السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ للهِ أفضل مَا ينبغي أن يُحمَد، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلى أفضلِ
المُصطَفِين محمد، وَعلى آَلِه وأصحابهِ ومَن تعبَّد، أمَّا بعد،،
فأسأل اللهَ -جَلَّ وعَلا- أن يجعلنا وإيَّاكم مِن عِبادِه المتَّقين، وأوليائه
الصالحين، وأن يَرزقنا العِلم والتَّوفيق والفقه في الدَّينِ، وأن يُعقبنا الدَّعوة
إلى سنَّة خير المرسلين -صلوات ربي وسلامه عليه- إنَّ ربنا وليُّ ذلك والقادر عليه.
أيُّها الإخوة الكرام كنَّا في المجلس الماضي استهللنا في نهاية الحلقةِ مَا يتعلق
بـ "وسائل التَّواصل" والعمل من خلالها في الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- وذاك باب
لا يُمكن اطِّراحه ولا نسيانه ولا إهماله، كيف وقد صارت هذه المواقع وهذه
التَّواصلات نافذة أصيلة في كل ما يتعلق بنواحي الحياة، حتى لا يكاد الإنسان
يَستغني عنها في بابٍ مِنَ الأبوابِ، فإنَّ المعاملات الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة
والعلميَّة وغير العلميَّة صارت تُقرَّب إِلى النَّاسِ مِن خِلال هَذه النَّوافذ،
فيدخلون إليها يقضون حوائجهم وينهون تعاملاتهم.
فلمَّا كان الأمر بهذا الحجم وهذه المثابة انفتح بإزاء ذلك –أيضًا- البوابات
الأخرى.
والعجب أنَّ كثيرًا من هذه الأبواب صارت بابًا إلى شُرورٍ كثيرة وإضاعة وإهمالٍ
للأوقات، وإهدارٍ للطَّاقات، واشتغالٍ بما لا يُشتغَل به، حتى صارت سمَةٍ لمرضٍ مِن
أمراضِ العصر، وهو:
الانفراد، التوحد، الانعزال، ترك مَا أَلِفَه النَّاس مِنَ الاجتماعِ واللقاءِ
والحبيَّة والأريحيَّة في اللقاءات العائليَّة والصَّدقات ونحوها؛ ولمَّا كان الأمر
كذلك كان لابد من الحديث عن الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- من خلال هذه الأبواب.
حقيقة لابُدَّ من الكلام على أنَّ هذه النَّوافذ وهذه الأبواب لا حدَّ لها، فلا
يُمكن أن نقول: إنَّ الكلامَ في الدَّعوةِ إلى الله -جَلَّ وَعَلا- من خلال هذا
الباب، أو من خلال بابين أو ثلاثة.
ولا يمكن أن نقول: إنَّنا نتكلَّم عن الدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- من خلال هذه
الأبواب كُلِّها؛ لأن بعض هذه الأبواب لا تنفك من شر وسوء، فالدخول من خلالها
يترتَّب عليه شرُّ لا محالة.
فإذا كان الأمر كذلك فإن الحديث لا يدخل فيه مثل هذه المواقع، وهي ليست قليلة، وذلك
لأنها إمَّا أن تكون مُروِّجَة لنوعٍ مِن أنواعِ التواصلات المحرمة، أو التي فيها
أصوات وموسيقى، أو ذا وذاك، أو ربَّما كان غير ذلك ممَّا فيه من إعلانات إلى أبوابٍ
مِنَ الشُّرور وممَّا يُضادُّ الشَّرع ويُخالف ما جاء به أمر النَّبي -صلى الله
عليه وسلم.
فلأجل ذلك نحن نتكلم عليها بجملتها لا بخصوص واحدٍ منها ولا باعتبارها كلها، ولكن
من خلال هذه الأبواب التي يُمكن أن يفصل ما بين خيرها وشرها، ويُمكن تمحُّض الخير
من خلالها والإفادة منها دون ما أن يرجع السوء علينا، ودون ما أن يرتد علينا باب من
أبواب شَرِّهَا وَبَلائِها؛ لأنَّ القَاعِدَة الشَّرعيَّة في منع الشَّر مُقَدمٌ
على جَلبِ الخَيرِ، وإذا وُجدت أبواب -ولو كانت قليلة أو ضعيفة أو صغيرة- فيها خير
محض لم يُبح ذلك أن يُنتقل إلى ما عمَّ خيره مع ما شابهه من الشَّرِّ والبلاء، فإن
ذلك لا يكون في الشَّرعِ.
ومن هذا المعنى حصل لَغَطٌ وَخَلطٌ وَغَلَطٌ عند بعض النَّاسِ في الدخولِ إِلى
أبوابٍ مِن أبوابِ الخَيرِ زاعمين أنَّ الخَير فيها، وأنه لابد من اقتحامها،
فاجتلبوا على أنفسهم أنواعًا مِنَ السُّوءِ ، فما أن لبثوا حتى أزهرت لهم زهرة أو
زهرتين، ثم غرقوا في بحر الضَّلالِ والشَّهواتِ، فباؤوا بالفشل والضلال -نسأل الله
السلامة والعافية- فلذلك لابد من التَّأكيد على هذا الأمر.
إذا تقرَّرَ هذا فمع قولنا إن الكلام بجملته فإن هذه ميادين لا حدَّ لها، وعالم لا
يكاد يستوعبه آحاد الناس، بل لربما قلنا:
إن بعض هذه البرامج عالم وحده لا يمكن الإتيان عليه، حتى مَن صمَّمه أو بدأه أو فتح
طريقه؛ فإنَّه لا ينفك أن يأتي عليه زوائد وأشياء، وتدخل فيه أمور فتغير حقيقته، أو
يتشعب به الأمر.
وما دام أنَّ هذا التَّنبيه صار موجودًا أصالةً وابتداءً في أول حديثنا عن هذا
الموضوع حتى لا يأتي آتٍ ولا يورد علينا مُورد فيقول: هذا الموقع فيه كذا! فنحن
نتحدَّث عنه في الجُملة، ونحن نتحدَّث عن إمكان توصيل الدَّعوة من خلاله بدون ما أن
يصل شرٌّ على الإنسان، وأن يتداخل معه باب من أبواب السوء والبلاء.
إذا تقرر هذا الأمر فيمكننا الحديث بشيءٍ من التوضيح والأمثلة، ولا يمكن أن نأتي
على الحصر في أبواب الدعوة ولا في طرائقها، ولا في تفاصيلها، ولكن حسبنا أن ننبه
على واقعها، وبعض ما يُمكن من الإشكالات الواردة فيها، وكيف للداعية الذي أوتي
قدرًا من العلم والهدى أن يخوضها على شيءٍ من النظر والتؤدة بما يحصل به الخير
ويمنع من حصوص الشر.
هذه الأبواب والنَّوافذ الموجودة تتنوع بتنوع البلدان، وتختلف باختلاف أحوال الناس،
وثَمَّ نوافذ متنوعة منها ما يدخل ابتداءً إلى التَّصوير والحديث ونحوها، ومنها ما
هو رسائل تُنقَل، ومنها ما يجمع ذا وذاك، ومنها ما هي مجموعات مختصَّة ويُدخل من
خلالها، أو غرف صوتيَّة، وقل أشياء كثيرة مثل ذلك.
إذا أردنا أن نتحدَّث عن الدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- من خلالها فلنعرف واقعها، ما
واقع هذه النوافذ وهذه الميادين وتلك العوالم؟
نقول: "عوالم" لأنها ليست عالَم واحد، ولا مجتمع صغير، ولا حتى قرية؛ بل كأنها
مدينة كاملة تدار من خلال هذه الأيقونة أو من خلال هذه النَّافذة، ويدخل فيها
الإنسان فيدخل لجَّة بحرٍ لا ساحل له.
إذا نظرنا إلى الواقع فواقعها متفرِّق يجمعه العبَث في جملته، وعدم الوضوح في
كثرته، وحتى في المواقع التي لها عنوان أو لها طريق وسبيل وميدان إلا أنَّ الدخول
إليها في الغالب لا ينفك أن يخالطها أشياء ليست منها، فأوَّل ما يجب على الداعية أن
يتنبه له أنَّ هذه مجتمعات ونوافذ وميادين السوء قريب كل القرب، والشَّر أسرع ما
يكون إلى الشَّخص.
فأوَّل ما يجب الانتباه له:
أن يحفظ الإنسان نفسه، وأن يخاف على دينه، وألا يدخل مدخلًا يزل فيها أصبعه أو
لسانه -وليس قدمه؛ لأنَّ التواصل يكون فيها إمَّا باللسان أو بالكتابة بالأصبع.
أو بعبارة مماثلة: أن يزل فيها حرفه وكلمته، وما أكثر ذلك وما أسرعه!
دعونا نأتي على أمثلة يسيرة:
من أشهرها: الواتس آب.
يمكن في دقيقة أو ثانية يُغير الشخص صورته التي يخرج من خلالها إلى من حوله بصورة
فاتنة، أو بصورة سوء، أو بشرٍّ؛ هذا شيء لا يُمكن أن تتحكَّم فيه البتَّة، ولا تأمن
من وصوله إليك في أي لحظة، ناهيك عن الرسائل التي قد تصل إليك من أناس تعرفهم أو لا
تعرفهم ، أو ناس يدخلون إليك قصدًا أو بغير قصد، أو غير ذلك.
هذا مثالٌ واحدٌ لأمثلةٍ كثيرة، وأبواب متنوعة أقرب ما تكون إلى الشَّرِّ.
فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ أوَّل مسألة هي: الانتباه والحذر.
وينبغي لطالبِ العِلمِ والدَّاعيةِ إلى الله -جلَّ وعَلا- أن يدخل على حينٍ عِلمٍ
منه من أنَّ السَّلامة أوَّل ما ينبغي ويجب عليه عليه الحرص عليه، وأخوف ما يخاف
على نفسه، فإذا كان يطلب الخير لغيره فمن باب أولى أن يسبق ذلك ذلك الخير لنفسه
والحفاظ على دينه.
ما واقع الأمور الدعويَّة -أو المواد الشَّرعيَّة- من خلال هذه المواقع حتى تعرف
كيف تتعامل معها؟
كما أنَّ الشَّرَّ كمٌّ هائلٌ لا حدودَ له فكذلك الكم الهائل من المواد الدَّعويَّة
أو الشَّرعيَّة قدر لا حدود له.
- منها ما هو شيء صحيح له إطار واضح لا غبش فيه ولا إشكال، وهذا أقلُّه.
- ومنها أشياء فيها أبواب من الخير لكنَّها ما بين غثٍّ وسمين.
- ومنها ما يكون فيه خيرٌ كثير لكنَّه ليس بموثوق إمَّا لكونه معلومة مقطوعة، أو
جاءت في سياق معيَّن فانتزعت وقُصَّت ولُصقّت وأُعيدت في غير نطاقها، وإمَّا أن
يُضاف إليها ما يكون فيه شر إمَّا بإضافة صورة أو إضافة صوت أو موسيقى أو غير ذلك.
- وإمَّا أن يُؤتَى إلى خيرك فيُضمَّ إليه شرُّ غيرك، فتبوء بتبعة ذاك من حيث لا
تشعر.
- أو أنَّك تُلقي الكلام على وجهٍ فيُصوَّر بصورةٍ على وجهٍ آخر، أو يُخصُّ به شخص،
فكأنَّك تتحدَّث عنه بأن يأتي آتٍ فيجمع إلى ذلك تلك الصُّورة فيبثَها، فيظنون
أنَّك قد قصصتها، ثم ما يتبع ذلك من إشكالات كثيرة.
ما دام أنَّ الأمر بهذا الواقع؛ فإذن نحن أمام أمرٍ لابدَّ من دخوله، وأذكر تقريبًا
لهذا المعنى: أنَّه قبل خمس وعشرين سنة لمَّا انتشرت القنوات ونحوها وكثر الشَّر،
وضعف انتشار الخير من خلال القنوات المتاحة والتي هي المسجد ونحو ذلك؛ فاحتاج الناس
أن يبرزوا أو أن يوصلوا أصواتهم إلى الغير، وكان مشايخنا يتحفَّظون في التَّصوير
بأكملة، سواء المرئي ونحوه أو ما قاربه، وسمعت شيخنا الشيخ ابن باز غير مرة، وكثير
من مشايخنا كالشيخ صالح الفوزان كان من أشد الناس تحفُّظًا في الدخول في القنوات،
ولكن لمَّا رأوا حاجة الناس الملحَّة التي تكاد تكون بمثابة الجهاد في سبيل الله
-جلَّ وعَلا- رُؤيَ أنَّ اقتحام ذلك مع ما فيه من الإشكال لازم وواجب.
لكن حديثنا عمَّن هو متأهِّلٌ ومتصدِّرٌ للدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- وعنده من
العلم الرَّصين ومن العقل والفهم ومن حسن النَّظرِ ومن جعل الأمور في مقاديرها
مواضعها ميزانها دون ما زيادة أو نقص؛ أنَّ الدخول في ذلك قد يكون مُناسبًا.
كذلك نقول: إنَّ مثل هذه المواقع الآن مع ما رأينا فيها من الشَّائبة، مع ما تناثر
فيها من الشَّرِّ إلا أن الدخول يكاد يكون متحتِّمَا لعِظَم ما يترتب عليها من
الخير.
فإذا انضمَّ إلى ذلك ما رأيناه من شرٍ كثيرٍ من خلال التسويق لبعض البدع والضلالات،
والإتيان بالأحاديث الموضوعة، وليس الكلام عن الأحاديث الضعيفة؛ لأن الأحاديث
الضعيفة لأهل العلم فيها منهاج واضح في تقبلها وقبولها والعمل بها.
أيضًا محاولة الاشتغال بالغرائب والأمور النادرة، والأمور التي لا حاجة للناس بها،
أو عكسها؛ فتجد أن الناس يتيهون، فكل هذا يوجب علينا أن نوجَد، لكن كيف نوجد؟ هذا
هو محل السؤال.
سأذكر لكم مثالًا حتى يتبيَّن هذا: جاء في بعض الأحاديث لمَّا ذكر النبي -صلى الله
عليه وسلم- أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، قال: ((وصلاة
الرجل في فلاة إذا أتمَّ ركعوها وسجودها بخمسين صلاة))، جاء بعضهم وقال: الصلاة في
الفلاة خير من الصَّلاة في المسجد!
وهذا ليس بصحيح، ولمَّا كان الأمر كذلك لَمَا بنى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-
مسجده، ولَمَا حثَّ على بناء المسجد ولا أمر بالصَّلاةِ في الفلوات، ولكن كان مساق
الحديث أن مَن تعذَّر عليه المسجد لكونه في فَلاةٍ في سفر والمساجد بعيدة، ومع ذلك
يحرص على الجماعة ويُتمُّ ركوع الصلاة وسجودها فقد حصل أمرين: إتمام الصَّلاة مع
كونه في هذا العناء والسفر وما يلحقه من التعب، وحرصه على الجماعة مع ما في أمر
السفر من الوحدة والانفراد ونحو ذلك.
إذن هذه ومثيلاتها تزيد من العبء في توضيح الدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا.
الإشكال الأكبر من ذلك أيضًا هو: أن الدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- إذا جاءت على
وجهها قُبلَت، ولكن إذا جاءت على غير وجهها لا تكاد تُقبَل أو لا تكاد تنفع.
أُبينُ لكم ذلك بالمثال: الآن في مجموعات الواتس آب أو الفيس بوك أو الانتسجرام؛
تعالَ بموعظةٍ مِن أَعظمِ المواعظِ وأبْلَغِهَا وَضَعهَا في مجموعة من المجموعات
التي أنت مُنضمٌّ إليها، لكن جاءت هذه الموعظة بعد نُكتةٍ وبعد أحاديث فارغة من
أفراد هذه المجموعة، هل سيكون لها فائدة كبيرة؟
الشيء إذا جاء في مَوضعه نَفَعَ، كالمطر الذي إذا جاء في الأرض التي تُبت أنبتت،
وأمَّا إذا جاء على أرضٍ مُبلَّطةٍ أو مُقيَّرة -فيها قار- لا يُمكن أن تُثمِر.
بل المشكلة أنَّ تَتَابُع هَذه المواعظ فِي غَيرِ مَوضِعِهَا يُضفي على النُّفوسِ
شيءٌ من الإعراضِ عَنها.
نفس الشيء في الفيس بوك، تجد صورة لامرأة عارية، وهذه مُداخلة مِن كَذا..، ثم
بينهما موعظة! أليس كذلك؟! كيف يحصل النَّفع؟.
وَمِثلَ هَذا في صُورِ الانستجرام وغيرها، حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
وبإزائه كل الصور والمداخلات الغير لائقة!
تعالَ إِلى التَّعليقَات تجدها تشين بها النَّفس مِن كَلامِ اللغو وَمِنَ السُّوءِ
وَمِنَ الفُجُورِ والانحطاطِ، كُلُّ هَذا يَصُدُّ النَّفسَ وَيُضعِفُهَا وَيَمنَع
خَيرهَا، وَلِذَلِك كان مِن أَعظم نَعيمِ أَهلِ الجنَّة ﴿لا تَسْمَعُ فِيهَا
لاغِيَةً﴾ [الغاشية:11]، ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25)
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامً﴾ [الواقعة:25-26]، ما أعظم المجالس التي لا يُسمع
فيها إِلَّا الخَير والهدى والأنس والرَّاحة والطُّمأنينة!
إذن هذا يزيد من الإشكل، فلأجل ذلك فإنَّ أوَّل ما ينبغي أن يُعلم، وأوَّل باب
ينبغي أن يُؤكَّدَ عليه هو: إيجاد قنوات مُعتمدَة للدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا-
بحيث أن يُعرف أنَّها قناة للدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- فإذا دُخلَت تُدخل على
وجهٍ صحيح، وإذا استُقيَ منها يُستقَى على وجهٍ صحيح، وإذا وُلِجَ إليها فإنَّه
يُنتفع بها.
وهذه إذا كانت مَوثوقة مِن حيث القائمِ عليها، ومن حيث ما يُلقَى فيها، ومن حيث
مناسبتها لعموم الناس؛ فإنَّ ذلك سيكون أقرب لانتشارها.
على سبيل المثال: مِن أَشهرِ المواقعِ التي وُجدت وكان لها أَثَرٌ طَيبٌ موقع
"الدُّرَر السَّنيَّة" في مواطن مختلفة، وَنَحَ مُنحًى عِلميًّا، وبقيت على هذا
السَّمت، وأخذت بملامسة العِلم والتَّجدد مع الناس وملاحقتهم في ميادين مختلفة.
وإذا قلنا: إنَّ هذا على سبيل المثال فلا يعني هذا الدخول في التفاصيل من حيث ما
يتعلق بكل هذا الموقع وعدمه حتى لا ندخل في إشكالات؛ لأنه يُمكن أن يورَد مثال آخر
فيأتي عليه بعض الإشكال، ولكن نحن نريدها من حيث الجملة.
الأمر الثاني: على الدَّاعيةِ إِلى الله -جلَّ وعَلا- أن يَنْتَقِي مَا يحتاج إليه
عُموم النَّاس، فإنَّ هذه مواطن عموميَّة، فالفوائد التَّخصصيَّة والفوائد
العلميَّة والدَّقائق التي مَبناها على مُقدِّمات لا يفهمها إلا آحاد طلبة العلم لا
تُنشَر في هذا العموم؛ لأنَّها إمَّا أن تُفهَم على غيرِ وجهها، أو أنَّها تُكسبَ
شيئًا من الانكماش والانقباض عن قبول العلم والهدى، لكن إذا كانت المادة واضحة
وجليَّة استُطيعَ الإفادة منها بوجهٍ صحيح.
الأمر الثالث: الدُّعاةُ إِلى اللهِ -جلَّ وعَلا- على درجتهم، منهم مَن عِندَه مِنَ
الآلةِ والقُدْرَةِ على أن يوجد شيئًا بنفسه، كأن يبدأ بما يتعلق بشرح صفة
الصَّلاةِ، فيجعل مَقطعًا في كل يوم يُرسله، أو في كل مناسبة يَبُثُّه، فيه بيان
لتكبيرة الإحرام وما يتعلق بها، أو دعاء الاستفتاح وما يتعلق به من أحكام، قراءة
الفاحة،...، إلى غير ذلك من الأشياء. فهذا جيد.
وفيه مَن يأتي يَستورد هذه المقاطع، وهذا موطن إشكال، فالذي يَستورد لابدَّ أن
يستيقن أنَّ هذا المقطع صحيح، وأنَّ له أولًا وآخرًا، وأنَّه على وجهٍ صحيح، وأن
يتحرَّى فيه الثِّقة، فإمَّا أن يُزيِّل ذلك بالموقع الذي أخذه منه، وإمَّا بالشيخ
الذي قاله، أو بالجهة التي أصدرته حتى يكون ذلك مَحلًّا للثقة والاعتمادِ.
فهذا يكون له أثرٌ بَالِغٌ وَنفع، أمَّا إِذَا وُجد فربما يُنقل عن الشيخ ابن
عثيمين، ربما يُنقل عن الشيخ صالح الفوزان، ربما ينقل عن غيرهم من أهل العلم في
البلدان، لكن نقل مختزل إِمَّا لِقِلَّة فَهمِه -وهذا أيسرها- وإما أن يكون مُغرضًا
أرادَ أن يَقلِبَ الحقيقة، وإِمَّا عَابث شوَّشَ هذا بهذا وليس عنده أي إشكال في أن
يُدخل النَّاس في تبعاتٍ مختلفة.
فإذا استطعنا أن نوجد مثل هذه فأقل الأحوال أنَّنا أوجدنا قَدرًا مُعيَّنًا يُمكن
الانتفاع به، وتُطبق فيها الأصول التي ذكرناها في الدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- في
النَّظر فيما يُصلح النَّاس، والبداء بالأهم فالمهم، وما يتعلق بذلك من أمور.
مهما وجد عندنا من هذا الطريق، وشملت هذه النوافذ؛ إلا أنه لابد أن يوجد عندنا
بإزاء ذلك -أو بمقابل ذلك- دفعًا. ما معنى الدَّفع؟
يعني: ما من معلومة صحيحة إلا تقابلها معلومة مغلوطة، فيجب علينا أيضًا أن يوجد عند
الداعية قدر من تصحيح وتخطئة ما يوجد وما يُنشر وما يُرفع على هذه المواقع من
معلومات مغلوطة، حتى يُصححها أو حتى يبيِّن خطأها أو كَذِبِهَا أو إِشكَالِهَا أو
مَا يَرِد عَليهَا، فعند ذلك نستطيع أن نُقَرِّبَ مَادة صَحيحةً لا نقول إنها قريبة
من النَّاس؛ لأنَّ هَذه مواقع مختلطة؛ لكن أقل الأحوال أن تكون هذه المواد الصحيحة
مَن بحث عنها في مثل هذه المواقع يمكن أن يجدها، ومَن طلب الحقَّ اهتدى إليه، ولم
يكن صعبًا أن يدخل من خلاله. فهذه أمور من الأهميَّة بمكان.
والواقع أنَّ الإشكال يأتي في أمر آخر، وهو: المناسبات والأحداث.
المناسبات والأحداث دائمًا عُرضة للكمِّ الهائل الذي يدخل على تلك المناسبة، سواء
من الناحية الشرعيَّة إثباتًا أو نفيًا، تأييدًا أو رفضًا، ثم ما يحصل من تقابل
أُناسٍ على ذلك الأمر والاقتتال، فتكون كحلبة الصراع!
فهذا مِن أَشكَلِ مَا يكونُ، وَهُو سَبَب بلاءٍ عَلى النَّاسِ ﴿وَلَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ [البقرة:217]، والواجب في مثل هذا
أن يَعلَمَ الدَّاعيةُ أنَّ واجبه ليس المخالفة ولا المنازعة، وليس لمراد مِنَ
الدُّخولِ هُو الوُجُود والافحام، أو المجادلة والارتفاع على الخصم بأنَّه
حَاجَّهم، فإذا كان المقام مقامًا ليس فيه إحقاق للحق، وليس المراد منه إلا زيادة
في المنافرة، أو أنَّ أصل اجتلاب هذا الموضوع له منزعٌ آخر إمَّا من ناحية
اجتماعيَّة أو ثقافيَّة أو سياسيَّة أو إقليميَّة أو غيرها؛ فيتنازعون من خلال ذلك،
فينبغي للداعيَّة إلى الله -جلَّ وعَلا- أن يمنع نفسه من الولوج في مثل ذلك، حتى
إذا صفا الورد يُمكن أن يُدخل في ذلك ما يتقبَّله مَن يريد الحقَّ ويطلب العلا.
هذه المواطن التي يَرِد فِيها الإشكال ويتكاثر فيها النِّزاع في بعض الأحوال ليست
قليلة يُمكن أن نقول: إنَّ الحقَ ملتبسٌ حتى على الدَّاعيةِ إلى اللهِ -جلَّ وعَلا-
فبعض الدُّعاةِ يظنُّ أنَّه لابدَّ أن يوجد حيث وُجدَ الناس، ولابدَّ أن يتكلَّم ما
دام أنَّ الأمر مَفتوحًا، أو أنَّه ربَّما إذا أُرسَل له على الخاص أو ربَّما
مُرِّرَت إليه رسالة، وربَّما استُفذَّ بشيءٍ من ذلك فيدخل!
فما دام أنَّ المسألة مسألة مُشكلة ولو بدرجة (10 % ) عليك أن تسكت فتسلم من الغلط
خير من أن تتحدَّث فتزرَ، وكون غيرك يُخطئ وأنتَ لستَ بعالم بالحقِّ على وجهِ
اليقين فليس عليك وزره، وليس عليك تبعتُه، لكن أن تجتهد وأنتَ لستَ أهلًا للاجتهاد
فيزلَّ بذلكَ النَّاس ويُخطؤون بخطئك فعليك تبعتُ نفسك وتبعهم. كما قال: »فإنَّ
عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ» كما في قصَّة النَّجاشي، كما قال -صلى الله عليه
وسلم: «وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ
كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ
أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» .
وَمِن أَعظم مَا يكون هذا يكون في باب الدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- فإنَّ بعضَ
الدُّعاةِ يَدخلون في هذا، فكم نَدِمُوا، وَكَم حَصَلَ لهُم بِسَبَبِ ذَلك مِن
الإشكالِ، وَكَم أُثِيرَت مِنَ العَواصفِ والقِيلِ والقَالِ والأحاديثِ بسببِ
استعجالِ بعضِ الدُّعَاةِ إِلى اللهِ -جَلَّ وعَلا- والدخول في مَوضعٍ لَم يَكن
لَهُم فِيهِ آنَاة، وَلم يَكن لَهُم فِيهِ يَقين.
فَمِن هَذا نَتبين أنَّ هَذا الأمر يجبُ الاستبانة فيه، والعِلم بحقيقته.
فإذن عندنا إِبانة الحق، وأن يكون له مَصادر مَعلومة وَمَوثُوقة يُمكن للنَّاسِ أَن
يرجعوا إليها، ونكثِّرُها بحسب هذه المواقع، وكل منَّا يتخصص في بابٍ، وكل منَّا
يزيد من رَصيدِ مَنْ مَعَه، ونحاول أن نَبُثَّ مِن خلالها عُلومًا صَحيحةً
مُتَحَقِّقةً، وَفِيهَا مِنَ الخَيرِ واليَقِينِ مَا ينفي الشَّكَّ والخطأ، ودفع ما
يقابل ذلك من السُّوء، والتَّحفُّظ من المَوَاطِنِ التي هِي مَورد للإشكالِ
ومَوَاطِن للعَطَبِ والزَّيغِ، ثُمَّ مَا يلحق ذِلِكَ مِن أنَّ طالبَ العِلم لا
يَنفَك مِن أَشياء تخفى عليه، فينبغي أن يَحفَظَ قَلَمَه وَأن يَحفَظَ لِسَانَه
حَتَّى فِي الأمورِ التي قَد يَكون عِندَهُ فِيهَا عِلمٌ لكنَّه لَيسَ على وَجهِ
القَطْعِ واليقينِ، فإنَّ له مَندُوحَةً في الدُّخُولِ، وَلَيسَ مُطَالبًا من المرء
أن يُوجد بِقَدرِ مَا هُو مطالب أن يدعو إلى الحقِّ وَيَهدِي النَّاس إِليهِ، وأن
يبقى النَّاسُ في جَهَالةٍ حَتَّى وَلَو خَاضَ غَير أهلٍ، ثم يأتي الحق فيُزيح تلك
الظلمات كُلِّهَا أسهل بكثير من أن يُلَبَّس على النَّاسِ في الحَقِّ فيُبانَ لهم
البَّاطِل على أنَّه حَقٌ فيتديَّنون به ويتعبَّدون به ويفرحون به ويتناقلونه، ثم
يتبيَّن أن ذلك خطأ، فلا تَدريِ هَل يمكنك إصلاحُ مَا انتشر من الخطأ؟
وَهَل يُمكن للناس أن يثقوا بِكَ بَعدَ أن زللتَ أو زاغت بك اليد والقلم والرسالة
والكتابة أو لا؟
ثم هل تسلم عند الله -جلَّ وعَلا- من التَّبِعَة؟ لأن في كل هذه الأمور مَنزعٌ
للنَّفس مِن حَيثِ هَا أَنا ذا أول مَن قَالَ فِي هَذه أَو أَوَّل مَن تَكَلَّمَ
بهذَا الأمرِ، الناس في التَّبع...، إلى غير ذلك من حظوظ النفس التي هي مداعة
للشَّرِّ -نسأل الله السلامة والعافية.
إذا تبين مثل هذا الأمر فعندنا أمران مهمَّان:
أولهما: ثَمَّ مواقع قد يكون الأمر أخص فيها، وهو موقع "تويتر"، والحقيقة أنَّ هذا
مِن أكبرِ الإِشكَالِ؛ لأنَّ الرِّسَالةَ فِيهِ لابد أن تكون مَحدُودَةً بحدٍّ لا
تزيد، فلا تَعدُو بِضعِ كُليمَات، وَصَارَ النَّاسُ أَكثر ما يشحذون المسائل
والنقاشات والحوارات الشرعية وغيرها فيه، وصار الأمر دائرًا بين أن يتكلَّف طَالِبُ
العِلمِ أَو الدَّاعيةُ في أَن يَجمَعَ شَتَاتَ الموضوعِ الذِي رُبَّمَا يُكتب في
أوراق في كليمات، وإِمَّا أن يُختَزَل ذلك في كَلِمَاتٍ، أَو أَن يُنزَعَ مِن
إِبَانَةِ الحَقِّ إِلَى الجِدَالِ، وَهُنَا يحصُلُ الإشكال. أي: في هذه الأمور
الثلاث!
فما يتعلق بمثل هذا الموقع وما يماثله إذا وُجد، وهي أن تكون المادة العِلمية التي
يمكن نَقلُها أَو إِظهَارُها قليلًا مُشكل؛ فبناءً عَلى ذَلِكَ ينبغي إمَّا أن
يُدخل عن طريق الروابط التي تضمن من أنَّ مَن دخل وصل إلى الحق كاملًا، ولا أن
يُبعَّضَ الحق، فقد يؤخذ بعضه ويُترك باقيه، فبعض الناس يقول "تغريدات متتالية"،
ولكن بعض هذه التغريدات تُؤخذُ مِن سِيَاقِها ثم تُنشَر، وهذا هو الأكثر!
فما دام أنَّ هذا هُو الأكثر فَإِمَّا أن يكون الأمر مُبيَّنًا بأن يُظهر علامة
أنَّ هذه معلومة لم تكتمل، وإمَّا أن يحجبه؛ لأن الغَالِبَ في الشَّرع له اعتبار،
فإذا غَلَبَ عَلَى الظنِّ أَنَّها تُستعمل مَقطوعة أو غير مُكتملة ويُحرَّف فيها
الحوار؛ فإنَّ هَذَا مَوطنٌ مِن مَوَاطِنِ الإِشكالِ، فينبغي الحذر منه.
ومثل هذه المواقع:
أولًا: مبنية على الانفتاح العام.
ثانيًا: مبنية على الارتجال، يعني: معلومة تُطرح، مثل: أن تُدخل مداخلة فيها مقولة،
فما أسرع أن يأتي عليك الإيراد أو يُغرَّد بضد ذلك، فيستوجب من الإنسان أحيانًا
سُرعة الرَّد، وسرعة الرد هي مزلة قدم، فقد يكون الإنسان ليس مُستَحضِرًا لهذه
المسألة، قد يكون مَا قِيلَ له وجه لكنه لا يخالف ما ذكرت وإن كان ظاهره المخالفة،
فإذن هو مَزلة مِن مزلات الأقدام، فينبغي أن يُتنبَّه لمثل هذا، ومن لم يكن قادرًا
على أن يَثِقَ بأنَّ إِدخَالَه ودخوله في مثل هذه المواطن هو دُخُول يؤمَن فيه من
الخلل فإن عدم دخوله أولى؛ بل نقول: هو الواجب.
وقد يكون الدُّخولُ مَكروهًا، وقد يكون الدُّخول مُحَرَّمًا، بقدر ما يترتب على
الدُّخُولِ مِن إِشكَالات، أو يُظن من وقوع الخلل والخطأ، فإذا كان الأمر كذلك
فينبغي الحذر.
فإذا عُلِمَ أو ظُنَّ أن بعض مثل هذه المواضيع مما قد يكون لها متعلقَّات أو يُمكن
أن تُوظَّف مِن خِلالِ جِهاتٍ مُغرِضَةٍ إِمَّا مفسدة، وإما متربِّصَة، وإمَّا جهات
عاملة على إِفسَادِ مَا يتعلق بِصورةِ طَالبِ العِلم ِوَنَقَاءِ مَا عِندَه مِن
المعلومة والعِلمِ والهُدى؛ فينبغي له أن يكون أكثر حيطةً حِفظًا لِنَفسِه،
وَحِفَظًا للعِلم، وحفظًا للمِنهَاجِ السَّليمِ، فَكَم دخلَ أهلُ الدِّماءِ
والفئاتِ الضَّالةِ وَأَهلُ البَاطِلِ مِن خِلالِ مَقطُوعَةٍ قَطَعُوهَا، أو
مَقُولَةٍ نَقَلُوهَا، ثمَّ دَحرَجُوهَا حَتَّى جَعَلُوهَا عَلى وَجهٍ لَيسَ
بِصَحِيحٍ، فربما نُسبَ إلى الدَّاعيةِ مَا يَسوءه وَمَا يَضُرُّه وما يُلحق به
التَّبعة في الدُّنيا، وَيَجعل عَليه المُتَابَعَة والملاحقة ونحوها، أو ما
يُسَمَّى بالمسائلةِ القَانُونيَّة والنظاميَّة وغيرها. إذن مثل هذه الأمور ينبغي
أن يُتَنَبَّه لَهَا.
وثَمَّ مَسألةٌ مِن أَهمِّ مَا تكون، وهي:
أنَّ المسألة تُبحَث، وأن الحق فيها بيِّن، وأنَّ الكلام فيها متَّسق لا إشكال،
وإنَّما مثل هذه المسائل قد تكون ممَّا يحصل به فتنة، فقد يُلقى الكلام وهو صحيح لا
غضاضة فيه، ولكن يُعلم أنه يتلقاه مَن ليس أهلًا ومَن لا يفهمه، فيضعه في غير
موضعه، فيحصل بذلك زَلَلٌ "مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ
عُقُولُهُمْ؛ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةٌ" كَمَا جَاء بِذَلِكَ الأَثر.
فَمِثُل هَذا يَجِبُ عَلَى الدَّاعيةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وعَلا- أن يَعرف أنَّ مِن
أَكثرِ مَا يَكون مجالًا لحصولِ الإشكالِ ويُستزل بِسَبَبِه أناسٌ إلى بَلاءٍ كبيرٍ
مَا يَتَعَلَّق بالأحاديثِ الخَاصَّة للدَّهماء ولاعامة، فيكون بسبب ذلك فتنة
كبيرة، فما أحسن أن تُقَيَّد الأمورُ وَأن تُضبَط، وَإِذَا خَشِيَ أنه لا يُمكن
ضبطها، أو أنه ثَمَّ من يُمكن أن يصرفها؛ فإنَّ الإحجابَ عَن ذَلِكَ ليس أولى فقط
وإنَّما هو المُتَحَتِّم لا محالة.
وَيَا مُوقِدًا نَارًا لِغَيرِكَ ضَوؤُها ☆☆☆ وَحَرُّ لَظاهَا بَينَ جَنْبَيْك
يَضرِمُ
يعني: يفعل الإنسان شيء يكون سبب بلاء عليه أو بلاء على المُسلمين إذا فَهِمُوه
عَلى غَيرِ وَجهه، فإن هذا مِن أَعظَمِ مَا يَكون.
لو نظرتم إلى ما تطرقنا إليه من الحديث عن هذه الأمور إنما هو شيء قليل بالمرة،
فالحديث طويل، وما ذكرناه إنما هو كالتَّنبيه والإشارة إلى ما يُغني عن كثير مِنَ
العِبَارَةِ، ثُمَّ يتَّضحُ لَنَا أَنَّه مَا مِن بابٍ نَتَكَلَّمُ عَليهِ أَنَّه
يُمكن أن توجد فيه الدَّعوة إِلَّا أنَّ فيه مَزالق كثيرة، فلولا أنَّه مُتَوَجِّب
علينا الدُّخولَ في مثل هذه النَّوافذ لَقُلْنَا بِقَطعِهَا، لكن لمَّا توجَّبت
وتحتَّمت ولا ينفك النَّاس إِلَّا أَن يلجوا مِن خِلالِ ذَلكَ، فَلابُدَّ أن يكون
ذلك مع أعلى درجات الحَيطَةِ والحذَرِ والانتباهِ.
ولا يتأتَّى للإنسان ذلك إِلَّا أن يتخلص مِن كُلِّ حُظوظِ نَفسهِ، وأن يُؤتَى
التُّؤدة والسَّكينة، كما قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالسَّكِينَةِ»
، فإذا كان ذلك في إسراع الخطى، فهو أوجب في إسراع الكلمات والكتابات، فلابد من
السكينة.
الأمر الثالث: أن يتخلص الدَّاعيةُ إلى الله -جلَّ وعَلا- مِن كُلِّ حُظوظِ نَفسِه،
فإنه مَا مِن وقت تتزين نفسه من خلال وجوده في هذا الموقع، أو من خلال حُسنِ
تغريدته، أو ما لاقته وصادفته من القبول، أو ما صفَّقَ لها مِن مُصفِّق وإعادة
نشرها من ناشر؛ فمالت نفسه ورضيت وأعجبت؛ إِلَّا أن يكون الزَّيغ قريب مِن ذَلِك،
وكل من تخلص من نفسه فيوشك أن يُدرِكَ السَّلامَة.
أذكر أن الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله تعالى- أول ما بدأت الفتاوى، كــ برنامج "نور
على الدرب" وهو أشهرها وأولها وأقدمها، أو بعض البرامج المماثلة لذلك التي تكون
فيها الأسئلة مسجَّلة فيمكن للعالم أن يعيد النظر فيها وأن يتأكد قبل أن يلقيها.
لما جاءت هذه البرامج المباشرة التي تكون عبر الهواتف وعبر التلفاز وعبر هذه
المواقع، سئل الشيخ بكر عن المشاركة فيها، فقال: "هذه الفتاوى الطائرة لا يقدر
عليها إلا الشيخ ابن باز ومن ماثله" يعني: أئمةُ العِلمِ الرَّاسخين؛ لأنها عُرضة
لكثير مِنَ الخَلَلِ والزَلَلِ، فنحن نقول مثل ذلك.
فكيف وقد تصدَّى لمثل هذه الافتاءات طلبة العلم! بل وكيف وقد تصدى لمثل هذه
الدَّعوة بما يسمى بــ "السكرتير" الذي كان عمله أن يقص وينشر، ثم صار أصلا بنفسه
في الرد، فصار هو المجيب، وصار هو العالم، وصار هو الذي يصدر عنه الناس.
بعض الناس ينشر مقالات جيدة أو مواضيع مُهمة يأخذها مِن هُنا وَهُناك، حتى إذا كثر
متابعوه رأى أنه هو الشيخ الذي لا يُشقُّ له غبار، فنثر ما عنده؛ فإذا هو بلاء وإذا
هو غبار، وما هو إلا مرض على الرئة تتنفسه فتعطب، وبلاء على الدين يدخل على المرء
فيفسد -نسأل الله السلامة والعافية.
وكم بُليَ بسبب ذلك من أناس كثير! وكم عرفنا من أناس كان لهم خير حتى إذا تزينت بهم
الشاشات فرأوا أنفسهم فتناقلت بهم الوسائل فضاعوا وأضاعوا! وأدخلوا البلاء ودخلوا
فيه من أوسع أبوابه -نسأل الله السلامة والعافية.
فَلَمَّا كَانَ الأمرُ بهذه المثابة لا ينفك الإنسان عن أن يَطلبَ لِنَفسِه
السَّلامة، ثُمَّ لِتَعلم أَنَّكَ لَن تسع هذه المواقع كلها، فإن كنت ولابد فانظر
إلى أمرٍ تعرفُ من نفسك القُدَّرةَ عَليه، والسَّلامة من بلائه، ثم اجعل فيه ما تظن
أنه يكون -بإذن الله جل وعلا- بُلْغَةً لك عند الله، وخيرًا لك عند مولاك، ولا يكون
فيه عليك تَبِعة، ولا يدخل عليك مِنه داخِلٌ سُوء لا من قريب ولا من بعيد ليحصل
بذلك الخير كله -بإذن الله جل وعلا.
لا أقول إنَّ الحديث اكتمل، ولكن أزعم أنَّ هَذه إنما هي كالكلمة التي تُلقَى فِي
بَحرِ مَا يُحتاج إليه من الكلام في مثل هذا، أو كالبداية التي أرجو مِن خلالها أن
يتصدى المهتمُّون والعارفون بمثل هذه المواقع على وجهٍ أَخصَّ وأقدر منِّي،
فيُنظِّر لذلك إمَّا لكلِ برنامج على حدة، أو بتقسيمها باعتبار أنواعها: "مرئية أو
منقولة، خاصة أو عامة، مختارًا أو غيرَ مختارٍ الدُّخول فيها، محدودةَ ما يُلقَى
فِيهَا أَو مَفتُوحَة، .... "، ثم بعد ذلك يُمكن أن يُجعل لكل شيءٍ ما يناسبه، فإن
ذلك أحرى وإن ما ذكرنا نحن جُملة ما تشترك فيه هذه المواقع بجملتها، ومَا يُمكن أَن
يُدخَلَ مِن خَلالِهَا.
أسأل اللهَ لي ولكم التوفيق والسداد، وأعوذ بالله من الغي والفساد.
ونسأل الله جلَّ وعلا أن يعصمنا من أن يكون لنا زلل أو أن تظهر لنا عيبة، أو أن
يكون لنا شرٌ وبلاءٌ لم يُحجَب عن النَّاس، ونعوذ بالله من هتك الستر، ونسأل الله
أن يسترنا وأن يعصمنا وأن يزيدنا مِن الخيرِ والهدى، وأترككم في رعاية الله وحفظه.
أسأل الله جلَّ وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وشكر الله لكم الحضور والإنصات
والمشاركة والمشاهدة، وشكر الله الله للقائمين على هذا البرنامج لكل من صَوَّرَ
وأرسل وبث وشارك وساعد، وأنشأ لهذه المنظومة العلمية، والله المسؤول أن يكون لكم
أعظم الأجر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على
النَّبي الأَمين.