الدرس السابع
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{سنبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من متن "أصول الإيمان" من حديثِ مُسلم بن يسار الجُهني -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال المؤلف: (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:172]، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسْأَلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ بُّهُ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ بُّهُ النَّارَ». رواه مالك والحاكم وقال: على شرط مسلم. ورواه أبو داود من وجه آخر عن مسلم بن يسار عن نعيمِ بن ربيعة عن عمر)}.
بسم الله، الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، اللهم وفقنا للعلم النَّافع والعمل الصَّالح، وزدنا عِلمًا، واهدنا إلى ما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنَّك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
تحت حديث مُسلم بن يسار الجُهني مسائل:
المسألة الأولى في دلالة هذا الحديث: أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ للجنَّةِ أهلًا، وخَلَقَ للنَّارِ أَهْلًا، وأنَّ الله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- مَسحَ بيده على ظهر آدم فاستخرج مِن ظَهره ذُريته، وقال: «هَؤُلاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلاءِ فِي النَّارِ»، إلى غير ذلك مِن دلالات رواية الحديث.
ثَمَّ مسائل تحت هذا الحديث، وأول مسألة: أنَّه لا تَلازم -في أَصَحِّ أقوال أهلِ العِلم- بينَ هذا الحديث الذي ذكره المصنف وبينَ آية الميثاق التي وَرَدَت في سُورةِ الأعراف، وهي قول الله -تَباركَ وَتَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف172-173]، فالصَّحيح مِن أَقوالِ أهلِ العِلم: أنَّ الحديث له دلالة مُعينة، والآية لها دِلالة مُعينة، ولهذا فإنَّ آيةَ الميثاق التي تلوتها أفادت معنًى، والحديث الذي قرأته يُفيد معنى آخرًا، وإن كان بينهما تشابه مِن جِهةِ أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مَسَحَ عَلى ظَهرِ آدم، ولهذا فإنَّ هذا التَّشابه هو السَّبب في أنَّ بعضَ أهل العلم رأى التَّلازم بين الآية والحديث، فصار يُفسر الآية بِمُقتضى هذا الحديث، فآية الميثاق تَدُلُّ على أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- جرى قدره بما أخبر -سُبحَانَهُ وتعَالَى- وحديث عُمر بَيِّن أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مَسَحَ على ظهر آدم واستخرج، فهي في دلالة القَدر، وليست في دلالة أَخذ العهد.
ووجوه هذا الفرق كثيرة جدًّا، منها: أنَّه لا تلازم بين دلالة الحديث، وبين الآية؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، ولم يقل: "ذريته" إلى غيرِ ذلك من الدلالات التي ربما يطول الوقت في بيان الفرق بين الآية والحديث، وهذا هو الذي رجَّحه ابن القيم، ولهذا مَن راجع شرح ابن أبي العز -رحمه الله تعالى- يتبيَّن له هذا الأمر، وهذا واضح وظاهر، وهو أنَّه لا تلازم بين دلالة آية الميثاق، وبين دلالة الحديث، فالحديث إنما هو القدر، وهو معنى في مُقتضى المسائل المتعلقة بالقَدَر.
المسألة الثانية التي أريد أن أتحدَّث عنها في هذا الحديث: أنَّ دلالة الحديث الذي أورده المصنف -رحمه الله- كدلالة الحديث الذي قبله في سَبْق القَدر بما هو كائن، وَقَد قَررنا فيما سبق من مسائل أنَّ العبد مُختارٌ، وأنَّ له إرادة وَقُدرة، وهذه الإرادة والمشيئة تحت مَشيئة الله -عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ في دلالة الحديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فلفظة الاستعمال هُنا هي مسألة التَّوفيق والخُذلان التي تكلمنا عنها فيما سبق، أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُوفق ويخذل مَن شاء حِكمةً وعَدلًا منه -سُبحَانَهُ وتعَالَى- ولا يَظلمُ ربك أحدًا. إذن دلالة الحديث إنَّما هي في القدر.
{قال المؤلف: (وقال إسحاق بن راهويه: حدّثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ النَّصْرِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنَبْتَدِئُ الأَعْمَالَ أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَؤُلاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلاءِ فِي النَّارِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ»)}.
