الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

8845 12
الدرس الثاني عشر

فقه الدعوة إلى الله

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدُ للهِ في البَدءِ والخِتامِ، والحمدُ للهِ فيما يُوفِّق مِن الخيرِ والكمالِ والهدى في العلمِ والعملِ، والحمدُ للهِ أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، والحمدُ للهِ في حالٍ وآنٍ، والحمدُ للهِ على يُنعمُ علينا به من النِّعمِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، دعا على سبيلِ الهدى، وتركنا على المحجَّةِ البيضاءِ، فأنارَ لنا المحَجَّة، وبيَّنَ لنا الحُجَّة، وأتمَّ لنا الهداية والسُّنَّة، صلَّى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ،، أيُّها الإخوة الحاضرون المشاهدون والمشاهدات، فالتَّوفيق للعلم منَّة عظيمة، ومثل هذا اللقاء ونحن نرى أنَّ الدَّقائق قد تقاربت، وأنَّ الحلقات قد تسارعت، ولم يبقَ لنا إلا بضع دقائق، نسأل الله -جلَّ وعَلا- فيها التَّوفيق، ونعوذ بالله من الزَّللِ والخللِ، والنَّقص والخطأ، ونعتصم بالله -جلَّ وعَلا- ونعوذ به ممَّا يلحق نفوسنا مِن السُّوء ومِن الأهواءِ ومِن الضَّلال ومِن الجهلِ، ونعوذُ باللهِ أن نردَّ على أعقابنا أو أن نُفتن، ونسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُبقي العلم فينا، وأن يبقي العلم بنا، وأن يُبقيَ أهل العلم مُظهرين له، ناصحين للعباد، داعين إلى السُّنة، مبينين للحق، وأن يجعل هذا البناء بناء رفيعا باقيًا شامخًا، نافعًا للعباد في مشارق الأرض ومغاربها.
إنَّكم لتعلمون أنَّ حديثنا في المجلس الماضي كان عن وسائل التَّواصل والدَّعوة من خلالها، وإنَّ هذا البناء هو باب من أبوابها الموثوقة، ونسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يبارك فيه حتى لا يُخطئ جهازًا، وحتى لا يمتنع منه مستعمل، وحتى يأتي على كل أحد، وينتقل من العربيَّة إلى غيرها، ويأتي إلى كل اللغات بشتى اختلافها، توفيقًا من الله ومنة، وتيسرًا من الله ورحمة، ومهما كان ذلك صعبًا فإن فضل الله عظيم، وإن رحمته واسعة، وإن منته لا يكا يعرفها أحد من الخلق.
أيُّها الإخوة الكرام ربَّما كانَ في استهلالِ هذه الحلقةِ أنَّ هذا هو آخرُ اللقاءاتِ في هذه المجالس من هذه المادة "فقه الدَّعوة إلى الله جل وعلا"، ومهما اعترى هذه المجالس من النَّقصٍ أو القصورِ، أو الإشاراتِ التي لا تعدو أن تكونَ إلماحاتٍ يسيرة سريعة، وليست تأصيلات متينة لكثرة ما يُحتاج إلى بيانه، ولقلة وتضايق الأوقات عن الإبانة عن المسائلِ بتفاصيلها.
ولا يخلُ أيضًا أن تكون هذه الحلقة أضيق وأضيق من حيثُ أننا نحتاج إلى الإشارة إلى جملة من المسائل التي لا يُمكن لنا عرضها فيما مضى، ونرجوا أن نشير إليها ولو على وجه العجلة والاستعجال.
الدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- في طريقه إلى الدَّعوة يعتريه ما يعتريه ويلحقه ما يلحقه وليس له سلوان ولا إعانة إلا أن يُصبِّر نفسه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُو﴾ [آل عمران: 200]، فنذكِّر بما قلناه من أهمِّية الصَّبر والمصابرة للدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا.
إذا ذكرنا الدَّعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- فثَمَّ من عباد الله مَن انبرى لهذه الوظيف، وتصدى لهذا اللواء فحمله، وأتعب نفسه فيه، فحمله حتى كان ذلك ملء وقته وحياته، وهذا هو قول الله -جلَّ وعَلا: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، وتلك حال أنبياء الله ورسله، فدعوا حتى ملؤوا أوقاتهم وأعمارهم بالدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا.
لكن مع ذلك يجب على الدَّاعية أن يعلم أنه كما أُمرَ ووجب وتحتَّم عليه الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- فثَمَّ واجبات متحتمة، وأمور لازمة لا يجوز للدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- أن يُخِلَّ بها، ناهيك أن يُضيعها، فإنَّ مِن الدُّعاة مَن يشتغل بالدَّعوة حتى ربَّما أضاعَ حقَّ زوجهِ وولدهِ، والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» ، وإنَّ من الدُّعاة وطلبة العلم مَن أنفقَ وقتَه كلَّه في الدَّعوةِ حتى لم يبقَ له وقت لوِردِهِ من القرآن، ولا لصلاتِهِ مِن الليلِ، ولا لأنسِه بالله -جلَّ وعَلا- ؛ فأنَّى لذلك أن يُعطي؟!
إنَّما العبد بما يكتسب من عبادة الله -جلَّ وعَلا- فإذا لم يتعبَّد الله -سبحانه وتعالى- يوشك أن ينفرطَ عقدُه وتذهبَ قوتُه ويَبِينَ خلَلُه وضعفُه، ويقرِّب منه شيطانه وزلَلُه، فلأجل ذلك ينبغي للدَّاعية أن يعلم هذا.
وأروع وأوضح ما يُضرب في مثل هذا من الدَّليل والبرهان: حالُ النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسلام.
أليس الذي جاء إلى مشركين وثنيين، قد عمت الوثنيَّة في الأرض قاطبة، ومع ذلك لم يكن له ليشتغل بالدَّعوة عمَّا أوجب الله عليه من الصَّلاة، ولم يكن لينشغل بالدَّعوة عن بعض السُّنن التي هي تمام صلاحه كقيامه لليل، فكان يقوم حتى تورَّمت قدماه، وكانَ يستغفر الله في كلِّ يومٍ أكثر مِن مائة مرة، وله مِن أوراد الذِّكر ما هو معلوم وجاءت به السُّنَّة عنه -صلى الله عليه وسلم- فإذا جاء رمضان اعتكف، وبينَ الفَينَة والفَينَة يقصد مكَّة للعمرة، هي ليست واجبة غير الأولى- هذا يدلُّ على أن الدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- إذا لم يكن إقبال على ربِّه فلن يكون له نفع لغيره، فإنَّما القوة بالله، وإنَّما الاعتماد على الله، وإنما الخير بقدر ما تبعث في هذه النفس وتحملها عليه، فإنها تشرق على الناس، وكما قلنا:
ويا موقدًا ناراً لغيرِكَ ضوؤُهَا
وحرُّ لَظَاهَا بينَ جنبيكَ يضرِمُ

تدعو النَّاس إلى قيام الليل وأنت لا تفعله! وتدعو النَّاس إلى كتابِ الله -جلَّ وعَلا- وأنت لا تقرؤه! فما الذي يُجدي عليك؟!
وهذا باب مهم، ولو دخلنا فيه لاستغرق الحلقة، لكننا أردنا التنبيه على هذه المسألة، وهي: أن طالب العلم ينبغي له من العلم بما يجب من الدَّعوة، وبما يجب لنفسه من الطاعة، وما يجب لأهله من الواجب، وما يتحتم عليه من اللوازم الأخرى، وكما في حديث أبي الدرداء: «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» ، فهذا أمر مقطوع.
وفي هذه الإشارة ما يُغني عن كثير من الإطالة.
وإنَّنا لنرى أناسًا قد تصدوا للدَّعوة حتى أنقصوا ما يتعلَّق بأنفسهم، فما زالت بهم أيَّام حتى إمَّا فتروا -وهذا أيسر ما فيها- وإمَّا ضلوا -وهذا ليس بقليل في هذا الميدان.
إذن هذا مِن الأمور التي يجب الانتباه لها فيما يتعلَّق بالدَّاعية إلى الله -سبحانه وتعالى.
الدَّاعية إلى الله إمَّا أن تكون له وظيفة، وإما أن يكون بها محسنًا -أو مبتدئًا.
فهل يُقال: إنَّ الدُّخولَ في هذه الوظائف الدَّعويَّة صحيحٌ أو لا؟
هذا يتعلَّق به من جهة الأجرة عليه. هل الأجرة على العبادات صحيح أو ليس بصحيح؟
الحنابلة والحنفية يُشددون في هذا، ولكن مهما قيل فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتم عَلَيْهِ أَجْراَ كِتَاب الله» ، وفي حديث عثمان بن العاص «وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرً» ، دلَّ على أنَّ مِن المؤذِّنين مَن يأخذون أجرًا، فلا يكون في ذلك حرج، وإنَّما هي درجة في الأولويَّةِ والأفضليَّةِ والكمالِ.
فلمَّا صارت الآن الوظائف بلاء، ولا ينفك الإنسان عن محرَّم، فأن يكون في هذه الوظيفة التي هي وظيفة رفيعة، ووظيفة شرعيَّة وتُعين على الخير، وهي أدعى لبذله والانقطاع له؛ فإنَّ ذلك يكون سائغًا ولا غضاضة في ذلك، وبدٌّ مِن القولِ بهذا لِما لَحِقَ الوظائف من إشكالات كثيرة.
ولو قيل بالمنع لترتَّب على ذلك أن تتوقَّف كثيرٌ من وظائف المسلمين كالقضاءِ والتَّدريسِ، وغيرها، وعسى الله أن يعفو أن عنا، عسى الله أن يتجاوز عنَّا، فما أكثر ما فاتَ علينا مِن أجر الآخرة بسبب ما استعجلناه من أمر الدنيا.
حتى جاء في الحديث «مَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ »، مع أن الغنيمة مشروعة، قال: «إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ» ، يعني من تجرَّد وابتدأ في الدَّعوة والجهادِ مخلصًا فلا شكَّ أنَّ أجره أكمل وأتم، لكن مَن يتفرَّغ للدَّعوة ويستطيع الصَّبر على لأوائها، ولا ينشغل برزق أهله وعيشهم ويجد في ذلك قدرة وقوة على ذلك وتتيسَّر له الأمور برُمَّتِها.
أما مَن لم تتسنَّ له هذه الوظيفة فيُبادر بالدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- بقدر ما يُتاح له في مسجده بينَ أهلهِ أو في مجتمعهِ القريب، وبكلِّ ما أُتيحت له مناسبة فينبغي له السَّعي على ذلك.
أمَّا الأوَّلُ فينبغي أن يعلم أنَّ هذه الوظائف مهما جُعلت لهذا العمل فإيَّاه أن يتأكَّل بها، وأن يتكثَّرَ برَيْعِها وهو لا يؤدِّي حقَّها، فكم مِن الذين أخذوا هذه الوظائف واستفادوا منها لم يدعوا إلى خير، ولم ينهَوا عن شرٍّ، ولم يُحذروا النَّاس، ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم؛ فجمعوا السوء بِرُمَّته، حجبوا عن أنفسهم الخير، وحجبوا أن يتولاه غيرهم فيقومون به ويؤدُّونه على وجهه الذي أمر الله -جلَّ وعَلا- به.
{أحسن الله إليك.
ذُكر في القرآن عن أحوال الأنبياء كما في قوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً﴾ [هود: 51]، فماذا يُقال في مثل هذا؟}
نحن لم نتحدَّث عن المسألة من الجهة الشَّرعيَّة، فقول الحنابلة والحنفيِّة في عدمِ جوازِ ذلك له وجاهةٌ ظاهرةٌ، والقول بجواز أخذها هو قول أئمِّة مِن المالكيَّة والشَّافعيَّة ولهم معتمدٌ صحيحٌ، فمثل تلك الأدلَّة تُحمل على الدَّرجة على الكاملة العالية التَّامَّة، وهذه درجة الأنبياء والمرسلين ومَن استنَّ بسنتهم وطلب طريقتهم، ولكن هذه وظائف موجودة، وكثير مِن الأعمال الأخرى لا تخلو من شرٍّ، فمثلًا في بلادِ الغربِ، هل يتوظَّف في مطعم لا يخلو من إشكالات أو متجر، أو يتوظَّف في مسجد؟
فبقدر ما نقول إنَّ فيه إشكالات، فالإشكالات هنا أكثر، فما دامَ أنَّ لها مسوِّغ ولها باب صحيح، ويترتَّب عليها مصالح كبيرة، فلا أقلَّ مِن أن يُقال: إنَّ مَن تصدَّى لها فله مندوحة، ويجب عليه أن يبذلَ أكثرَ لعلَّ الله -جلَّ وعَلا- أن يجعلَ ذلك رِفعة لشأنه، وأن يُعقبه الخير في ذلك.
فمن تصدَّى لمثل هذه الوظائف فالله الله أن يؤدِّي حقَّها، ومَن لم يكن مِن أهل الوظائف الرَّسميَّة أو ما شابهها ممَّا يتقاضى عليه أجرًا فإن ما جعل الله -جلَّ وعَلا- للأنبياء من وظيفة الرسالة ودعوة الخلقِ وهدايتهم هو كفيلٌ بأن يتصدَّى الدَّاعية -جلَّ وعَلا- لهذه الوظيفة وأن يقوم بها، وأن يُنافح مِن أجلها، وأن يتحمَّلَ ما يلقاه مِن قلَّةِ ذاتِ اليدِ، أو من شَظَفِ العيشِ، أو مِن فواتِ كثيرٍ مِن أمورِ الدُّنيا، وأن يطلبَ ذلك مِن عندِ الله -جلَّ وعَلا- وأن يحتسبه عن مولاه، فكثير ممَّن يبتدؤون في الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- يرى قرينه وصديقَه الذي كان بإزائه تخصَّصَ في الهندسة أو في الطِّبِّ أو في الاقتصادِ، ثم فاقَ واجتمعَ له، فيرى معه هذه السَّيارة وهذا البيت، وتحصَّل له ما لم يتحصَّل لغيره؛ فكم ينقطع القلب! والنَّفس ضعيفة.
فما دام أنَّ الإنسان يشعر بما أمامه ويتأمَّل ما أعدَّه الله لعباده، وتأمَّل قِصر هذه الدنيا، وعظم ما يجعل الله مِن البركة، ومن الأمور الخفيَّة ممَّا يمنع عن العبد الشَّر، وممَّا يُفيض عليه من الرَّحمة، وممَّا يُعقبه مِن البركة في ولدٍ أو في زوجٍ، إلى غير ذلك مِن أمورٍ، وما أعدَّه الله له في الآخرة أعظم وأتمُّ؛ فإذا ملأ قلبه بذلك فإنَّه يوشك أن تلحق به القناعة، ومَن أوتيَ القناعةُ فقد أوتيَ الخيرَ كلَّه.
فهذه الدنيا عرفناها، وعرفنا أهلها، وعرفنا مَن جمع شيئًا لم يجمعه كثير من الناس، فلم يزالوا في بلاء وتعب في جمعها، وفي المحافظة عليها، وفي ملاحقة الدُّنيا، وما يدخل عليهم من الحسد والمنافرة من القرابة، ومن غيرهم، فينفتح على النَّاس من الشُّرور ما لا ينفك منه أحد.
فلما كان الأمر كذلك، والله يقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، فلأن تكون في مكابدة في العلم والهدى والدَّعوة والخير، خير من أن تكون في مكابدة في أمور قد تكون عاقبتها سوء ومعصي، وشر ووبال في الدنيا والآخرة.
إذن -كما قلنا- ستكون إشارات عابرة، وننتقل إلى ما بعدها.
{أحسن الله إليك.
السُّؤال فيما يخصُّ الدَّعوة كوظيفة، بعض الجهات الرسميَّة قد تطلب رخصةً في هذا الأمر}.
هذا سؤال مهم، ولابدَّ من الحديث عن ذلك، فالدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- ينبغي أن يَحذَرَ ممَّا يُفسد دعوته، ومِن أعظمِ ذلك أن يطلبَ الطُّرق المأذون فيها والمسموح بها، وإن أي داعية يتجاوز ما أذن له فيه فإنَّه يفتح على نفسه بابَ شرٍّ عظيم وعلى المسلمين.
على سبيل المثال: طلب التَّصريح في الدَّعوة.
ما دام أنَّه ممكن فإنَّه يطلبه حتى لا يُعرض الدَّعوة إلى ما هو أشد من ذلك، فإنَّ هذه دول وجهات تَرقُب وتحسِب لكلِّ حركةٍ حسابها، فما دام أنَّ الأمر كذلك لو بقيَ لنا باب مفتوح بقدر(10 %) خير مِن أن نأتي بدعاة لا يُسمح لهم بذلك، ثم بعد وقت قصير يُغلق ذا وذاك، فلا يبقى من الدَّعوة شيءٍ مفتوح، وهذا واضحٌ في حوادثَ حصلت في الغربِ في أوروبا وفي غيرها، تنكَّست أمورُ الدَّعوة بسببِ بعض الأمور الخاطئة، فلا ينفك الإنسان أن يطلب طرقًا سليما سالمة مِن الخللِ مانعة الإشكال.
فإذا كان للمساجد -مثلًا- برامج معيَّنة يؤذن فيها، وثَمَّ برنامج لا يؤذن فيه، فلا ينبغي أن يؤتى إلى هذا البرنامج فيُفعل في المسجد، فيُغلق هذا ذاك، فينغلق على النَّاس شَرٌّ كثير.
وفي كلِّ العالم تقريبًا تتفاوت هذه الأمور، فالدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- مائة باب، بعض الجهات تمنع عشرة، وبعض الجهات تمنع خمسة، وبعضها تمنع خمسة عشر؛ تتفاوت في ذلك تفاوتًا يسيرًا، لكن أصلها مفتوح، فإياك أن تأتي إلى هذه الثَّمانين أو التِّسعين أو الخمس وتسعين بابًا من الدَّعوة المأذون فيها فتفسدها بهذه الخمسة الممنوعة حينما تدخلها، فتعود عليك وعلى المسلمين بمنع ما أذن فيه من الخير.
