الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

8845 12
الدرس العاشر

فقه الدعوة إلى الله

السَّلامُ عَليكُمُ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله النَّبيّ الأمين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلأى يومِ الدِّين، أمَّا بعد:
فنسألُ اللهَ -جلَّ وعَلا- أن يُديمَ علينا وعليكم سِترَه، وأن يُبلغنا طاعتَه، وأن يحفظَنا من معصيته، وأن يُعقبنا الخير والهدى، والأمن والأمان وانشراح الصدور، وتيسير الأمور، واستقرار الحال، وصلاح البيوت والأولاد والأهل والأحباب، وأن يُتمَّ على العباد والبلاد، إن ربَّنا جواد كريم.
لم تزل -وللهِ الحمد والمنَّة- هذه المجالس نتدارسُ وإيَّاكم بما يكون فيه خيرًا لِديننا وتمامًا لاستنانا بسُنَّة نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- واللهَ المسؤول أن يوفِّقنا للهدى، وأن يُعيننا على السَّداد، وأن يُجنِّبنا الشَّرَّ والسُّوءَ والزَّللَ والفسادَ.
أيُّها الإخوة، عرضنا لمجموعةٍ كثيرة من المسائل في الدَّرسين الماضيين على وجه الخصوص بما يكثر وقوعها لدى المتصدِّينَ للدَّعوة سواء كانوا ممَّن اجتهد بنفسهِ، أو انضمَّ إلى مجموعةٍ، أو إلى جماعةٍ أو غيرها، وقد بيَّنا بعضَ ما ينبغي من الانتباه له والحذرَ منه، والاستنان بسنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بما يكونُ فيه الصَّلاح، وبما يُحصِّل به العبد النَّجاة، وبما يُعقبه -بإذن الله جلَّ وعَلا- الفلاح والسَّلامةَ من الخطأ والزَّللِ.
وإنَّ هذه الأمور هي أحوجُ ما يكون العبد إلى إخوانه يستنير بهم ويستبصر ويهتدي ويُراجِع وينظر، فكم مِن الأمورِ التي فعلناها فتبيَّنَ فيها خطؤنا، وكم مِن الأمور التي عظَّمناها فتبيَّنَ أنَّها ليست كذلك، وكم مِن الأمورِ التي أغفلناها وكانَ في إغفالها تبعةً علينا، وجاء مَن نصحنا فأعاننا على الخيرِ، فكذلك يكون المسلم، والموفَّق مَن بعثَ الله له مُعينًا وناصحًا ونذيرًا ومُبيِّنًا له ما يكون واجبًا عليه أن يستبصرَ به فيستمكَ به، فيُحصِّلَ بذلك الخير، وما يتنبَّه له فيحذرَ فيسلمَ -بإذن الله جلَّ وعَلا.
أيُّها الإخوة؛ كنَّا توقفنا عند مسألةٍ مُهمَّةٍ، وهي مسألة يكثرُ الاحتكاك فيها، وربَّما يشتدُّ الحديث فيها، وهي: الكلام على وسائل الدَّعوة، وهل هي وسائل توقيفيَّة أو اجتهاديَّة.
وهذه المسألة ربَّما لم تكن معهودةً عند أهلِ العلمِ الأولين، ولم يكن الكلامُ عليها كثيرًا في أمرِ السَّابقين، وذلك أنَّ أهلَ العلمِ عرفوا العلمَ والعملَ والدَّعوة والهُدى، وبيَّنوا ذلك على وجهٍ صحيحٍ، ولم يكن إلا العلماء يدعون، والنَّاس بذلك يهتدون.
وما يجري مَن خطأٍ أو خللٍ أو نقصٍ كما يفعلُ بعضُ الوعَّاظِ أو القُصَّاصِ أو نحوهم؛ فينبِّه أهلُ العلم على ما يفوت عليهم مِن الصَّواب، وينبِّهون ما يكون منهم من الخطأ، فيقوِّمون إعوجاجهم ويُبيِّنونَ صوابَهم، ويُعينونَهم على الخير في ذلك، وهذه فيها قصصٌ وأحداثٌ مشهورةٌ لأهلِ العلم -رحمهم الله تعالى.
لكن لمَّا كثُرَ الجهلُ ووُجدَ من المتحمِّسَةِ للدَّعوة وربَّما احتفَّ بها نوعُ جهالةٍ، وربَّما كانَ الأمر أكثر مِن ذلك في أنَّ بعضَ الجهاتِ أو الجماعاتِ أو المؤسَّسات التي تصدَّت للدَّعوة كان منها إعراض عن العلم.
وتأمَّل الفرق بين المسألتين:
- كان عند بعض المتحمِّسَة جهالة في العلم.
- وكان عند بعض المؤسَّسات إعراض عن العلم، يعني: اكتفاء بما لديها، ثقةٌ بما عندها، حتى ولو وُجِّهَ إليهم شيءٌ من الصَّواب، أو أُريدَ لهم بيانُ بعضِ ما يخفى عليهم من الحقِّ لربَّما تمسَّكوا بما هم عليه، وذلك نتيجة لِمَا جدَّ في هذه الأعصار مِن الانتماءاتِ والتَّعصُّباتِ والولاءاتِ التي لا يكون لها أصلٌ صحيحٌ، وإن كان لهم نيَّةٌ طيِّبةٌ في بعضِ الأحوالِ أو عندَ بعضِ الأفرادِ.
فلمَّا كان الأمر كذلك وُجدت طرائق جُعلَت أصلًا في الدَّعوةِ إلى الله -سبحانه وتعالى- فدارَ مثلُ هذا الحديث، وكثُرَ الكلامُ في مثلِ هذه المسائل، فنحن حينما نتكلَّم عن المسألةِ مِن حيثُ هي لن نجدَ في ذلك كلامًا واحدًا، وإنَّما هو تأصيلٌ ثم دخولٌ إلى التَّفريع.
فمِن جهةِ التَّوقيفِ: نحن نعلم قطعًا أنَّ أمورًا جاءَ بها الشَّرعُ هي أصلُ الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- ولا يُمكن أن يوجد غيرها، أو لا يُمكن أن يُستغنى عنها.
على سبيلِ المثال: خطبة الجُمُعة: هذه دعوةٌ للنَّاس وهدايةٌ لهم، جاءت على وجهٍ وطريقةٍ وبأحكامٍ وشروطٍ، وفي ذلك ما هو مبسوطٌ في كتبِ الفقهِ في كتابِ الجمعة.
فلو أرادَ شخصٌ مثلًا أن يقول: النَّاس الآن مُعرِضون، والنَّاس الآن لَاهُون؛ فلنجعل ليوم الاثنين كيوم الجمعة حديثًا مُذكِّرًا للنَّاس ومعينًا لهم؛ لـم يكن ذلك صحيحًا البتَّة؛ لأنَّ الشَّرع جاء فحَكَمَ فَقَطَعَ ما يتعلَّق بذلك من جهة أنَّها عبادة مختصَّةٌ لا يُقاسُ عليها، ولا يُنتقل عنها، ولا يُزادَ فيها ولا يُنقَص.
جاء على سبيل المثال: أنَّ الله -جلَّ وعَلا- جعل هذا الكتاب شِرعَةً فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة: 3]، وقال: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، فجعله الله -جلَّ وعَلا- منهاجًا للناس وطريقًا سليمًا، لا يمكن لأحدٍ أن يدعو إلى الله -جلَّ وعَلا- فيستغني عن القرآن، أو يظنَّ أنَّه يُمكن أن يوجدَ طرائقَ أو مسالكَ، أو رقائق يُرقَّقُ بها القلوب بدون ما استمساكٍ والاعتصامٍ وصدورٍ عن كتابِ الله -جلَّ وعَلا.
فلو جاء شخصٌ بالمدائحِ أو بالقصائدٍ الوعظيَّة أو بغيرها مِن الحداءاتِ أو نحوها مُعرضًا عن كتاب الله -جلَّ وعَلا- كان ذلك باطلًا، ولَكانَ ذلك غير صحيح.
وهذا أيضًا مبسوط ومُقرَّرٌ عندَ أهل العلم لمَّا حدثت مثل هذه الأمور، والتكثُّر بالمديح وهذه القصائد، وجعلها أصلًا يُصلح به القلوب، وليس الأمر كذلك؛ فإنَّما الأمر قول الله -جلَّ وعَلا- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [البقرة: 275]، فهذا هو الشِّفاءُ، وهذا هو الهدى.
مثل ذلك: سنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لا يُمكن لأحدٍ أن يستغني عنها، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾ [الحشر: 7]، فهذا أصل صحيح، ولذلك جاء في كتاب الله -جلَّ وعَلا- أكثر من ثلاثين آية بالأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم جاء التَّحذير من مخالفته، فقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، ثم جاء الأسف والنَّدم على ترك منهاجه، فقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورً﴾ [الفرقان 27 - 30]، ثم جاء أيضًا ما هو أعظم من ذلك ببيانِ عذاب مَن تخلَّفَ عن طاعة الله وطاعة رسوله، فقال: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرً﴾ [الأحزاب 66 - 68].
سأذكر لكم مثالًا يسيرًا: أهل الكلام -تسمعون بهم وتعرفونهم- الذي يُعبِّرُ عنهم أهل العلم بــ "أهل الكلام" مِن المعتزلَة والأشاعريَّة ونحوهم؛ هؤلاء في أصلِ الأمر جاؤوا إلى العقائد وقالوا: نريد أن نثبتها بالأدلَّة العقليَّة حتى يهتدي بها النَّاس، وأدلَّة القرآن والسُّنَّة لا يقبلها إلا المسلم، فبدؤوا في الأدلَّة العقليَّة وتركوا الكتاب والسُّنَّة، فصار لهم الحيرة والتَّناقض؛ لأنَّ ليس كل شيء يُدركه العقل ويستطيع إثباته ويكون المصير إليه، ولذلك جاء من السَّلف تكاثر الكلام في ذمِّهم، فيقول الشَّافعي: "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد، وتُسوَّد وجوههم ويُطاف بهم في البلدان".
وقال قائلهم الرازي:
نِهَايَـــــــــــةُ أَقْــــــــدَامِ العقــــــول عِقَـــــــــــالٌ
وأكثرُ سَعْيِ العــــــالمــين ضـــــــــــلالٌ

وأرواحنا في وحشــــة من جُسُوْمِنَا
وحــــــاصل دنيانا أذًى ووَبـــــــــــالٌ

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالــوا


إذن هذا هو المبدأ، فيتقرَّرُ معنا أنَّ الأصل في الدَّعوة هو ما جاء في الكتاب والسُّنَّة، وما سنَّهُ لنا خير هذه الأمَّة وخير البريَّة أجمع محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام- كان هو الأصل وهو المنهاج، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].
ولن تجدَ للنَّاسِ أنفعَ ولا أنجعَ ولا أحسنَ ولا أتمَّ ولا أكملَ ولا أفضلَ ولا أسهلَ من أن سلكوا سبيل النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الذي دلَّه عليه الله -جلَّ وعَلا- في هداية الخلق وتأليفهم، فهذا أصل لا يُختَلفُ فيه، فالنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- استعملَ التَّعليم، واستعملَ المثالَ، واستعملَ السُّؤالَ، تخوَّلهم بالموعظة، جعلَ لهم مجالسَ مختلفة، بيَّنَ بالقدوةِ والفعلِ، وأقرَّ الصَّحابةَ على بعضِ الأمور ونهاهم عن بعضها؛ فاستقامت بذلك الشَّريعةُ، وكمُلَت بذلك الأحكامُ، فينبغي للدَّاعية أن يطلب ذلك بما جاء في الكتاب والسُّنَّة، سواء في خطبِ الجمعة، أو في وعظِ النَّاس في مجالسهم وتخوُّلهم بها -كما جاء في حديث ابن مسعود وغيره- والتَّغيير عليهم، فأحيانًا بالسُّؤالِ، وأحيانًا بالتَّقريرِ، وأحيانًا بالمثالِ، كقوله -صلى الله عليه وسلم: «مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارً» ، إلى غير ذلك مِن الأحاديث، وهذا في كتاب الله، وفي سنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الأصل، وهذه هي الدَّعوة، وبهذا يهتدي النَّاس ويستقيموا، ولا ينبغي للإنسانِ أن يتكلَّفَ كثيرًا في سلوكِ مسالكَ أخرى، فإنَّه لا يُتكلَّفُ في هذا إلَّا خُشيَ على الإنسانِ العَطَبُ؛ لأنَّه إذا ما اختلف النَّاس فعليك بالأمرِ الأوَّلِ كما جاءت بذلك الأحاديث، والواقع يُثبتُ هذا، فأناس سلكوا مسالك مُعيَّنة أفضت بهم إلى أنَّ أهل العلم أنكروا عليهم تلك المسالك، إمَّا في تركهم لأصولِ الدَّعوةِ مِن الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ والهدى، وإمَّا في جعلِ على أنفسهم أشياءَ لم يوجبها الله -جلَّ وعَلا- من سفرٍ لمدَّةٍ معيَّنةٍ، أو بعضِ الطُّقوسِ التي يفعلونها، أو طرائق في الذِّكر، أو جعلِ عصمةٍ لمَن ليسَ بمعصومٍ والصُّدورِ عنه، وجعلِ كتبه هي الأصل، وما هو أعظم وأضلُّ عند أهلِ الرِّفضِ من جعلِ العصمة لآل النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- واطِّراح مَن سواهم من أصحاب النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- رضوان الله عن الآل والصَّحبِ أجمع، فبمثل هذا تكوَّنت مثل هذه الضلالات.
إذا أردنا الآن أن نتكلَّم عن هذه الوسائل من حيثُ أنَّ هذه المسألة واقعة، فنقول: ماذا تقصدون بالوسائل التي يُتحدَّثُ أنَّه يُجتهد فيها أو لا يُجتهد؟
إن كان المقصود بالوسائل ما استحدثَ النَّاسُ الآن مِن آلاتٍ ونحوها في إيصالِ العلمِ أو رفعِ الصَّوتِ ونحوها، كالمكبِّرات، أو مثل هذه الأشرطة، أو الشَّاشات التي يُنقَل فيها هذه الدُّروس والخُطَب ونحوها ممَّا يستفيد به النَّاس، أو ما استُحدِثَ من هذه المطابع التي تطبع الكتب الكثيرة في الأوقات الوجيزة خلافًا لِمَا كانَ فيما مضي؛ فإنَّ هذه لم يختلف أحدٌ من أهل العلم المعاصرون ولا السَّابقين باعتبارِ جملتها ونوعها أنَّها مطلوبة إلا ما جاء فيه إشكال بخصوصه، كنحو تصويرٍ في بعضها أو أشياء تتعلَّق بخصوصيَّةٍ معيَّنةٍ لا من أجل أنَّ هذه وسيلة للدَّعوة وطريق إليها.
فإذن هذه خارجة عن محلِّ النِّقاش والبحث والإشكال، فلم يزل أهل العلم الآن يوصون باستعمالِ مثل هذه الوسائل والإفادة منها، ولم يجعلوها داخلة في أصلِ هذه المسألة ومحلِّ الكلام عليها؛ بل إنَّ بعضَ أهلِ العلمِ الذين لهم موقفٌ من التَّصويرِ -كبعض مشايخنا- لمَّا رأى الحاجة مُلحَّةٌ إلى اقتحام مثل هذه الشَّاشاتِ ونحوها أفتى بجواز ذلك مع تحفُّظهِ على أصل التَّصوير، لعظَمِ الحاجة، وتوقُّفِ الوصول إلى النَّاس على مثلِ هذه الوسيلة، وما يترتَّب عليها من منافعَ عظيمة، وما يحصلُ بتركها من الشَّرِّ العظيم المتسطير.
وتبقى مسائلَ لو نظرنا إليها لرأيناها قليلة، فإذن جعل هذه المسألة أصل في كونها اجتهاديَّة أو توقيفيَّة مُشكِلٌ، فنرجعُ إلى كون الدَّعوة واضحة، وطرائقها مسلوكة عند أهل العلم، وثَمَّ مسائل أو بعض الوسائل التي جدَّت في هذا العصر تُبحَثُ بخصوصها.
الحديث مهمٌّ وفيه إشكالات، ويُمكن أن توردوا ما تحتاجون إليه، سأقول لكم على سبيل المثال أبرز هذه الوسائل التي دار فيها النِّقاش:
أولها: التَّمثيــل.
وثانيها: الحداء والأناشيد، وجعلها وسيلة من وسائل الدَّعوة.
والثَّالث: القَصص.
أمَّا التَّواصل الاجتماعي فهو داخل في القسمِ الأوَّلِ الذي لم يتعلَّق بالثَّاني، فهي وسائل، ونقول: إنَّها لا إشكال فيها؛ لأنَّ حقيقة الدَّعوة تصل كما هي، يعني الحديثُ يُقال حديثًا، لكنَّه إمَّا أن يُسمع مشافهةً منِّي، وإمَّا أن يُسمع بمكبِّراتِ الصَّوتِ، إمَّا في المحفوظِ الذي تحفظه فتنقله، أو الذي تبثُّه مباشرةً مثل البثِّ المباشر ونحوه. هل اختلف الحديث عن هذا؟
لا، لم يختلف.
فإذن هي وسيلة، مثل أن تُكتَب فتنتشر، فبدلَ أن يقرأها واحد قرأها مائة، فالحديث هو الحديث، والنَّصُّ هو النَّصُّ من كتابٍ أو سُنَّةٍ، والتَّقريرُ من أهل العلم لم يختلف، فهذه قوالب لِبثِّ هذه الدَّعوة، فلن تختلف حقيقة الدَّعوة.
لكن التَّمثيل أن يُؤتى إلى هذا الحديث فيُجعل على طريقةٍ مثل المسرح أو الدِّراما، ويُوصل الحديث بتمثيل بعضهم لِما قامت عليه فكرة هذا الحديث ونحوه؛ فهذا هو محلّ الكلام.
نأتي إلى التَّمثيل في أصل الأمر، فالتَّمثيل أُخذَ من استعمالات فاسدة وُجدت في أول الأمر بجعله في العُهر والعفن وأنواع من التَّفسُّخ، وبعض الفهوم الفاسدة، وإرادة تمرير يعض الرسائل السيئة والخاطئة والشبهات في الشرع وغيره، فجاء بعض المتحمِّسَة فأخذ منه روحه، وجعله لأشياء طيِّبَة.
فنقول: في مثل هذا الحال أنَّه فيه محظورات:
أولًا: هذا التَّمثيل مأخوذٌ مِن طرائق أهلِ الشَّرِّ.
ثانيًا: أنَّه لا ينفكُّ من وجودِ بعضِ الكذبِ، ففيه مبالغات.
ثالثًا: ربَّما يدخل فيه ما ليس في أصل ما يُراد بالقصَّة أو الفكرة أو المسألة، أو الحكم، أو نحو ذلك.
رابعًا: ما يترتَّب عليه مِن جعلِ التَّمثيلِ ونحوه مألوف، فيتوسَّع النَّاس فيه -كما حصلَ الآن- بدأ النَّاس قبل عشرين أو ثلاثين سنة بأشياء مخصوصة وتعليميَّة ونحوها، ثم آلَ الأمرُ إلى انفتاحها بالدُّخولِ في مباحاتٍ، ثمَّ انضمَّ إليها أشياء قد تكون محرَّمة.
إذن يتلخَّصُ من هذا:
- أنَّه مِن جهةٍ لا يوصِّلُ الدَّعوة على وجهٍ صحيح.
- ومِن جهةِ أنَّه بابٌ أُخذَ من أهل الشَّرِّ، ولا يزال الشَّرُّ ممكنُ الانفتاحُ من خلالِهِ وزيادتِهِ.
- ومِن جهةِ أنَّه لا ينفكُّ مِن نقصِ ما يحتويه من الحُكمِ الصَّحيح، أو المسألة التي يُراد بيانها، ونحو ذلك.
أيضًا في التَّمثيلِ مسألةٌ مهمَّة، وهي: أنَّ العلمَ عظيمٌ، وتمثيلُه بجعلِه على سبيلِ الفكاهةِ أو ماثلها أو نحو ذلك هو تهوينٌ لشأنه، والله -جلَّ وعَلا- يقول لنبيِّه: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً﴾ [المزمل: 5]. لــمــاذا؟
حتى يتهيَّأ له، فدلَّ على أنَّ العلم ممَّا ينبغي التَّهيُّوء له وتعظيمه، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
و لمَّا ذكروا صِفةَ تنزُّل الوحيِ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: "يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا" .
ماذا تستفيد من ذلك؟
تستفيد أنَّ الله -جلَّ وعَلا- أراد أن يُبيِّن أنَّ هذا العلم ليس باليسيرِ، وأنَّ الآخذ له لابدَّ أن يتهيَّأ، حتى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- الذي عصمه الله يُثقله، ويظهر عليه أثره، فإذا مُرِّرَ بمثلِ هذه الرَّسائل والأضحوكات وما يتعلَّق بها؛ استهانَ النَّاس بالعلم.
فلأجل ذلك كان الأمر لا ينفكُّ أن يكونَ شيئًا لا يُحصِّلُ المقصود، فيدخل العلم في دائرة الانتقاص، وإن لم يكن ذلك دائمًا، وإن لم يكن ذلك مستمرًّا، لكن إذا وُجدَ في البعضِ وكان ممكنًا فإنَّ الحكم يتعلَّق بالجميعِ، لأنَّنا لا نستطيع أن نضبط هذا عن ذاك.
فعلى كل حال؛ جعل التَّمثيل من حيث أصله طريقًا مسلوكًا للدَّعوة هذا تردُ عليه إشكالات كثيرة، فإذا انضمَّ إلى ذلك تمثيل بعضِ أهلِ الفضلِ، ويقوم بهذا مَن ليس أهل لذلك، وربَّما يُزاد إلى تمثيل الصَّحابة، وجعل الله -جلَّ وعَلا- لهم ولآل النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِن المنزلةِ والخصوصيَّة ما لهم؛ فإنَّ ذلك لا شكَّ أنَّه نوعُ انتقاصٍ وإساءةٍ إلى مَن جعلهم الله -جلَّ وعَلا- نجومًا يُهتدى بهم كما دلَّت على ذلك النُّصوص والأحاديث، وما جاء في خصوصيَّتهم من القدرِ والمنزلة والمكانة.
الأمر الثَّاني: الأناشيد.
الحداء جاء الشَّرعُ بالإذن فيه، وجاء في بعضِ أحوال النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في السَّفر، فبعضهم ربَّما يلحق به شيءٌ من المَللِ وعناء الطَّريقِ وشدَّةِ الشَّمسِ، إلى غير لك ممَّا احتفَّ بهم؛ فيُحرِّكون نفوسَهم ويَقوُون، فأصل هذه الحداءات والأناشيد إنَّما هي معينٌ لهم على ما اشتدَّ بهم من أمر سفرٍ ونحوه.
فإذا وُجدَ على هذا النَّحوِ فالأمر فيه محتمل، وفيه سَعَةٌ، لكن أن يُجعل قالَبًا للدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- هذا أوَّل شيء غير متصوَّر تمامًا، ففي الواقع أنَّ هذه الحداءات فيها من الحماسة، وشيء من الأنس، فهذا ليس فيها تعليم مسألة، ولا وعظ.
فإن كان الوعظ في الحداءات أو التَّمايلاتِ أو الرَّقصِ؛ فهذا سيسلك مسلكَ أهل التَّصوُّف، وقد جاء عن علماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ التَّحذيرُ من ذلك وعدمُ الانزلاقِ فيه، وما يترتَّب على ذلك من محاذير تبدأ في هيئات الذِّكر، وتنتهي إلى ضلالاتٍ كبيرةٍ لا حدَّ لها.
فإذن مَن تركَ هذه الأمور من أهل العلم مقصورة على ما جاء فيها، يقول: مَن احتاج إليها كمَن شقيَت نفسه، أو لَقصَت، أو تعبَت، أو نحو ذلك؛ فحمَّسها.
تَمَنَّيْــت أَنْ تُمْسِــي فَقِيهًــا مُنَــاظِرًا
بِغَــــيْرِ عَنَــــاءٍ وَالْجُـــنُونُ فُنُـــونُ


فمَن كان كذلك فحرَّك نفسه بهذا قليلًا فلا بأس كما جاءت به السُّنَّة، أو مَن وجد تعلُّقَه بالأغاني والطَّرب ونحوه، فاستعاضَ قليلًا عن ذلك بشيء يمنعه من الوقوعِ في الحرامِ، فلا بأس.
ونحن نقول "قليلًا" لأنَّه لئن يمتلئ قلب الإنسان قيحًا خيرٌ من أن يمتلئ شعرًا لِمَا يترتَّب عليه من تحريكِ النَّفسِ إلى المُلهيات والشَّهواتِ ونحو ذلك، فهذا قد يكون فيه ما فيه، لكن أن يُجعل طريقًا للدَّعوة فلا، ولأنَّه لَمَّا جُعلَت أشعار الحماسة طريقًا للدَّعوة تلقَّاها مَن تلقَّاها ثمَّ لَحقَ بهم شيءٌ من الحماسة على غير أصلٍ فوقعوا في أخطاء كثيرة، وربَّما لحقوا ببعض أهل الضَّلالات كالإرهابِ واستباحةِ الدِّماء، ونحو ذلك من المسالك المشينَة.
فإذا تكلَّمنا عن هذا من جهةِ أصلِ الأناشيد، فإذا انضمَّ إلى ذلك شيء آخر، فالنشيد الآن لم يعد حداءً تُحرَّك به النُّفوس؛ بل صارَ صنعةً ومهنةً تُماثل وتُقارن الموسيقى وأهل الغناء والشِّعر، فتُلحَّن كما تُلحَّنُ تلك، ويتصدَّى لها مَن يتصدَّى لذلك، ويُجعَل لها من الأمورِ ما يُجعَل لتلك، حتى إنَّ آلات اللَّهو نُقلَت بطريقة أو بأخرى فضُمَّت إلى ذلك، ولم يزل أناس يقولون هي أناشيد مجرَّدة أو كذا حتى آل الأمر إلى أن صارت أمرًا مستساغًا، يعني دخول هذه المحرِّكات أو ما يُسمُّونَه بالمؤثِّرات الصَّوتيَّة، فوصل الأمر إلى خلل كبير.
إذن ينبغي أن يُعرَف أن هذه ليست ممَّا يحصل به الدَّعوة أصالةً، وليست هذه طرائق أهل العلم، وليست هذه سبيل مَن يتصدَّى لهداية النَّاس ودعوتهم، وطلب إرشادهم واستقامتهم على سبيلِ أهلِ الحقِّ والهدى.
نأتي إلى القصص:
القصص من حيث الأصل لا إشكال فيها، وقد جاءت بها الآيات، الله -جلَّ وعَلا- يقول: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾ [يوسف: 111]، ومن أعظم ما يُحرِّك النَّفس ويعظها القَصَصُ، فإذا كانت قصصًا صحيحة كقصص الأنبياء والصَّحابة وما في حكها؛ فإنَّ هذا ممَّا يُؤمَر به ويحصل به هداية للعبد، ويتَّعظ القلب وتُحرَّك النُّفوس، وهذا جاء في كتاب الله -جلَّ وعَلا- في مواضع، وجعله الله -جلَّ وعَلا- سلوَة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وجعله النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سِلوةً لأصحابة، «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ» ، وذكر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِن أخبارِ ما سبقَ شيئًا ليسَ بالقليلِ.
أمَّا أن تُختلَق في ذلك القصصُ أو يُدخَل فيها ما ليس منها فقد يُظنُّ أنَّها مصدرًا للأحكام، أو أنَّ ما يُروَى عن فلانٍ أو فلان هو كالحُجَّةِ القائمة وكالعملِ الصَّحيحِ ونحو ذلك، فهذا يُخرجها عن دئرتها ويقع في الخطأ.
فنقول: إنَّ استحضارَ بعضَ القَصَصِ وتقريبها للنَّاسِ وهداية النَّاس بها أمرٌ صحيحٌ جاءت به السُّنَّة، لكن إذا انضمَّ إلى ذلك الكذب أو الخطأ، أو جعلها أصلًا يؤخَذ منه الأحكام أو نحو ذلك؛ فإنَّ ذلك يكون ممَّا يُردُّ ويُمنَع، ولا يُمكن لأحد يعلم ما دلالات الكتاب والسنَّة وما قرَّره علماء الأمَّة إن كان حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا أو حنبليًّا أو ظاهريًّا أو مِن أهلِ الحديثِ مِن أهلِ العلم -أهل السُّنَّة والجماعة- فلا يُمكن أن يقول بشيءٍ من ذلك، إلا مَن أُشرَب قلبُه هواه، فلحقَ بملاحق الخلل والخطأ.
إذن هذه لو نظرتَ في حقيقتها لن تجد فيها شيئًا، وحتى لو وُجدَ شيءٌ من ذلك واختُلفَ في أصله، فحالنا مثل ما قرَّرنا سابقًا أنَّ أيَّ مسألةٍ اشتبهت عليك وأنت في طريق الدَّعوة فإنَّه لا يُمكن لطالب العلم أن يَبُتَّ فيها برأيٍ، وأنَّه لا ينفك الطَّالب في مرحلته الأولى والمتوسِّطة من الصُّدور عن أهل العلم فيما أشكل عليه، فكيف إذا كان ذلك منهاجًا يسلكه في دعوته ويعتاده في عمله؟!
فيتبيَّن بهذا سواء قلنا أنَّها اجتهاديَّة: فذلك يتعلَّق بما يُمكن الاجتهاد فيه من الوسائل التي جدَّت، أو من الأشياء التي يسَّرت انتقال العلم ووصوله.
وإن قيل إنَّها توقيفيَّة : فالمراد من ذلك ألا يُدخَل في دين الله -جلَّ وعَلا- ممَّا يُتعبَّدُ به من الأعمال ما ليس بصحيحٍ، فتكون دائرة الإشكال بعد ذلك ضيِّقة جدًّا أو لا تكون إذا تكلَّمنا على هذا النَّحوِ.
وتعرفون كلامَ أهل العلم بالنِّسبةِ لحكمِ الأناشيدِ ونحوها ابتداءً، لكن سأقول لكم شيء: رأينا أحيانًا أنَّ الأمرَ بدأ بأناشيدَ يسيرةٍ وكلماتٍ صحيحةٍ ونحو ذلك، فانتهت إلى أشياء مُشكلة، إمَّا أن يكونَ الحديث مشتمل على ألفاظٍ من الذِّكر فيكون على هيئة الذِّكر الجماعي، كمَن يُنشد ويقول "صلَّى الله على محمد، صَلَّى الله عليهِ وسلَّم" إلى غير ذلك مِن الأشياء التي يذكرونها ويعتدونها، وينسَى أن ذلك ذكر، وأنَّ الذِّكرَ يُتعبَّد الله -جلَّ وعَلا- به، وينبغي ألا يكون إلا على الطَّريقةِ المشروعةِ، فدخلَ من خلالِ هذا مخالفات.
فلأجلِ ذلك قلنا: إنَّها لم تزل تجترُّ بعضَ النَّاسِ حتى وقعوا في بعض الخلل، ولا ننسى أنَّ بعضهم ربَّما كان له رأيٌ في هذا أو ذاك ولم يزل محافظًا، لكن أين هو!
فهذه من المواطن التي يُمكن أن نراها وتُوسم بأنَّها محافظة وقد وقعت في أخطاء كثيرة، فينبغي الحذر.
ونقول: سواء قيل إنَّ الوسائل اجتهاديَّة فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ الاجتهاد لي ولك؛ إنَّما لأهل العلم الرَّاسخين ينظرون هل لهذا الطَّريق أصلٌ صحيح مِن كتابِ الله -جلَّ وعَلا- ومن سنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم؟ هل يَسلم من الإشكالِ ومِن الوقوع في محظورٍ إمَّا كذب وإمَّا انتقاص، وإمَّا انحراف أو غير ذلك؟
فالمسائل التي فيها الكلام قليلة، ثمَّ إنَّ هذه المسائل فالأمر بالنَّظرِ فيها واحدة واحدة يتبيَّن محل الإشكال، وحتى لو قيل إنَّها اجتهاديَّة فهذا لا يعني أنَّها مفتوحة للجميع، وكلٌّ يجتهد ويضربُ فيها برأي، فلم نقل إنَّها مفتوحة للرأي العام أو نحوه، فهذه أحكامُ شرعٍ ودينٍ واتِّباعٍ، فلابدَّ أن يكون هذا الاتِّباع على منهاج صحيحٍ، وعلى أصل من كتاب الله -جلَّ وعَلا- وسنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم.
عند ذلك يكون الأمر في هذا واضحًا لمَن طلبَ الهدى، ولمَن سلكَ سبيلَ أهل الرِّشد، ولمَن يستنُّ بسنَّةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فالدَّاعية إلى الله له فيما سنَّهُ له النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- طريقًا كافيًا، وها نحن نرى مِن أهلِ العلمِ وأهلِ الفضلِ وأهلِ الدَّعوةِ مَن كَتَبَ الله له قبولًا، وكَتَبَ الله -جلَّ وعَلا- له أثرًا، وانتفعَ النَّاس بعلمِه وبدعوتِه، وبهدايتِه وبوعظِه، ولم يكن في ذلك لا متكلِّفًا، ولا سالكًا سبيلًا بعيدًا، ولا منتقلًا عمَّا جاء في كتاب الله وفي سنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وما أُثِرَ عن صحابته الكرام، ورأينا في المقابلِ مَن تكلَّفَ واجتهدَ فكان أمرهم إلى خللٍ، وربَّما قصُرَ ذلك الخلل وربَّما عظُمَ، ولا نريد أن نزيد ولكن الواقع يشهد بأنَّ هذا الباب انفتح على أناس فوصل بهم إلى شرٍّ كبيرٍ.
على كلِّ حال؛ هل يوجد شيء آخر ممّا هو محل الاجتهاد أو الإشكال في مثل هذه الوسائل أو المسائل؟
{أحسن الله إليك..
ذكرتم المسألة من حيث التَّأصيل، أمَّا من حيث التَّفريع والواقع نجد أنَّ بعض الدَّعاة يغشون إلى أماكنَ غير مناسبة للدَّعوة، فيذهبون مثلًا إلى حفلةٍ غنائيَّةٍ ويدعون مِن خلالها، أو يذهبون إلى السُّوق فيأتون بسماعةٍ كبيرةٍ ويدعون بهذه الطَّريقة، ثم يقولون إنَّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الأسواق، فمثل هذا المسلك -غشيان البيئة التي لا تناسب الدَّعوة- هل هناك بيئات تناسب الدَّعوة وأخرى لا تناسب؟}.
هذه مسألة مهمَّة، وأهل العلم ذكروا ما يتعلق بالذَّهابِ إلى مكانٍ فيه معصية، فإن كان الذَّاهب يستطيع الإنكار ويمنع المنكر فلا غضاضة في ذلك، فهذا مشروط بشرطٍ أصيل، وهو أن يأمَنَ على نفسِه، فإن كان يترتَّب على ذلك أن ينظرَ إلى مناظرَ فاضحة أو أن تبقى بعضُ الأمور السَّيئة، أو تُمارس بعض الأمور المحرَّمة فلا، فله غُنيَةٌ، ولا يحتاج إلى أن يدخل إلى هذه الأماكن، كأماكن الاحتفال، واختلاط النِّساء، وتعاطي الخمور، وغيرها؛ فإذا كان يستطيع أن يمنع ذلك وينتقل بهم إلى ما يكون فيه صلاحهم فينفصل الرِّجال عن النِّساء، وتستر النِّساء، ويكون بمنأى من الافتتان بشيء من ذلك، ويدعو النَّاس؛ فلا غضاضة.
كذلك إذا كان في سوق، فإذا أمكن أن يعلم أنَّ الناس يستمعون إليه، ولا يستهزؤون، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، فإذا أمكنَ إيصال العلم في مثل هذا فلا بأس، لأنَّ هذا -كما قلنا- من النَّوع الأوَّلِ من الوسائل، التي هي قوالب للدَّعوة، فإذا غشيَ النَّاس في بعضِ أسواقهم أو تجاراتهم أو نحو ذلك فلا غضاضة، وأذكر أنَّ كثيرًا مِن مشايخنا كانَ على هذه الطَّريقة، فالشَّيخ محمد بن إبراهيم مفتي الدِّيار السُّعودية كان يوم الخميس -على وجه الخصوص- يعلم أنَّ البوادي يقدمون مِن أماكن سكنهم وهم قليلي العلم ويحتاجون إلى التَّبصير ونحوه، فيستقر في السُّوق، فربَّما خصَّهم بشيءٍ من ذلك، وهذا قد جاء ما يُماثله، فإنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- خصَّ النِّساء بحديث، فإذا أمكن ذلك على وجهٍ لا يحصلُ به منكر، ولا يكون فيه امتهانٌ للسُّنَّةِ والأحاديثِ ونحو ذلك؛ فلا شيء في ذلك.

{أحسن الله إليكم يا شيخ...
بالنِّسبة للأفلام الإلكترونية الكرتونيَّة، أحيانًا يُسرَد حديث، ويُراد إيصال فكرة مِن خلال هذه الأفلام. فهل هذا يُعتبر من التَّمثيل؟}.
الله أعلم، الله أعلم.
الحقيقة أنا أرى أنَّ هذه لا تسلم من الخلل!
وما تذكره يُمكن أنَّك متصوِّرٌ له، لأنَّك قد رأيتَ بعضَه، وأنا الحقيقة لم أرى شيئًا من ذلك، أو رأيت قليلًا، فإذا كان ذلك يحتوي على رسوماتِ آدميين ونحوها؛ فلن ينفكَّ من محظورات، وإذا لم يكن فيه شيء من ذا ولا ذاك وأُمِنَ من أن يكون مختصرًا لِمَا جاء به النَّص أو مُغيِّرًا له أو نحو ذلك فمحتمل، ولكن مهما قلنا في هذا فإنَّها صورة ليست واحدة حتى نقول مِن أنَّها جائزة، بل هي منهاج، فإذا بدأ بالكرتون انفتحت عليك أشياء كثيرة ودخلتَ في الخلل!
فلأجل ذلك نقول: إنَّ السَّلامة منها لا يعدلها شيء، فالأفلام الكرتونيَّة التي تُطلب للصِّغار ويكون فيها أحيانًا طلب بعض المعاني الجيدة لا تنفكُّ مِن إشكالاتٍ، فهذا زمان كثر فيه الخلل والخطأ، وعسى الله أن يعصمنا من الزَّللِ.
وأنا لا أزيد في هذا، فما ذكرته كان على سبيل المُدارسةِ لا على سبيل التَّقرير ولا على سبيل الإفتاء، وإنَّما على سبيل المراجعة، وعلى سبيل التَّنبيه أنَّه لا ينفك من أن يخرج عن دائرته أشياء لا يُمكن إتقانها أو ضبطها أو الإتيان على قيود معيَّنة فيمتنع ما سواها.
وكما قلنا: لو رجعنا إلى بعض الأشياء التي وُجدت كان يُقال "بشرط أن تنتبهوا إلى كذا أو إلى كذا"، فدارت الأيامُ فوقع النَّاس فيما هو أشدَّ من ذلك بكثير، ولأجل ما وصلَ بعضُ النَّاسِ إليه في مسألة كمسألة الأناشيد أن انتقلوا من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ حتى انتقلوا إلى الموسيقى الصَّريحة، وقالوا: لا فرق بين هذا وذاك. والله المستعان!

{بالنِّسبة لهذه الأناشيد، تجدها أحيانا مناسبة لحفظِ بعضِ الأذكارِ للصِّغارِ. فما حكمها}.
أنا لم أتكلَّم في الأناشيد من حيثُ هي، أنا تكلمتُ من حيثُ إنَّها تُعتبر ممَّا يُدعى به إلى الله -جلَّ وعَلا- بها، هذا من جهة.
الجهة الثانية: إن كنتَ تقصد بذلك بعض المنظومات التي تحتوي على بعض العلوم أو بعض الأشياء التي يستفيد منها الصِّغار، ولمَّا كان الصِّغار يتلقَّنُونَها مجتمعين قيُلقَّنُونَها ويأخذونَها بصوتٍ واحدٍ فهذا ليس محل الكلام، والأمر فيه يسير.
وإنَّما الكلام في الحداءات التي تُجعَل على سبيلِ التَّطريبِ والتَّلحينِ، وتُملأ بها النُّفوس وتتحرَّك؛ فهذه هي محل الإشكال من جهتين:
أولًا: مِن حيثُ سلامتها مِن الخللِ ومِن المعصية، وكونها مأذون فيها أو لا.
ثانيًا: مِن حيثُ سلامتها مِن الإنجرار إلى ما هو أشد، كانضمامِ المؤثِّرات أو دخول بعض الأذكار فيها، أو غير ذلك من الأشياء التي تقع.

{أحسن الله إليك..
أكثر الإشكالات فيما يخص الوسائل المشروعة هي ما تأتي من الوسيلة نفسها، وإنَّما تأتي من مستعمل الوسيلة، يعني تجرأ بعض الناس في الدَّعوة لأجل توفرها لكل الناس، فبدؤوا يدعون امتثالُا لقوله -صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» ، وهو ليس طالب علم شرعي}.
هذا كلام صحيح، وكنت أظنُّ أنَّ الحديث يسع لأن نتحدَّثَ عن هذا الموضوع، وهو: وسائل التَّواصل الاجتماعي، وطريقة الدَّعوة من خلاله.
فهذا الباب مِن أكثرِ الأبوابِ التي يُحتاجُ فيها إلى الحديث، ووسائل التَّواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت ونحو ذلك -أو بعبارة أخرى: استعمال التَّقنية في الدَّعوة إلى الله جلَّ وعَلا.
والحقيقة أنَّه موضوع طويل، وفيه مسائل شائكة، وفيه ما ينبغي التَّنبيه عليه، ولو وقفنا مع كلِّ برنامج لم يكن ذلك كثيرًا، فلو جئنا إلى الفيس بوك، أو تويتر، أو الواتس آب، أو الإنستجرام، فأنا لا أعرف كثيرًا فيها، ولكن لستُ أميًّا، وأظنُّ أنَّ الأميَّةَ في مثلِ هذه الأشياء لا تكون ذمًّا!
على كل حالٍ؛ إذا كان الأمر كذلك فهذه وسائل موجودة الآن؛ بل غالبةٌ وطاغيةٌ، فهي انفجارٌ وبركانٌ وثورةٌ، حتى البهائم كادت أن تفهم مِن خلالها، لكثرةِ حصولها ووجودها وانتشارها، بل صارت أعظم مِن المخدِّرات، تجد أنَّ بعضَ النَّاس لا يستطيع أن يستغني عنها، وأناس في المجلس وليسوا فيه، وأصعب على الإنسان أن يُحبَسَ عنها؛ فأن يُحبسَ في مكان أسهل من أن يُحبَسَ عنها، فلو جعلت مع بعض النَّاس ما يصل به إلى هذه البرامج في مكان وحيد فريد فهذا آنس له، ولو جعلته في العراءِ والهواءِ وفي المدنِ يذهبُ ويجيء وأمسكتَ عنه هذه الأجهزة التي يدخل من خلالها إلى ذاك لظنَّ أنَّه محبوس!
فلمَّا كان الأمر كذلك احتجنا إلى أن نتحدَّث عن هذه الوسائل، من خلال أمور:
أولًا: الدُّخول فيها للدَّعوة إلى الله.
ثانيًا: التَّلقي منها.
ثالثًا: التَّفريق بين الأحكام فيها.
رابعًا: ما يحصل الآن مِن أنَّ كلَّ أحدٍ -مثل ما ذكرت- يتصدَّى للدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- تأتيه مثلًا رسالة فيها حديث عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيقول هذا خير، فما يزيد إلا أن يضغط ضغطة للجميع فيُرسل ألف رسالة، ثم يرسلها كل واحد من الألف إلى ألف، ففي عشر دقائق يُمكن أن تصل إلى مليون!
فإذا انضمَّ إلى ذلك أن كانَ هذا الحديث موضوعًا؛ فكم يتعلَّق بذلك من الخلل؟ وكم سنحتاج إلى تصحيح هذا الخلل، ونمنع تعاطي الناس لمثل هذا الموضوع؟
فإذا كان هذا من واحد في عشر دقائق، فكيف إذا كان من مليون؟ وكيف إذا تكرَّرَ ذلك بتكرُّرِ الدَّقائق والسَّاعات؟!
إذن نحن أمام شيء كبير وعظيم في هذه الوسائل، فكيف بنا في التَّعاطي في الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- مع هذه الأمور؟!
فهذه أمر من أهمِّ الأمور التي يجب التَّنبيه عليها.
كنتُ أظنُّ أنَّني سأبتدئ في هذا وأنتهي منه قبل انتهاء الحلقة، ولكن -والله الحمد- الموضوع مهم، سواء الأوَّل أو الثَّاني، وممَّا يُحتاج إلى التَّنبيه عليه، وبإذنِ الله -جلَّ وعَلا- يكون في اللقاء القادم محل بحثنا لمثل هذه المسائل.
وأنا بين يدي انتهاء اللقاء أُحيل على الإخوة الحاضرين والمشاهدين إلى تحريكِ أذهانهم قليلًا للتَّأمُّل لأحوالِ الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- من خلال هذه الوسائل، ما كان منها صوابًا وما كان منها خطأ، كيف يُمكن ضبطها، كيف يُمكن الزِّيادة في هذا على وجه يُمكن الأمن من حصول الخللِ أو الخطأ أو النَّقصِ.
أسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن يُعيننا في تقرِيرِهَا وتحرِيها، والتَّوفيق لِمَا يكون فيها من الحقِّ والهدى، شكرَ الله لكم وللإخوة المشاهدين والمشاهدات، وشكرَ الله لهذا البناء العلمي الذي سخَّرَ إمكاناته لهذه المدارسات والمجالس العلميَّة -بإذن الله جلَّ وعَلا.
أسألُ الله في ختامِ هذا اللقاء أن يجعلَ هذا حجَّةً لنا لا علينا، وأن يجعلنا مِن المهتدين للحقِّ والصَّوابِ والخيرِ والرَّشادِ، وأن يجنِّبنا الشَّرَّ والبغي والفساد، إنَّ ربَّنا وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك