الدرس السادس
فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان
إحصائية السلسلة
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمد، وعلى
آلِهِ وأصحابِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بعدُ:
فأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يشرحَ صدورَنا بالعلمِ، وأن يزيدَنا مِن تحصيلِه، وأن
يزيدَنا بِه رِفعةً في الدُّنيا والآخرةِ، وأن يُعقبَنا العملَ والتَّعليمَ والهدى،
إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
أيُّها الإخوةُ الحاضرون، المشاهدونَ، المشاهدات، طلابَ العلمِ وطالِبَاتِه، لم
يزلْ هذا الاجتماعُ متتابعًا بفضلٍ مِن الله -جلَّ وعَلا- ومنَّةٍ، وأسأله -سبحانه
وتعالى- أن يلهمَنا الحقَّ والصَّوابَ والخيرَ والسَّدادَ، إنَّ الله -جلَّ وعَلا-
الموفِّق لذلك والهادي إليه.
تعرفون -أيُّها الإخوة- أنَّنا تحدَّثنا في المجلسِ الماضي، ودارَ الحديثُ عن
مسائلَ مهمَّة في الدَّعوَةِ إلى الله -جلَّ وعَلا- وفقهِهَا.
وفي كلُّ مجلسٍ مِن هذه المجالس نُعيدُ كلمةً -وحريٌّ بنا أن نُعيدها: مهمَا قلنا
مِن أنَّ هذه المجالس تستوعبُ أشياءَ كثيرةً في الدَّعوَةِ إلى الله –جلَّ وعَلا-
فإنَّ ذلك صحيحٌ، ومهما قصُرَت هذه المجالس عن الإتيانِ بالمراد؛ فهذا أيضًا واقعٌ
لكثرةِ المسائلِ وتفرُّعِها، والحاجة فيها إلى البسطِ، وما يجري عليها من إشكالاتٍ
في الوقائعِ والأحداثِ والأحوالِ للنَّاسِ، وأنَّ سنَّة نبيِّنا -صلَّى الله عليه
وسلَّم- مِن أوَّلها إلى آخرها هي فقهٌ في الدَّعوَةِ إلى الله -جلَّ وعَلا-
وأحكامٌ، يُحتَاج في الحديثِ عن مثلِ هذا الموضوع أن نأتي بسنَّته في جملتِها
فنأتيَ على تفاصيلها، لكن لمَّا كانت هذه مجالس محدودةٌ ربَّما إن وفَّقنا الله
-جلَّ وعَلا- اختصرنا ذلك المجموع وأتينا على القدرِ المفيدِ الذي يهمُّنا، وإلا
فكلُّ سنَّتهِ مفيدةٌ نافعةٌ، والخيرُ والهدى فيها، لكن بما نحتاج إليه، ولعلَّ في
ذلك ما يكون غُنيَة لنا بإذن الله -جلَّ وعَلا.
ولأجلِ هذا ربَّما كانَ محلُّ الكلام هو محالُّ الإشكالِ أو النَّقصِ، أو الأمورِ
التي يُرى أنَّ طلبةَ العلمِ ربَّما يفتقدونها أو يقصرونَ عنها في رحلتِهم أو في
مسيرتهم، أو في ميدانِ دعوتهم إلى الله -جلَّ وعَلا.
ولذلك لمَّا كان الحديثُ في الدَّرسِ الماضي عن الحكمةِ، وما تَبِعَ ذلك مِن
الجدالِ والكلام على الجدالِ في الدَّعوَةِ إلى الله -جلَّ وعَلا- انتهى الحديث عن
الحواراتِ الواقعة، وإلزامِ المخالفِ الكافرِ وغيرِه ببعضِ الإلزامات، والدُّخولِ
في بعضِ الأحوالِ إلى كتبهم، أو تفاصيلِ دينهم، أو بعض ما عندهم لإرادةِ بيانِ خطأ
أو خللٍ أو غيرِ ذلك، وذكرنا أنَّ الدُّخولَ في هذا في الجملة قد يكونُ فيه شيء من
الإشكالِ لأنَّ المراد هو دفعُ الشُّبَهِ وتأسيسُ الحقِّ، وتأسيسُ الحقِّ هو الأصلُ
وهو الأولى وهو الأوسع، وبابُ ردِّ الشُّبهَةِ إنَّما هو بقدره، لأجلِ ذلك في كتابِ
الله -جلَّ وعَلا- ردٌّ لشُبَه المُشبِّهينَ، وكلامِ المؤوِّلين والمبطلين، وجاء
الرَّدُّ مِن الله -جلَّ وعَلا- بأبسطِ كلمات.
فائدة: التَّعبير بلفظِ "عبارة" عن كلام الله -جلَّ وعَلا- قد يكونُ فيه إشكالٌ،
وإن لم نقصد ذاتَ العبارةِ، لكن لمَّا كانَ مسالكًا لمسالكِ بعضِ الأهواءِ أنَّهم
يقولون: إنَّ القرآن عبارةٌ عن كلامِ الله، وليسَ كلام الله؛ فندفعُ هذا الإشكالَ
بأن نقول: إنَّه يأتي كلام الله -جلَّ وعَلا- في دفعِ ذلك في جملةٍ صغيرةٍ أو آيةٍ
قصيرةٍ تُحصِّلُ ذلك المقصود.
على كلِّ حالٍ: انبرى أحدُ الطُّلاب في مسألةٍ مهمَّةٍ، وقال: هذا الكلامُ
المتعلِّقُ بالحواراتِ وعدمِ التَّوسُّعِ فيها قد يكونُ صحيحًا من حيثُ الأصلِ، لكن
ماذا نفعل بديارنا التي تشتَهرُ فيها الشُّبهات ويقوم سوقها، ويتنادى على ذلك
المخالفون، وإرادةُ التَّربُّصِ بأهلِ الإسلام والتَّشكيكِ في دينهم وما يتبعُ ذلك
مِن إشكالات؟
فنقول: ما يُذكر في مثلِ هذه الصُّورةِ لا يُخالفُ ما ذكرناه، فنحن ذكرنا أنَّ
الحوارات والدُّخول في الكلامِ على الشُّبهِ إنما يُقدَّر بقدرِ الحاجة إليه، فإذا
احتِيجَ إلى التَّوسُّع لانتشار الشُّبهَة؛ فهذا ظاهر، ولكن نقول: إذا لم تكن
الشُّبهَة شائعة فلا نحتاجُ إلى أن نشيعها، ثم نشيع الردُّ عليها، ما الفائدة من
ذلك؟!
لكن إذا شاعت وظهرت، وخِيفَ أن يكونَ لها أثرٌ على الموحدين َوالمسلمينَ، وعلى أهلِ
الهدى -أهلُ السُّنَّة والجماعة- مِن أهلِ الضَّلالة والبدعة؛ فلا شكَّ أنَّ إظهارَ
هذه الشُّبهَة وتعريَتِها وبيانِ الحقِّ فيها هذا ممَّا جاءت به دلائلُ الكتابِ
والسُّنَّة، وهو مُوافق لِما ذكرنا.
إذن، مَن يتصدَّى لهذه الأمور؟
ليسَ كلُّ أحدٍ، وإنَّما مَن هو مكينٌ في العلمِ، قادرٌ على حسنِ النَّظرِ، مستعدٌّ
للجوابِ بالآلةِ الشَّرعيَّةِ واللُّغويَّةِ، وما يتبعُ ذلك مِن سلاحٍ يُمكِّنُه من
دحضِ تلك الشُّبَهِ ومنعها.
ثم مِن جهةٍ ثانية: الشُّبهَة تُقدَّر بقدرها، فإذا كانت ضيِّقةَ النِّطاقِ فلا
يُوسَّع الكلامُ فيها، وإذا اتَّسع أو زاد فيُردُّ على الشُّبهَةِ بقدرِ الزِّيادة،
وبقدرِ المجالِ الذي تدورُ فيه، فإذا كانت مثلًا تدور بينَ ما يُسمَّى في العصر
ِالحاضر بالنُّخَب أو بأهلِ الثَّقافةِ أو النَّظر ونحو ذلك؛ فيكون مسار إحياء
الكلامِ عليها أو ردِّها في ذلك المسار، وإذا انتقلَ إلى عوامِّ المسلَّمين فيكونُ
الحديث إليهم، وإذا صارَ ذلك لبعضِ مَن تسنَّم لواءَ الدَّعوَةِ وخُشيَ أن
يتلقَّاها أو يقبلها فلابدَّ أن يُحصَّنوا، وأن يكون ثَمَّ مجالس لدفعِ هذه
الإشكالات، ومنعِ تلك الشُّبهات. على كلِّ حالٍ هذا جوابُ أحدِ الأسئلة التي ثارت
بعد انتهاءِ المجلسِ الماضي، ولأهمِّيتهِ أحببتُ أن أستهلَّ به في مجلسنا هذا.
حديثُنا في هذا اليوم عن أحوالِ المدعوِّين، وإنَّ الدَّاعيَة إلى الله -جلَّ
وعَلا- لمَّا كان متأهِّلًا لهذه الوظيفةِ، متسنِّمًا لواءَ الدَّعوَةِ إلى اللهِ
-جلَّ وعَلا- هو هجَّيراه في ليلِه ونهارِه، وجميعِ أحوالِه؛ فلابدَّ أن يكونَ على
علمٍ وعلى بصيرةٍ بالمدعوِّين باختلاف أحوالهم، وما يناسبهم، وما يليق بهم، إن كان
ذلك في أصلِ ما عندهم مِن علمٍ أو ديانةٍ، أو جاهٍ، أو قرابةٍ، أو شيئًا من الأمور
احتفَّ بأن يكونَ لهم حال خاصَّة؛ فإنَّه من المهمِّ على الدَّاعيَةِ إلى الله
-جلَّ وعَلا- أن يكون مستحضرًا لهذا الأمر.
إذا أردنا أن نبيِّنَ ذلك فانظر إلى كتابِ الله -جلَّ وعَلا- فإنَّ من أعظمِ ما جاء
في كتابِ الله وفي سنَّة نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يتأهَّبَ الدَّاعيَة
لِما يليق بقومِه، ولأجلِ ذلك إذا جئت إلى دعوةِ شعيب، ودعوةِ صالح، ودعوةِ هود؛
كلها دعوةٌ إلى توحيدِ الله -جلَّ وعَلا- لكن كان مِن أوائلِ ما تحدَّثَ به شعيب مع
قومِه عن نقصِ المكيالِ والبخسِ فيها، وحصولِ الظُّلم وما يتعلَّق بها، لوطٌ كان
فيما يتعلَّق بإتيانِ الفاحشة، وحصولِ الشُّذوذِ، والتَّعلُّقِ بالرِّجال، وما
اتَّبع ذلك من بلاءٍ عظيم، وهكذا قلْ في دعواتِ أنبياء الله -جلَّ وعَلا- ورسلِه،
ممَّا يدلُّ على أنَّ العلمَ بحالِ المدعوِّين مِن جهةِ تقبُّلهم أو امتناعِهم أو
غفلتِهم أو محاجَّتِهم أو شُبَهِهم، أو كان ذلك فيما يحتاجونَ إليه مِن تصحيحٍ، أو
من تبيينٍ، أو من منعٍ، أو من تحذيرٍ، أو من ترغيبٍ كما جاء في هذه الآيات، وكما
جاءت في دلائل النُّصوص.
وإن أردتَّ أيضًا أن تنظرَ فيما جاء عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فإنَّ
هذا كثير بالمرة، فحينما بعثَ معاذًا إلى اليمنِ كانَ ذلك مِن أعظمِ ما يكونُ،
لمَّا قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ» ، فلمَّا قرَّر أنَّهم أهلَ كتابٍ، ونبَّه معاذًا إلى ذلك، دلَّ
هذا على أنَّه يُحتاج إلى الحديثِ معهم ما قد يختصُّون به ولا يحتاجه سواهم، فيكون
الدَّاعيَة مع ما لديه مِن أصلِ العلمِ بالكتابِ والسُّنَّة، ومِن القُدرة على
النَّظر فيما يحتاجون إليه، أو فيما يريدونه، أو فيما يتعلَّقون به ما يجبُ أن يكون
متمرِّسًا لذلك، مستعدًا له، قادرًا على إظهارِ ما يتعلَّق به والجواب عليه. هذا في
قصَّة معاذ.
أيضًا حديث بريدة لمَّا أرسله النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الغزو، جعلَ
لهم من الوصايا والحديثِ ما يختصُّ بأحكام الغزو، «لَا تَقْتُلُوا وَلِيدً» ، وفي
رواية: «وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا كَبِيرً» ، وفي رواية: «وَلَا أَصْحَابَ
الصَّواِمعِ» ، إلى ما جاء في ذلك.
وفي حديث بُريدة أيضًا قال: «فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ
فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ»،
وقال: «فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ
مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ» ، كل هذا يدلُّ على
أهمِّيَّة ما يليق بمَن تصدَّى لبابٍ مِن أبوابِ الدَّعوَةِ إلى الله -جلَّ وعَلا-
أن يكونَ مستحضرًا لما يُحتاج إليه في ذلك. وهذا أمرٌ ظاهرٌ في كتابِ الله، وفي
سنَّة نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولهذا كلامُ الله -جلَّ وعَلا- في كتابِه عن المنافقين له سياقات منتظمة لها
دلالاتها ومعالمها، وما يجيء في كتابِ الله -جلَّ وعَلا- مِن محاورة أهلِ الكتابِ
له ما يخصُّه، إذا جيء إلى الكلام عن المشركين وما يكونُ منهم من الحجدِ كان لهم
حديثًا يخصُّهم، قال الله -جلَّ وعَلا: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئً﴾ [آل عمران: 64]، هذا استحضارٌ وإظهارٌ لِما كانوا عليه من
إشراكِ غيرِ الله مع الله، ودعوتهم إلى التَّثليت ونحوه.
لمَّا يأتي قول الله -جلَّ وعَلا- في الكلام عن المشركين: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ
الْمُصَيْطِرُونَ﴾ [الطور 35 - 37]، كانت آية تُزلزل الجبالَ، وتُؤثِّر في القلوبِ،
ولذلك جبير بن مطعم لما سمعها قال: "كاد قلبي أن يطير" وهو مشرك لم يؤمن بعد! حتى
هداه الله -جلَّ وعَلا- بهذه الآية، لأنَّ المشركين لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون
بأنَّ هذه الأكوان بتقديرِ الله، ولا بخلقِ الله، ولا بتصريفِ الله -جلَّ وعَلا-
فحاجَّهم الله -جلَّ وعَلا- بالحجَّة البيِّنة الظّاهرة ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ
غَيْرِ شَيىءٍ﴾ [الطور: 35]، هل يمكن أن يكون الخلق مِن غيرِ شيءٍ؟! ﴿أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ﴾، كل ذلك الجواب عنه: لا، فلا يمكن أن يكونَ الشَّيء مخلوق من نفسه،
ولا يمكن أن يكونَ هو الخالق وهو يعلَم أنَّه ليسَ بخالق.
قال: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾ [الطور:
36]، فلم يبقَ إلا الرَّابع وهو أنَّ الله -جلَّ وعَلا- هو خالقهم، فلأجلِ ذلك كانت
هذه الآية دالَّة على الفطرَة، وعلى إقرارِ العبوديَّة لله -جلَّ وعَلا- وفي نحو
ذلك آيات كثيرة أوردناها.
على كلِّ حالٍ هذا بابٌ مِن أبوابِ النَّظرِ في أحوالِ المدعوِّينَ، وكما قلتُ لكم:
لو جئنا إلى آياتِ الملحدينَ لرأينا شيئًا مِن مثل هذه الآياتِ، لو جئنا إلى آياتِ
المنافقينَ وما فيها مِن ذكرِ الله -جلَّ وعَلا- مِن أحوالهم وإظهارِ سرائرهم وما
كانَ في خاصَّتهم حتى كانت سُورة التَّوبة التي جاء فيها ذكرُ المنافقينَ كثيرًا
سُمِّيَت "المشقشقة" لأنَّها شَقْشَقَت ما كان خفيًّا مِن أعمالهم وأحوالهم؛ فدلَّ
هذا على ما يكون عليه الدَّاعيَةُ إلى الله -جلَّ وعَلا- من إظهار ذلك.
لو نظرنا إلى أبوابٍ أخرى لوجدنا في ذلك أحاديثَ كثيرة واسعة للغاية، فتعالَ إلى
حالِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع قرابته، فالقرابة لهم حقٌّ، وأنزلَ
الله -جلَّ وعَلا- فيهم آية تُتلى إلى يوم القيامة ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، فدلَّ على أهمِّيَّة ما يلزم الدَّاعيَة إلى الله
-جلَّ وعَلا- مِن الاهتمام بأقاربه وذويه، زوجةً، أو والدًا، أو ولدًا، أو أختًا،
أو أخًا، أو عمًّا، أو عمَّةً، أو خالًا، أو خالةً؛ ولذلك النَّبيُّ -صلَّى الله
عليه وسلَّم- نادى قريشًا -وهم قبيلته التي نتمي إليهم ويجعلهم عصبة لهم- ثم نادى
العباسَ، ثم نادى صفيَّة عمَّة رسول الله، «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئً»، ثم نادى ابنته فقال: «وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ
مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ
شَيْئً» ، وما أعظمها مِن عبارةٍ، وما ألطفَهُ من معنًى! وما أجملَه مِن حديثٍ!
فإنَّ ما يكونُ مِن دعوتي إليكِ لا يغني أنَّني والدكِ وأنَّني أبوكِ، وأنَّكِ
بُضعَةً منِّي، فأنا سأبذلُ لكِ المالَ والدُّنيا، وما يتعلَّق بأشيائك، وكذا...،
وكذا...، إلى غيرِ ذلك ممَّا يحتمله هذا المعنى؛ أمَّا جانب الآخرةِ والتَّوحيدِ
والإيمانِ وتحقيق العبوديَّة لله، وأداء حقِّ الله -جلَّ وعَلا- في أصلِه وفي
فروعِه، وفي الواجباتِ وإتيانها، والمسارعةِ إلى المستحبَّات، والبعدِ عن
المحرَّماتِ؛ فإنَّ ذلك لا يغني أحدٌ عن أحدٍ، ففيه مِن المعنى العظيمِ والدِّلالةِ
الكبيرةِ على ما هو مثالٌ يُحتذَى لكلِّ داعيةٍ إلى الله -جلَّ وعَلا- وأيضًا فيه
مراعاةُ حقِّ القرَابة، وما يلزمُ الإنسان لهم، وأنَّ الحقوقَ باقيةٌ محفوظةٌ يلزمُ
الدَّاعيَة التَّوفيَةَ بها، ولذلك النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- استعدَّ لها
لمَّا كان عليه واجبًا في النَّفقة والقيامِ على الولدِ، وقضاءِ حاجته.
إذن هذا جانبٌ مِن الجوانب المهمَّة التي ينبغي للدَّاعيةِ إلى الله –جلَّ وعَلا-
أن يراعاها.
لو رأينا حالَ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- معَ أصحابِ الجاهِ، ومَن لهم
قدرٌ، ومَن يجتمع إليهم ويحتمي بهم ذووهم في فتحِ مكَّة، قال النَّبيُّ -صلَّى الله
عليه وسلَّم: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» ، وهو الإبقاء على
شرفِ أهلِ الشَّرفِ، وقدرِ أهلِ القَدرِ، وفضلِ أهلِ الفضلِ، وأنَّ الإسلامَ ما جاء
لينتقصَهم، ولا ليضعَ العظماءَ، أو لِيتشفَّى فيهم، ولا أنَّ الدَّاعيَة أرادَ
بدعوته أن يدعوَ إلى نفسِه، وأن ينتقصَ سواه؛ لا، وإنَّما هو إقامةُ حقِّ الله
-جلَّ وعَلا- وبذلُ الشَّرائعِ، والأمرُ بالواجبات، وما سوى ذلك مِن الحقوق
والأقدارِ والمقاماتِ فهي محفوظةٌ مصونة بأصل الشَّرعِ، وبما جاءَ في كتابِ الله
-جلَّ وعَلا- وسنَّة نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولذلك لن ترى في قانونٍ ولا دستورٍ ولا ملَّةٍ ولا شِرعَةٍ ما وُجِدَ في شرعِ وفي
ملَّةِ محمدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن الكمالِ والوفاءِ، ودقائقِ المسائلِ
والأحكامِ التي جاء فيها جملة هذه الاعتبارات، رأيتَ الكبير وما له من الحق،ِّ
الجارَ وما له من الدَّرجةِ، الزَّوجة وما لها مِن الفضلِ، والأولاد، حتى الأعبُد
والإيماء؛ أشياء كثيرة يعجب منها لإنسان؛ حتى البهيمة لها حقوق، فقال –صلى الله
عليه وسلم: «في كل فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» ، وقال: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ
بِوَلَدِهَ» ، يقولها النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في حُمرَةٍ تطيرُ، وقل
مثل ذلك في أشياء كثرة.
ولذلك ننبِّه كثيرًا إلى أنَّ جملةً مِن الطَّلبة الذين درسوا العلمَ وتعلَّموا
أحكامَه وهم لا يزالُون في عنفوانِ الشَّبابِ ولا زالوا في فتوَّة شبابهم؛ تجد
أنَّهم يكونُ لهم اندفاع إلى ما تعلَّموا، فلربَّما رأوا كبيرًا فقلَّلوا مِن
شأنِه، أو ضلَّلوه، أو عظَّموا أمرَه، أو لم يعتبروا به، وربَّما جاؤوا إلى إمامِ
مسجدٍ يؤمُّهم مِن قديمِ الزَّمانِ وهو الذي يُحفِّظهم القرآن، وهو الذي عُرف بخيرٍ
كثيرٍ وإن كان لديهم من الجهالاتِ أو الخطأ أو النَّقصِ أو غيرِ ذلك؛ تجده أسرعَ ما
يُظهر نقيصَته وكأنَّه يريدُ أن يتشفَّى فيه! ما كانَ هذا طريق نبيِّنا -صلَّى الله
عليه وسلَّم!
فإنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع، وإنَّ الهدى يَظهر، وإنَّ الأمر يُبيَّن، وإنَّ
القدرَ يُبقَى، فيُبيِّن الإنسان ماذا عنده، ويكونُ ذلك مع إبقاءٍ لفضلِ صاحبِ
الفضلِ، وإكرامِ ذي الشَّيبة وما له مِن سَابقةٍ في الإسلام، وما له مِن إمامةٍ
للمسجدِ، وما له مِن فضلٍ في كذا وكذا.
أو أنَّه يأتيه عندَ قومِه وعندَ مجموعته حتى يتفرَّح عليه أنَّه يريدُ أن يُظهِرَ
خطأه وخلَلَه، وليس كذلك!
بل لو أنَّه أخذَه على الانفرادِ وعلَّمَه وقال: إنَّك أولى بتعليمِ النَّاس على
هذه الجادَّة وهذه الطَّريقة، وأنتَ شيخنا، وأنتَ الذي لم أزل أذكرك صغيرًا وأنا
أصلِّي وأتعلَّمُ الصَّلاةَ منك؛ كلمات فيها شيء مِن تطييبِ النُّفوسِ وإكبارِها،
وفيها إظهارٌ للحقِّ ودعوةٌ إلى الامتثالِ إليه، ولذلك النَّبيُّ -صلَّى الله عليه
وسلَّم- قال لأحنف بن قيس: «فِيكَ خَصْلَتَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ»، فَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ : وَمَا هُمَا ؟ قَالَ : «الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ» ، هو دعوةٌ إلى
الاستمساكِ بها، وإرادةُ وجهِ الله -جلَّ وعَلا- بما يكونُ مِن تخلُّقِ الإنسانِ
بها، وغيرِ ذلك ممَّا يتبعُه.
لو جئتَ إلى ما يُقابل هذا: حالَ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع الصِّغار،
كيفَ يكون في هدايتِهم، وتعليمهم، وتربيتهم، ابن عمر وهو مِن صغار الصَّحابة -رضوان
الله تعالى عليهم- يقول النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم: «نِعْمَ الرَّجُلُ
عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» ، وهذا فيه إشارة لِما ذكرناه
مِن المسألة قبلَ هذه؛ فأثنَى عليه بما فيه من حرصٍ على الخيرِ، وإقبالٍ عليه،
ورغبةٍ فيه، ونحو ذلك مِن الأشياء، ثم أشارَ إليه بوصيةٍ جليلةٍ عظيمةٍ تدلُّ على
فقه النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما أوحى الله إليه مِن هذه الشَّريعةِ
السَّمحةِ التي هي أقرب إلى القلوب، وقد أوتي مِن حُسنِ اللَّفظِ وجوامعِ الكلمِ ما
يأسرُ القلوبَ، ويقرِّبُ النُّفوسَ، ويُسهِّلُ الحقَّ، ويكونُ أدعى للامتثالِ، مع
ما في قيامِ اللَّيلِ مِن التَّعبِ والمشقَّةِ، وتركِ لذيذِ النَّومِ، وما يلحقُ
الإنسانَ أحيانًا مِن تعبٍ وعملٍ شديدٍ في نهارِه ونحوِ ذلك، إلا أنَّ عبدَ الله لم
يزلْ على هذا العمل، ولم يزلْ ممتثلًا بوصيَّةِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
لعِظَمِ وصيتِه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما كانَ فيها مِن هدايةٍ له إلى ذلك،
وحُسنِ توجيهٍ له فيه.
أبوابٌ كثيرةٌ لم نستطيع أن نأتي عليها في جملتِها، لكن معَ ذلكَ مهمَا تنقَّلنا
فسنرى أشياءَ من أحوالِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مراعاةِ أحوالِ
المدعوِّين، لمَّا يأتي إلى الباعة في الأسواق ويدخلها، ولمَّا يرى النَّبيُّ
-صلَّى الله عليه وسلَّم- ذلك العيش فيه بللًا، فما كان له إلا أن يقول: «أَفَلَا
جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟» ، ما قال له: أنت غشَّاشٌ!
أنتَ فيكَ وفيكَ! وإنَّما توجيه إليه أنَّه إن كان ذلك فعلٌ منك مقصودٌ بكتمِ
العيبِ وإخفائه فذاكَ مخالَفة منك، والنَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أرشدَه إلى
تركِه، وإن كانَ ذلك على سبيلِ الخللِ أو الخطأ وعدمِ النَّظر فالنَّبيُّ -صلَّى
الله عليه وسلَّم- أرشده أنَّ ثَمَّ بلل في أسفل ذلك الإناء الذي فيه عيش ونحوه،
وأمره أن يظهره. فهذه وصايا النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم.
لو جئتَ إلى حالِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع النِّساء، فكان
يعلِّمَهنَّ، ويأمرهنَّ بالخير، ويقربه لهنَّ، لمَّا كان في خطبةِ العيدِ، واجتمعَ
النَّاسُ كلهم، ومع ذلك لمَّا انتهى النَّبيُّ من وعظِ الرِّجالِ تحرَّك إلى
النِّساءِ فوعظهنَّ بما يليقُ بهنَّ، وبما يختص بهنَّ، وبما يسمعهنَّ، لأنَّه مع
البُعدِ، ومع كونِهنَّ بعد الرِّجالِ، فربما فاتَ عليهنَّ مِن سماعِ الموعظةِ،
والاستفادة من الخطبة ما جعل النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يخصهنَّ بذلك.
ولمَّا طلَبوا منه أن يجعلَ لهنَّ يومًا يُذكِّرهنَّ فيه خصَّهنَّ النَّبيُّ -صلَّى
الله عليه وسلَّم- بذلك، فعلم أنَّ الدَّاعيَة قد يَخصُّ أقوامًا بما يليقُ بهم إذا
كان له وجه صحيح، فإنَّ النِّساءَ يستحينَ عند الرجالِ، ولهنَّ مِن الأحكامِ ما
تخصُّهنَّ ما لا يمكنُ إظهاره عندَ الرِّجالِ أو الأجانبِ، أو غيرِ ذلك؛ وإلا
فإنَّه مِن جهةِ الأصلِ فالعلمُ ذائعٌ مشهورٌ، لا يكونُ سرًّا، ولذلك جاء فيما
أورده البخاري عن عمر بن عبد العزيز: "فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى
يَكُونَ سِرًّا" ، فإذا سُرَّ بالعلم ذهبت بركته، لكن قد يختصُّ بأقوام إمَّا
لكونهم أنَّ تلكَ المسائل تخصُّهم، أو لكونِ غيرِهم لا يستطيع إداركَ ما أدركوه
لتقدُّمِهم في العلمِ، فيجعل لهؤلاء مجلسًا يناسبهم، ولهؤلاء آخر يليق بهم.
وكانَ مِن حالِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه أسرعَ إلى أصحابِه في
الوقوفِ معهم في مواساتهم، وهكذا ينبغي للدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا.
وفي حديث عتبان بن مالك لما طَلبَ أن يُصلِّي النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
في بيته وهو كفيفٌ يحتاج إلى أن يكون ثَمَّ مصلَّى، فجاء النَّبيُّ -صلَّى الله
عليه وسلَّم- وذهبَ إلى بيته وطيَّبَ خاطره، حتى يُصلِّي فيه إذا تعذَّر عليه أن
يصلي إلى مسجدِ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولمَّا يكون النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في بعضِ المواطنِ والمصابات أن
يوجِّه تلكَ العجوز التي طلبت مِن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن تُشفَى
ممَّا أصابها من الصَّرعِ، قال: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ
شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» ، قالت "فادعُ الله لي ألا أتَكَشَّف"،
فلمَّا كانَ الحالُ حالَ طلبٍ ورغبةٍ في شيءٍ وثَمَّ أمرٌ أعلى مِنه درجة وأرفع منه
قدرًا بيَّن لها النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إن شئتِ أجبتكِ إلى طلبكِ،
«إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ»، فرقَّاها النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إليه «وَلَكِ
الْجَنَّةُ»، فكان منها الصَّبرُ -رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وقلْ مثلَ ذلك في فاطمة لمَّا طلبت مِن النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- خادمًا
وكانَ قد أثَّرَ فيها العجنُ والرَّحى، وما يكونُ مِن الطَّحنِ ونحوِ ذلك، فقال
النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ
لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ؟ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا أَوْ أَخَذْتُمَا
مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ
خَادِمٍ» ، فهنا اعتبارٌ لأحوالهم، وتلمُّسٌ لِمَا يكونُ الأولى بِهم.
هنا جئنا إلى بعضِ الأحوالِ التي يُطلبُ مِن الدَّاعيَة ما لا يَحسُنُ طلبُه، يأتي
الطُّفيلُ بن عمرو الدوسي، فيقول: يا رسول الله، إنَّ دوسًا عصت -وهم قبيلته وذووه-
وأبت، فادعُ الله عليهم، يقول الصَّحابة: ظننَّا أنَّه سيدعي عليها فتهلك، فكانَ
مِن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن قال: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ
بِهِمْ» ، فكانت هدايتهم وإتيانهم للنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وملأ
الإيمانُ بشَاشَةَ قلوبِهم، حتى ارتووا مِن معينِ النُّبوَّة، وتأسَّوا بمحمدٍ
-صلَّى الله عليه وسلَّم- فكانَ لهم القدوة والأسوة.
إذا نظرنا إلى مثلِ هذه فنعرفُ ما يلزم الدَّاعيَة مِن اعتبارِ الأمورِ في مواقعها،
وعدمِ الاستعجالِ إلى أمرٍ يكونُ فيه البلاءُ والفتنة، فلو أنَّه طُلبَ أن يدعوا
على أقوامٍ، أو النّظر منهم ما يُستفذُّ به ويُغضِبُ ويحصلُ به شيء من خروجِ
الإنسانِ عن طوره؛ فإنَّه ينبغي له أن يعودَ إلى رشدِه، وأن يسلكَ مسكًا رشدًا كما
كان نبيُّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم.
وثَمَّ القصَّة المشهورة المعروفة -وما أحوجنا إلى إعادتها لعِظَم ما فيها من
المعاني- وهي قصَّة الأعرابي الذي جمعَ أنواعًا مِن الانتهاكاتِ، فأيُّ شيءٍ أعظم
مِن أن يأتيَ إلى مسجدِ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- والصَّحابةُ يصلُّون
ويسبِّحونَ، ويقرؤون القرآنَ، ورسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كذلك في
المسجدِ، ثمَّ يرفعُ ثيابه ويظهرُ عورتُه، ثم يبولُ في المسجد!
صنعَ شيئًا كبيرًا! فلا هو الذي بهم اقتدى، ولا بفعلِه تأسَّى، ولا هو الذي سَلِم
من هذا وذاك!
فغضبَ أصحابُ رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فدلَّهم على مَا يجبُ على
الدَّاعيَة من الصَّبر على المدعو وعدمِ الاستعجالِ عليه، فقال: «لَا تُزْرِمُوهُ»
، لأنَّه في حالِ بولٍ، وإذا قطعَ الإنسانُ بولَه فهذا يزيده غيظًا ويؤذِيه، ثم
أيضًا قد يكونُ سببًا لأن يُدنِّسَ المسجدَ وتنتقلَ النَّجاسة مِن مكانٍ إلى مكانٍ،
ثم إنَّ ذلك أمنع له مِن الاستجابة، فإنَّه إذا قُطِع عليه بوله ربَّما خرج ولم
يعد؛ فلم يستفِد، وربما عادَ إليها مرة أخرى ونحو ذلك.
فلما قضى بوله قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ،
لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ ، وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ
لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» ، فهكذا
ينبغي.
معاوية بن الحكم لمَّا تكلَّم في الصَّلاة، النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما
عَظَّمَ عليه، الصَّحابةُ بدؤوا يضربون على أفخاذِهم، حتى قال: "وا ثكلَ أمَّاه"
يعني خافَ، فما كانَ من النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلا أن قالَ: «إِنَّ
هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ» .
فهذا ذكرٌ وبيانٌ وتذكيرٌ بطريقةِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع
المدعوِّين، وكيفيَّة التَّعاملِ ومعهم، والاستعداد لذلك، فينبغي للدَّاعية أن
يلحَظَ ذلك في كلِّ أحواله، إن أرادَ أن يدعو جارًا، أو يُحدِّثَ إمامًا، أو أن
يخطبَ جمعةً، أو أن يعِظَ والدًا، أو يُنبِّه أخًا، أو يُعلِّمَ ولدًا؛ فإنَّه في
كلِّ هذه الأحوال لا ينفكُّ مِن أن يكونَ على حالٍ أتمّ، وأن يكونَ في ذلك مستمسكًا
لأمورِه، عارفًا بدعوتِه، لا يُخرجه عن طورهِ ولو نيلِ منه، أو تُكلِّمَ فيه، أو
حصل له ما حصل.
تعرفون أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لمَّا نادى في قريش وقال: «إِنِّي
إِنَّمَا أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ،
وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ»، فقالوا: قل وعشر أمثالها.
فقال: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ» ، فما كان منهم إلا أن قال أبو لهب: تبًّا لك،
ألهذا جمعتنا!
فهل كان منه إعادة للسِّباب أو الشَّتيمة أو الانتقاص؟!
لا، احتمل ذلك، وأنزلَ الله -جلَّ وعَلا- آيات تتلى في كتاب الله -جلَّ وعَلا- إلى
يوم القيامة ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ﴾ [ص: 5]، إلى آخرِ الآيات التي في سورة ص، وما فيها من ذكرِ حالهم، وعدمِ
استجابتِهم، وأيضًا ما أنزلَ الله -جلَّ وعَلا- في أبي لهب في سورة تُبيِّن عن سوءِ
حاله، وما يُختَم له، ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1].
مِن المسائل المهمَّة التي ينبغي للدَّاعية أن يلحظَها أيضًا: أنَّ ثَمَّ مسائلَ
ليس مِن السُّهولة نقلِ النَّاسِ عنها، إمَّا لتعلُّقهم بها، وتلقِّيهم لها أبًا عن
جدٍّ، وإمَّا لكونِ ذلك ممَّا تتوق إليه نفوسهم، فيصعُب عليهم أنَّهم يستجيبون،
ومعَ ذلك لا يمكن للدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- أن يقفَ، ولا يمكن للدَّاعية
أيضًا أن يأتي بما يكون عاقبته عدم الاستجابة أو الامتناعِ وعدمِ الموافقة.
لمَّا كانت الأعياد والأفراح هي أكثر ما يفرح به النَّاس، ويعدُّون له العدَّة في
طولِ عامهم، وكانت أعياد المشركين، فما كان من النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
إلا أن قال: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ
الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ» ، فجعل لذلك بديلًا.
والكلام على البديل ينبغي أن يكونَ كلامًا واضحًا جليًّا، لا يُظنُّ أنَّ الكلام عن
البديلِ أنَّ كلَّ مسألة نُهيَ عنها شخصٌ أو دُفعَ عن فعلِها أن يجعلَ له بديلًا
ممَّاثلًا لذلك! ليس هذا كذلك؛ بل ثَمَّ مسائل جاءَ الشَّرعُ بإظهارِ البديلِ
وبيانِه فحيَّ هلا، ويمكن المصير إلى ذلك، كما لو كانوا في حفلةٍ مِن حفلاتِ
العُرسِ ونحوِها يستعملونَ المعازفَ ونحوها؛ فإنهم يُنهون عن ذلك، ويُعلَّمون أنَّ
البديلَ في هذا ما أباحَ الله -جلَّ وعَلا- مِن ضربِ الدُّفِّ ونحوه للنِّساءِ
خاصَّة على ما ذكره أهلُ العلم مِن القيم والضَّوابط المعروفة في هذا.
ولا يعني ذلك أن يُقال أنَّ النَّاس يحتاجون إلى المعازفِ إذن نصير إلى ما يصير
إليه بعض النَّاس الآن مِن أن نُحدِثَ لهم أصواتًا كأصواتِ المعازفِ لا تُستعمل
فيها تلك الآلات؛ هذا كلُّه ضربٌ من التَّكلّف، أو عدمِ حسنِ العلمِ بالفقهِ في
الشَّريعةِ، فإنَّ ذلك عندَ جمعٍ مِن أهلِ العلمِ كثير لا يعدو أن يكونَ باب مِن
أبواب المعازفِ والموسيقى ونحوها.
إذن نحن نقولُ بالبديل إذا كان في الشَّرعِ بديلٌ صحيحٌ أصيلٌ على وجهٍ منضبطٍ،
وإلا فقد يكون ثَمَّ بديل لكن هذا البديل لا يُشرع على ذلك النَّحو، أو لا يجوزُ
على هذا الوجه، فلأجل ذلك إذا أمكنَ أن يَجِدَ بديلًا خاصَّةً في الأمورِ التي يكون
تعلُّقِ النَّاسِ بها أكثر؛ فإنَّه ممَّا يُعنَى به الدَّاعيَة إلى الله -جلَّ
وعَلا- أن يفتحَ لهم هذا الباب، وأن يُبيِّن لهم ذلك الحكم على وجهٍ مقاربٍ، بدون
ما يكون فيه منعٌ لهم ممَّا ألِفُوه، وعدمُ إخبارٍ لهم بما يؤذَن لهم فيه، ويليق
بهم مِن تعاطيه.
هذه الأمور -أيُّها الإخوة- لو نظرنا إليها في الواقع نجد إشكالاتٍ كثيرة، ونجد
أيضًا ممَّارسات خاطئة متنوِّعة، يحتاج طالب العلم والدَّاعيَة إلى الله -جلَّ
وعَلا- أن يعلم أنَّ بابَ الدَّعوَة ليس موضوعًا يسيرًا، أو هو عفويًّا، فالأمور
لها ترتيب، ولها تعلُّم، ويؤدِّب الإنسانُ نفسَه على شيء من ذلك، ولهذا لم يزل أهل
العلم يأخذونَ طلابَهم فيفدون على المجالسِ أو على الأسواقِ، أو نحو ذلك؛ فيُبيِّن
لهم الشَّيخ مِن الأمورِ والأحكامِ، وطريقةِ الإنكارِ، وتعليمِ المسائل ما يكون
مناسبًا في هذا.
لمَّا كان الأمر كذلك فينبغي للدَّاعية في مسيرته أن يتعلَّم هذه المسائل، خاصَّة
أنَّ مسائلَ الإشكالِ التي يقعُ فيها الدَّاعيَة معَ قومِه، أو معَ أهلِه، أو معَ
جيرانه، أو معَ أهلِ مسجده؛ هي مسائل يعرف فيها الإشكال سابقًا، فنبغي له أن
يتأهَّبَ إلى طريقةٍ مناسبةٍ لحلِّها، والتأهُّب هنا أوَّل ما يكون بتمامِ العلمِ
بأحكامِ تلك المسألة وما يتعلَّق بها. هذا مِن جهةٍ.
مِن جهةٍ ثانية: عليه أن يعرفَ الطَّريقة المناسبة التي يكون فيها إيصالُ هذا
المعنى إليهم بدونِ ما إشكالٍ أو حصولِ ما بأسٍ، فإذا أمكنَ ذلك فلا شكَّ أنَّ هذا
هو الواجب المتعيِّن عليه، فأحيانًا يكونُ هذا مثلًا قبل أن يأتي موعد لهذا الأمر
إذا كان مثلًا مخالفة شرعيَّة معروفة متعلِّقة بزمانٍ أو بمكانٍ أو بموتِ شخصٍ؛
فيتأهَّبَ لهذا، يعلِّمهم ما يليق.
مثلًا: في إحياءِ مولدِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما يكونُ فيه من
الاحتفالِ وجعلِه عيدًا؛ هذه مِن المسائلِ التي يكثرُ الكلام فيها، فينبغي لطالبِ
العلمِ أن يُعلِّم النَّاس بما للنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن المكانَة
والمنزلة، لأنَّ أكثرَ ما يُشبَّه بالشُّبهِ على مَن أنكر ذلك أنَّه لا يحبُّ
النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فإذا ابتدأتَ بذكرِ مَا للنَّبيِّ -صلَّى الله
عليه وسلَّم- مِن المنزلةِ، ومَا له مِن المكانةِ، ومَا له مِن الفضيلةِ، ومَا جاءَ
في حقِّهِ مِن الحقوقِ في كتابِ اللهِ -جلَّ وعَلا- وسنَّة رسولِ اللهِ -صلَّى الله
عليه وسلَّم- نفيتَ ذلك.
ثم أيضًا لما كان هذا له وقت وألفَه النَّاس منذ زمانٍ؛ أن يُبيِّن أصلًا أصيلًا في
التَّأسي والاقتداء والاهتداء، حديثٌ عامٌّ، لأنَّ النَّاس يستطيعون أن يتأمَّلوا،
يضربُوا بعض الأمثلة، ثم إذا كان المكان مناسبًا طرحَ ذلك في وقته، وكان له قبولٌ
بقدر ما، أو قد يكون ذلك عَرضٌ له على آحادهم، لأنَّ النَّاس في حالِ اجتماعهم
يكونُ لهم من النَّشوة والقسوة ما يمنعهم من قبولِ الحقِّ، أمَّا إن كانوا منفردين
فيمكن أن يوطَّدوا، ويمكِنُ أن يكون قد حدَّثَ هذا وحدَّث هذا، وأخذَ بإمامهم،
وبيَّن له؛ سيكون ذلك أقوى له.
أيضًا لا يمنع أن يكونَ ذلك على لسانِ إمامهم، فإنَّه إذا أحسنَ الحديث إليه وبيانِ
ما يتعلَّق بهذه المسألة، فربَّما هو الذي كفلَ له القول والدُّخول في هذه المسألة،
فيكون ذلك أنفع.
كذلك إذا كان ذا نظرٍ، واستحضرَ أقوال الفقهاء الذي يعتبرونهم في بلدهم -إن كانوا
شافعيَّة أو حنفيَّة أو مالكيَّة- فينظر إلى علمائهم الذين تكلَّموا في هذه
المسألة، فإنَّ ذلك أدعى لقبولهم على وجهٍ صحيح، وبيانِ أنَّ مثلِ هذه المسألة ليست
متعلِّقة بأشخاص، ولا بفئة، ولا بطائفة، وإنما هي طريقة أهل الحق والهدى، وسبيل أهل
الخير والرشاد.
عند ذلك تعرف -في مثل هذا المثال- كيف أن لطالب العلم أن يتخوَّلهم بما يريد بيانه
لهم وإظهاره لهم.
ومِن أكثرِ ما يكونُ به سبب الإشكال في أحوال المدعوِّين: أنَّ بعضَ الطَّلبة
والدُّعاة لا يعرف في الدَّعوَة إلا الإنكار، يقول: هذا خطأ، هذا خطأ، هذا كذا..؛
فلو أنَّه علَّمهم وبدأهم بالدَّعوَة والتَّعليم لَمَا احتاجَ إلى بيانِ كثيرٍ من
الأخطاء؛ ولامتثلوا ابتداءً ما ذكره لهم، فكأنَّه كالمربِّي لهم، أو كأبيهم، أو
كشيخهم الذي لا يعصوه، وربَّما كان كثيرٌ ممَّا يكون فيه مفارقة للكلام اللَّطيف
والخُلُقِ الجميلِ، وما يحسن بالطَّالبِ في اعتبارِ ذي الشَّيبة، وأو ذي الكبر، أو
القرابة، أو الجيران، أو مجموع النَّاس، فإذا استجمعَ الإنسان ذلك فلا إخالُه إلا
-بإذنِ الله جلَّ وعَلا- له قبولٌ، وله أثرٌ، وإن كان ثَمَّ امتناع أو مراجعة
فإنَّها ستكون بطريقةٍ على طريقةِ أهلِ العلمِ مِن الأخذِ والرَّدِّ، وعدم
الاستعجالِ، ويمكن أن يُرجَئ الموضوع أو يؤجَّل إلى وقتٍ لاحق، فيُحدِّثهم ويكونُ
ذلك سببًا لقبولهم.
أيضًا لا تترك الأمرَ حتى يقعَ فتنكرَه، خاصَّة أنَّك تعلمُ أنَّه يقع، لأنَّ
النُّفوسَ في وقتِ تعاطيها لذلك الأمر تكون أكثر إقبالًا عليه وامتناعًا من ضدِّه،
سواء كان ذلك في خطأ إذا كان مِن أمرٍ محدَثٍ أو بدعةٍ، أو فعلٍ محرَّمٍ، فلو جئتَ
إلى شخصٍ وقلتَ له: الزنا محرمٌ، وبيَّن النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كذا
وكذا، وبيَّنتَ له ما فيه مِن الأحاديثِ والوعيدِ؛ لربَّما قَبِلَ حتى ولو كان
ممَّن يتعاطَى ذلك، لكن لو جئتَ إلى زانٍ حالَ زناه وتقول: لا تزنِ، الزِّنا حرام!
فهذا طبعَا قد يكون واجبًا في وقته، لكنَّنا نقولُ: إذا أمكنَ أن تُعلِمه قبلَ أن
يقعَ في ذلك فإنَّه سيكونُ أقبَلَ له، فإنَّ قبولَ هذا الذي تُحدِّثه وهو مستمعٌ
إليك ومنصتٌ لك؛ سيكون أكثرَ قبولًا وأسرعَ إمتثالًا منه إذا ما كانَ على ذلك الخطأ
ومتعاطٍ لتلك المعصية، فمَن علِمَ مِن حالِ المدعوِّ أنَّه تعاطى ذلك فلينظر إلى
الوقتِ الذي لا يكونُ حالَ تعاطيه؛ بل يسبقه حتى يمنعَ حصولَه، وحتى يكونَ أقبلَ
لقبوله، والامتثال له.
وإنَّما هذه أمثلةٌ قليلةٌ جدًّا فيما يليق بالكلامِ في أحوالِ المدعوِّين، لكن
-كما قلنا- أنَّها إشاراتٌ يسيرةٌ.
ولعلَّنا نختم بحديثِ المسيء في صلاتِه: إنسانٌ لا يحسن يُصلِّي. ما معنى ذلك؟
معنى ذلك أنَّ صلاتَه كانت باطلة، يدخلُ والنَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- جالسٌ
إلى أصحابه، فيُصلِّي ذلك الرَّجل صلاةً يستعجلُ فيها، فيأتي إلى النَّبيِّ -صلَّى
الله عليه وسلَّم- فيسلَّم عليه، فيقول النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم:
«ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، ثمَّ يعود الثَّانية، ثمَّ الثَّالثة،
حتى قال: والله لا أحسنُ غير هذا، فعلِّمني؛ فلمَّا تهيَّأت النَّفسُ لقبول هذا
علَّمه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: « إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ
فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ
اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا،
ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَ» ، الحديث.
تأمَّل حالَ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مثلِ هذا، كيفَ لم يعنِّفْه، لم
يقل: كيفَ أنت تصلِّي! أنت الآن كذا أو كذا!
لا، مَن كانَ على خطأ فيُعلَّم، ومَن كانَ على جهالةٍ فتُنفَى عنه، وهكذا ممَّا
ينبغي للدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- أن يستحضره.
والأحاديثُ كثيرة، وأحوالِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في ذلك متنوِّعة،
والنَّاس بينَ طرفي نقيضٍ:
- منهم مَن يأتي بالأمرِ على أي وجهٍ.
- ومنهم مَن يستأني بالنَّاس حتى يفعلوا كلَّ منكرٍ، ولا يفعلُ شيئًا.
- المُوفَّق لا ذا ولا ذاك.
والحقُّ بينَ هذين، أن يُعلَّم النَّاس الهدى والصَّواب، ويُدعونَ إلى الحقِّ
والهدى والتَّوحيد، وإلى فرائضِ الشَّريعة وأوامرها، ويُنهَونَ عن النَّواهي
ومكروهاتِها، لكن كلَّ شيءٍ مع اعتبارِ ما يحتفُّ به، والنَّظر فيما يمكن أن يكونَ
أكثرَ في قبوله، ويلتمسُ الإنسانُ مِن الأسبابِ التي تناسبُ حالَ المدعوِّ، إن
احتاجَ إلى دليلٍ استدلَّ، وإن احتاجَ إلى ترغيبٍ رغَّبَ، وإن احتاجَ إلى ذا أو ذاك
فعل، فيكون بإذن الله -جلَّ وعَلا- أنفعَ له، إن تمكَّن الطَّالبُ مِن هذا فإنَّه
سيكون له في دعوته مِن القبولِ والخيرِ الكثيرِ.
لم يبقَ في وقتنا متَّسَع، وإلا فإنَّ الحديثَ ذو شجونٍ، أسألُ الله -جلَّ وعَلا-
أن يتمَّ علينا نعمَه، وأن يزيدَنا مِن فضلِه، وأن يعقبنا الخيرَ والهدَى، إنَّ
ربَّنا جوادٌ كريمٌ، أشكرُ لكم حسنَ إنصاتِكم وللإخوةِ المشاهدين، ولمَن قامَ على
تسجيلِ هذه الحلقَة، وشكرَ الله للجميعِ فعلَه وخيرَه، وأسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن
يُعظمَ الأجرَ والمثوبة، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله
وسلَّم وباركَ على النَّبيِّ الأمين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13400 33
-
17107 27
-
23749 18
-
78694 18
-
5037 6
-
2908 22
-
2730 24
-
2683 12
-
5748 12
-
8845 12
-
10684 24
-
11545 13