هذا ِمن حيث الأصل، ولكن تفاصيل ذلك تختلف باختلاف الأحوال، وباختلاف ما يحتف في كل مسألة بعينها، فقد يترتَّب على ذلك حكمًا يخصُّها أو مسألة يُمكن أن يفترق حكمها، فيُنظر إلى الأمورِ بخصوصها، ولكن من حيثُ الجملة فالأمر كذلك.
ومِن أعظم ما بُليَت به الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- تلك الفئات الفاسدة التي تزعمُ أنَّها تدعو إلى الخيرِ وهي تفسده، وتزعم أنَّها تدعو إلى الإسلامِ وهي تخالِفه، وهي الفئات الإرهابيَّة الدَّاعيَّة إلى الدِّماء المكفِّرة لعباد الله، الفاتحة بابَ الشَّر ِّكلِّه، فما دام أنَّ الدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- ملتزم بالدَّعوة فينبغي أن يعلم أنَّ تلك الأبواب مِن أعظم ما يفسد عليه فيحذرها ويُحاذرها ويُحذِّر منها، ويُباعد طريقها، وهذا إنَّما هو على سبيلِ المثال، ولكن كل ما ماثل ذلك وقاربه مِن الأمور التي قد تؤثِّر على دعوتك يجب أن تحذر منها، وأن تتنبِهَ لِما يدخل مِن خلال ذلك فيفسد الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- وهذا أمر مهم.
واستغلال الأبواب المفتوحة في الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- عبرَ القنوات المأذون فيها النِّظاميَّة من الجامعات أو المساجد أو الجهات أو نحوها كفيل بحصول الدَّعوة إلى الله وانتشارها، فإن لم يكن إلا مواقع التَّواصل -التي جرى الحديث عنها- فهو أيضًا كفيل بذلك.
وأذكر أنَّ الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- لمَّا حصل انكسار للشيوعيَّة التي حاربت الدِّين ونحوه، جاء بعض الطُّلاب وذكروا معاناتهم في الإبقاء على أصلِ دينهم، حتى إنهم كانوا يدخلون في الكهوف فيصلُّون أو يتعلَّمون الفاتحة مِن القرآن، قصَّ علينا طالب بين يدي الشَّيخ حتى بكى وأبكى النَّاس كلهم!
فما دام باب الدَّعوة مفتوح، فنبغي ألا يُشغَّبَ على الدُّعاة بالذِّهابِ إلى مواطنِ الإشكالِ، أو المواطن التي لا تكون مأذون فيها، فيحصل بذلك إفساد كثير.

مسألة أخرى تكمِّل هذا:
مِن الأمور التي تحصلُ لبعض الدُّعاة أنَّه إذا انفتح له بابٌ في الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- ربما يلحقه شيء مِن الحماسة فيريد أن يكبرَ ذلك، فيدخل في بعضِ المشاريع الدَّعويَّة، والدُّخول في المشاريع الدَّعويَّة لا غضاضةَ فيه ولا إشكال إذا كان هذا الأمر على وجهٍ صحيحٍ ودقيقٍ، وتحت مظلَّة صحيحة نظاميَّة لا إشكال فيها، ثم وَثَقَ أن يكون مساق الأمور النِّظاميَّة والإداريَّة والمعماريَّة والماليَّة كلٌّ بحسبِهِ، لأنَّ بعضَ الدُّعاة قد يكون جيدًا في الدَّعوةِ إلى الله -جلَّ وعَلا- وقد لا يكون متَّهمًا في سوء نيَّته في المال، لكن لا يُحسن إدارة المال، فإذا جاءَ إلى مثل هذه المشاريع ظنَّ أنَّ إدارة الدَّعوة وإدارة المال شيء واحد، فتولَّى ذلك فأفسدَ؛ فاتُّهم في نفسه! وربما دخلَ في المال فطمعَ فأفسدَ على نفسِهِ، ومثل ذلك الأمور الإدارية وغيرها.
فإذن ينبغي للدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- أن يعرفَ نفسَه، وأن يعرفَ مكانَه، وألا يتجاوزَه، وأن يُعطى كلُّ ذي فنٍّ فنَّه، وكمثل المثل المشهو "أعطِ الخبَّازَ خبزَه وإن أكلَ عليكَ نِصفَهَ"، لأنَّه لا يُمكن لك أن تخبز وأن تصلح الخبز، فكذلك لا يُمكن للدَّاعية أن يتولَّى ذلك كله.
ومِن أكثر ما وَقعَ فيه الخطأ عند الدُّعاة إلى الله -جلَّ وعَلا- حينما تكبر دعوتهم ويبدؤون في المشاريع وتتفرَّق بهم الأمور، ويدخلون مداخلَ سوء، أو يرتِّبون على أنفسِهم إشكالات أو على غيرهم، أو يتصور شيئًا على غير وجهٍ صحيح فيبدأ في أمور لا يحسنونها، أو لا يقدون على إتمامها، فيُفضي ذلك عليهم بالإشكال أو بالنَّقص، أو ربَّما بالمتابعة والملاحقة وما شابهها. هذا أيضًا داخل فيما ذكرناه من إفسادِ الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- وما يحصل من الإنسان من الخطأ.
الأموال الأموال!
أنا أحذر مِن الأموال في الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- والانتباه لها، والأموال هذه أوراق مسؤولة يجب أن تدخل بوجهٍ صحيح وأن تخرج بوجه صحيح، وكل الجهات والدُّول تعتبر للأموال أدق ما يكون، وينبغي للدَّاعية أن يكون كذلك، ويسعنا من الأمور المفتوحة النِّظاميَّة ما يمنع أن يتعاطى الإنسان بأي شيء من الأمور سواها، وخاصةً أن كثيرًا ممَّن يتربصون بالدَّعوة والدُّعاة يبثُّونَ الأموالَ لعلمِهم أنَّها تصل في غيرِ سبيلها، أو أنَّها توصلهم إلى إفسادِ الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- أو أن تكون بابًا إلى أهلِ الإرهابِ والإفسادِ الذين قوتهم وزادهم المال، فيمرِّرون بعض البسطاء وبعض الدُّعاة إلى الله -جلَّ وعَلا- فيجعلونهم كالنَّاقل لهم من حيث لا يشعرون، فيعطونك أنت أو يعطون لمشروعٍ صحيحٍ على وجهٍ صحيحٍ، ثم بعد ذلك يمرِّرون عن طريقك ما ليس بصحيحٍ، فوالله لو كانوا يعطونك مليون دولار، ويمررون عشرة آلاف دولار لغير وجه صحيح لكان لك أن تستغني عن المليون لتسلَمَ من تبعةِ العشرة، فكم يُقتل بها من أناس؟! وكم يحصل بها من شرٍّ؟ وكم يُفتح بها من بلاء؟! وكم يُمنع بها من الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا؟!
فهذا أمر مهم، كيف والمال هو مفسدة للإنسان، ولذلك الإمام أحمد سئل عن الرَّجل يجمع المال، قال: "السَّلامة لا يعدلها شيء"، يعني: في أمور الخير والهدى.
فإن كان ولابد فكما قلنا يكون جمع المال على وجه صحيح، وبأمور نظاميَّة، وأن يُصرف في مصارفه، وألا يُحابيَ نفسه، وألا يجعل الحاكم على المال لنفسه هو نفسه، أن يكون هو المدير مثلًا فيجعل لنفسه راتبًا، أو يتَّخذَ مِن المالِ ضيافة، أو يتوسَّع بها في أهلِهِ، أو غيرِ ذلك؛ ظنًّا منه أنَّه ممَّن يسُوغُ له ذلك، وعسى الله أن يعفو عنَّا وأن يعصمنا مِن الزَّللِ في مثل ذلك الأمر.
ومِن الأمور المهمَّة التي ينبغي الحديث عنها: عمل المرأة في مجال الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا.
المرأة كالرجل سواء بسواء في سائر الأحكام الشَّرعيَّة، إلا ما دلَّ الدَّليل على تخصيصها فيه، فهي تدعو إلى الله -جلَّ وعَلا- وتهدي الناس، وتعلمهم، وكم عرف من الصَّحابيات فمَن بعدهنَّ ممَّن دعت إلى الخيرِ واهتدى النَّاس بها.
لكن ينبغي للمرأة أن تعلمَ أنَّ ما اختصَّها الله -جلَّ وعَلا- به من القيام بمسؤولياتها وبيتها وزوجها هو أولى وأوجب ما فيه الأجر والثَّواب، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّتِ المَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ شِئْتِ» ، قال أهل العلم: في هذا إشارة إلى أن ما يُطلب من المرأة ليس بكثير، لكنه عظيم.
فمن أجلِ ذلك لا يجوزُ لها أن تُقدِّم الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- على بعضِ ما يجب، فتخرج من بيتها ولم يأذن لها زوجُها، فإذا كانت لا يجوزُ لها أن تخرج لزيارة والديها إلا بإذن زوجها، فكيف بالدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا؟!
وينبغي للمرأة أن تتحفَّظَ، فإنَّ مِن النِّساء مَن تدعو وتدعو حتى تنفتح عليها الأمور، فربما داخلت الرِّجال وربما خالطتهم، ولقد رأينا داعيات من النِّساء عُرفنَ بالخير، فلم يزل يَستَجريهنَّ الشَّيطان حتى خرجنَ على الشَّاشات، حتى ولو كنَّ غيرَ متجمِّلاتٍ فما الذي حملكنَّ على هذا ؟! من الذي ألزمكنَّ بهذا وغيركم يقوم به ؟!
حتى ولو قلنا بجواز كشفِ الوجه فثَمَّ محاذير كثيرة، ثم رأينا من الضَّحكات وغيرها من الشَّر الكثير، فأصله وفصله وتفصايله كلها لا تنفك عن شرٍّ، وهذا نذكره كالمثال، وإن أكثر النِّساء لا يصلنَ إلى ذلك، فلا تنفك كثير من الدَّاعيات من الدُّخولِ إلى مجتمعاتٍ قد تستزلُّ فيها القدم، وقد يحصل فيها الخلل.
فينبغي للمرأة أن تعرف الواجب الذي أوجبه الله عليها، وينبغي عليها أن تؤدِّي الأمور بمعرفة ما جعلَ الله لها من القرارِ في البيت، ومِن حفظ نفسها، ومِن علمها بما يحصل بها من الفتنة، وأن تؤدِّي ذلك بقدر يحصل به الخير، ويمنع من الشَّرِّ.
إذا عرفنا هذا، فكم مِن دعوة يسيرة لامرأة أو غيرها جعل الله بها الخير الكثير، فلا تنظري إلى أن فلانًا يجتمع له مائة فيشترط حتى تبلغ دعوتك مبلغها أن يستمع لكِ مائة أو ألف أو نحو ذلك، ولا تنظري إلى أن فلان وهو لا يحسن في العلم كثير وُجد له من القبول فلابد أن يوجد لكِ مثله، ربَّما تهتدي بكِ امرأة فيولد لها ولد فيكون من علماء المسلمين، فيبقى خيركِ أبد الدَّهرِ -بإذن الله جل وعلا- فالأمور ليست بظواهرها وإنما بحقائقها.
إذن، المرأة كالرجل إذا أتقنت العلم وأحسنته فإنَّها تدعو إلى الله -جلَّ وعَلا-، دعوتها لا تنفي عنها ما أو جب الله عليها من واجبات في بيتها وزوجها وولدها، وما افترض الله عليها، مثلما قلنا إنَّ الرَّجل لا يُفسدُ ولا يُضيعُ ما وجبَ عليه من العَيلةِ والأهلِ والولدِ.
ويجبُ على المرأة أن تحفظ نفسها من مواطن الفتنة، فهي أكثرُ قربًا مِن الفتنة وأسرع إليها، وقد يُزيِّن لها الشيطان ذلك بداعي الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- فتذهلَ نفسُها، فيقع خللها، فيلحق بها من الشُّرور ما لا يُعدُّ ولا يُحصى.
{أحسن الله إليك.
ماذا يفعل الدَّاعية إذا أوقف توقيفًا كاملًا عن الدَّعوة، بأن لا يكتب ولا يخرج للناَّس، ولا للصلوات، إلى آخره...؟}.
إذا أوقف الدَّاعية عن ذلك كله، فالحمد الله فإنَّ الدَّعوة لا تتوقَّف عليه، وغيره يكفيه، وهو قد أدَّى ما عليه، ويجب عليه أن يسمع وأن يُطيع، وهذا معروفٌ عند أهلِ العلم، ومعروف في قصَّة الإمام أحمد، فقد مُنع مِن التَّحديثِ فامتنعَ، ولم يزل أهلُ العلم يتكلَّمون على مثل هذه المسائل، فالحمدُ لله الخيرُ باقٍ، والدَّعوة منتشرة، وقد يكون ذلك خير للإنسان، وهذا إذا كان سبب إيقافه غير صحيح فيقف، فكيف إذا كان سبب الإيقاف صحيحًا بأن يكون عُرف منه العجلة، أو بعض مقدمات التَّهور فيُخشى عليه، أو يُخشى منه، أو اجتمع له بعض مَن يُخشى منهم، أو بعض مَن لا يُوثق بهم، ومَن تعلَّقت بهم الرِّيبة، أو لغير ذا وذاك؟!
فلأجل ذلك قلنا: حتى ولو كان إيقافه ليس له أصل شرعي صحيح، فلا يسعه إلا أن يسمع ويُطيع. هذا إذا كان في بلاد الإسلام.
أمَّا إذا كان في بلاد غير المسلمين، نقول له: يقف، لأنَّه يحفظ نفسه من الشَّرِّ، ويمنع أن يتسبَّب على نفسه بلاء وفتنة، وعلى المسلمين كذلك، والله يتولانا برحمته.
من الأمور المهمة: أنَّ مِن أعظم ما يَعرِض للدَّاعية حصولُ الجاه والمنصب.
بعض الدُّعاة يكبر بالدَّعوة، وبعضهم ربما كبر بغيرها كأن يوجد له منصب آخر فيفسد عليه دعوته.
ولذلك جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ أَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» .
معنى الحديث: أنَّ فساد المسلم بالجاه مثلَ فساد الذِّئب إذا دخلَ حظيرة الغنم، فإنَّ الذِّئبَ إذا دخلَ حظيرةَ الغنم ِما يأكل واحدة ويذهب؛ بل يقتلها كلَّها ثم يأخذ واحدةً ويذهب، فحتى التي لا يحتاج إليها يقتلها، فكذلك الجاه يُفسد على الإنسان دينَه كلَّه، وهذا معروف في الواقع وحاصل، ولأجل فالحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- وهو ممَّن جمع الله له العلم والدِّيانة والحديث والفقه والصلاح ألَّف رسالةً مختصَّة بهذا الحديث لِعظَم ما يحصلُ به من الشَّرِّ والفتنةِ.
فهذا مِن الأمور التي ينبغي للدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- أن يتنبَّه لها.
ثَمَّ مسألةٌ تتعلَّق بالدَّاعيةِ والدُّعاةِ إلى اللهِ -جلَّ وعَلا:
كتب الله في الدنيا كلها أنَّ الإنسان يتأثَّر بقرينه، وتتحرَّك نفسه في اتِّجاهه، وكلَّما قويَ القرينُ أو ظهرَ، أو برزَ وشُهرَ؛ زادَ حنقُ النَّفسِ وغلُّها، ولأجل ذلك لم ينفك النَّاس على مرِّ التَّاريخ حتى في الأمور الدُّنيويَّة أو الدِّينيَّة أنَّ كلَّ قرينين يتحاسدان، وكلَّ متماثلين يتباعدان، حتى إنَّ المرء ليبلغ به الحسد مِن أخيه أكثر ممَّا يبلغ به من الرَّجل البعيد، وإنَّه لربَّما رغبَ في أن يكون هذا الخير لقصيٍّ لا يعرفه خيرٌ عنده من أن يكون لابن أبيه وأمه، فلمَّا كان الأمر كذلك فإنَّ أعظم ما يحصل للدُّعاة إلى الله -جلَّ وعَلا- الغيرة والحسد والتَّنافر بسبب ذلك بين الدُّعاة، فيفضي بالدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- أن يتربَّص بغيره، أو أن يُظهر نقيصته، أو أن يخالفه، أو أن يباعده، أو أن ينفرد عنه بدراسة أو بمدرسة أو بعمل أو بغير ذلك، أو أن يفرح بسوءته فيُظهرها، أو أن يفرح بمخالفيه فيقربهم، وكل ذلك من الأمور التي أشهر من أن تذكر.
والواقع مليء بذلك، وهذا الحدث يتحدَّث عن نفسِهِ في كلِّ يومٍ، فالدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- إن لم يُحجم نفسه ويُلجمها بلجام التَّقوى، ويخاف الله -جلَّ وعَلا- ويحاسبها صباح مساء؛ فإنَّها لن تنفك بحالٍ مِن الأحوالِ أن تقعَ في هذا المزلق، وبدل أن يكون الدُّعاة أسرة وإخوة متحابِّين متعاونين، وأن يعفو الدَّاعية عن أخيه ويتجاوز عنه، وأن يَدْمَحَ زلَّته وأن يُقوي ضعفه، وأن يعينه على دعوته، وأن يجتمع في ذلك أن يعود على أخيه بالنَّقصِ والإضعافِ، فهذا من تسويل الشيطان، وربما بلغ الإنسان في ذلك من السوء مبلغًا عظيمًا.
إذن، أيها الإخوة ينبغي الحذر من هذا الباب أيُّما حذر، وإنَّه لبابٌ يوشك أن يكونَ مِن أعظمِ ما بُليت به الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- حتى رمَى الدَّاعية أخاه، وحتى أبعده، وحتى ألحق به كل وصمة وعار.
فإذا تكلَّمنا عن الدُّعاة فلا أقلَّ مِن أن يكونَ الإنسانُ سليمَ القلبِ، سليمَ الصَّدرِ، ومِن أعظمِ ما ينبغي للإنسان أن يُكثر الدُّعاء بأن يسلّ الله سخيمة قلبه. وهذا ممَّا جاء في السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيدعو بدعاء ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10]، فيدعو لمن وجد نفسه تتحرَّك بخلافه، فإذا رأيتَ أنَّ فلانًا نفسك تنفر منه وتحسده فادعُ له، وإذا رأيتَ من شخصٍ آخر أن يحسدك ويُباعدك فادعُ له؛ فإن ذلك أطيب لنفسك أن تبعد عن الشر وأهله، وأن تطيب إلى الخير، وأن يكون ذلك صلاحًا لقلبك وصلاحًا لصاحبك، فمهما بَعُدَ يوشك أن يقرِّبه الله، ومهما أخطأ فيوشك أن يُبِينَ الله -عزَّ وجلَّ- له الطَّريق ويعصمه، وإلا يكون له هداية، فلا أقلَّ مِن أن تكونَ قد سَلِمتَ مِن التَّبعة، وكتبَ الله لك الأجر مرتين: في العفو والصفح، وفي الدعاء وطلب الخير لأخيك.
فهذا أمر مهم، هذا أمر عظيم، هذا أمر يجب أن يكون للدعاة في أفريقيا وفي آسيا وفي أوروبا وغيرها، فما يكون من الخلل والنقص فحقُّه النُّصح والتَّناصح «الدِّينُ النَّصِيحَةُ » ، ويقول جرير: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" .
وما يأتي مِن موضوع هجرِ المبتدع ونحوه هذا من المعروف عند أهل العلم أن بابه باب السِّياسة الشَّرعيَّة، فإذا قويَ الخير فهَجْرُ المبتدع انفع، وإذا ضعف الخير فإنَّ هجرَ المبتدع لا يُفيد، وكذلك هجر المخطئ، فلذلك ينبغي التَّحبب إليه، وهدايته، وتبصيره للحق، وتخصيصه بشيء من ذلك؛ فإنَّ هذا أقرب إلى هداية الناس ودعوتهم.
وممَّا ينتج عن ذلك وهي آفة هذا العصر: تتبع زللِ الدُّعاة وإظهاره، والتَّعبد لله -جلَّ وعَلا- بذلك، وابن المبارك يقول كلمة عظيمة: "مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالسُّلْطَانِ ذَهَبَتْ دُنْيَاهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالْإِخْوَانِ ذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ" .
ويقول بعض أهل العلم المتقدمين: "إذا كان طالب العلم يتعلَّم الوقيعة في الدِّين قبلَ أن يتعلَّم المسألة في الفقهِ متى يُفلح؟!".
ويقول بعض أهل العلم: إذا كان الديك -وهو طير- قد مُنع من سبِّه لأجل أنه يدعو إلى الصلاة، فما بالك بمَن جعله الله -جلَّ وعَلا- أخًا لك يُعينك، وهو على منهاجك، وعلى طريقة أهل السُّنَّة والجماعة، يُقرب الخير ويدعو إليه، فهو أولى من أن ألا يُسبَّ أو يُنتقص أو يُغتاب، أو يُحذَّر منه؛ حتى تُبيَّن له الخطيئة ويُبصَّر بالهدى ويُعان عليه؟.

فإن قال قائل: فما بال الخطأ الذي بيَّنه أو أظهره أو أعلنه؟
نقول: هذا لا يخلو من حالين:
- إما أن يكون هذا الخطأ ممَّا يتعلَّق بعموم النَّاس، كأن يُبيح شيئًا محرمًا، فيقول: الرِّبا جائز.
فنقول: لا ينفك النَّاس مِن البيان، فيُقال: الرِّبا ليس بجائزٍ ومحرمٌ، وكبيرةٌ من كبائرِ الذُّنوب، إلى غير ذلك.
- وإن كان ممَّا لا يتعلَّق به عموم النَّاس، يعني لا يحتاجون إليه ولا يواقعونه، فهو أمر خاصٌّ؛ فلا ينبغي إظهار ذلك، ويُخصُّ بالدَّعوة ويُبيَّن له الحق، إلا أن يكون هذا ممَّن زاغ عن الحق في أصل مِن أصول أهل السُّنة والجماعة، أما الهفوة والهفوتان فلا ينفك أحد منَّا من ذلك.
فإذا كان كذلك فيُحذَّر منه لانحراف سبيله، لا لوجود هفوةٍ أو خطأ، أو عنده مسألة أو مسألتان، مَن منَّا يسلَمُ من ذلك، حتى أهل العلم المتقدمين والرَّاسخين ذكروا عنهم ما ذكروا!
ثم إذا نُبِّه عليه في المسألة التي أخطأ فيها؛ فليسَ معنى ذلك استباحة عِرضه، وليس معنى ذلك انتهاء حقِّه، وليس معنى لذلك أن يُتتبَّع في كل شيء، فيُبيَّن الحقُّ، ويُدعى إليه، والحقُّ أحقَّ أن يُتَّبع، والهدة ينبغي أن يُبلَّغ، ويُنبَّه على ما عنده من الخطأ، ثم يبقى له ما للمسلمين مِن حقوق بحسب حاله كما هو مقرَّرٌ عند أهل العلم.
ثم ينبغي هنا أن يُعلَم أنَّ بعضَ ما يعتقده بعض الدُّعاة وطلبة العلم مِن خطأ أو خللٍ أو تكبير ذلك الخطأ قد لا يكون كذلك، فيُرجع إلى أهلِ العلم الرَّاسخين في الزَّلَّة التي وقع فيها، وما الذي يجب تُجاهها، وما الذي يترتَّب على قائلها والمتلبِّس بها، فإن ذلك أنجع في أن يقع الإنسان في الخطأ، وأن يستبيح بذلك الأعراض.
وأيًّا كان ذلك فينبغي للمسلم أن يتخلص من حظوظ نفسه، لأنَّ بعضَ النَّاس قد يُخطئ، وقد يكون هذا الخطأ مما ينبغي أن يُستدرك؛ لكنه حينما تكلم إنما تكلَّم ليريد الحط من ذاك والرِّفعة من نفسه؛ فإن هذا من حظوظِ النَّفس التي تفسد على المرء ولا تصلح، فنبغي للإنسان أن يُصلح نفسه، وأن يُصلحَ الخطأ، وأن يطلب رضا الله -جلَّ وعَلا- في الأمرين جميعًا -في نفسه وفي النَّاس- فإن ذلك أدعى للحق، وأرجى لتحصيله.
{أحسن الله إليك.
الدُّعاة عادة لهم مراجع يرجعون إليها، سواء كانوا العلماء، وهؤلاء العلماء قد يكونون في دول مختلفة، فنلحظ أن المراجع هم الذين يتناحرون أصلًا! فيرجع هذا الدَّاعية الذي علمه قليل إلى هذا المرجع...، وهكذا}.
أولًا: إذا كان مسار المسائل وبيان الحق وهداية الحلق؛ فما منَّا إلا رادٌّ ومردود عليه، ولكن إذا كان ذلك تشفِّيًا وإظهارًا للنَّقصِ ونحوِ ذلك، فإن عند حصولِ الاختلاف يُرجع إلى مَن هو أعلم وأرفع، فما مِن مسائل اختلف فيها بعض طلبة العلم أو كبُر الخلاف واحتدَّ فيها النِّزاع إلا وثَمَّ مَن يُرجع إليه ممَّن يُطلَب به الحق والهدى، ويُرجى أن يكون محلًّا لثقة الجميع.
ومَن امتنع مِن قبول الحقِّ في مثل مسألة بخصوصها، فيقول: لا آخذ من هذا الشيخ هذه المسألة أو غيرها؛ فهذا ممَّن أصابه الهوى في قلبه!
فبعض النَّاس يقول: هذه المسائل لا يعرفها الشَّيخ!!
فهذه مِن الأمور التي يحصل بها شيء من الزَّلل، فينبغي الرجوع إلى أهل العلم فيها.
ثم إني أوصي الإخوة بأن يُكثروا في خلواتِهم وفي أنفسِهم أن يدعوا الله -جلَّ وعَلا- أن يبصِّرهم بالحق، "اللهمَّ أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، اللهمَّ اهدنا لِما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، اللهمَّ إنَّي أعوذ بكَ مِن أن أزلَّ أو أُزل، أو أَضِلَّ، أو أُضلَّ، أو أَظلمَ أو أُظلَم، أو أَجَهل أو يُجهل عليّ، ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، وما ماثل ذلك من الدَّعوات، فإنَّه أرجى لحصول الحق والهداية إليه.
أيها الإخوة، لا أظنُّ أنِّي قد أتيتُ على ما أريد، ولا أظنُّ أنَّ ما ذكرته كافيًا في درسِ اليوم، ولا فيما يتعلَّق بالدُّروسِ الماضية، كيف وقد تسارعت الأوقات، وأتينا على نهايةِ هذه الحلقات؛ لكن نسأل الله أن يجعل في هذا الخير القليل كثيرًا، وأن يجعل فيه توفيقًا وصوابًا وهداية ورشادًا، وألا يجعل فيه بلاءً وفتنةً، ولا شرًّا ولا مِحنةً، وأن يبصِّرنا بعيوبنا، وأن يدلَّنا على الحقِّ، وأن يجعلَنا على منهاج الرَّاسخين مِن أهلِ العلمِ على طريقةِ أهلِ السُّنَّة والجماعة سلفِ هذه الأمَّة، وأن يعصمنا أن نزلَّ أن نُزلَّ، أو نَضلَّ أو نُضلَّ، أو نظلمَ أو نُظلَم، أو نَجهل أو يُجهل علينا، ونعوذُ بالله أن يسودَ فينا الجهلُ، أو أن يظهرَ فينا الهوى، أو أن يغيبَ فينا العلمُ، أو أن تُحضَر فينا النُّفوسُ، أو أن تكثرَ فينا حظوظنا، ونعوذُ بالله أن نُوكل إلى أنفسنا، ونعوذُ بالله أن نزيغَ عن سنَّة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم.
ونسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن يطهِّر قلوبنا، وأن يَسُلَّ سخيمتها، وأن يغفرَ لنا وللذين سبقونا بالإيمان، وأن يهديَ طلبةَ العلمِ والدُّعاة إليه، وأن يبصِّرهم بالحقِّ، وأن يعينهم عليه، وأن يزيدَهم من التَّوفيق والرِّفعة في الدُّنيا والدِّين، إنَّ ربَّنا جواد كريم.
شكرَ الله لكم شكرًا كثيرًا عظيمًا في هذه المجالس المباركة، وشكرَ الله للإخوة المشاهدين والمشاهدات أمامَ هذه الشَّاشات، وأسألُ الله لهم كما تصدَّوا للعلمِ وتابعوه وحرصوا عليه أن يبلِّغهم الله -جلَّ وعَلا- فيه أعلى الدَّرجاتِ والمنازلِ، وأن يعصمهم فيه من الزَّلل، وأن يجعله بُلغة لهم عن الله -جلَّ وعَلا- في الدَّارِ الآخرةِ في جناتِ عدنٍ وفي الفردوسِ الأعلى مع النَّبيينَ والصِّديقينَ والشُّهداء والصالحين.
شكرَ اللهُ لهذا البناءِ العلميِّ، ولهذه الأكاديميَّة ما بَنَت، وما طَرَحَت، وما أتَاحَت، وما درَّسَت، وما علَّمَت، وجعَلَها الله -جلَّ وعَلا- شَامخةً ظَاهرةً يَكبُر خيرها، ويَعمُّ نَفعُها، ويَبقَى أثرها، وأن يجعلَ ذلك خالصًا لله -جلَّ وعَلا- يجده القائمونَ عليها يومَ لقاء ربهم، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
وأستبيحكم عذرًا على مَا كان مِن الخطأ والنَّقصِ، وإنِّي أوصي الإخوة المشاهدين والمشاهدات ألا يروا خطأ أو زلَلًا أو نقصًا إلا أرسلوه، أو راسلوني وبيَّنوه، فإنَّ هذا مِن التَّناصح ومِن التَّعاون على البرِّ والتَّقوى، وإنِّي لأشيدُ ببعض الإخوة والأخوات الذين لم ينقطعوا عن إبداء الملحوظات، وإظهار ما في أنفسهم مِن إشكالات، فإنَّ لهم عندي دعاء أن يجزيهم الله خير الجزاء، وأن يعينكم على النُّصح والتَّناصح، وأن يوفقنا للخيرِ والهدى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على النَّبيِّ الأمينِ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك