الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

8845 12
الدرس التاسع

فقه الدعوة إلى الله

السَّلامُ عَليكُمُ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
الحمدُ للهِ أفضل مَا ينبغي أن يُحمَد، وصلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلى أفضلِ المُصطفين محمد، وَعَلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَن تعبَّد، أمَّا بَعدُ:
فأسأل اللهَ -جلَّ وعَلا- أن يجعلنا وإيَّاكم مِن عباده الذين إذا أُنعِمَ عَليهم شكروا، وإذا نسوا تذكَّروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وأن يجعلنا مِن عبادِهِ المُتقين المُفلحين، إنَّ رَبَنَا جوادٌ كَريمٌ.
لا يَزالُ الحديثُ موصولًا في هذه المسائل المُباركة، والتي هي مَسائل عظيمة، وحسبي أنْ أَطلبَ فيهَا مَسالك أهلِ العِلم الرَّاسخين، ونجتهد فيما قرَّره أهل العلم والفقهاء المُوفقين لِنَسلُكَ مَسْلَكَهُم، ولنحذوا حذوهم، عسى اللهُ -جلَّ وعَلا- أن يَعصمنا مِن الزَّلَلِ، وَمِنَ القَولِ الخَلَلِ فِيمَا نُورِدَهُ في مثل هذه المسائل العظيمة.
ولأجل ذلك فإنَّا لا ننفك مِن الحاجةِ إلى التَّناصح والتَّعاون والتَّنبيه، فَكَم مِن المسائلَ التي يكون فيها شيءٌ مِنَ الدِّقةِ وَكثيرٍ مِنَ الخفاءِ أحوج ما يكون الإنسان إلى أن يَستعين بأهلِ العِلم حتى يروه المسلك الصَّحِيح والطَّريق المُستقيم، والسَّبيل القويم.
ومَن طلب الطَّريق يُوشك -بإذن الله جَلَّ وَعَلا- أن ينجو، ومَن ظنَّ أنَّ السبيلَ سهلًا وأنَّ الطَّريقَ يَسيرًا فهَذا يُخشَى أن يُدرِكَهُ العَطَب، وأن يأتي عَليه الهَلاكُ، وأن تفوت عليه النَّجاة، ولأجل هذا قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ» ، يعني: مَن خَافَ أَسرَع، ومَن أَسرَع بَلَغَ المَنزِلَ، فَمنْ خَافَ عَلى دِينه وَعَلى دَعوتِه وعلى مِنهَاجِه؛ فإنَّه يُوفَّق، وإذا وُفِّقَ فمِن أَعظمِ مَا يكون به التَّوفيق الإسرَاع والاستِعَانة والسُّؤال والاستفتاء والاهتداء بمَن سبقَ مِن أهلِ العِلمِ وأهلِ الفَضلِ وأهلِ الدِّيانة.
وكم من الأمور التي تشتبه على الإنسان وتُشكل عليه، ولربما كانت لأوقات طويلة لا يجد بُدًّا من أن يُعلن بحاجته إلى الله، ومن أعظم ما يُدعى به في هذا المعنى: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ، فيدعو الله ويلهج بهذا الدعاء، ويسأل الله أن يُبَصِّرَه، "اللهم أرني الحق حقًّا وارزقني اتِّباعه، وأرني الباطل باطلًا وارزقني اجتنابه" ، ويدعو أيضًا بدعاء الخروج من المنزل «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بِكَ أنْ أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أوْ أُزلَّ، أوْ أظلِمَ أوْ أُظلَم، أوْ أَجْهَلَ أو يُجهَلَ عَلَيَّ» ، أو أن أكون سببَ بلاء أو فتنة على الإسلام أو المسلمين.
هذا المسلك هو من أعظم ما يُعين الإنسان على الخير والهدى، ولذلك نحن على مرِّ التَّاريخ نرى أنَّ أقوامًا كانت لهم خيرَة، وكان لهم فضل، لكن لم يُمسك الطَّريق على وجهه وعلى جهته فحصل لهم بعدَ ذلك أنواع من التَّقلُّبات، غمَّا أن ينزعوا إلى الدِّماء والخروج والظلم والعدوان، وإمَّا أن يرتكسوا في الشَّهوات والضلالات، ويستميلهم الشيطان إلى أنواع من البلاء والمعاملات المحرَّمة وغيرهم.
ولم يزل التأريخ شَاهِدًا مِن أوَّل القُرونِ إلى هذا اليوم، رأينا أناسًا حضروا مجالسَ أهل العِلم الرَّاسخين وتفوَّقوا فيها، وأوتوا فيها ما لم يؤتَ غيرهم؛ لكنهم أوتوا من بعضِ مَقَاصدهم، أو استَمَالهم الشيطان إلى بعض أمور الدنيا، ولم يكونوا يُراجعوا أنفسهم ويراعوها؛ فحصل عليهم نوع من الشَّططِ والضَّلال -نسأل الله السَّلامة والعَافية.
ولولا أنَّ مثل هذه المجالس لا يُذكَر فيها لذكرتُ أشياء كثيرة، وبعض ما نذكره لو لم نسمِّه باسمه لربَّما عُرفَ شيءٌ من صفته، فلأجل ذلك أنتم ترون ذلك وتعرفونه، ونحن نرى ذلك في كلِّ يومٍ ونحفظه، فالمسلَّم مَن سَلَّمه الله، وما يُحفَظُ إلا مَن طلب الله -جلَّ وعَلا- مُخلصًا خائفًا يُراعي حقَّ الله في كل قليلٍ وكثيرٍ، وما بيننا وبين الثَّانية إلا انقلاب النِّيَّة، أو تغيُّرِ الحال، أو فرح الإنسان بشهوة، أو بما أوتيَ من جِاهٍ، أو ما حَصَلَ له من شُهرةٍ، أو غير ذلك من المَسالك التي قد جرى التَّنبيه عليها في الكلام على الإخلاص والنية ومراجعة الدَّاعية نفسه.
في المجلس الماضي كمَّلنا مسألةَ مُراعاة مِنهاج النُّبوَّة في الدَّعوة والبداءة بالأهم فالأهمِّ، وترتيب الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- وما يُبدأ به وما يُقدَّم، وذكرنا مسالك معاصرة قد جرى فيها شيءٌ من الخَلَلِ، قد يكون الخللُ كبيرًا ، وقد يكون دُونَ ذَلِكَ، وقد يكون تَبِعَهُ خللٌ عَظيم، وشقَّ شرًّا في الأمَّة كبير، ولأجل ذلك ترون أنَّ بعضَ هذه المسالك الخاطئة التي اختزلت الدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- في مناهجها وفي طرائقها كانت سببًا لبعض أنواع البلاء.
ما حصل كثيرٌ من إراقة الدِّماء إلا أُناسٌ كانت لهم دعوة، ولكن كان معها جهل، فتحمَّسَ أناسٌ حين انضووا إليهم ثم انفردوا عنهم، فبدؤوا بالتَّكفير والدِّماءِ والوُلُوغِ في النَّاسِ، وأوَّل مَن كفَّروهم مَن كانوا معهم، وَثَمَّ أُناس عَرَفُوا مِن أُمُورِ الشَّرعِ مَا عَرَفوا ودخلوا فيه، لكنهم على غير وجه صحيح، فرأينا منهم مَن وصل إلى الإلحاد أو قارب، ومَن شكَّكَ في أصول الشَّرائع وما يُبنى عليه الدين -نسأل الله السلامة والعافية.
وتتِّمَّةً لهذا؛ فقد ذكرنا مجموعة من هذه المسالك الخاطئة، أو ذكرنا إشارات -حتى نكون أدق في هذا- لهذه المسالك الخاطئة في الدعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- فنتمُّها بما يُكمِّلُ المقصود -بإذن الله جل وعلا.
فمن هذه المسالك الخاطئة: جعل الدعوة عقلانية.
وذلك أنَّ الإنسان إنَّما يُقرِّرُ ما يراه في نفسه، وما يتشرَّبه قلبُه، ولذلك تجد أنَّه في بعض الأشياء يقول: أنا مقتنع بكذا، أو غير مقتنع بكذا...؛ ويجادلون بالآراءِ، ويجعلون أصل ما يقبلونه وما يردُّونه هو العقل، وهذا لا شكَّ أنَّه من جهة الأصل مسلك فاسد مُضادٌّ للشَّرع، والله -عزَّ وجلَّ- إنَّما تعبَّدنا بالكتاب والسُّنَّة، وفي الكتاب والسُّنَّة ما لا يُدرِكَه العَقل بوجه من الوجوه، فكيف للعقل أن يُدركَ القبر وما يكون فيه من أحوال البرزخ؟
كيف للعقل أن يدرك أحوال الآخرة وما فيها من الصِّراط وميزان الأعمال وما يحصل من أهوال؟
فهذا هو الإيمان بالغيب والشَّهادة، ما يغيب عنَّا وما لا نعرفه، وما نحفظه ونراه؛ وهذا أعظم ما يُتم به الإيمان، وأصل الإيمان والإسلام هو على التَّسليم والانقياد لِمَا جاء به الشَّرع وممَّا عُرِفَ ولم يُعلَم.
ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكرت أمامه البقرة التي تتكلَّم: «فَإِنِّي أُومِنُ بِهِذا أنا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ، حتى ولو لم يكن مَألوفًا في العقلِ أن الدَّواب تتكلَّم، لكن ليُظهِرَ أمرًا، وهو: أنَّ الأصلَ الذي يجب أن يكون عليه أهل الإسلام هو الإيمان بالتَّسليم، ولذلك على الدَّاعية ألا يلجأ إلى الأمور العقلية في تقرير الأمور الشَّرعيَّة، فإنَّ هذا مسلك أهل الكلام، وهو مبدأ الضلال، فإنَّهم أرادوا أن يقرروا الشرائع بالعقول فحصل عندهم التَّشكيك في كثيرٍ من النُّصوص؛ فإذن العقل محكوم وليس بحاكم، والعقل تابع وليس بمتبوع، والمتبوع هو الشَّرع والكتاب والسُّنَّة، ولأنَّنا لو أرجعنا الناسَ إلى العقول فأي العقول هي؟ عقلي أو عقلك أو عقل فلان أو الآخر؟!
ولم تزل هذه العقول متغيِّرة متقلِّبَة متباينة بحسب بيئتها واتِّساع فهمها وقصره، فلأجل ذلك لا يُمكن أن يقرَّ للعقل قرار على أصل صحيح، فكان الأعظم والأتم هو كتاب الله -جلَّ وعَلا- وحسبنا قول الله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾[المائدة:3]، فلا يُحتاج إلى اجتهادات العقول وإلى نظرِ النَّاس.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ» .
وأبو ذر يقول: "لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَقْلِبُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا"
فينبغي على الداعية أن يجعل هذا مَسلكه، وإِلَّا فإن كانَ مسلك العقول فإنما ذلك هو مسلك المتكلِّمَين والمعتزلة الذين يُقدِّمون العقل ويجعلونه حاكمًا، وهذا مبدأ الضلال وأصله، وكثير من الشُّرورِ تدخل فيه.
وفي الحقيقة أن هذا أيضًا موجود لدى مَن تكون دعواتهم بما يسمى بالدَّعوات المستنيرة، وما تُسوِّق لها بعض القنوات الفاسدة؛ لأنَّه هو الذي لا يتصادم معهم، فيسوق لبعض الشَّهوات، ويسهِّل في بعض الممارسات، لأنَّ المقصود في ذلك أن يقتصر في ذلك على أشياء عقلية ومعاملات بشريَة، وبعض العبادات التي يراها لا تتعارض مع بعض أفعاله، فيحصل بهذا بلاء كبير.
فالحق أن يُدعَى إلى الكتاب والسنَّة، وألا يتجاوز ذلك بوجهٍ من الوجوه، وما عظَّم الإنسان عقله إلا ابتلي، ولا جعل الإنسان عقله أصلًا إلا تلِفَ، ومَن جعل عقله حاكمًا على الشَّرع ضلَّ.
جاء في حديث أبي هريرة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» ، جاء شخص وقال: أنا أدري أين باتت يدي. فقام وربطَ يديه في كمَّيه ونام، فلمَّا قامَ من نومه إذا يده في أُستِه.
قال أهل العلم: وفي هذا إشارة إلى أنَّ كلَّ من ضادَّ الشَّرع يُظهر الله -جلَّ وعَلا- خبيئته وعيبته، ويُبينُ عن بلائه ونقصه.
فينبغي أن يُعلَّم الناس ذلك، وأن يؤدَّبوا عليه.
وأذكر في هذا المقامِ أنّاَ كنَّا في مجلسٍ للشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله رحمة واسعة- وكان شرحًا اختصَّ به بعضَ الذين وَفِدُوا إليه في مُددٍ قصيرة -ونحن مِنْهُم- لعمدة الأحكام، فلمَّا كان يَشرح صفةَ الوُضُوءِ سألَ أحدُ الطلاب سؤالًا عن غُسل العينين، فقال: ما اقتنعتُ بكذا وبكذا في هذه المسألة!
فقام الشيخ وأقبل عليه –يعني: توجه إليه- ثمَّ عظَّمَ في شأنه وعاتبه، فما بقيت عبارة شديدة إِلَّا قَالها له، حتى قال -وهذه لا أنساها: "وإنِّي أخشى على نيَّتك"، فراجع نيَّتك في العِلم، مَن أنت حتى تقتنع أو لا تقتنع؟! ومن يقول أن مردَّ النُّصوصِ والأحكام إلى قناعتك أو قناعة فلان أو فلان؟!
وكنتُ قد وقع في نفسي بعد ذلك أن كيف للشيخ أن يُعَاتبه؟!
فلمَّا تعاقبت بنا الأيام عرفتُ أنَّ الشيخ قصدَ بذلك تأديبَ ذلك الطالب، وتأديبنا جميعًا على أنَّ العبارة أو اللفظ الذي يكون فيه شيء من التَّعظيم للعقل على ما جاء في الشَّرعِ أنَّه مبدأ البلاء، فأراد أن يقطع ذلك كله.
ولأجل ذلك ينبغي أن نُعنَ بمثل هذا على وجهٍ صحيح.
وكما قلت لكم: هناكأناسٌ ليسوا بالقليل ممَّن يُسوِّقون لدعواتهمعبر هذه الأمور وقد لا يُظهروها، فينبغي للداعية أن يعرف كيف يُلقي، وعلى أي شيءٍ يعتمد، ومن أين يَستقي.
وعلى الدعاة أيضًا أن ينبِّهوا مَن كان في ضمنِ دعواه تعظيم العقل على الشَّرعِ وقديمه عليه أن يُتنبَّه له؟، فإنَّ ذلك من أعظم ما يكون به البلاء والزلل.
ويتفرَّع على ذلك مَسْلَكٌ وَخِيمٌ وَطَرِيقَةٌ سَقِيمَةٌ وَهِي: أنَّ مَن لا يقبل العِلم يُوجَد مَن يدعو لهم، كمَن لا يقبل إِلَّا القُرآن، وقد جاء الحديث في التَّعظيم مِن شَأنهم ويسمون "القرآنيُّون" فحذَّرَ منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأُناس كثير لا يقبلون إلا ما جاء في القرآن، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ» .
فهذا أيضًا ربَّما كان نِتَاجًا من نتائج بعض الوقفات العقليَّة مع السُّنَّة حتى سهُلَ عليهم ردُّها، ثمَّ ردُّ ما جاء شيئًا فشيئًا حتى ردَّ السُّنَّة بجملتها.
فالقرآنيون في هذا المسلك، ويوجد مَن يُسوِّقُ لمثل هذه المعاني، وهي أيضًا خليطٌ من مسالك منحرفة من بعض أهل الأهواء والبدع، ونتاجٌ من بعض الدعوات الوثنيَّة التقت وكان هذا المزيج، وسوَّقَ له بعضهم، ولذلك تجد أن بعض من يعنون بالعلوم التَّجريبيَّة كالهندسة وغيرها، فكثير يعشقون مثل ذلك ويميلون إليه، وما ذاك إلا لعدمِ علمهم بالشريعة، فيظنون أنَّهم هم الذين يعرفون وغيرهم لا يعرف، وأنَّهم هم الذين عندهم النَّظر وعندهم الفَهم وأنَّ هؤلاء أناس بسطاء!
والله إنَّ العِلمَ والنَّظر إنَّما هو في كتاب الله -جلَّ وعَلا- وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفَهم سلفِ هذه الأمَّة أهل السُّنَّة والجماعة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ، فالقرون المفضَّلة بهم يحصل الاقتداء والانتكاء، وبهم -بإذن الله جلَّ وعلا- يسلم العبدُ من البلاء والشَّرِّ.
من المسالك التي وُجدت وهي كثيرةٌ الآن: تفسير العبادات بالعلوم الدِّنيويَّة والنَّفعيَّة، تجدهم يقولون: الصيام صحَّة، الصلاة نشاط، الحجّ خروج من متعلقات البلد،... إلى غير ذلك.
ولا تكاد تجد لهم تفسيرًا لمثل هذا، مَن يقول إنَّ هذا هو المقصود!
ألم تعلموا أنَّ هذا هو مسلك المتفلسفة الذين لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر؟!
ومن بعض الفئات والطَّوائف مَن تلقى شيئًا من ذلك، ولهذا فإنَّ ابن عاشور في تفسيره ربَّما جاء ببعض تعاريف أهل الفلسفة في مواطن من القرآن، وهذا لا شكَّ أنَّه خلل كبير!
فإذن حينما نتكلم عن العبادات نتكلَّم على أنَّها عبادة أمرنا الله بها، نطلب الأجر والثواب منها، وما عند الله في الدار الآخرة، وأمَّا ما يكون معينًا على ذلك من بعض النتائج أو الآثار الدنيوية فلا ينبغي أن تكون هي مبنى والفلك الذي ندور عليه في تقرير هذه الأعمال والعبادات، وهذا من أعظم الانحرافات التي توجد في هذا الوقت؛ بل إنَّه يوجد أُناس إذا كانوا يعرفون العبادات على هذا النَّحو كان ذلك سبب لأن يُرفع مكانه وأن يظن أنّضه جاء بما لم يأتِ يه غيره؛ وهذا ليس بصحيح!
صحيحٌ أن من الحِكَمِ التي من أجلها شُرعَت هذه الشَّعائر مصالح دنيوية، ولا شكَّ أن الله -جلَّ وعَلا- جاءنا بدين الفطرة الذي يَقُومُ بهِ الدِّينُ والدُّنيا، وتَسلَم بهِ حَيَاتُنا، لكن لا يمكن أن يُجعلَ مَبنىَ هذه العبادات هو تلك المصالح؛ لأنَّ هذا لا يخرج عن أن يكون خروج عن دائرة الحق، وعن الاتباع والاهتداء والاستسلام لله، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، وهو مَسلكٌ مِن مَسالِكِ المنحرفين؛ بل هو أصل كلام أهل الفلسفة.
وأذكر بعض الكتب النَّافعة في الردِّ على هذا، مثل: الإسلام النَّفعي، وهو جيد في هذا الباب، وفيه رسالتان -أظنها لأبي الأعلى المودودي في الهند- كانتا من أوائل الرسائل التي وُجدت في التَّنبيه على هذا الخلل الذي وُجد في الوقت المعاصر.
{أحسن الله إليك..
الذين تأثَّروا بهذا المسلك العقلاني لهم بضاعة مزجاة فيما يخص المنقولات، أمَّا المعقولات فقد يكون لديهم نصيب في العلوم الماديَّة، وقد يوافق هذا انبهار بالغرب، وانبهار بالفلاسفة، فإذا أردتَّ أن تدعوهم إلى الإسلام وإلى السُّنَّة تجد أنَّهم يقرُّون المسالك العقليَّة، وديننا فيه أمور أُقرَّت بطريقة عقليَّة؛ فهل يمكننا أن نخاطبهم بهذا الخطاب، لكونهم لا يفهمون إلا بهذه الطريقة}.
أحسنت، وجزاك الله خيرًا، والإخوة المستمعين والمشاهدين والمشاهدات.
ما ذكرته هو مكمِّلٌ لِمَا نحن بصدده، وهو أنَّنا إذا قلنا: إنَّ الدَّاعيةَ إلى اللهِ -جلَّ وعَلا- يتجنَّب المسالك العقلانيَّة في تقرير الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- فالكلام هنا على وجه الابتداء والتَّأصيل، أمَّا إذا احتاج إلى محاورة مَن ابتُليَ بمثل هذه المسالك فهي بقدر الحاجة، فهذا مِثلَ الدَّواء الذي يَصرِفُه الطبيب لمَن يحتاج إلى ذلك وربَّما كان فيه بعض الأضرار، لكن يُتوقَّى وللمصلحة الأكبر فيها.
فهذا مَسلك مَوجودٌ حَتَّى عند أهل السُّنَّة، ولأجل ذلك فإنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ناقشَ في كتابة العقيدة الحمويَّة والتادمريَّة المتكلِّمين بالعقل الذين أرادوا أن يستدلوا به على إنكار بعض الأسماء والصفات وما حصل فيها من فتنة؛ فردَّ عليهم من مَنطِقِهِم، فإذا احتيج إلى ذلك لعارف بالشَّرع عالم بما يقول، يمكن أن يضبط عقله بما لا يكون فيه خلل أو زلل، أو أن يُستدرَج، وأمِنَ أن يُفهم حديثه على وجهه، وألا يتَّسع ذلك أو يكون أصل له؛ فهذا يكون جيدًا ومناسبًا.
إذن تكلمنا عن الدَّعوة العقلانيَّة، وتكلمنا على ما يتعلق بالقرآنيين، وتكلمنا تبعًا لذلك على ما يكون من الدعوة غلى الإسلام النَّفعي، أو المصالح الدنيوية، وجعل ذلك قطب أساس العبادات والعمل إلى الله -جلَّ وعَلا- والتَّعبُّد له.
نأتي إلى مسألة مهمَّة، وهي مسألة البيعَة في الدَّعوة إلى الله -سبحانه وتعالى.
هذه المسألة من المسائل المعاصرة والتي لم تكن ظاهرة في المجتمعات السَّالفة، لكن لمَّا تقمَّصت بعض الانتماءات والأحزاب أمرين متباعدين هما:
الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا- وسلوك مسالك السياسة ونحوها؛ وما يلزم من أجل ذلك من إرادة الإبقاء على هذا التَّجمُّع في تماسكه ابتدعوا بدعة وهي البيعة، سواء كانت سريَّة وهذا أغلب ما يكون عند مثل هذه الجماعات، أو كانت علنيَّة؛ فلا يفرق الأمر في حكمه.
وحينما نأتي إلى الأصل فإنَّ الأصل في البيعة هو بيعة وليِّ الأمر، وهذا جاء به الشَّرع في حديث عبادة بن الصامت «بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»
«وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِى عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً -أو على شعبة من النفاق».
إذن هي بيعة، والبيعة لولي الأمر حق مُسْتَحَقٌ، جاء به الشَّرعُ، ولا يمكن للبيعة أن تكون مُتَعَدِّدَةً، ولأجل ذلك جاء في الحديث «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»
نأتي إلى هذه البيعات الدَّعويَّة التي توجد في هذا الزَّمان؛ فنرى أنَّها ليس لها أصل، ولا أساس لها من الشَّرع؛ بل هي مُضادَّة للشَّرعِ، فإنَّ حقيقةَ البيعة لوليِّ الأمر هو حصول الجماعة والاجتماع والائتلاف وعدم الافتراق، والإبقاء على مجتمعِ الإسلام مجتمعًا متَّحِدًا يسمع لوليِّ أمره ويُطيعه، فلا يحصل بسبب ذلك المواجهة ولا الاقتتال، ولا تكاثر الفئات ولا تَواجُه المجتمعات.
فلأجل ذلك كانت هذه بيعة خاطئة ومُحرَّمَة ومُبتدَعة، ولم يأتِ بها نصٌّ، وهي مُضادَّةٌ لأصلِ ما جاء في البيعة، فإنَّ البيعة لوليِّ الأمر الذي جعلَ الله -جلَّ وعَلا- له الولاية والسُّلطة وأناطَ به الحكم للمسلمين، وكثير من أهل العلم نصُّوا على حكمها وأبانوا عن حُرمتها ، ومِن أشهر هؤلاء الشَّيخ ابن باز والشَّيخ ابن العثيمين، والشَّيخ محمد ناصر الدِّين الألباني، وغيرهم كثير، وهذا أمرٌ ظاهرٌ لأقلِّ مَن له بضاعة في الشَّرع وعلم به فإنَّه يعلم ذلك.
ثمَّ إنَّ البيعةَ الشَّرعيَّةَ إنَّما هي لأهلِ الحلِّ والعَقد، فإذا بايعوا وليِ الأمر وجب على عموم النَّاس الطَّاعة، والواقع في مثل هذه البيعات -حتى لأفرادهم- ليأمنوا انقلابهم عليهم أو تفلَّتهم منهم، والخروج عن محيطهم، ويتبع هذا أنَّ مثل هذه البيعات يكون فيها مِن الثَّورة على النَّاس والمعارضة، وحصولِ الشَّرِّ الكثيرِ.
فلأجل ذلك نقول: هذه البيعة على هذا النَّحوِ بيعةٌ مُحرَّمةٌ، ولا يجوز بوجهٍ من الوجوه ولا أصل لها في الشَّرع البتَّة، وهي بيعة أعضاء الحزبِ لرئيسهم، سواء كانت أحزاب دعويَّة أو نحوها، وهذا مشهور في بعض التَّجمعات الدَّعويَّة، فكلُّ تجمُّعٍ دعويٍّ توجد فيه هذه البيعة فهي بيعة محرَّمة ولا أصل لها، وهي مخالفة لِما جاء في كتاب الله، وفي سنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
وعلى كلِّ حالٍ فإن قال قائل: ما التَّوجيه فيما جاء مِن تأميرِ الأمير في السَّفر؟ حيث قد جاء فيه بعض الأحاديث عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
فنقول: تأميرُ الأميرِ لئلا يختلفوا عليه فيما يحتاجون إليه في أمور سفرهم ليس فيه بيعة، وإنَّما جاء الشَّرع بأن يجعلوا لهم قائدًا أو أميرًا يرجعون إليه فيما يحتاجون إليه في النزول أو الذَّهاب أو الخروج، لئلا يحصل بينهم اختلاف في ذلك.
وهذا الأمير سواء سمَّيته أميرًا أو قائدًا أو مَسؤولًا أو نحو ذلك فالأمر فيه سهل؛ قد جاء فيه حديث وإن كان مختلف فيه ولكن حسَّنه بعضُ أهل العلم وهو محمولٌ على هذا، فليس للأمير هذا ولاية مُطلقة ولا حُكمٌ تامٌّ، ولا قضاءٌ على وِلاية الإمام أو وليِّ الأمر أو الولِّي الأعظم؛ فليس في هذا شيءٌ مِنه البتَّة، وإنَّما هو مُتعلِّق بما يحتاجون إليه في مَصَالِحِ سفرهم.
إذن هذا ليس فيه مُستَمسَك لمن قد يتشبَّثُ في بعض الشُّبهات ويظنُّ أنَّها قد تدعمهم فيما صاروا إليه وذهبوا إليه من هذا العبث.
هذا مِن أصل الكلام على البَيعةِ في هذه التَّجمعات، فإذا جئتَ إلى تفاصيل الكلام فيها ونحوه؛ فتجد في ذلك مُخالفة عظيمة أيضًا؛ لأنَّ أكثر هذه البيعات يكون فيها مُبايعة على أمر مخالفٍ للشَّرع ومضادٍّ للدِّين، وربما كان عندهم أُصول مُنحرفة، وهي أصل ما يحصل عليه التَّبايع، ومن ذلك أيضًا تقديم رأي هذا الْمُبايَع على وليِّ الأمر، فعندهم بعض المخالفات التي لا يُبنى أصلها على شرع، ففيها مخالفات كثيرة، وتجدون أنَّ عندهم مِن البدعِ والمحدثاتِ ما يحتفُّ بها من الأخطاء، وتعظُم تلك الأخطاء الشيء الكثير.
هذا ما يتعلَّق بالبيعة في الدَّعوة إلى الله -جلَّ وعَلا.
ثَمَّ أمرٌ مهمٌّ؛ وهو: ممَّا ينبغي للدَّاعية في حال دعوته ألا يربط النَّاس بنفسه، وإنَّما يربطهم بالعلماء الرَّاسخين، فهذا مَسلكٌ صحيحٌ قويمٌ على طريقةِ أهلِ السُّنَّة والجماعة، فلمَّا جاء في الحديث «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «هِيَ الْجَمَاعَةُ»، قيُرجَعُ في تفسيرِ ذلك إلى ما قاله الأئمة الكبار كسفيان وأحمد.
والمقصود في ذلك: أنَّه لمَّا كان لهم مِن العلمِ بالأحكامِ ومعرفةِ المسائل ما يُؤمَن بالصُّدورِ عنهم أن يكون الإنسان على جادَّة الصَّواب، أو على طريقٍ معذورٍ فيها، حتى ولو أخطأ ذلك العالم فهو ممَّن إذا اجتهدَ فأخطأ فله أجر واحد، فإنَّ هذا:
أولًا: يأمنُ أن يدعو الدَّاعي إلى نفسه، وكم مِن النَّاس يدعو وفي حقيقةِ الأمر إنَّما يُريد إشهار نفسه وإظهارها ونحو ذلك على ما تقدَّم مما ذكرناه قبل قليل، أو ممَّا مرَّ معنا في المجلس الماضي من قوله ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 108]، فالدَّاعية يدعو إلى الله لا إلى نفسه.
ثانيًا: الدَّاعية لا ينفك عن خللٍ أو جهلٍ في بعضِ المسائلِ أو خطأ يفوت عليه؛ فإذا علَّقهم بنفسِه وخلَلُه كثيرٌ وخطأه كبير؛ فإنَّ هذا يُفوِّتُ عليه قدر عظيم، ولكن إذا علَّقهم بأهلِ العلم الرَّاسخين فإنَّ ذلك أسلمَ مِن كثير من الخطأ والزَّللِ.
وحينما نقول إنَّه يرجع إلى أهل العلم إنَّما يكون ذلك فيما يصدُر عنهم في المسائل الشَّرعيَّة، ولم يُرَد بذلك أن يُفتات حقَّ وليِّ الأمر الذي له الولاية العظمى في السَّمعِ والطَّاعةِ والانقيادِ له، والإثباتِ لولايته وما يتبعها مِن أحكامٍ وما يلزم الرَّعيَّة فيها من حقوقٍ للرَّاعي، فإنَّ ذلك في قولنا بالرُّجوعِ إلى أهل العلم الرَّاسخين إنَّما هو في الصُّدور في المسائلِ والتَّفقُّه فيها، ولم نقصد بذلك الافتيات لحقِّ ولي الأمر ومَن جعل الله -جلَّ وعَلا- له الولاية، فقد قال الله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59] ، فحقُّهم مَقْرونٌ بحقِّ الله -جلَّ وعَلا- وحقِّ رسوله، فكان باقيًا ثابتًا إلى يوم القيامة. فهذا ما يُمكن أن يُكمَّل به هذا الموضوع.
ولذلك كان مِن الأهميَّة بمكان أن نتكلَّم في مسألة مهمَّة وهي: أنَّ الدَّاعية إلى الله -جلَّ وعَلا- في أثناء دعوته أن يكون حريصًا على تعليم النَّاس، فإنَّ الوعظَ تذكيرٌ وحثٌّ للنُّفوسِ، وحثُّ النُّفوسِ إذا لم يكن معه علم يحملها على الخير والهدى والبرِّ والسنَّة فإنَّها إمَّا أن تضعُفَ فتبقى على غيِّها، وإمَّا أن تُشحَذَ الهمَّة بدونِ علمٍ فيقع منها الخطأ والإحداث والبدع ونحوها، لكن إذا كان الدَّاعية بقدرِ ما يحثُّ النَّاس ويُصلح قلوبهم ويقرِّبهم إلى الخير ويعلمهم ما يليق بهم؛ فإنَّ ذلك -بإذن الله جلَّ وعَلا- مِن أعونِ ما يكون للعبد سلامةً واستقرارًا.
ولذلك لمَّا كان الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وهو له فقه عجيب في الدَّعوة، فلم يدعُ إلى نفسه، وله في هذا مواقف وأحاديث كثيرة، وكان منها تنبيهه في مسائل في كتاب التوحيد لمَّا قال: "الدَّاعية إلى الله يدعو إلى الله لا إلى نفسه"، ومن أعظم ما في كتاب التَّوحيد أنَّه لم يجعل له مُقدِّمة، ولم يزد عن أن ضمَّنه الآيات والأحاديث، هذا في أصل الكتاب باستثناء المسائل التي ذكر فيها بعض الفوائد. لــماذا؟
ليدرِّبَ ويُعلِّمَ المخالِفَ والموافِقَ أنَّ الدَّعوة إنَّما هي إلى الله وليست إلى نفسه، فليس الحديث بتجميل العبارات من عنده حتى يُقال:
ما أعظمَ كلامه!
وما أعظم حديثه!
وما أتمَّ أمره! وما أفقهه!
لا، إنَّما أراد أن يُبصِّرَ الناس بالخير، وتبصيرهم يحصل بدلالات الكتاب والسُّنَّة -وهي ظاهرة- وقرَّبَ بعضها ببعض المسائل أو ببعض اللآثار، وكان ذلك كافيًا.
ولو رأيتم كتاب الأصول الثلاثة، وهو ما يتعلَّمه آحاد النَّاس، فأعظم ما يكون التَّعليم هو تعليمُ العبدِ ربَّه ودينَه ونبيَّه الذي يكون به سلامته والذي يُسأل عنه في قبرهِ، ويكون به نجاته عند ربِّه -جلَّ وعَلا.
فأعظم ما يُعنى به الدَّاعية هو التَّعليم، فيعلم النَّاس ولا يكتفي بالوعظِ ولا بالأحاديث العامَّة، ولذلك لو أنَّ الدَّاعية جعل له مجلسًا يُعلم فيه المسائل والأحكام والعبادات الظَّاهرة، والمعاملات المهمَّة؛ لكان ذلك من أعظم ما يُفيد الناس في حاضرهم وفي مآلهم وما ينقلبون إليه من أمورهم، ولا تجد أحدًا أسعد بشيءٍ من سعادة مَن كان بإزائهم أو في مسجدهم أو بقريتهم طالبُ علم يقرِّبُ لهم الخير ويسهِّله لهم ويُعلمهم ما يهمُّهم في أمور دينهم وعبادتهم ومعاملتهم وما يكون من حقوق أزواجهم، ونحو ذلك ممَّا هو لائق بهم في هذا الباب.
فهذه من الأشياء التي ينبغي التَّنبيه عليها، وكم حصل للنَّاس من ويلاتٍ ومن بلاءٍ عظيمٍ ومن شرٍّ مستطيرٍ لمَّا دخلَ الجهلُ على الدَّعوةِ إلى الله -سبحانه وتعالى- فإن شئتَ مِن العهد الأوَّل أو هذا العهد، فالخوارج كانوا من أعبد الناس ومن أصلحهم، وخرجوا على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكفَّروهم وحكموا عليهم بالشَّرِّ، والصَّحابة لأنَّهم أهل علم لمَّا سئلوا عن كفرهم قالوا: "من الكفر فرُّوا" فلم يحكموا بكفرهم، وهذا هو الأصل في مذهب أهل السُّنَّة والجماع، وهو عدم تكفيرهم.
والخوارج إنَّما أوتوا من الجهل، فقالوا: لا حكم إلا لله، فكيف يُحكَّم الرَّجال!
لم يفهموا! ولمَّا جاءهم ابن عباس وراجعهم، قال: "قال الله -جلَّ وعَلا: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [المائدة:95]".
فقالوا: إنَّ عليًّا قاتل فلم يستحلَّ أموالهم ولم يستحل نسائهم، فإن كان قد حَلَّ قتالهم فقد حَلَّ سبيهم.
فقال: فإنَّه قاتل أمَّكم – أي: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- فإن زعمتم أنَّها ليست بأمِّكم فقد كفرتم، وإن زعمتم أنَّها أمُّكم فما حلَّ سباؤها.
فما كان منهم إلا أن رجع ثلثاهم.
فينبغي أن يُعلم أنَّ العلم هو النَّجاة، والآن في هذه الأزمنة كل مَن تحدَّثنا عنهم في الإشكالات أكثر ما أوتوا إنَّما كان من الجهل، وأعظم ما يظهر الجهل الآن في هؤلاء، سواء الذين يسبُّونَ أصحابَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وعندهم في ذلك مِن الجهالاتِ ما الله به عليم.
ولا يقولنَّ قائل: كيف وصل بهم الحدُّ إلى هذا، ولا يستهزئ بهم، فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئً﴾ [المائدة:41]، واحمَدِ اللهَ عَلى العَافيةِ، وَكُنْ طالبًا لهدايتهم، وباذلًا لِما في وسعك من رجوعهم إلى جادَّة الصَّواب الذي به نجاتهم.
مثل ذلك أيضًا ما حصلَ عند مستبيحي الدِّماء الذين ظنُّوا أنَّه ليس أحد أتمَّ منهم، وهم خوارج هذا العصر، وهم أسوأ مِن الخوارج المتقدِّمين، فإنَّ خوارج العصر كانوا أهلَ عبادةٍ وأهلَ خشيةٍ وأهلَ ورعٍ، فهؤلاء لا علم عندهم، ولا ديانة ولا صلاح، ولذلك تجد أن أقلَّ متكلِّم فيهم إذا تكلَّمَ يكون أضعف ما يكون، بل إنَّهم لَيتكلّضمون فيُخطئون في الآيات، فهذا كثير في مخاطرهم التي وردت!
يُخطئون في الآيات التي بها تصح الصَّلاة! وأنا أظن أنَّ من يُخطئ في بعض الفاتحة سيُخطئ في الفاتحة، ثم هُمْ بَعدَ ذَلِكَ أَسرَفُوا حَتَّى خَطَّئُوا النَّاس، ثمَّ كفَّروهم، ثمَّ حكموا على العلماء بالجهل وقضوا عليهم، فلم يَسلم منهم أحد، وآثار ذلك هي استباحة الدِّماء، وما يتبع ذلك من البلاء الذي جلب للنَّاس شَرًّا كبيرًا، ما من شرٍّ في هذا العصر عظُمَ إلا جِهَتِهم، من التَّسلُّطِ على بلاد المسلمين، ومن حصول هذه البليَّات، وحصول التَّفرُّق في الدِّيار، وضياع الدِّين، وزيادة الجهل، وتسلُّط المفسدين لمَّا رأوا هؤلاء فقالوا: هذا هو الدِّين، ولا يسعنا إلا أن نُبعدَ النَّاس عنه! فدعوا إلى الجهل ، ووافق ذلك ما في نفوسهم من البلاء والفتنة -نعوذ بالله من ذلك.
إذن نقول: ملاكُ ما مرَّ كله أنَّ متى ما كان الدَّاعية مستعصمًا بالعلم مستمسكًا به هو ديدنه وطريقه في هداية النَّاس؛ فإنَّ ذلك -بإذن الله جلَّ وعَلا- يكون أسلم له، وأسلم لمن يتَّبعوه، فيكون على الخير والهدى -بإذن الله جل وعلا.
ثَمَّ مسألة أضعها بينَ أيديكم، ثم تكون محور الحديث -بإذن الله جلَّ وعَلا- في المجلس القادم، وهي: الوسائلِ الدَّعويَّة هل توقيفيَّة أو اجتهاديَّة، وما يدورُ في فَلَكِ هذا الحديثِ، ربَّما يكون استفتاح حديثنا -بإذن الله جلَّ وعَلا- في المجلسِ القادمِ، ويكونُ تبعًا له ما يتعلَّق بالدَّعوة من خلالِ وسائلِ التَّواصلِ الاجتماعي الآن، ومِن خلالِ الوسَائلِ الإلكترونيَّة وما مَاثلها، فإنَّه يكون الحديث فيها قريب جدًّا، لكن يحتاج إلى شيءٍ من التَّفصيلِ، فلعلَّنا -بإذن الله جلَّ وعَلا- أن نجعله مُبتَدَأ حديثنا في المجلسِ القادمِ.
{حبذا لو تضيف لنا الدَّعوة إلى الجنس الآخر}.
لماذا عبَّرتَ بقولك: "الجنس الآخر"؟
نقول: الحديث عن دعوة النساء حديث مُهم، ولعلَّك تذكِّرنا به بعد أن ننتهي ممَّا ذكرنا، وسيكون أيضًا في اللقاء القادم إن أمكن، وإلا سيكونُ في مستهلِّ الحديثِ الذي بعده.
أسألُ الله لي ولكم التَّوفيقَ والسَّدادَ، وأن يجعلَنا وإيَّاكم مِن عباده الموفَّقين، وأن يعصمنا من الزَّللِ والخَللِ، ونعوذُ بالله أن نُرَدَّ على أعقابنا أو أن نُفتن، وأسألُ الله أن يُتمَّ علينا نعمتَه، وأن يحيينا على الإسلامِ والسُّنَّةِ، وأن يحيي بنا الإسلام والسُّنَّة وأن يُميتنا على ذلك، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه، وصلَّى الله وسلمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمينَ.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك