الدرس الرابع
فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان
إحصائية السلسلة
السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وبرَكَاَتُه.
حيَّاكم اللهُ، وحيَّا اللهُ الإخوةَ المشاهدين والمشاهدات.
بعد الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله؛ أسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن
يجعلَ هذه المجالس مباركةً، وأن يرفعنَا بالعلمِ، وأن يزيدَنا مِنه، وأن يُعقبَنا
فيه العملَ، وأن يجعلَنا مِن أهلِ التَّعليمِ، وأن يجعلَه أجرًا لنا عندَه وَذُخرًا
يَوم نلقَاه، وأن يباركَ لنا بِه في الدُّنيا والآخرةِ، إنَّ ربَّنا جَوَّاد كريم.
أَيُّها الإخوة الكرام، لَمْ تَزل هَذه المجالس وهذا البناء عَاليًا مُباركًا مَا
دَامَ يُتلى فيه كتابُ الله، وتُذكَرُ فيه سنَّةُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-
ويُتعاهَدُ فيه مِنهاجُ أهل السُّنَّة والجماعة تعلُّمًا وتعليمًا ديانةً ودَلًّا
ودعوةً وَهَديًا، وذلك فضلُ الله يؤتيه -جلَّ وعَلا- مَن يشاء.
لم تكونوا -بإذنِ الله جل وعلا- على نسيانٍ ممَّا دارَ في المجلسِ الماضي، وأظنُّ
أنَّ الحديثَ حديثٌ يقطعُ القلبَ، وينزلُ في الأعماقِ لو تأمَّلناه وتدبَّرناه؛ وهو
استحضارُ الإخلاصِ لله -جلَّ وعَلا- وهو أسهل ما يكونُ لمَن يسَّرَ الله عليه، وهو
أعظمُ ما يكونُ لمن ضعفت نفسُه ولمن ذهبَ قلبُه يمينًا وشمالًا، وأضعفَ مَا يكونُ
الإخلاص إذا كثرت ما يُسمَّى بالفلاشات أو الشَّاشات أو التَّصوير؛ فإنَّ الشُّهرةَ
والظُّهورَ هو سببُ البلاءِ، وطريقُ الفتنةِ، وأعظمُ مَا يكونُ من ذهابِ الإخلاص.
ثم عوَّلنا على العلمِ والاهتمامِ به، وإذا ذكرنا العلمَ فإنَّه أصلٌ وأساسٌ في
الدَّعوَة إلى الله -جلَّ وعَلا- وذكرنا وبيَّنَّا وأسَّسنا وابتدأنا وبها انتهينا
وعدنا إلى أنَّ الدَّعوَة لا تكونُ إلا بالعلم، وأنَّ مَنصبَ الدَّاعية الذي يدعو
إلى الله -جلَّ وعَلا- ويتفرَّغ لذلك لا يكون مهما كان له من النِّيَّة والبذلِ
والتَّضحيةِ إلا أن يكون مُتعلِّمًا مُتسلِّحًا بسلاحِ العلمِ والفقهِ والفَهمِ
والحفظِ للكتابِ والسُّنَّة وأقوالِ أهل العلم، واستحضار ذلك، وأن يكون مُلازمًا له
في جميعِ أموره، وإلا فإنَّه أسرع مَا تزلَّ قدمُه، وتحصلَ عثرتُه، وتظهرَ سوءته،
وأضعفُ ما يكون بين يدي شيطانه إن لم يكن له علمٌ يتسلَّحُ به ويتبصَّر به الهدى من
الضَّلال، كيفَ يدعو النَّاس إلى بصيرةٍ وهو على ضلالةٍ؟!
وكيفَ يدعو النَّاس إلى خيرٍ وهو لا يحسنه؟!
وكيفَ يدلُّ النَّاس على هَدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يحفظه؟!
وكيف يُبيِّن للنَّاس ما ذكرَه علماءُ أهلِ الإسلام وهو لم يطَّلع عليه ؟!
أنَّى يكون ذلك؟!
ولأجلِ هذا ذكرنا قديمًا وأعدناه في المجلس الماضي، ونُؤكِّد عليه في هذا المجلس:
أنَّه وإن قلنا أنَّه يُمكِنُ للإنسان أن يدعو وهو ليس بعالمٍ؛ لكن المقصود بذلك أن
يحفظ في ذلك سُنَّةً فيُخبرُ بها، أمَّا مَن يتصدَّى لهذا المنصب ويرتسم لواءَ هذه
الوظيفة ويُعلي رايتها؛ فإنَّه لا يكون إلا مِن أهلِ العلم وطلبته، وأنَّه ينبغي
ألا يتصدَّى لهذا إلا مَن هو كذلك. وهذه مسألة من الأهميَّة بمكانٍ.
إذا انتهينا إلى هذا فثَمَّ بعضُ المكمِّلات لمسألتي الإخلاص والعلم؛ ألا وهي
أُسُسٌ لا يُستغنَى عنها، ولا مَناصَ مِن العناية بها، وهي أكثر مَا يكونُ تفريطًا
في هذا الزَّمانِ، وهو أن يكون للدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- خُلوَةٌ بربِّه،
وحزبٌ من كتابِ الله، وصلاةٌ في اللَّيلِ، وذكرٌ لله -جلَّ وعَلا- وأنَّه مهما كان
له من الشُّغل، ومهما كان عنده مِن الأعمال، ومهما ازدحمت عليه المحاضرات ومجالس
العلم والدَّعوَة، وتتابعت عليه الرَّغبات والطَّلبات؛ فإنَّه لا ينفكُّ إلا أن
يكون له خلوةٌ مع الله -جلَّ وعَلا- وأن يتعاهد نفسَه بالعبادة والصَّلاح، وأظهر ما
يكون ذلك في حالِ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- أليس هو خير هذه الأمَّة؟!
بل أليس هو خير الأنبياء والمرسلين وأزكاهم عند ربِّ العالمين، وهو صاحبُ الشَّفاعة
العظمى، وهو سيدُ ولدِ آدم، وهو الذي عصمَه الله -سبحانه وتعالى- وهو الذي جاءَ على
حينِ كانت الأرضُ مَليئة بالشِّركِ والظُّلماتِ والبلايا والأصنام والأوثانِ،
والتَّشتُّتِ والتَّفرٌّقِ وأشياء كثيرة؟!
هل كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يجعل وقتَه كلَّه للدَّعوَةِ أم أنَّها
خلوةٌ بالله، ووقوفٌ بين يدي الله، ودعاءٌ لله، وذكرٌ لله -جلَّ وعَلا؟!
يعتكفُ حتى لا ينشغل بأحدٍ، ويسير للحجِّ وإلى العمرةِ حتى يتزوَّد من الطَّاعة،
ويختلي بربِّه في جُنح اللَّيلِ، ويكون له مِن الذِّكرِ والاستغفارِ مائة مرَّة في
اليومِ، وأنواع من ذلك على ما جاء في سيرته وهديه -صَلواتُ ربِّي وسَلامُه عليه.
على أي شيءٍ يدلُّ هذا؟!
ليعلمَ الدَّعاة، وليعلمَ كلُّ مَن تصدَّى لهذه الوظيفة، ليعلمَ كلُّ مَن أراد أن
يكون سالمًا من العَثرة، وأن يدعوَ النَّاس إلى هداية، وأن يُبصِّرَ النَّاس
بالدِّين؛ أن يكونَ من العُبَّاد وأن يكون من الصَّالحين.
فَيَا مُوقدًا نَارًا لغَيرِكَ ضَوءُها *** وحرُّ لَظاها بينَ جنْبَيْك يَضرِمُ
كيف يدعو النَّاسَ إلى السُّنن والنَّوافل وهو لا يؤدِّيها؟!
وكيف يدعو النَّاسَ إلى أن يقوموا بين يدي الله وترًا وصلاة ليلٍ وغيرها وهو لا
يفعلها؟!
وكيف يحثُّ النَّاس على ذكر الله -جلَّ وعَلا- وهو أسرع مَا يكون إلى نسيانه أو إلى
الانشغال بغيره؟!
هذا قوتُ القلوب، وزادُ النُّفوس وصلاحُها، وتمامُها، وغذاؤها، ودواؤها، وخيرُها؛
إن لم يفعله الإنسان فإنَّه لا يُوفَّق، وما يجتمع على الإنسان مِن عجبٍ أو إرادة
الخلقِ أو الرِّياء أو السُّمعة أو التَّكسُّبِ بالدِّين أو التَّكسُّب بالدَّعوَة
إلى الله -جلَّ وعَلا- إلا أن يكون له عبادة، خلوة بالله تكسِر قلبَه، تُخضِعُ
نفسَه، تُعيدُه إلى رشدِه، تُصحِّحُ له ما يكون من خطأ في مسارِه، تُبيِّن له ما
يكونُ من عَثرته، يُفيضُ الله عليه مِن رحمته، ولذلك لعلكم تعرفون كلامَ الإمام ابن
تيمية -رحمه الله تعالى- وقد قال كلامًا عظيمًا، فحينما كان يجلس بعد الفجر يستغفر
الله ويذكر الله، يقول: "هذه غدوتي، لو لم أتغدَّ بها لن أستطيع أن أعمل بقية يومي"
. هذا يدلُّ على ماذا؟
على أنَّ هذا الذكر والدُّعاء له أثرٌ على العبدِ في حياتِه، وحتى في قوَّة البدنِ،
ولذلك أرشد النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فاطمةَ -رضي الله عنها وأرضاها- لما
اشتكت ضعفَها عن القيامِ بأعمالِ بيتِها أن تذكرَ الله وتسبحه وتهلله وتكبره مائة
مرة إذا أَوت إِلَى فِراشها ، كما في حديث علي رضي الله عنه عند مسلم في صحيحه.
إذن هذا من الأهميَّة بمكان، نحن نرى جهودًا كثيرةً في الدَّعوَةِ إلى الله يتصدَّى
لها أُناسٌ كثير، لكن في كثيرٍ مِن الأحوالِ تجد أنَّ مِن النَّاس مَن ينشغل بغيره
وينسى نفسه، يدعو غيرَه وقد ذهبَ ذاتَ اليمين وذاتَ الشِّمال، وما أسرع أن يكونَ
عليه الزَّلل والخطأ؛ فلأجل ذلك أوصيكم -أيُّها الإخوة- أن يكون للإنسان زادٌ
يتزوَّد به بين يدي اللهِ -جلَّ وعَلا- ليس بلازمِ ذلك أن يشملَ الإنسانُ جميعَ
العباداتِ، لكن أُسُّها وأصلُها وهي التي يعلم أهلُ العلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله
عليه وسلم- واظب عليها؛ فإنَّه لا ينفك أن يكون لكلِّ واحد منَّا حزبٌ منها، حزبٌ
من الذِّكر، حزبٌ مِن القرآن في كلِّ يومٍ وليلةٍ، حزبٌ من قراءة القرآن في
النَّهار وفي الليل، ومن الصَّلاة أيضًا في اللَّيل، وحزبٌ من نوافل الليلِ
والنَّهارِ، وأن يكون للإنسان مال يبذله ولو قليلًا، أو صدقة يحسن بها إن كان ذا
مالٍ، أو إن قدر على الصِّيام يوم ويفطر يوم، إن لم يستطع فيكن الاثنين والخميس، إن
لم يستطع فيكن ثلاثة أيام من كلِّ شهر؛ المهم أنَّه لا ينفك من أن يكون له زادٌ بين
يدي الله -جلَّ وعَلا.
لا أريدُ أن أطيل في هذه الأحاديث، مع أنِّي أرى أنَّها مِن أعظمِ ما تكونُ
أهمِّيَّة، وأعظمُ ما تكونُ الحاجةُ إليها، وأكثر ما نكون من التَّقصير فيها، وما
ذهبت بركةُ أعمالنِا ولا دعوتِنا ولا حصولِ الخلل عندنا إلا لمَّا ضعفنا في تحقيقِ
العبوديَّة لله -جلَّ وعَلا- فحينما تنقادُ قلوبُنا توكُّلًا، رجاءً، خوفًا؛ فلا
يُعمَر هذا القلب إلا بالله -سبحانه وتعالى- ولا تُعمَر الجوارح إلا بالله -جلَّ
وعَلا- صلاةً، وعبادةً، وذكرًا وصيامًا، وصدقةً، وأنواعًا من البرِّ والإحسانِ،
حينما يكون لفظُ الإنسان لفظُ خيرٍ، يذكر ربَّه، يقرأ كتابَه، يصلِّي على نبيِّهِ
-صلى الله عليه وسلم- يدعو النَّاسَ إلى الهدى، ويبشِّرُ بسنَّةِ المصطفَى -صلى
الله عليه وسلم.
هذه أمورٌ مُهمَّة، ولعلَّكم تراجعون مَا ذكرَه أهلُ العلمِ في هذا، إن كانَ ذلكَ
في تزكيةِ النُّفوسِ كما ذكره ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في مختصرِ منهاج
القاصدين، وأيضًا ما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتبه، ومِن أعظمها مدارجِ
السَّالكين ومفتاحِ دارِ السَّعادة، وطريقِ الهجرتين؛ كل ذلك مُصلِحٌ للنُّفوسِ،
وكتبُ أهلِ العلم في ذلك كثيرة، لكن هذه مِن أحسنها وأنقاها؛ لأنَّه لا تخلُ بعض
كتبِ تزكيةِ النُّفوس مِن مسالكِ بعضِ المتصوِّفة، وبعضِ مَن دخلت عليهم الضَّلالات
وبعض المحدثات، وربَّما زادت بهم الأهواء حتى عظُم بلاؤها وكثر شرُّها، لكن الله
الله في أن نغذي أنفسنا!
والنَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يترك ذلك حتى في غزواته وفي حربه، فكان له وقت
يدعو الله ويُصلي لله، ويلهجُ بين يدي الله -جلَّ وعَلا- بذكرِه، والرَّغبةِ فيما
عنده والخوفِ من عذابه -سبحانه وتعالى.
ولعلَّ في إشارة يسيرة ما يغني عن عبارات كثيرة، ولعلَّ الله -سبحانه وتعالى- أن
يحرِّك نفوسنا إلى أن نأطرها ونهذبها بالعبادةِ والصَّلاحِ، يا حسرتى مَن يدعو
النَّاس وهو أكثر النَّاس تخلُّفًا عن الصلاة أو نومًا عنها! أو غفلة عن الذكر، أو
إعراضًا عنه! أو استغناءً بكثير من المباحات! ناهيك أن يكون طريقه طريق الشَّهوات
والمحرَّمات! وأحسن الله بنا أنَّ الخطايا لا تفوح!
ننتقل إلى مقوِّمٍ آخرٍ من مقوِّماتِ الدَّعوَةِ إلى اللهِ -جلَّ وعَلا- وهو لا
ينفكُّ عمَّا تقدَّم، وهو مُكمِّل له ومُتمِّم، وهو الصَّبر.
وإذا تحدَّثنا عن الصَّبر فهو عبادة من العبادات، صبرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن
معصيةِ الله، وصبرٌ على أقدارِ الله، والأحاديثُ في ذلك والآيات كثيرة جدًّا، لكن
ما يهمُّنا في هذا المقام هو أخصُّ ما يكون منه وهو: الصَّبر في الدَّعوَة إلى الله
-جلَّ وعَلا- وبهذا أمر الله -جلَّ وعَلا- نبيَّه في مقامِ الدَّعوَةِ فقال:
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، فهو صبرٌ
على الدَّعوَة، صبرٌ على البلاءِ، صبرٌ على التَّوضيحِ، صبرٌ على التَّبيينِ، صبرٌ
على هدايةِ النَّاس للحقِّ، وما يلقى الإنسان في ذلك مِن البلاء والمحنَةِ
والشِّدَّةِ والفتنةِ، وما يتعلَّقُ بذلك من بلاء كثير.
وفي هذا أمر الله -جلَّ وعَلا- عباده المؤمنين في سورةٍ ملئت بالابتلاءِ، وملئت
ببيانِه وما يتعلَّق به، وهي سورة: الكهف، فقال الله -جلَّ وعَلا: ﴿وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً﴾ [الكهف: 28]، أمره بالصَّبر والمصابرة مع الذين يدعون
الله -جلَّ وعَلا- ويدعون إلى سبيلِه، ويهدون النَّاس إلى كتابِ الله -جلَّ وعَلا-
وسنة نبيِّه، ونهى عن طريق أهلِ الغوايَة والضَّلالَةِ والجهالةِ والبلاءِ
والشَّرِّ والفتنةِ ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَ﴾ فكان
أعظم ما يحتاجه الإنسان في مثل هذا الطَّريق إلى الصَّبرِ والمصابرةِ، لذلك جاءَ في
حديثِ مسلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُفَّتِ الجنَّةُ
بِالمَكَارِه، وحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ" ، فمن أراد الجنَّة فليصبر على ما
يكون من المكاره والمتاعب والمشاقِّ فيها، ومَن أراد النَّجاة من النَّار فليبعد عن
شهواتِها ورغباتِها وبلائِها وفتنتِها، وما يدعو الشَّيطَان وما يزيِّن فيها.
وهذا أمرٌ عظيمٌ، والدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- يحتاجُ إلى أن يتزوَّد منه، وأن
يرتِّب نفسه ويهذِّبها على ذلك، فإنَّ الأمرَ ليس باليسيرِ، ولذلك اشتهرت المقولة
عن السَّلف، فجاء عن علي وعن غيره أنه قال: "الصَّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ
بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ" ، فمَن لا رأسَ له لا جسدَ له، ومَن لا
صبرَ له لا إيمانَ له، فهذا أمرٌ يدلُّ على أهميَّةِ الصَّبرِ والتَّصبُّرِ
والتَّجلُّدِ.
وإن أردتَّ أن تعلَم مَا يتعلَّق بها في جانب الدَّعوَة إلى الله -جلَّ وعَلا-
فانظر سورة العنكبوت، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- افتتحها بالكلام عن الفتنة: ﴿الم *
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
[العنكبوت 1،2].
فإنَّ الدُّنيا هي الفتنة والبلاء والمحَن التي تتوالى علينا.
ثم ماذا قال الله -جلَّ وعَلا- بعد أن ذكرَ حالَ الأنبياءِ والرُّسلِ ومجاهدتهم
لأقوامِهم وما حصل مِن بلائِهم وشدَّتهم؟
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
كيف يكونُ الصَّبر في باب الدَّعوَة إلى الله -سبحانه وتعالى؟
أهمُّ وأوجب ما يكونُ الصَّبر على ما تقدَّم ذكره: الإخلاص والعلم؛ لأنَّه لن يدعو
إلى الله مَن لم يُصبِّر نفسه على الإخلاص، وكلَّما عرَض له سانحٌ من عرض الدُّنيا
وشهواتها ملذَّاتها كسَرَه وقطَعَه، وأقبلَ على ربِّه، وطلَبَ مرضاة مولاه.
وأيضًا الصَّبر على العلم، فلا دعوة إلا بعلم، والعلمُ لا يمكن أن يتسنَّى للإنسان
بأمرٍ يسيرٍ، ولذلك كان بعضهم يقول:
تَمَنَّيْــت أَنْ تُمْسِــي فَقِيهًــا مُنَــاظِرًا ** بِغَــــيْرِ عَنَــــاءٍ
وَالْجُـــنُونُ فُنُـــونُ.
لا يمكن للإنسان أن يتحصَّل العلم وهو جالس في بيته، ولذلك لا يتحصَّل العلم إلا
بالبلاء والفتنة، ولذلك يقول بعضهم: "إنَّما الفقيه هو الفقير، وإنَّما راء الفقير
تجمعت أطرافها".
يعني أنَّ الفقهَ ضجيعُ الفقرِ، فمَن أراد الفقه فليبشر بالفقرِ إلا أن يتولَّاه
الله -جلَّ وعَلا- برحمته، فلابدَّ أن يَصبِر النَّاس على ما يتجرعون مِن مَرارة
البلاء والفتنة في تحصيلِ العلمِ.
ثم بعد ذلك ينتقل إلى الصَّبر في التَّضحيةِ في العلمِ والدَّعوَةِ، وهدايةِ
النَّاسِ إلى الله -جلَّ وعَلا- فإنَّه أظهرُ ما يكون هذا في العلم وبذله، فإنَّه
لا يتأتَّى للإنسان بسهولة، كان الأئمَّة من السَّلف يصبرِون ويتعبون لأجل
الدَّعوَةِ وهداية الخلقِ، ألم يرحل بعضهم لأجلِ نشرِ العلم ودعوة النَّاس وهدايتهم
حتى حُبسوا في أذربيجان -وغيرها- بالبرد والثَّلج والبلاء والفتنة؟! تركوا مكة
والمدينة وذهبوا إلى الكوفة والبصرة وإلى دمشق ومصر، وإلى غيرها من الأمصار لماذا؟
ليدعوا النَّاس ويهدوهم ويعلموهم.
وكانت مدارس ومجالس الصَّحابة في ذلك مشهورة، إن شئت معاذ بن جبل، وإن شئت ابن
عباس، وإن شئت ابن مسعود في الكوفة، فكانت مجالس مشهورة، وكانت بعد ذلك انطلاقةُ
العلم في تلك الدِّيار، وحصولِ المدارس الفقهية والمذاهب الأربعة، وما تفرَّع عن
ذلك من علوم محفوظة إلى يومنا هذا؛ فإنَّما هي ببركة ما كان منهم، أن ضحُّوا وتركوا
وهاجروا وتغرَّبوا وبذلوا وسلَّوا النَّفس عن الشَّهوا والرَّغبات.
تعرفون قصَّة ابن القاسم، وكان مِن أهل مصر، وهو تلميذ الإمام مالك، ترك مصر بعد أن
تزوَّجَ، فدخَلَ بزوجته وما هي إلا أيام قليلة حتى ذهبَ لمالك وجلسَ عنده خمسة عشر
سنة، حتى ولدت زوجتُه وكبُر ولدُها، فلما جاء وفد الحجِّ بعد خمسة عشر سنة لمَّا
وصلوا إلى المدينة، سألوا: أفيكم ابن القاسم؟
قالوا: هو ذا.
قال: فتقدَّم إليَّ شابٌّ صغيرٌ، فضمَّني فشممتُ فيه رائحة الولد.
لكن هل ضاع ذلك؟!
هَا هُو يُذكَرُ في مجلسنا بعد خمسة عشر قرنًا أو قريبًا من ذلك.
يَقول محمد بن طاهر المقدسي: "بِلتُ الدَّمَ في طلب الحديث مرتين، مرة ببغداد ومرة
بخرسان".
إذا تكلمنا عن التَّضحيةِ في العلمِ، فكان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في
الدَّعوَة يعرضُ نفسه على الوفود؛ فلا يُلقون له بالًا -صَلواتُ ربِّي وسَلامُه
عليه- حتى إنه خرج من مكة وأُدميَ عَقَبُه، وقد خرج لا يعلو على أحد، ولم يشعر أين
ذهب، فلم ينتبه إلا وقد وصل إلى الطائف، يعني مشى أكثر من سبعين أو ثمانين كيلًا!
وقد حصل له ما حصل من البلاء، ونزل عليه جبريل وقال: هل أطبق عليهم الأخشبين؟
قال: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" .
إذن ثَمَّ تضحية وصبر وَمُصَابرة على الدَّعوَة إلى الله.
ولمَّا أمضى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- السَّنوات بما تحفظون مِن المواقفِ
والأحداثِ والأحوالِ له -صَلواتُ ربِّي وسَلامُه عليه- آل أمره وحاله إلى الهجرة،
وأعزه الله -جلَّ وعَلا- بعد الذلة، وجمع الله له الشَّمل، وأقام له هذه الدَّولة،
وحاضرة الإسلام، وبلغ دين الله -جلَّ وعَلا- أصقاعِ المعمورة، وبلغَ ما بلغَ الليلُ
والنَّهارُ.
وقل مثل ذلك في أحاديث الأنبياء والمرسلين، نوح -عليه السلام- ذكر الله -جلَّ
وعَلا- عنه أنه ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامً﴾
[العنكبوت: 14]، ما من أحد من أنبياء الله -جلَّ وعَلا- ورسله الذين قصَّهم الله
-جلَّ وعَلا- في القرآن إلا وقد ناله أعظم البلاء في ذلك!
فهذه حالٌ بنيغي أن تتأمَّلوها، وأعظم ما جاء في هذا أنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه
وسلم- يقول: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ
يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ" ، ولم
يتأفَّفَوا، ولم يتلكَّؤوا، ولم يترددوا، ولم يتوقفوا عن الدَّعوَة إلى الله -جلَّ
وعَلا- وهداية النَّاس.
إذن الصَّبر في التَّضحيةِ والبذلِ، وإبعادِ النَّفس عن شهواتها ورغباتها.
ثم بعد ذلك أيضًا صبرٌ على المدعوِّين، فالصَّبرُ على المدعوين إمَّا أن يكون في
صعوبة تلقِّيهم، وهدايتهم، فما تزال تُبيِّن لهم المسألة، أو تسهِّل لهم الأمرَ، أو
تُوضِّحُ لهم وتُعيدُ مرَّة بعد أخرى، وربَّما فهموها على غير وجهها، وربَّما فهمها
ثم أنسيها، ثم عادَ إليك ليذكرها؛ فإذا لم يكن للإنسان صدرٍ واسعٍ ونفسٍ طيبةٍ
ورحابةٍ، يأخذ منهم ويعطي، ويتألَّفهم ويدعوهم؛ فإنَّه لا يكاد ينتفع به النَّاس.
وتعرفون في مثلِ هذا حال النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا كان يأتيه مَن
يُحسِن ومَن لا يُحسِن؛ فلا زالَ يعلمه، ولا يزال يتألَّفه، ولا يزال يُبيِّنُ لهم
بكلِّ ما أوتيَ -صَلواتُ ربِّي وسَلامُه عليه- من البيان والحِكمَة.
جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله إني لا أحسن
القرآن، فعلمني شيئًا أقوله في صلاتي، فقال: "قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ" .
فلا يزال -صلى الله عليه وسلم- يذكرهم ويعينهم ويبين لهم في مواطن كثيرة، وهذا حالِ
السَّلفِ في أنَّهم كانوا يعيدون الأحاديثَ وينظرون إلى الغافل ومَن يصعب عليه
التَّعلم فيجعلون له مزيدًا من العناية والرِّعاية حتى يقومَ ساقُه في العلم،
ويَقوَى فيه، وينطلق في ميدانه.
ثم أيضًا يصبر على ما يلاقي ﴿فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود:
49]، فربما يأتي للإنسان مَن يَسبُّه، ومَن ينتقصه، ومَن يُعاديه، ومن يبغضه، ومَن
يؤلِّب النَّاس عليه؛ وهذا حال أنبياء الله -جلَّ وعَلا- ورسله كذلك، فيقولون:
انفروا عنه، ابعدوا عنه؛ يُوصَم بأسوأ الألفاظِ، يقولون: هذا فيه كذا،...، وتعرفون
أنَّه قيل عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ساحرٌ وكاهنٌ وكذابٌ ومجنونٌ، وذُكِرَ
في ذلك عن السَّلف والصَّحابة ومَن بعدهم أشياء كثيرة، ولو كان المقامُ مقامَ ذكر
السِّيَر وأحوالِ السَّلفِ في مثل هذا لكان طويلًا جدًّا؛ لكننا نشير إلى ما يحتاج
إلى الدَّاعي إلى الله -سبحانه وتعالى- في هذا المقام.
فلابد أن يصبرَ على النَّاسِ ولو عادوه، وأن يصبرَ على النَّاس وإن أبغضوه، وإن
أبعدوه، وانظروا إلى قصة ذلك الشَّيخ الذي كان مِن أهلِ نجد، وكان يذهب إلى الهند،
وكان يدعو إلى الله، ويسعى في التَّجارة ونحوها ويتقوَّى بها على ما يتفرَّغ له إذا
رجعَ إلى بلده مِن العلم، فلمَّا نزل الهند فإذا بمجلسٍ من مجالس أحدِ أهلِ العلم
عامرة، وكان يسبُّ الإمام محمد بن عبد الوهاب ويدعو عليه في نهاية حلقته، فلو أنَّ
هذا رفع أو خفض أو عادى؛ ما كان منه إلا أن سكتَ، فلمَّا انتهى جاء إليه بكتاب
التَّوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب وأزالَ الصفحة التي فيها اسم المؤلِّف، وقال:
يا إمام، إنَّني وقفتُ على هذا الكتابِ، وإنِّي لا أدري ما حاله، أفيه خير أو لا،
وإنِّي أحبُّ أن أَعرضَه عليك.
فتأمَّلَ الشَّيخُ هذا الكتاب ونظرَ فيه ورجعَ به إلى بيتِه وقرأَه، وقال: إنَّ هذا
يذكرني بكتاب الإمام البخاري في تبويباته وحُسنِ ما كَتبه فيه، وما جَمعَ فيه من
الدِّلالات ونحوها.
فقال: أما إنَّه هو الرَّجل الذي كنتَ تدعو عليه وتسبَّه في نهايةِ مجلسِكَ.
فما كان مِن ذلك الإمام بعد هذا المجلس إلا أن كان يدعو له بعدَ كلِّ مجلسٍ حتى
مات.
وهذا مِن فضلِ أهلِ العلم إذا بُيِّنَ لهم الحقُّ وإذا دعوا.
لكن كيف تبيَّن؟
حينما كان الدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- ذا دَلٍّ حَسنٍ، وإلا فإنَّه إذا كان
يسبُّ شيخه الذي تعلَّمَ منه ويلعنه على رؤوس الملأ فإنَّ ذلك ممَّا تغيظ به
النُّفوس؛ لولا أنَّه يؤمَر النَّاس بالصَّبر والتَّصبُّر والتَّجلُّد في هذه
المقامات. ومثل ذلك قصص كثيرة.
وأيضًا ينبغي أن يصبرَ الإنسانُ على ما يكونُ بعد ذلك، فإنَّ المرءَ إذا فُتِحَ له
باب الدَّعوَة واشتهر أمره، وذاع صيته؛ فإنَّه:
أولًا: تتزيَّن له الدُّنيا.
وثانيًا: إذا اجتمع النَّاس عليه ربَّما أظهر بعضَ ضغائن نفسِه على بعضِ أقرانِه،
أو بعضِ مَن في درجتِه، فأرادَ أن يُسفِّه هذا، وأن يقلِّل من قدرِ هذا، وأن ينتقصَ
هذا، وأبوابُ الشَّيطَان في ذلك كثيرة، فإن لم يكن منه صبرٌ على الحفاظِ على
دعوتِه، والحفاظِ على صلاحِ قلبِه، والحفاظِ على مَن جمعهم الله -جلَّ وعَلا- عندَه
واهتدوا بمقالته، وبما دعا إليه من كتابِ الله -جلَّ وعَلا- وسنَّة رسوله -صلى الله
عليه وسلم- وإلا فإنَّه يتفرَّق عنه الخيرِ ويتلاشى، ويعودُ الأمر كما كان أو أشدٌّ
وأنكى.
فإذن بابُ الصَّبرِ في الدَّعوَة إلى الله -جلَّ وعَلا- أحوجُ ما يُحتاج إليه في
هذا الزمان، فإذا علمنا أنَّ النَّاس في هذه الأزمنة قد تفرغوا لشهواتهم ودنياهم
وانفتحت الدُّنيا بكلِّ أبوابها، ثم وُصِمَ أهل الدَّعوَة ما وُصِموا به من إرهابٍ
أو بلاءٍ أو فتنةٍ، وإرادةِ إلصاقهم بمثلِ هذه الفئاتِ الضَّالة والدَّمويَّة
الدَّاعشيَّة الظَّالمة، ويُراد أن يُلصَقوا بأولئك حتى ينبذَهم النَّاس؛ وإلا
فإنَّهم أكثر النَّاس تحذيرًا من مثل تلك َالمسالك، وتنبيهًا على خطورتها، وبلائها
وشرِّها.
فبناء على ذلك بنيغي للإنسان مهما وجد من البلاء في هذا ألا يزيده ذلك إلا صبرًا
وتمسُّكًا بهذا الحبل القويم، والصِّراط المستقيم الذي دعا فيه إلى الله -جلَّ
وعَلا- إلى رسوله، متمثِّلًا قولَ ربه ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ
ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].
وأيضًا ينبغي أن يعلم الدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- أنَّ الأمور تتجدَّد وهو
أحوجُ ما يكون إلى المراجعة وإلى زيادةِ التَّعلمِ والتَّبصُّرِ بما جدَّ مِن
الأمور ليُنزلَها منزلها من حقٍّ أو باطلٍ، من صوابٍ أو خطأ، من قبول أو ردٍّ، إلى
غيرِ ذلك، وإلا فإنَّ الإنسان إذا فتح الباب حتى لم يرد شيئًا فيدخل عليه من البلاء
شيءٌ كثير، وإن منعَ فلم يسمح بشيء فربَّما صدَّ عن حقٍّ لا يعلمه أو هدًى لا
يعرفه، فيكون أيضًا بسببِ ذلك بلاءٌ، وكلَّما كبرت للإنسان دعوته كثُرَ مخالفوه،
وكثُرَ مُنَاوِئوه، واحتاج في ذلك إلى أن يزيد من الصَّبر، فالصبر يزيد معه، وتزيد
دعوته بما يزيد من صبره، ولا يتأتى له خير إلا بذاك، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾ [العنكبوت: 69]، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾
[السجدة: 24].
ولذلك قيل للإمام الشَّافعي: أيها أعظم: أن يُمكَّن للمرء أو يُبتَلَى؟
قال: "لا يُمكَّنُ للمرءِ حتى يُبتَلَى".
فلأجل هذا لا يكون للإنسان إلا أن يجعل الصَّبر سلاحه، وهو مداده، ومعينه -بإذن
الله جلَّ وعلا- على ما هو فيه، وربَّما حصلَ مع الدَّعوَة أن يتمَلْمَلَ منه
أهلُه، وزوجُه، وولدُه، فإنَّهم قد لا يرضون بشظفٍ من العيش، أو بكثرةٍ الأشغالِ،
أو أن تفوتَ عليهم متعٌ يرون مَن حولهم وغيرهم وجيرانهم وأقاربهم يتقلَّبون فيها
ويتنعَّمون، ولا يكون شيءٌ أعظم من أن يُسَلِّيَ الإنسان نفسه ويُسَلِّيَ أهلَه إلا
بأن يحملَهم على الصَّبرِ والتَّصبُّرِ، وبيانِ ما للصَّابرينِ مِن الجزاءِ ﴿إنَّما
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
ذكرَ الله -جلَّ وعَلا- الصَّبر في واضع كثيرة حتى بلغت ثمانين موضعًا من كتابه
ليُعلَم من ذلك أنَّه مِن أعظمِ العباداتِ وأجلِّها.
هذا ما يتعلَّق بالصبرِ، وكما قلتُ لكم سنحاول قدرَ الاستطاعة ألا نطيلَ في هذه
المواطن، لأنَّها كالمقدِّمات المهمَّة، والأصولِ التي يُبنى عليها هذا الباب أو
هذا الفنِّ، وهو فقه الدَّعوَة إلى الله -جلَّ وعَلا.
أيضًا يحتاج الدَّاعيةُ إلى اللهِ -سبحانه وتعالى- في مثل هذا المقامِ إلى مُكمِّل
لما يتعلَّق بالصَّبر؛ وهو أن يكون حليمًا، فإنَّ الحلم يزدادُ به الإنسان به
صبرًا، فلا تطيشَ نفسُه، ولا يخرجَ عن طورِه، ولا يُولْوِلُ بلسانِه لأوَّلِ وهلةٍ،
ولا يتغيَّظُ على غيرِه لحصولِ مخالفةٍ، ولا غير ذلك، وهذا يُبيِّنه حالُ النَّبيّ
-صلى الله عليه وسلم- يأتي إليه الرَّجل فيطلب من النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-
أن يأذن له في الزِّنا!
حتى أصحاب القلوب الباردة والميِّتة تتحرك نفوسهم في هذا إذا كان الأمر مبناه على
الأهواء وغيظِ النُّفوسِ المعتاد، لكن مَن كان ميزانه ميزان الشَّرعِ والدَّعوَة
إلى الله -جلَّ وعَلا- فإنَّ له طريقة أسمى وسبيلًا أقوم، وذِياكَ النَّبيُّ -صلى
الله عليه وسلم- لم يعنِّفه لأوَّلِ وهلةٍ، فقال: "أترضاه لأهلك، أترضاه لزوجك؟
أرتضاه لابنتك؟ أترضاه لعمتك؟ أترضاه لخالتك؟". فيقول الرَّجل: لا؟
فيقول النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم: "والنَّاس لا يرضونه لأمهاتهم، والنَّاس لا
يرضونه لبناتهم..." ، فما خرجَ ذلك الرَّجلُ إلا وكان الزنا أكره شيءٍ إليه، وقد
دخلَ وكانَ أحبَّ شيءٍ إليه؛ فإنَّما هو الحلم والتَّحلم.
يأتي شخص ويجذب النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بردائِه، يقول: أعطني ممَّا أعطاك
الله، فيلتفت النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يضحك ويعطيه .
يأتي الرَّجل ويبول في المسجد، والصَّحابة يطيشون، فيقول: "لا تُزْرِمُوه"، ثم
يقول: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ، لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ،
وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ،
وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ" .
بمثل هذا يُوَفَّق الدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- وكلما كان أكثر حلمًا كان أكثر
توفيقًا، وأبعد عن الخطأ، مَن كان الغيظُ والتَّغيُّظُ والغضبُ وسرعةُ الحَنَقِ،
وتقلُّبُ النَّفسِ أقربَ إليه؛ فليعلم أنَّه أسرع في انقطاعِه في الدَّعوَةِ إلى
اللهِ -جلَّ وعَلا- أو وقوعه في الخللِ والزَّللِ والحفرةِ والبلاءِ والمحنَةِ.
فلأجلِ ذلك ينبغي للدَّاعيةِ أن يحلَم ويحلَّم، "إنَّما العِلْمُ بالتَّعلُّمِ
وإنَّما الحِلْمُ بالتَّحلُّم" ، وإنَّما الصَّبرُ بالتَّصبُّرِ، فينبغي للإنسان أن
يُعوِّدَ نفسه على ذلك.
{أحسن الله إليك..
ما الفرقُ بين الصَّبر والحلم؟}.
الصَّبرُ: هو حمل النَّفسِ على ضدِّ مرادها، وما يكونُ فيه مرارة.
وأمَّا الحلم: فإنَّه جبلَّة تمنع الإنسان مِن العَجلة. الحلمُ والأناة، وضدُّه:
الاستعجال والفورة؛ فالحلم أكثر عونًا للإنسانِ في أن يتمكَّنَ من فكرتِه، وأن
يتأمَّلَ في نفسِه، وأن ينظرَ في حاله.
والصَّبرُ: أن يمنع نفسه عن إتيان أشياء محرَّمة أو أن يحملَ نفسه على أشياءَ
شاقَّةٍ، أو يمنعها من التَّسخُّطِ على قدرِ الله -جلَّ وعَلا- إذا نزل مِن بلاء
مصاب، أو شدَّةٍ أو محنة، ولا تخلو بعض هذه الأمور من أنَّ بعضَها مرتبطٌ ببعضٍ، لا
يحصل الحلم إلا بصبرٍ أو بقدرٍ منه، والحلم أيضًا طريقٌ إلى حصول المصابرة ونحو
ذلك.
إذن هذا بالنَّسبة للصَّبرِ والحلمِ، ولا نريد أن نطيلَ، إنَّما هي إشاراتٌ سريعةٌ،
تكفيكم بإذن الله -جلَّ وعَلا- لتكون زادًا لنا فيما نحن فيه.
بعد ذلك نحتاج إلى مسألةٍ وهي من الأهمِّيَّة بمكانٍ للدَّاعية إلى الله -جلَّ
وعَلا- وهي: الشَّجاعة.
ليس من السُّهولة أن يُظهرَ الإنسانُ مقالتَه، وأن يعلنَ دعوتَه، وأن يظهرَ مخالفةَ
قومِه، النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كان بمكَّة، الكلُّ يعبد الأصنام ويتقرَّب
إليها، ويفرحُ بها ويعظمها، فليسَ من السَّهل أن يأتيَ فيخالف أولئك الأقوام، منهم
السَّادة، ومنهم الكبار، ومنهم الوجهاء، منهم العظماء، ومنهم الأقارب، ومنهم
الأعمام، ومنهم الأخوال؛ إلا أن يكون شجاعًا، فالشَّجاعة أيضًا لا تتحقَّق
الدَّعوَة إلا بها، وليسَ معنى الشَّجاعة في مثل هذا ألا يرى الإنسان عواقبَ
الأمورِ، ولا يحسب للأمورِ حسابها، ولكن المقصود بالشَّجاعة هنا ألا يمنعه حصولُ
المخالفةِ أو المباعدةُ أو ما يلقاه من البلاء أو ما ينزلُ به من إظهارِ الحقِّ عند
إرادته، لكن يُظهِرَه على وجهٍ أقربَ إلى القبولِ، وأبعد مِن الخلافِ، لكن لو لم
يكن إلا إظهارُ هذا أو البقاء على البلاء والفتنة فإنَّه لابدَّ أن يظهر، ولذلك كان
مِن أعظم الجهاد " كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" ، فإذا كان النَّاس قد
اجتمعوا وأنِسوا وطَربُوا؛ فهو أحوجُ إلى ما يكونُ إلى تنبيههم، فلن ينبههم إن لم
يكن شجاعًا، آخذًا بالحقِّ، داعيًا إليه.
ولن يكون الإنسان شجاعًا وهو يرى هذه الأقاويلَ الباطلةَ تترامى عبرَ القنواتِ،
وعبرَ وسائلِ التَّواصلِ وغيرها، ويظهرُ مقالتَه والنَّاسُ كلهم على خلافِه؛ إلا أن
يكونَ شجاعًا.
إذن الشَّجاعةُ في هذا مِن أعظمِ ما يحصلُ بها تبليغُ الدَّعوَةِ إلى الله -جلَّ
وعَلا- لكن لا يعني ذلك أن يُلقَي الإنسانُ بنفسِه إلى المهالك، وإنَّما يطلب لذلك
ما يكون من الطَّريقِ الأسلمِ، والدَّعوَةِ الأتمِّ بدونِ ما يكونُ فيه ضوضاءٌ ولا
اختلافٌ ولا فتنةٌ، لكن لا يكون من العلم أو التَّعليم والدَّعوَة ممتنعًا لأجلِ
خوفِ المخالفة أو عدم إرادةِ المباينة لمَن حولَه وما يألفه أقاربُه وأصحابُه
وجيرانُه وأهلُ بلده من ضلالٍ أو بلاءٍ أو فتنةٍ.
{عندي ثلاث صور تظهر فيها الشَّجاعة مِن القرآن ومِن الأحاديث:
الصُّورة الأولى: مِن قصة مؤمنِ آلِ فرعون، عندما قام وقال: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّار﴾ [غافر: 41]}.
هذا استدلالٌ لطيفٌ وجميلٌ ومفيدٌ، وهي المراجعة بينَ مؤمنِ آلِ فرعونَ وفرعونَ،
وما فيها من العبرَة ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ
وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّار * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ
مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾
[غافر41، 42].
{هذا بمقابلة الحاكم.
أمَّا الصُّورة الثَّانية: ففي مقابلةِ الأبِ، إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه ﴿يَا
أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ
لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّ﴾ [مريم: 45]}.
وهذا أيضًا من مواجهة الأقربين، والنَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- له في ذلك قصصٍ
مشهورة، "يا عباسُ ابنُ عبدِ المطلبِ، لا أُغْنِي عنك مِن اللهِ شيئًا، ويا صفيةُ
عمةَ رسولِ اللهِ، لا أُغْنِي عنكِ مِن اللهِ شيئًا..." وذكرَ فيه مِن تنبيههم
ودعوتهم لمَّا نزلَ قولُ الله -جلَّ وعَلا: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾
[الشعراء: 214].
{والصُّورة الثَّالثة: رجلٌ داعيةٌ مِن قبيلتِه، وهو أبو بكر الصِّديق -رضي الله
عنه- عندما قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ }.
نعم، وهي قصَّةٌ مشهورةٌ في قصةِ أبي بكر -رضي الله تعالى عنه.
إذن لابدَّ مِن الشَّجاعة في هذا لكن على وجهٍ صحيحٍ.
وهنا ما يتعلَّق بدعوةِ السُّلطانِ ونحوِهِ هي مِن أكثرِ المسائلِ دقًّة
وخصوصيَّةً، ويُحتاجُ فيها من الفقه والعلم ما هو كثير، لأجل ذلك في هذا الزَّمان
خلطَ النَّاس، فمنهم مَن يُشهِّرُ بالسلاطين حتى يؤلِّبَ العوام عليهم، فيحصل بذلك
من الفتنة والشَّرِّ أكثر ممَّا يحصل من الخير، وقد يكونُ في ذلك أيضًا مآربَ أخرى
لإرادةٍ أخرى من حصولِ الفتنةِ والفرقةِ والصِّراعِ، أو الدعوةِ إلى النَّفسِ
وأنَّه جريء وكذا.
ومنهم أيضًا مَن يُضيِّع الحق خوفًا من إظهاره إذا احتيج إليه، ولكن كما هي طريقة
أهل السُّنَّة والجماعة أن يُحفظ للسُّلطان مكانه، وألا يتجرَّأ عليه العوامُّ
والهوامُّ -فإنَّهم هوامٌّ- وقد جاء عن ابن عباس أنَّه قال: "تأخذ بيده فيكون بينك
وبينه"، فهذه مِن الأهميَّة بمكان، ومعرفة ما في هذا من مسائلَ وتدقيقاتِ أمرٍ من
الأهميَّة بمكان، ولعلَّه أن يأتيَ وقتٌ للحديثِ عنه، لكن طريقة أهلِ السُّنَّة
والجماعة في هذا محفوظةٌ في أنَّ النُّصحَ لوليِّ الأمر أصلٌ أصيل، وأنَّه على وجهٍ
صحيحٍ لا يكونُ فيه تأليبٌ، ولا يكونُ فيه إرادةُ منازعَةٍ ولا خروجٍ، ولا يكونُ
بسببِ ذلك شرٌّ أعظم ولا فتنة أنكى، فإنَّ هذا أصلٌ لا ينبغي أن يُختلف فيه.
حتى لا يطول بنا المقام؛ بقي أمر وهو: الرِّفق والرَّحمة في الدَّعوَة إلى الله
-جلَّ وعَلا.
والحكمة ربَّما سيكون عنها حديث، لكن نؤجِّله إلى مقدِّمةِ المجلسِ القادمِ -بإذن
الله جلَّ وعلا.
إذا تكلَّمنا عن الرَّحمة فمِن أهمِّ ما يكون مِن حالِ الدَّاعية أن يكونَ رحيمًا
رفيقًا، وذلك قول الله -جلَّ وعَلا: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، وهذه مِن أعظمِ الصِّفات لنبينا -صلى الله عليه وسلم-
ولذلك كان الرَّحمة المهداة، وأعظمُ ما يكون وصفه لما جاء في حديث مسلم في
الصَّحيح: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ
النَّاسِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ،
جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ
فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا
آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا" .
يأتي ذلك الرَّجل الذي شربَ الخمر فيُجلد، فيقول أحدُ الصَّحابة: اللهم العنه! ما
أكثر ما يؤتى به!
فيقول النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم: "لا تَكُنْ عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى
أَخِيكَ" .
مَن كان داعيًا إلى الله -صلى الله عليه وسلم- فتغيَّظَت نفسُه على عاصٍ مرتكسٍ في
العصيان، أو واقعٍ في البلاء والفتنة، أو متلبِّسٍ بأنواعِ الضَّلال والمحنَة؛
فإنَّه لن يؤثِّرَ كثيرًا، وأمَّا مَن كان حاله كحال النَّبيِّ -صلى الله عليه
وسلم- رحمة بهم وشفقةً عليهم، ودعوةً لهم، ومجاهدة لهم في ذلك على الحقِّ حتى
يأطرهم عليهم ويدلَّهم على الحقِّ، ويبصِّرهم به، فلا هو الذي تركَهم في ضلالِهم،
ولا هو الذي حَنِقَ عليهم وغضبَ منهم واشتدَّ عليهم؛ وإنَّما هي الرَّحمةُ
والدَّعوَةُ، وإنَّما هي الهدايةُ وإرادةُ الخيرِ، وإنَّما هو الأمرُ والنَّهي،
فيكونون كذلك أهل الإيمان، ويرفقون في دعوتهم، ويحبُّون أهل الإيمان فيه، طلبًا
لمرضاة ربهم -جلَّ وعَلا- ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، هذا
أصلٌ أصيلٌ، وأساسٌ مكينٌ في كتاب الله -جلَّ وعَلا- في بيان أهمِّيَّة الرَّحمة
والشَّفقةِ وحسنِ الدَّعوَةِ إلى الله -جلَّ وعَلا- للخلقِ أجمعين، حتى ولو كان
كافرًا، حتى ولو كان نصرانيًّا، حتى ولو كان يهوديًّا، حتى ولو كان له مِن سابقةِ
الفجورِ والظُّلمِ والفحشِ والبلاءِ والشَّرِّ والمحنَةِ والمخالفةِ؛ وكلُّ ذلك لا
يُغيِّر من حقِّه في الدَّعوَة إلى الله -سبحانه وتعالى- والرَّحمة به، فإنَّ كلَّ
عاصٍ يحتاج إلى الرَّحمة، فإنَّه ما تلبَّسَ بهذه المعصية ولا وقع في هذا الشَّرِّ
إلا لقربِ الشَّيطَان منه، فهو أحوج ما يكون إلى رحمةٍ تنتشله من ذلك، وتبعده من
هذا البلاء، ولذلك كان مكتوبًا عند العرش "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي" ،
فكان هذا من شأنِ أهلِ الإيمان، أنَّهم يرحمون ويسعون، ويدلُّون ويهدون، ويبذلون
لأجلِ ذلك مهجَهم وأرواحَهم وأنفسَهم رغبةً في دلالةِ الخلقِ وهدايتهم.
ولذلك تشتهر مقالةُ زهير بن نعيم: "وددت لو أن الخلق كلهم اهتدوا وأن جسمي قرض
بالمقاريض" رغبةً في الخيرِ ورحمةً بالنَّاس وطلبًا لهدايهتم، فينبغي أن يكونَ
المسلم كذلك، وأن يكونَ على هذا النَّحوِ، وأن نطلب هذه الطَّريق.
هذا ما يتعلَّق بالرَّحمة والحلم، كلُّها تحتاج إلى مزيدِ حديثٍ، لكن إنَّما هي
إشاراتٌ سريعة، وهي كالومضة التي تُنير لكم هذا الطَّريق، وتمَّ الحديث عن الوضوحِ
في الدَّعوَة إلى الله -جلَّ وعَلا- فليست مسالكنا مسالكَ معوجَّة، وليس فيها
ألغازًا، ولا فيها طلاسم ولا غيرها، وأيضًا ما يتعلَّق بالحكمةِ لعلَّنا نأخذَ فيها
حديثًا سريعًا في مقدِّمة الحديثِ القادمِ.
أسألُ الله -جلَّ وعَلا- لي ولكم دوامَ التَّوفيقِ والسَّدادِ، وأسألُ اللهَ -جلَّ
وعَلا- أن يجعلَنا من أهلِ الرَّحمةِ والخيرِ والرَّشادِ، وأن يعقبَنا صلاحًا في
نفوسِنا وإخلاصًا في قلوبِنا، وطاعةً لربِّنا، وأن يهديَنا بالعلمِ، وأن يزيدَنا
بِه، وأن يجعلَنا مِن أهلِ الدَّعوَةِ إليه، نحيا على الإسلامِ والسُّنَّةِ، ونُحيي
الإسلامَ والسُّنَّةَ، وعلى ذلكَ نموت نلقَى اللهَ -جلَّ وعَلا.
وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وآخرُ دعوانَا أن الحمدِ لله ربِّ
العالمينَ.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13397 33
-
17107 27
-
23749 18
-
78693 18
-
5037 6
-
2908 22
-
2730 24
-
2683 12
-
5748 12
-
8845 12
-
10684 24
-
11545 13