هذا الحديث الذي ذَكَرَه المصنف دلالته كدلالة الحديث السَّابق، وهو أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أخرج ذرية آدم من ظهره، وقال: «هَؤُلاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلاءِ فِي النَّارِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ»، فالتيسر هنا: هو ما أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- به فقال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5-9].
إذن ليس ثَمَّ مِنَ اللهِ -سُبحَانَهُ وتعَالَى- إِلَّا العَدل، وَعِلم الله -عَزَّ وَجَلَّ- وَاقِعٌ وِفقَ الحِكمة والعدل، فليس ثَمَّ في أفعال الله -عَزَّ وَجَلَّ- ابتداءٌ مِن غَير حِكمة ولا عَدل، تَعَالَى اللهُ عَن ذَلكَ عُلوًّا كبيرًا، ولهذا تُفسَّر الآيات والأحاديث بجمع بعضها مع بعض؛ لأنَّها كلها حق إذا ثبتت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{(وعن عبد اللَّه بن مسعود حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، قَالَ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا» متّفق عليه)}.
هذا الحديث عظيم وجليل، وهو حديث الصادق المصدوق من حديث عبد الله بن مسعود عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد رواه البُخاري وَمُسلم، وهو مُتفق على صحته، وقد شرحه جمعٌ من أهل العلم، ومن أنفس شروح هذا الحديث شرح ابن رجب -رحمه الله تعالى- في جامع العلوم والحِكَم في شرح الأربعين النَّووية.
وتحت هذا الحديث مسائل: ورد في هذا الحديث أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يأمر المَلَك "بكتابة"، فوردَ هنا في الحديث "الكتابة"، وهي -كما سبق- مَرتبة من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا نقول: مراتب الإيمان بالقضاء والقدر:
العلم.
ثم الكتابة.
ثم المشيئة.
ثم الخلق والإيجاد.
فمرتبة الكتابة من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وسبق الكلام عليها.
ولكن هي أنواع في دلالة هذا الحديث:
ثَمَّ كتابة عامة: يدل عليها حديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»، قَالَ: «وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ، هذه الكتابة العامة التي ليس ثَمَّ شيءٌ في الكون إلا وقد كتبه الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيها، وهي الكتابة في اللوح المحفوظ.
ثَمَّ نوع من أنواع الكتابة بدلالة الأحاديث النبوية والنُّصوص، وهي "الكتابة العمريَّة"، وهي واردة هنا في الحديث، وهي أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يكتب على العبد، ويأمر الملَك بكتابة ما يتعلق بالإنسان، وهذا لا يكون إلا فيما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه بعد الأربعين الثالثة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ»، إذا تمَّ أربعة أشهر يُؤمر الملك بكتابة هذه الأمور: العمل، والأجل، والرزق، والشقاوة أو السعادة، نسأل الله أن يجعلنا من أهل السعادة. هذا هو النوع الثاني من أنواع الكتابة.
الكتابة السنويَّة: وهي الكتابة في ليلة القدر، وقد ذكرنا أن الملائكة تُؤمر بكتابة ما هو كائنٌ في كل عام، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان:4].
وليس في دلالة الحديث شيءٌ يُخالف النصوص -بحمد الله- ولهذا قال في دلالة هذا الحديث: «حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ»، يعني: ما كتبه الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه في عُمره مِن الشَّقاوة أو السَّعادة. وهذه المسألة تصورناها، وهي واضحة من دلالة الحديث.
المسألة الثالثة: قد يُتصوَّر -أو يَرِدُ إشكال في النفوس- من جهة سَبقِ الكتاب في الحديث؛ لأنَّه قال: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ .... فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ..... فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ»، الكتاب هنا: ما أمِرَ الملك بكتابته حينما بلغ الجنين الأربعة أشهر في بطن أمه، وكما مرَّ معنا في الدُّروس السَّابقة تقرير المحكمات في باب القضاء والقدر، ولهذا نستصحبه هنا، ونعلم عِلمًا يَقِينيًّا أنَّ سَبْق الكِتاب هُنا لا يكون فيه ظُلم مِنْ وَجه مِنَ الوجوه، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- حَكمٌ عدلٌ لا يَظلم أحدًا، ولا يَظلم مِثقال ذَرَّةٍ، وأنَّ العبد لا يُعذَّب إِلَّا على مَا فَعل، وأنَّه ليس ثَمَّ جبرٌ في القدر، وأنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- ما أكرهه ولا جبرَه، وإنَّ عِلم الله -عَزَّ وَجَلَّ- بما هو كائن وبما يَفعله العبد ليس فيه جبرٌ مِن أي وَجهٍ مِنَ الوُجوه، هذا يُستصَحب هُنا حتى نستطيع أن نُجيب عمَّا يَرِد من إشكال.
أول إشكال: كيف يعمل العبد بعمل أهل الجنة، ثم يسبق عليه الكتاب؟! كأن شيئًا حدث ضد ما يعمله!
ولهذا جاء في بعض الروايات -والحديث يُفسر بعضه بعضًا- ما يزيل هذا الإشكال والتَّوهُّم، ففي بعض روايات البخاري «فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ» ، وهذا من الصناعة الحديثيَّة أن تُجمَع الرويات؛ لأنَّه يُفسر بَعضُها بعضًا، ويُعرَف منها ما هو محفوظ وما هو غير محفوظ، وضده الشَّاذ، فبعض الروايات تفسر بعضها بعضًا، وبعض الرويات قد تكون مَعلولة، وهذا يُفيدك في الصِّناعة الحديثية في معرفة وجوه التَّرجيح.
إذن -بحمد الله- ليس ثَمَّ إشكال أنه إذا فُسِّر الحديث بهذه الرواية، وهو أنَّه يعملَ بِعَمَلِ أهل الجنَّة فيما يبدو للنَّاس، وأمَّا حقائق الأمور فلا يعلم بها إلا الله -عَزَّ وَجَلَّ.
ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "فإنَّ هذا عَمل أهل الجنَّة فيما يَظهر للنَّاسِ، ولو كان عَملًا صالحًا مقبولًا قد أحبه الله ورضيه لم يسبق عليه الكتاب" ؛ لأنَّ اللهَ لا يَظلم أحدًا -سبحانه وتعالى.
ولهذا فإنَّ هذا الحديث يحمل العبدَ على تحقيق التَّوحيد في قلبه، وعلى تنقية الأعمال مِن كُل شوائبها.
ولهذا قال ابن رجب -رحمه الله- لما علَّقَ على رواية البخاري «فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ»: "فيه إشارة إلى أنَّ باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأنَّ خاتمة السوء -أعاذنا الله وإياك والسامعين والمشاهدين منها- تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها العبد"
إذن هي ليس على ما يبدو للنَّاس والظواهر؛ لأنَّ ثَمَّ أعمال جوارح وثَمَّ أعمال قلوب، فأعمال الجوارح قد يطلع عليها النَّاس فيما يَظهر لهم، ولكن أعمال القلوب لا يَطلع عليها إِلَّا عَلام الغيوب -سبحانه وتعالى- الإرادات والنيَّات، وما يقع في القلب من أمور، نسأل الله أن يُطَهِّرَ قلوبنا مِن أمراضها.
ولهذا كان يقول بعض السلف: "الخواتيم مواريث السوابق"، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5-9]، وهذا لا يَغيب عن الإنسان، أنَّ المطلوب منه أن يَعمل، ولهذا لَمَّا أخبر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي مَرَّ معنا فيما سبق أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد كَتَبَ أَهل الجنة مِنْ أَهل النَّار، فقال رجل: أفلا نتكل على الكتاب؟ فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُو»، وهذا الخطاب يَقتضي العمل ظاهرًا وباطنًا، أي: اعملوا الصَّالحات ظَاهرًا وبَاطنًا، بأعمال الجوارح وأعمال القلوب، وأعمال القلوب مِن أَنْفَسِ مَا يَنْبَغي للإنسان أن يُفتِّشَ عنه وأن يُنقِّيَه؛ لأنَّ الأعمال إنما تتفاضل بنيَّاتها، وبما يقع في القلب، نسأل الله أن يُوفقنا لأن نعمل صالحًا ظاهرًا وباطنًا.
وهذا يَجُرُّنا إلى أن نتكلم عن الموقف مِن هذه الغيبات، أي: ما يتعلق بأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- كَتَبَ أهل الجنةَّ، وكتب أهل النَّار، وما يتعلق بذلك، ونحن نذكر بها في مَسائل القضاء والقدر، لأنها -كما قلت لكم- مثار إثارة الشبهات والتشكيكات، ولهذا نقول: إنَّ ما يخبر الله تعالى به أو ما يُخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من النُّصوص تأتي بما تُحار بها العقول، لا بما تُحيله العقول. يقول ابن تيمية: "بمحاراة العقول لا بمحالاتها".
ومن الأمور التي ينبغي أن يعلمها الإنسان: أنه لا يُقاس فعل العبد على فعلِ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّ الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]، فكما أنَّه ليس له مماثل في أسمائه وصفاته فكذلك في أفعاله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- فلا وجه للمُقَايسه، ولا يُقاس عالَم الشَّهادة بعالَم الغيب، فعالم الغيب وما يُخبر الله تعالى به لا يُقاس بعالَم الشهادة، وليس بينهما تلازم، وليس بينهما تشابه إِلَّا مِن جِهة الأسماء كما في الجنة.
ومن الأمور التي تُعين الإنسان وتُثبت قدمه على هذا الطريق: أن يُوقن بعجز العقل البشري، وأنَّ عُقول البشر جميعًا عاجِزَةٌ عن الإحاطة بكل شيء، وهذا مُهم جدًّا؛ لأنَّ مَن أَطلَقَ لِعَقلِهِ العنان وَقَعَ فِي وَرَطاتِ الأمور، ووقع في الحيرة والشَّك.
ثم نقول: لا سبيل للثبات على دين الإسلام إِلَّا بالتَّسليم لله -عَزَّ وَجَلَّ- فهو لا يُسأَل عَمَّا يَفعل وَهُم يُسألون، ولهذا فمن المهم جدًّا أن نبيِّن تعريف الإسلام للنَّاس، وهو: الاستسلامُ لله بالتَّوحيد، والانقيادُ له بالطَّاعةِ، والبراءةُ مِنَ الشِّركِ وَأَهلِه.
ثَمَّ استسلامٌ وإذعانٌ وخضوعٌ لنصوصٍ علمتَ منها ما علمتَ، وجهلتَ منها ما جلهتَ.
أمَّا عُمدة الزنادقة والملاحدة فهي التشكيك لا الإخبار والإعلام، ولهذا نهايتهم إلى الحيرَةِ وعدم الوصول إلى الحقيقة، وللأسف هذا سبب من أسباب ضلال الفِرَق -كما مرَّ معنا- ولهذا أهل الكلام قالوا في أول واجب: الشَّك أو النَّظر، أو القصد إلى النظر، وجملة من الفلاسفة من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين.
الفلسفة التَّشكيكة هي الفلسفة الرائدة عندهم، فليس ثَمَّ استسلام ولا إذعان ولا خضوع، هذا هو الفرق بين أهل الإسلام وبين غيرهم.
ولهذا فإنَّ هذه النُّصوص يُؤمن بها وفق ما جاء، وليس فيما أخبر الله تعالى به وأخبر به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيء يُعارض العُقول، وإنما تأتي النُّصوص بما تُحارُ به العقول، لا بما تحيله العقول.
{قال -رحمه الله: (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ يَا رَبِّ: أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ: أَذَكَرٌ، أَوْ أُنْثَى ؟ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَثَرُهُ، وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ» . رواه مسلم)}.
في هذا الحديث مسائل:
المسألة الأولى: في الحديث إشكال من جهة الجمع بينه وبين الحديث الذي قبله.
وجه الإشكال: جاء في حديث عبد الله بن مسعود أنَّ بَعْثَ الملك يكون بعد الأربعين الثَّالثة، يعني بعد الأربعة أشهر، وفي هذا الحديث قال: «بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً». واضح الإستشكال.
ولهذا ثَمَّ مسلكان لدفع هذا الإشكال: الترجيح، أو الجمع بين هذين الحديثين
المسلك الأول: الترجيح، الحديث الأول رواه البخاري ومسلم، وهذا من رواية مسلم، وبعض أهل العلم يرى أنَّ حديث عبد الله بن مسعود هو المحفوظ، وعليه فما جاء في حديث حُذيفة غير محفوظ، ومن المعاصرين مَن يرى ذلك مثل: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى.
المسلك الثاني: مَن يَرى الجمع، أن هذا قد يكون في بعض الأجنة، أمَّا الأَعَم الأغلب فإنه لا يكون إلا بعد الأربعين الثالثة.
والأقرب -والله أعلم- أن حديث عبد الله بن مسعود هو المحفوظ، وأمَّا حديث حذيفة فليس بمحفوظ.
المسألة الثانية: الذكورة والأنوثة، وهذا يرد عليه إشكال في أنَّ الأجهزة الآن تطورت وقد تُصوِّر الجنين، فهل هذا من علم الغيب؟
والجواب معلوم عند كثير مِنَ النَّاس، أنَّ عِلمَ الغيب الذي استأثر الله تعالى به يعمُّ كل شيء، وليست الذكورة والأنوثة فقط، وأنَّ عِلمَهُم بالذُّكوريَّة والأنثويَّة إنما يكون بعد الأربعين، بعدما يكون التَّخلُّق، فهذا هو المراد بهذا الحديث.
{ما معنى قوله: «فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ»؟}.
هذا هو التقدير العمري، وهو سبقُ الكتاب، أنَّه شَقيٌ أو سعيدٌ، فهذا التَّقدير لعمر الإنسان الذي يُؤمر الملك بكتابته مأخوذٌ مِنَ اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، وهذا الذي قال: «فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ»، ثَمَّ شيء في صحف الملائكة يمحوه الله -عَزَّ وَجَلَّ- وثَمَّ شيء في صحف الملائكة أو يؤمرون بكتابته لا يتغير وهو الشَّقاوة والسَّعادة، قال: «ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ».
{قال المؤلف: (وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ ؟ قَالَ: أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ»
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ، أَوِ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ». رواه مسلم.
وعن قتادة - رضي اللَّه عنه- في قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ قال: "يُقْضَى فِيهَا مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا". رواه عبد الرزاق وابن جرير.وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- والحسن وأبي عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبيرٍ ومقاتِل.
وعن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما- قال: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، قَلَمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فذلك قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبراني والحاكم.
قال ابن القيم - رحمه اللَّه تعالى- لما ذكر هذه الأحاديث وما في معناها، قال: "فهذا تقدير يومِي، والذي قبله تقدير حولي، والذي قبله تقدير عمرِي عند تعلقِ النفس به، والذي قبله كذلك عند أول تخليقِهِ وكونِهِ مضغة، والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن بعد خلق السماوات والأرض، والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكلّ واحدٍ من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السّابقِ. وفي ذلك دليلٌ على كمال عِلم الرّبِّ وقدرتِه وحِكمتِهِ، وزيادة تعرِيفِهِ الملائِكة وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه".
ثم قال: "فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أنَّ القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجدّ والاجتهاد. ولهذا لما سمع بعض الصّحابة ذلك قال: ما كنت بأشد اجتهادا منِّي الآن. وقال أبو عثمان النّهدي لسلمان: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا منِّي بآخره. وذلك لأنه إِذا كان قد سبق له من اللَّه سابقة وهيّأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من اللَّه أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بعدها")}.
أولًا نُعَلِّق على حديثِ عَائشة الذي جاء في مُسلم، مِن جهة أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنكر على عائشة لما قالت: "طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ"
فائدة هذا الحديث: مَنع عَائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- مِن الشَّهادة لمعيَّنٍ بالجنَّة أو النَّار، مِن جِهة أنَّها قالت: "طُوبَى لِهَذَا"، وهذا لا يُخالف مَا تقرر عند أهل العِلم وحُكيَ فيه الإجماع أنَّ أطفال المُسلمين مِن أهل الجنَّة، ولكن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنكر على عائشة القطع بذلك، وهو فائدة هذا الحديث.
أمَّا في حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ»، هذا الحديث يدل على ما دَلَّت عليه الأحاديث السَّابقة، أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد كتب كل شيء، ومَا قد يتصوره بعض الناس أنَّه ليس مكتوب؛ نُفيَ هذا التصور -أو هذا الفهم- حتى العجز والكيس.
والعجز: هو الضعف وترك الحزم، وقد يكون الخرق وعدم التَّدبير، وهذا يكون في الخلق، فهناك مَن هُو عاجزٌ أخرق، وهناك من هو ضد ذلك.
والكيس: الحَذق بالأمور والعقل والتدبير.
ولهذا فلا يُمكن أن يُفسَّر العجز هنا بعدم القدرة والاستطاعة، أي: بأنَّه غير قادر؛ لأنَّ مَنَاطَ التَّكليف -كما هو مَعلوم- عن القُدرة والوسع، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة:286]، وأحكام الشَّريعة مُتعلقة بالوِسع والطَّاقة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدً» ، إلى غير ذلك من دلالات الأحاديث.
والعجز الوارد هنا في الحديث هو مِن كَسبِ العبدِ وَفِعله، وَيصدق في التَّسويف والتَّمنِّي، ومع هذا فالله -عَزَّ وَجَلَّ- قد كتبه، ولهذا جاء في الحديث «وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ» ، إذن كُلُّ شَيءٍ بِقَدَره -سُبحَانَهُ وتعَالَى.
كذلك مِن المسائل المهمة في دلالة الأحاديث، ولها تعلق بالعجز والكيس: أنَّ الشَّرَّ قد خلقه الله -عَزَّ وَجَلَّ، وأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- خلق الخير والشَّرَّ، والشَّرُّ في مَفعولاته لا في فعله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- ولهذا جاء في حديث دعاء القنوت: «وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ»، في مُقضياته لا في فِعله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- إذن كله قد خلقه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولهذا كان في ثناءِ الخليل على رَبِّه التأدُّب معه -سُبحَانَهُ وتعَالَى- بعدمِ نسبة الشَّرِّ إليه، قال: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء:80]، قال ﴿مَرِضْتُ﴾ نَسَبَ المرض لِغيره من بابِ الأدبِ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مع أنَّه كُله واقعٌ بقدر الله تعالى، بِخِلاف الطَّريقة الإبليسيَّة، فالشَّيطان قال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف:16]، مع أنَّه هو الغاوي!
وطريقة المشركين هي الاحتجاج بالقدر: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَ﴾ [الأنعام:148]، تعليق الأمر بالقدر.
وفي ثناء النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ربه، قال: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» ؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يخلق شرًّا مَحضًا، والشَّرُّ في مفعولاته ومقضياته لا في فِعله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- والشَّرُّ نسبيٌّ إضافيٌّ، يعني بحسب ما يكون، فقد يكون في مُقضياته وأمره -سُبحَانَهُ وتعَالَى- الكوني القدري خير لكثيرٍ مِنَ النَّاس، ولكنَّه لبعضِ النَّاس شَر، كالمطر والسَّيل، فإنَّه في أَعَمِّه وَأَغْلَبه خير، ولكنَّه لبعضِ النَّاس يكون شَر في تلف ممتلكات أو إزهاق أرواح.
ولهذا فإنَّ إضافة الشَّرِّ إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- واردة بأساليب مُعيَّنة مَذكورة في القرآن، منها:
أن يُذكر الشَّرِّ في عُموم مخلوقاته، قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:101]، ومن ضمن ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ الشَّرِّ الذي خَلَقَه الله -عَزَّ وَجَلَّ- كالكفر والمعاصي ومَا شَاكل ذلك.
أن يُحذَف فاعل الشَّرِّ: فمن أساليب القرآن في ذكر الشَّر أنَّه في مفعولاته -سُبحَانَهُ وتعَالَى- كقوله تعالى: ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدً﴾ [الجن:10]، فيُحذف فاعل الشَّرِّ، فلا يُقال: "إنَّ اللهَ أراد به شرًّا" فحذف فاعل الشَّرِّ الذي هو خَالق الشَّرِّ -سُبحَانَهُ وتعَالَى؛ لأنَّه هو خالق الشَّرِّ والخَيرِ.
أن يُسنَد إلى محله القائم به: مثل ما ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن إبراهيم ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء:80].
فخلاصة ما ذكرنا: أنَّ الشَّرَّ في مَفعولاته لا في فِعله -سُبحَانَهُ وتعَالَى.
ولهذا قال في حديث قتادة -رضي اللَّه عنه- في قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ قال: "وَهِيَ لَيْلَةُ الْحُكْمِ الَّتِي يَقْضِي اللَّهُ فِيهَا قَضَاءَ السَّنَةِ" . وهذا الذي تكلمنا عنه فيما يتعلق بالتَّقدير السَّنوي.
ثم ذكر المؤلف أثر ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، .... "، إلى آخر ما ذكره ابن عباس من وصفِ اللوح المحفوظ.
واللوح المحفوظ جرى الكلام عليه: أنَّ الله كتبَ فيه كل شيء، فكما أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- خلق العرش، خلق القلم، خلق اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل شيء.
وفي هذا الأثر الذي رُويَ عن ابن عباس وصفٌ لهذا اللوح، ولكن من جهة الصناعة الحديثيَّة فن هذا الوصف حديث، ولا يصح الاحتجاج به من جهة سنده، ولا يقوى أن يورد في مثل هذا، فيقال إنه ضعيف ولا يُحتجُّ به حتى نرتِّب عليه الأحكام الشرعية فيما يتعلق بشرحه.
ولذا فصَّل ابن القيم -رحمه الله تعالى- لَمَّا ذكر هذا الحديث وما في معناه، فقال: هذا تقدير يومي في التعليق على أثر ابن عباس، قال: "والذي قبله تقدير حولي، والذي قبله تقدير عمرِي عند تعلقِ النفس به، والذي قبله كذلك عند أول تخليقِهِ..." حتى قال: "فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أنَّ القدر السَّابق لا يمنع العمل"، وهذه نقطة مُهمة جدًّا، وهي أنَّ القدر السَّابق يحمل على العمل، ولا يحمل على ترك العمل، ولهذا قال الصَّحابي فيما ورد معنا من الأحاديث: "أفلا ندعُ العمل؟". فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُو».
ولذلك قال ابن القيم: "وَاتَّفَقَتْ جَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالسُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ، بَلْ يُوجِبُ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ وَالْحِرْصَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَصْحَابَهُ بِسَبْقِ الْمَقَادِيرِ وَجَرَيَانِهَا وَجُفُوفِ الْقَلَمِ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾"
قال ابن القيم: "وقال أبو عثمان النّهدي لسلمان: لأَنَا بِأَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ أَشَدُّ فَرَحًا مِنِّي بِآخِرِهِ"
وذلك لأنَّه إِذا كان قد سبق لَه مِنَ اللَّه سَابقة وهيّأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسَّابقة التي سبقت له مِنَ اللَّه أعظم مِن فَرَحِه بالأسبابِ التي تأتي بعدها، يعني: أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- إذا كان كتب كل شيء، وخلق كل شيء، وخلق أهل السعادة من أهل الشقاوة، فهذا يحثُّك على أن تعمل؛ لأنَّ الظنَّ بربك -سُبحَانَهُ وتعَالَى- أنَّه سييسرك لأهل الجنَّة، ولكن المطلوب منك العمل، والعمل -كما ذكرنا- عمل ظاهر وعمل باطنٌ، فكما أنَّك تعتني بالأعمال الظَّاهرة عليك أن تعتني بالأعمالِ الباطنة وأعمال القُلوب، فأعمال القلوب لها أثر عظيم، وثَمَّ ترابط بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وإنما يتفاضل النَّاس بأعمالهم بحسب ما يكون في قلوبهم.
وقد مرَّ معنا في الحديث السابق: «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَ» ، وما ذاك إلا أنَّه قد قام في قلبها من توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورجاء موعده ما يسَّر الله تعالى لها تلك السَّابقة، من أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- غفر لها، فليس -بحمد الله- ثَمَّ تعارض بين هذه الأحاديث، وهذه الأحاديث يُجمَع بعضها إلى بعضٍ، ودلالتها واحدة في أنَّ الله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- قد خلق كل شيء، وقدَّرَ كل شيء، وأنَّ قدرَ الله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- ليس فيه ثَمَّ ظُلمٌ للعبادِ، وأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يُحاسب العباد إِلَّا على ما عَمِلُوا، وكما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».
والقَدَرُ سِرُّ الله في خلقه، لم يُطلع على ذلك أحد، ولهذا فلا يُنظَر من جهة أن يقول الإنسان: قد كتبني الله من أهل هذا الطريق! ولكن المطلوب العمل، لأنَّ هذا غيب لم يُطلعكَ الله عليه، ولهذا أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وركَّبَ فيك الإرادة والاختيار لتعمل، وليس ثَمَّ حائل بينك وبين العمل، فاعمل الصالحات، ونقِّ قلبكَ مِنَ الدَّسائس المفسدة من الأعمال، لعل الله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- أن يكتبك من المُفلحين، ولعل الله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- أن يوفقك لطريق الخير.
{(وعن الوليد بن عبادة قال: دَخَلْتُ عَلَى أبي وَهُوَ مَرِيضٌ أَتَخَايَلُ فِيهِ الْمَوْتَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، أَوْصِنِي وَاجْتَهِدْ لِي، فَقَالَ: أَجْلِسُونِي فَلَمَّا أَجْلَسُوه، قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَطْعَمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَنْ تَبْلُغْ حَقَّ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، فَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ وَشَرُّهُ؟ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» يَا بُنَيَّ إِنْ مِتَّ وَلَسْتَ عَلَى ذَلِكَ ، دَخَلْتَ النَّارَ" رواه أحمد)}.
هذا الأثر فيه دلالة على أنَّ الله -سُبحَانَهُ وتعَالَى- أخبر أنَّه قد كتب كل شيء، وأنَّ ذَوقَ طعم الإيمان لا يكون إلا بالإيمانِ بالقدر، ولهذا في الأثر: "يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَطْعَمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَنْ تَبْلُغْ حَقَّ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"، والإيمان بالقدر -كما مرَّ معنا- ركنٌ من أركان الإيمان.
قَالَ: (قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، فَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ وَشَرُّهُ؟)، كما مرَّ معنا أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- خلق القدر بأنواعه كلها، حلوه ومره، ليس في مَقدورات الله -عَزَّ وَجَلَّ- الخير فقط؛ بل في قضاء الله ما هو شر -كما مرَّ معنا.
قال: (تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ)، هو التَّسليم بما قَدَّره الله -عَزَّ وَجَلَّ، فإذا وَقَعَ القَضاء جَازَ الاحتجاج بالقَدر، فيجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر في المصائب لا في المعائب، ولهذا قال: (يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»)، فلابدَّ من الإيمان بالقضاء والقدر بحلوه ومُرِّه بما قدَّر الله -عَزَّ وَجَلَّ، وهذا الإيمان يبعثك على التَّسليم وعلى الرِّضا بما قضاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11]، ومن الإيمان بالله الإيمان بقدره، وقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه حلو ومرٌّ، قال: تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾، تحصل له هداية القلب.
قال علقمة بن وقاص الليثي: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ وَيَرْضَى" ، أمَّا رضا الناس بِقَدَرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- الذي هو خَير فَهذا لا إشكال فيه، ولكن التفاضل والتفاوت فيما قضاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من مُرِّ قَدَرِه، وهذا الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾، يعلم أنَّ مَا قَضاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو قَدر؛ فيرضى وَيُسَلِّم، فيحصل له ذوق الإيمان وذوق طعمه، والأنس بذلك، والرِّضا بقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
ولعلَّ -إن شاء الله- في الحلقة التي تليها ثَمَّ مَسائل متعلقة بهذا الحديث وبما قبله، لعلنا -إن شاء الله- نتحدَّث عنها.
{جزاكم الله خيرًا يا شيخ.
وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمون، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
2524 22
-
3243 12
-
3327 12
-
4637 12