفِع له البيت المعمور)، هذا الحديث يدلُّ على أنَّ عدد الملائكة لا يُحصيهم إلا هو -سُبْحَانَه وتَعَالَى- وأنَّهم خلقٌ عظيم، وأنَّ الملائكة تحجُّ هذا البيت المعمور الذي هو بمنزلة الكعبة في الأرض، وهو كما جاء في الحديث «وهو بحِيالِ الكعبةِ من فوقِها حُرمتُه في السماءِ كحُرمةِ البيتِ في الأرضِ» ، دلَّ هذا على أنَّ الملائكة تقصد هذا البيت المعمور الذي لا يعلم قدره وماهيته إلا الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى- ولكنه مقصود للملائكة.
وقد شاهد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إبراهيم الخليل -عليه السلام- وقد أسند ظهره إليه في ليلة المعراج، وهذا ما صحَّ في ذكر البيت المعمور، ولكن التفاصيل يُتوقَّفُ فيها وفق ما جاءت به النُّصوص، وقد دلَّ على كثرة عدد الملائكة أنه يدخله كل يوم سبعون ألف مَلَكٍ ثم لا يعودون إليه، هذا دلَّ على أنَّ خلق الملائكة وعددهم عظيمٌ جدًّا، فتصوَّر أنَّهم في اليوم الواحد يدخل فيه سبعون ألفًا، فَهم خَلق من خَلقِ الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى- لا يُحصيهم إلا الله -عَزَّ وَجَلَّ.
أمَّا حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: «مَا فِي السَّمَاءِ...»، إلى آخر الحديث، يدلُّ على أنَّ الملائكة تقوم بعبادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأنَّ من عبادة الملائكة السُّجود والركُّوع والتَّسبيح؛ وِفقَ ما جاءت به النُّصوص، ففي الحديث ما يدلُّ على أنَّ من الملائكة مَلكٌ ساجدٌ أو مَلكٌ قائمٌ، وجاء في الآية: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: 20]، أي: لا يَنْقَطِعُون عَن التَّسبيح، فَدَلَّ على أنَّهم مُشتَغِلُون بعبادةِ الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى.

وكما تكلمنا عن الإيمان بالقضاء والْقَدَر نتكلَّم عن الإيمان بالملائكة، فالإيمان بالملائكة له أثرٌ في نفسِ العبدِ المؤمن، فله آثار تربوية وآثار عَقديَّة، فجملة من هذه الآثار التي ينبغي للمؤمن وللمؤمنة أن يعلمونها: شدَّة تَعظيم الرَّب، وأنَّ هذا الخلق العظيم الذي يخضع لله -عَزَّ وَجَلَّ- يبعثك على أن تُعَظِّم مَن يستحق التَّعظيم -سُبْحَانَه وتَعَالَى- ولذلك قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91]، فما قدَرَ النَّاسُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حقَّ قَدْرِه، ومَا عَظَّموه حقَّ تعظيمه -سُبْحَانَه وتَعَالَى.
فإذِا كانت الملائكة تخافه وَهُم خَلقٌ مِن خَلقه مُشتغلون بعبادته؛ فالعبدُ المؤمن هو أولى بالخشية، وإذا كانوا قد عَصَمَهُم الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الوُقوعِ في مَعصيةِ الرَّب -سُبْحَانَه وتَعَالَى- وَهُم مَلائكة لأنهم ﴿شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، وهم قائمون بعبادة الله -عَزَّ وَجَلَّ، وإذا كان يوم القيامة يقولون: «سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ»؛ فهذا يبعثك على تَعظيم الرَّبِّ -سُبْحَانَه وتَعَالَى.
كذلك أن تحب الملائكة؛ لأنَّ الملائكة خلقٌ محبوب، يُحبهم أهلُ الإيمان؛ لأنَّ هذه المخلوقات مُشتغلة بعبادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومُشتغلة بتسبيحه، ولهذا فإنَّ مِمَّا يبعثك على محبَّة هذا الخلق من خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّها خيِّرة ونافعة، وهي مُؤتمرة بأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهي تدعو لأهل الإيمان، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7]، فالملائكة تدعو للتَّائبين، وفي هذا تحريض لأهل الإيمان على المبادرة والمسارعة إلى التَّوبة، قال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]، نسأل الله أن يوفقنا للتوبة النَّصوح قبل الممات.
كذلك من آثار الإيمان بالملائكة -كما هو مَذكور في ثنايا أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ذِكْرِ الملائكة: أنَّ هناك الملائكةَ الكَتَبَة، وأنهم يكتبون ما يتلفظ به العبد، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، وهذا يبعثك على التَّحفُّظ والتَّوقَّي، والحرص على أَلَّا تكتب الملائكة عنكَ إلا كلَّ خيرٍ؛ لأنَّك مَسؤول ومؤاخذ بما يتفوَّه به لسانك، وسائلك الله -عَزَّ وَجَلَّ- عمَّا تتلفَّظ به وعمَّا تكتبه من خيرٍ أو شرٍّ؛ فأعدَّ للسؤال -يا عبد الله ويا أمة الله- جوابًا!
واعلم أنَّك محفوظ عليك كل شيء، والملائكة الحَفَظَة تحفظ عليك ما تقوله وما تكتبه، فاحرص على أَلَّا يُكتَبَ عليكَ إلا كل خير.

كذلك من آثار الإيمان بالملائكة -وهو متعلق بهذا الإيمان: أن تعلم أنَّ مِن ملائكةِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما هو مُوكَّل بقبضِ الأرواح، وهو ملك الموت، قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة:11]، وهذا يبعثك على الاستعداد إلى الآخرة؛ لأنَّك تعلم أنَّك ستعاين هذا الملك، وملك الموت معه أعوان، فتقبضكَ الملائكة، فتُقبَض هذه الروح وتنفصل عن ذاك الجسد، وأنت بعد ذلك مُرتهنٌ بعملكَ، ومُحاسبٌ عليه، وهذا مِنَ الآثارِ العظيمةِ للإيمانِ بالملائكة، وهي من أركان الإيمان -كما ذكرنا.
إذن ما يُخبر الله تعالى به من أمور الآخرة ومن أصول الإيمان له آثارٌ في نفسِ العبدِ المُؤمن، وهذه مَيزة المؤمن عَن غيره، فالمؤمن يُؤمن بالغيب، ومِن الغيبِ الإيمان بالملائكة، ولهذا فالمؤمن لا يَرى الملائكة، ولكن يرجو آثار اصطحاب الملائكة، فالمساجد تعمرها الملائكة، والملائكة تتأذى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدام، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة، والعبد إذا قام يُصلي في مُصلاه لا يَزال يُصلي عليه الملك ما لم يُحدِث.
أحاديث كثيرة جدًّا تعرف منها أنَّ الملائكة مُصاحبة لك ولا تنفك عنك، وهي مُصاحبة لأهل الخير، فتحرص على الأماكن التي تأوي إليها الملائكة، وتبتعد عن الأماكن التي لا تعمرها الملائكة وتبتعد عنها، فهذه آثار عظيمة، وهذا هو الأثر التربوي والعقدي.
إذن العقيدة الإسلامية تُحول الإنسان من حال الفساد إلى حال الصَّلاح، وبه تؤمَن السُّبل، ويأمن النَّاس بعضهم بعضًا، ويُطفئ الله -عَزَّ وَجَلَّ- آثار الشُّرور بهذه الأصول الإيمانيَّة، لكن الإيمان ليس شيئًا نظريًّا فقط؛ وإنما هو شيءٌ عمليٌّ له آثار.
ولهذا فعلى طُلاب العِلم وأهل الإيمان إذا جاءت مثل هذه المواضع أن يُبيِّنوا الأثر؛ لأنَّ العقيدة ليست نظرية؛ بل هي شيء عملي يَشعر به الإنسان ويُحسُّ به، ويتلمِّسُ آثاره.
ولهذا جاءت أحاديث كثيرة جدًّا عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مثل هذه الأمور، ما أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بوعده من الإيمان بالغيبيات وما يتعلق بها؛ يكون الإنسان على ذُكرٍ منها وفهمٍ، ويُربِّي أبناءه على ذلك، يُربَّى الطفل وهو صغير على أنَّه ثَمَّ ملائكة تكتبُ الخير وتكتب الحسنات وتكتب السيئات، فيتربى المؤمن على أن يكون متحفِّظًا فيما يقول وفيما يعمل، ويتحفَّظ مِن ظُلمِ المخلوقين، وَمِن ظُلم العِباد، وَمِن أَذية النَّاس؛ لأنَّه يعرف أنَّه ثَمَّ سؤال ومنه الجواب، وثَمَّ يوم سيُحاسب الإنسان فيه على كل شيء، وعند ذلك لن يستطيع أن يُنكر، ولهذا فيوم القيامة تشهد الملائكة عليه بما قال، وتُفتح له السِّجلات العظيمة، جاء في حديث البطاقة: «فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ» ، كل كلمة قالها، مَن الذي كتَبَ ذلك؟ هم الملائكة، قال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الإنفطار 10-12]، وسيؤاخذ بما قال، لن يُغادر الكتاب شيئًا، سيجد أمامه، فإذا تربى المؤمنُ على ذلك أثَّرَ فيه، ويسَّر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذه الآثار أن تكون نفسه خيِّرة كما هي أنفُس الملائكة، نفس معطاءة للخير، وبالإحسان لأهل الإسلام، وان يؤمَن جانب ذلك من أذيَّة الخلق، فيخرج من هذه النيان وهو سالم ويرجو رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهذه الدُّنيا إنما هي أيَّام وليالٍ وستنقضي، والعمر سيذهب كما يذهب كل شيء، وعند ذلك يوفَّى المؤمن ما عمله من خيرٍ أو شر.

ولهذا أقول دائمًا: لابد مِن الأثر التربوي لهذه الأصول، فكما ذكرتُ أنه لابد من تعليم النَّاس هذه الآثار حتى يتأثروا بهذه النُّصوص؛ لأنَّ العقيدةَ علم وأثر، تؤثر في الإنسان وتغيِّر في طباعه إلى الصَّلاح وإلى الخير، وإلى نفع النَّاس، وهذا من آثار الإيمان بالملائكة.
وما يتعلق بالمسائل في الإيمان بالملائكة كثير جدًّا، ولكننا نحاول قدر المستطاع أن نبيِّن مَا يَرِد من كلام المؤلف من الاستدلال بالآثار النَّبوية التي يذكرها عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو ما يذكره عن أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ذكرِ ملائكة الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى.

{من آثار الإيمان بالملائكة: أنَّ الله -سُبْحَانَه وتَعَالَى- غير محتاج لخلقه، فكثرة الملائكة وعبادتهم لا تدل على احتياجه لهم}.
صحيح ولا شك في ذلك، فالله هو الغني -سُبْحَانَه وتَعَالَى- وله مَن يعبده، ولكنه إنَّما أمرنا بعبادته -سُبْحَانَه وتَعَالَى- رحمةً بنا وإحسانًا لنا، ولهذا قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ [النساء: 147]، هو غني -سُبْحَانَه وتَعَالَى، قال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]، ومع ذلك فهو يفرح بتوبة التَّائبين، ويفرح بتقرب المتقربين له -سُبْحَانَه وتَعَالَى- فتعالى الله -عَزَّ وَجَلَّ- في عظمته، وهم والمنعم -سُبْحَانَه وتَعَالَى- ولكن التقصير والنسيان والجهل هو من ذاك العبد، والنَّفس أمارة بالسُّوء، والنَّفس مجبولة على العجز، ولهذا كان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من وصاياه البليغة لمعاذ بن جبل، أن قال له: «يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ» ، فإنَّه لا عون لك إلا مِنَ الله -عَزَّ وَجَلَّ.
أسأل الله أن يجعلنا مِن الذَّاكرين والشَّاكرين، وممن يعبدُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- حَقَّ عبادته، وأن يتوفانا مُسلمين غير خزايا ولا مَفتونين، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلوبنا على طاعتك، فوالله إنَّ الحياة الطيبة هي في طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، والحياة الطيبة في تعلم العِلم النَّافع، وفي قراءة القُرآن، والتَّقرب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بطاعته -سُبْحَانَه وتَعَالَى- وبأنواع الطاعة المتنوعة؛ فهذه هي الحياة الطيبة، وبالإحسان إلى الخلق بكفِّ الأذى عن المسلمين؛ فهذه هي الحياة الطيبة، نسأل الله أن يَرزقنا وإيَّاكم والمشاهدين والمشاهدات تلك الحياة الطيبة، وأن يتوفانا مسلمين.

{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك