الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

7888 12
الدرس الحادي عشر

تفسير جزء تبارك

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسَلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمَّا بعدُ:
فهذا هو اليومُ الرَّابعُ والعشرون من الشَّهر الثَّالث، للعام التَّاسع والثَّلاثين بعد المائة الرَّابعة والألف للهجرة النَّبويَّة، على صاحبها أتمُّ الصَّلاة والتَّسليم.
حيَّاك الله يا شيخ سعيد، شيخ صهيب، شيخ عبد الكريم، شيخ مالك، حيَّا الله الجميع.
تقدَّم في المجلس الماضي كلامٌ عن بعضِ الآيات مِن سورةِ الجنِّ، ونستمع الآن إلى المقطع التَّاسع: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ .
﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً﴾ .
﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ﴾ ، ذكر بعضهم أنَّ المساجد هي: الأماكن التي خُصَّت فيها الصَّلاة، وهي المساجد المعهودة، وخصَّها بعضهم بالحرم المكيِّ.
والصَّحيحُ أنَّ كلَّ مكانٍ يُصلَّى فيه، وكلُّ مسجدٍ يُصلَّى فيه؛ لا تُصرف فيه العبادة إلا لله تعالى.
وقال بعضهم: يُراد بها الأعضاء السَّبعة، والصَّحيح كما هو المشهور: إنَّها أماكن العبادة في أيِّ مكانٍ كانت، وفي أيِّ وقتٍ كانت، وأنَّ العبادات لا تُصرف فيها إلا لله تعالى.
وفي قوله تعالى: ﴿فلَا تَدْعُو﴾ الدُّعاء يُقسِّمه أهلُ العلم إلى قسمين، أحد يعرف منكم؟
{أحسن الله إليك. ينقسم إلى: دعاء المسألة}.
والقسم الثَّاني؟
{دعاء الطَّلب}.
دعاء المسألة: أن يدعو العبدُ ربَّه، يطلب العبدُ من ربَّه: يا رحمن ارحمنا، يا كريم أكرمنا، وهلم جرا.
ودعاء العبادة: أن يتعبَّد العبدُ لربَّه بالصَّلاةِ، بالزَّكاةِ، بالحجِّ، وهو بذلك يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه.
فجميع أنواع العبادة تُصرف لله تعالى، وهذا مِن تَحقيق التَّوحيد، ولهذا قال هنا في الآية: ﴿فلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ ، يشمل هذا كما تقدَّم جميع أنواع الدُّعاء، فمَن دعا غير الله فقد خرج من هذه الآية، مَن دعا نبيًّا مُرسلًا، أو ملكًا مُقَرَّبًا، أو كما يُسمَّى وليًّا أو ضريحًا؛ كل هذا ينافي التَّوحيد.
وهذا ممَّا يُؤكِّد على أنَّ الواجب على مَن يدعو النَّاسَ أن يُعظِّمَ جَناب التَّوحيد، وأن يُعظِّمَ شأنَ التَّوحيد، توحيد العبادة -وهو توحيد الألوهيَّة- وتوحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصِّفات، ولهذا كان مِن تَناقضِ العرب -كما يقول بعض المفسرين: أنَّهم أقرُّوا بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فمَن أقرَّ به يلْزمه أن يُقرَّ بتوحيد الألوهيَّة، إذا آمن بأنَّه الخالق المدبِّر الرَّازق المحيي المميت، فيلزم من ذلك أن يكون مُستحقًا للعبادةِ، لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وأنَّه لا شبيهَ له، ولا ندَّ له، ولا مثيلَ له لا في أسمائه ولا في صفاته.
الآية التي بعدها: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ قالوا: التَّعبير هنا بـ ﴿عَبْدُ اللَّهِ﴾ مِن باب الإيضاح، ومِن باب أنَّه مهما بلغ في الفضل والكرامة إلا أنَّه لا يزال عبدًا لله -عزَّ وجل.
﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً﴾ لِبَدًا: بعضهم فوق بعض، وقوله هنا ﴿كَادُو﴾ ، الضمير يرجع إلى مَن؟ سياق الآيات وحال الخبر يدل على أنَّه يرجع إلى الجنِّ، لكن ذهبَ بعضُ أهلُ التَّفسير إلى أنَّه يرجع إلى المشركين؛ لأنَّهم اجتمعوا وتظاهروا عليه، وتكاتفوا على صدِّ دعوِته، وعلى ردِّ ما يدعو إليه، وبكلِّ حالٍ -كما سبق في مجلس غير هذا- إذا كانت الآية تحتملُ أكثرَ من معنًى؛ فلا مانع أن يُقال بجميع المعاني، ولا يُخرج منها معنًى والآية ولا تشمله إلا بدليل.
﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً﴾ ، قال أهلُ التَّفسير: إنَّ الجنَّ لما سمعوا القرآن الكريم؛ كاد بعضهم أن يركبَ فوق بعض حرصًا منهم على سماع القرآن الكريم، وفي هذه الآية تذكيرٌ لنا بآيةِ الأحقافِ، حيث ذكرَ الله حِرصَ الجنِّ وعِنايَتهم وتقبُّلَهم لدعوةِ الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- وذكر أمورًا وقعت من الجنِّ، قد أُسمِّيها: من آدابِ الجنِّ في طلب العلم، وذلك عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [الأحقاف: 29].
من آداب الجنِّ الذين وَفِدوا على الرَّسول صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، أنَّهم لمَّا حضروا قالوا: أنصتوا، أي: أمر بعضُهم بعضًا بالإنصات؛ حتى يعوا ما يسمعون، ويفهموا ويعقلوا ما يُتلى عليهم.
﴿قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ﴾ أدب آخر، لم يقوموا أثناء مجلس العلم، بل ما زالوا باقين حتى انتهى المجلس وانقضى.
﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ ماذا فعلوا؟ ﴿وَلَّوْ﴾ لاحظ التعبير، ﴿وَلَّوْ﴾ ، أي: أسرعوا وتنادوا إلى حضور مجلس العلم، وأوصى بعضهم بعضًا بالإنصات.
أدبٌ ثالثٌ: لم يقوموا عن المجلس، بل استمروا في جلوسهم حتى انتهى المجلس، فإنَّ الفائدةُ تتمُّ إذا حضرَ الطَّالبُ المجلسَ كلَّه، قد يقوم في آخره؛ فتفوته فائدةٌ نفيسة تعدِل ما سبق، وقد يقوم في وَسَطه؛ فيُبتَر عليه العلم، أو تنقطِع عليه الفائدة الكاملة.
﴿وَلَّوْ﴾ ، أي: بادروا وأسرعوا، ونستفيد من هذا أنَّ الإنسان إذا علِمَ ووعى وفَهم فعليه أن يبادر إلى العمل.
﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم﴾ بدءوا بعدما علموا بأنفسهم، بدءوا بإنذار قومهم، ولهذا قال الله للرَّسول صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، وفي قوله تعالى في سورة التَّغابن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارً﴾ [التحريم: 6]، قال علي رضي الله عنه: "علموهم الخير"[96].
﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم﴾ لماذا كان الذهاب إلى قومهم؟ ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ تقدَّم في مجلسٍ سابقٍ أنَّ النَّذارة تشمل الإخبار بالخيرِ ليلزموه، والإخبار بالشَّرِّ ليحذروه.
أخذنا آية في البشارة، يُعبَّر بها عن التَّبيشر بالخير للزومِه، والإخبار بالشَّرِّ للحَذَر والتَّحذير منه.
{للتَّحذير: ﴿فَبَشِّرْهُم بعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق: 24]}.
وفي التَّرغيب بالخير ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 101].
هذا من آداب الجنِّ ومن حرصهم على سماع الخير.
هناك أيضًا بقيَّة لخبرهم في سورة الأحقاف، حتى تكمل الفائدة في هذا المبحث: ﴿قَالُوا يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: 30].
 لاحظ أدب الجنِّ في دعوتهم لقومهم، قالوا: ﴿يَا قَوْمنَ﴾ ، والدَّاعي إذا ذَكَرَ صِلته بالمدعو كان أقرب إلى قبول المدعو لما يُدعَى له، ولهذا دائمًا من السِّياسة الدَّعويَّة أن يَنهَجَ الدَّاعي نهجَ الأنبياءِ -عليهم الصَّلاة والسَّلام- فإبراهيمُ -عليه السَّلام- لما دعا أباه قال: ﴿يَا أَبَتِ﴾ ، ﴿يَا أَبَتِ﴾ ، ﴿يَا أَبَتِ﴾ ، نوحٌ -عليه السَّلام- قال: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَ﴾ [هود: 42]، النَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- قال: «أَيْ عَمُّ قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ»[97].
وهنا قالت الجنُّ: ﴿يَا قَوْمنَ﴾ ، لكن لو قالوا مباشرة: (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)، نعم هي دعوةٌ للخير، لكن تصدير النِّداء، ونداء المدعوِّين بقرابتهم للدَّاعي؛ يجعلهم أكثرَ قابليَّة.
﴿يَا قَوْمنَا أَجِيبُو﴾ ، ما فكَّروا ولا تشاوروا؛ بل قالوا مباشرة: أجيبوا داعي الله؛ لأنَّه خيرٌ محضٌ، وفيه التَّحذير من الشَّرِّ كلِّه.
وفي قوله: ﴿يَا قَوْمنَ﴾ أدبٌ خامس وهو: أنَّهم بدءوا بالقرابة.
الأدب السَّادس: ﴿أَجِيبُو﴾ ؛ لأنَّ هذا أمرٌ فيه الخير كله، خير الدُّنيا، وخير البرزخ، وخير الآخرة.
﴿دَاعِيَ اللَّهِ﴾ ربطوا هذه الدَّعوة بالله تعالى، وهذا مِن أَساليب التَّحبيب والتَّرغيب؛ لقبول ما يدعو إليه الدَّاعي.
﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾ إجابة وإيمان، بالقلب والجوارح.
لعلنا نستمع إلى المقطع مرة أخرى.
﴿قَالُوا يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ .
﴿يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى﴾ لاحظ أنَّ عندهم عِلم، يعلمون أنَّ قومهم يعلمون بالكتاب الذي أُنزل على موسى، ويعلمون بنبوَّة موسى -عليه السَّلام- وأنَّ هذا القرآن الذي سمعوه مُصدِّقٌ لما بين يديه، ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ، فدعاةُ الجنِّ لمَّا دعوا قومهم، ربطوا دعوةَ الأنبياءِ بعضها ببعضٍ، وأنَّ دعوةَ الأنبياء كلَّها واحدة، وأنَّ هذا الكتاب يُصدِّق ما قبله، وأنَّ الكتاب السَّابق يُخفَى عن اللَّاحق، وهذا مِن فِقههم في حُسن سلوك دعوة قومهم، وهذا ممَّا يُرغِّب المدعو في دعوة الداعِ له؛ لأنَّ عندهم علم بنبوةِ موسى، وإلا فهم ما أخبروهم عبثًا، إنَّما أخبروهم لأنَّهم يعرفون أنَّ موسى -عليه السَّلام- نبي، وأنَّه أُنزل عليه كتاب، وأنَّ هذا الكتاب الذي سمعناه آنفًا أو قريبًا يصدِّقه ما أنزل الله على موسى، يَهدِي إِلَى الحقِّ وإلى طريقٍ مُسْتَقِيمٍ.
هذا أيضًا يؤكِّدُ حرصَ الجنِّ الذين سمعوا القرآن على الخيرِ، ويؤكِّدُ حبَّهم للخير، وحبَّهم لدعوةِ قومهم إلى الخير.
أيضًا هناك مقطع ثالث في الأحقاف يذكر الله تعالى فيه خبر الجنِّ عند سماعهم الخير، وطريقتهم في دعوةِ قومِهم، في قوله: ﴿يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الجاثية: 31].
أيضًا نفس النِّداء، ﴿يَا قَوْمنَا أَجِيبُو﴾ كما تقدَّم: أجيبوا، أي: لا تترددوا ولا تستشيروا؛ لأنَّ هذا خيرٌ محضٌ، لا تجيبون زيدًا لأنَّه ثري، أو فلانًا لأنَّه كذا؛ أجيبوا هذا الرَّجلَ الذي يدعو إلى الله وأرسله الله، والنَّتيجة: ﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ، كلُّ هذا ترغيبٌ وترهيبٌ، ودائمًا إذا تأمَّل الإنسانُ في هذا المسلك، يجد أنَّه جمع حُسنَ الأسلوب في دعوةِ المدعوِّين، والدَّاعي إذا تحبَّب إلى قومه وبيَّن لهم ما يترتَّب على الإجابة من الخير، ورغَّبهم فيه، وفي المقابل ما يترتَّب من الشَّرِّ وحذَّرهم فيه؛ كان ذلك أدعى لقبولهم.
للفائدة: هذه الآية ﴿وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ذهب بعض المفسَّرين إلى أنَّ ثواب الجنِّ في الآخرة: النَّجاة من النَّار فقط وليس الجنَّة، لكن هذا القول ردَّه أهلُ العلم وقالوا: جاء في سورة الرحمن مَا يؤكِّد دخولهم الجنَّة ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ ولَا جَانٌّ﴾ [الرحمن: 56].
بقي أيضًا مقطعٌ رابعٌ في سورة الأحقاف يذكر الله تعالى فيه خبرَ الجنِّ في أسلوبهم في دعوة قومهم، لعلنا نستمع له الآن.
﴿وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الجاثية: 32].
 كما تقدَّم أنَّ الجنَّ حذَّروا قومهم من مَغِبَّةِ العِناد والشِّقاقِ وعدم القَبول، وأنَّهم لا يضرُّون إلا أنفسهم، وأنَّهم لا ينفعون إذا استجابوا إلا أنفسهم.
﴿وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاءُ﴾ ، يعني لن يفعل شيئًا، ولن ينصره أحد، وعاقبة أمره: ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ .
وهذا الأسلوب مِن دُعاةِ الجنِّ إلى قومهم جَمَع حُسنَ الأسلوب في طريقة دعوة الدَّاعِ لقومه، وفي التَّحبب لهم، وفي الجزمِ بدعوة للخيرِ، وحثِّهم على عدمِ التَّردُّدِ، وفي بيانِ الخيرِ ليسلكوه، وبيانِ الشَّرِّ ليحذروه.
وهذا بيانٌ لحرصهم هنا كما قال الله تعالى: ﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً﴾ ، يؤخذ من هذه الآية أيضًا: الحرص على سماع مجلس العلم، وكانوا في الزَّمنِ الأوَّلِ لم يكن فيه مكبرات صوت، فكان الطُّلاب يحرصون على القُربِ من المُحدِّث، حتى إنَّ بعض مَن كتب في الزِّيادات وما يتعلَّق بالرِّواية: أنَّ من المرجِّحات إذا اختلف الرَّاويان في لفظةٍ، فروى أحدُهم بلفظٍ والآخرُ بلفظٍ؛ فيؤخذ ممَّن كان أقرب للمحدِّث؛ لأنَّه أوعَى لِما يَسمع مِن البعيد الذي قد يسمع وقد تخفى عليه بعضُ الحروفِ، أو بعضُ الكلماتِ.
وأؤكِّدُ على مسألةٍ: أنَّ ما ذكره الله تعالى عن الجنِّ من أنَّهم دعوا قومهم، وأحسنوا الأدبَ في دعوةِ قومِهم، وعظَّموا شأن التَّوحيد وحثُّوا عليه قومهم؛ فإنَّ ممَّا يُؤسَف له أن ترى بعضَ النَّاسِ يُفرِّط في دعوةِ التَّوحيد، وإن دعا تجده يدعوا للتَّوحيد إجمالًا، وبعضهم يقول: أخشى التنفير!
فإذا وفَّقَ الله الداعي، وأحسنَ الأسلوب في الخطابِ مع النَّاس، وعرض لهم التَّوحيد بالعرْضِ الواضحِ النَّقيِّ، وأحسنَ ضربَ الأمثلةِ؛ ففي الغالب أنَّ المدعوين يقبلون، حتى لو أنَّ بعضَهم ما قَبِلَ، فلن يُعاند في الغالب؛ لأنَّ العَرضَ الذي عُرض عليه ليس فيه تنفيرٌ، ولا فيه تهجُّمٌ، إنَّما فيه بسطٌ للحقِّ، وبيانٌ للحقِّ، ولهذا بعضُ النَّاس يقول: هؤلاء قبوريون، هؤلاء عند الأضرحة، لا ينفع فيهم النُّصح، نشؤوا على هذا الأمر؛ لا، ليس بصحيح، بل أحسِن الظَّنَّ بالله تعالى، وأحسِن عرض دعوة التَّوحيد، وبيِّن لُطف الله تعالى بخلقِه، وإحسان الظَّنِّ بالله، وبَيِّن سِعة رحمة الله، وفي المقابل بيِّن أنَّ الله تعالى أقام الدَّلائل، وأنَّه مستحقٌ للعبادة، وأنَّ مَن وحَّد فسينجو في الدُّنيا، وفي والآخرة، وفي البرزخ، وأنَّ مَن خالف التَّوحيد وعاند التَّوحيد؛ فلن يضرَّ إلا نفسه.
أنا قصدي من هذا الكلام، وما في معناه: تعظيمُ شأنِ التَّوحيد، والإكثار من الكلام فيه، وربطِ الأعمال به، وخاصةً مع الصِّغار، فأعظم نفعٍ لهم أن تربط أمورهم وأحوالهم بالتَّوحيد، فإذا نجح في امتحانه تقول: احمد الله الذي أعانك على النَّجاح، احمد الله الذي أعطاك عقلًا تُفكِّر به. إذا شفاه الله من مرض، تقول: احمد الله الذي لا يعافي إلا هو، ولا يصرف الضر إلا هو، وهلمَّ جرا.
المقطع الذي بعده:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدً﴾ .
صفاء التَّوحيد يَلزم مِنه ذَهاب الشِّرك، ما يجتمع الضِّدان، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدً﴾ ، الضِّدان لا يجتمعان أبدًا، إذا حلَّ أحدهما؛ ارتفعَ الآخر، ولهذا بعض الدعاة يُبين للنِّاس التَّوحيد، وهذا طيب هذا هو الأصل، لكن يُغفِل القوادِح العَقديَّة التي تَقدح في التَّوحيد؛ لأنَّ النَّاس إذا أخبرتهم عن التَّوحيد، قد يُمارسون بعض أنواع الشِّرك عن جهالةٍ، فبعضهم يَسمع التَّوحيد، ويَحفظ بعضَ متون التَّوحيد، لكن لا يفقه المعنى، قد يذهب للسَّاحر، قد يُصدِّق بأبراج الحظِّ، قد يذهب للكاهن، قد يعتقد في النُّجوم، إلى آخره، ولهذا فممِّا يزيد التَّوحيد إيضاحًا أن تُحذِّر النَّاس مِن القوادح التي تقدحه، وخاصَّةً ما كانوا متلبِّسين به.
بعض المجتمعات تكون مُبتلاة ببعض القوادح العَقديَّة، كالأضرحة، كالتَّصديق بالذِّهاب إلى السَّحرة، كالاعتقاد في النُّجوم، أناس نشئوا وشبُّوا وشابوا على ذلك، فمع بيانِ التَّوحيد يتلطَّف في بيانِ أساليب القوادح العقيديَّة التي نشؤوا عليها؛ حتى يستطيع الدَّاعي أن يجذبهم إلى حياض التَّوحيد دون أن ينفرِّهم منه.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدً﴾ ، هذا هو الرَّسول صلى الله عليه وسلم، لا يملك لهم ضَرًّا ولا رَشَدًا، حتى لنفسه؛ إلا إذا أعانه الله تعالى عليه، فهذه الآية مع النُّصوص الأخرى تهدم الغلو في مقام الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- ومن غلا في مقام الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وزعم أنَّه يحبُّه؛ فهذا ليس من محبته، بل هذا من مخالفته؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلو، والله تعالى أخبر في هذه الآية عنه -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه لا يملك لنفسه ضَرًّا ولا رَشَدًا، فبعضهم يغلو في مقام النُّبوَّة، ويقول: الرَّسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب! مع أنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- يوم القيامة إذا رُدَّ أُناسٌ عن حوضه يقول: «يَا رَبِّ، أَصْحَابِي»، فيُقال له: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»[98]، فماذا نستفيد من هذا اللفظة؟ نستفيد منها أنَّه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.
ولهذا فالرَّسول صلى الله عليه وسلم حذَّر أمته مِن الغلوِّ، «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ»[99]، ولما قالت تلك الجارية: "وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ"، قال: «أَمَّا هَذَا فَلَا تَقُولُوهُ مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ»[100]. ولما جاء الصَّحابيُّ وقال: "مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ"، ماذا قال له؟ قال له: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّ»[101].
هذا كلُّه من أجل إغلاق وحسم مادة الغلوِّ في مقامِ النُّبوَّة، فالأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- اصطفاهم الله وخصَّهم بخصائصَ وصفاتٍ، لكن ليس هناك شيء من صفاتِ الألوهيَّةِ أو الرُّبوبيَّةِ، فهم بشرٌ -عليهم الصَّلاة والسَّلام- يمرضون، ويموتون، إلى آخره، ولهذا فإنَّ الغلوَّ في الأنبياءِ إنَّما هو مخالفةٌ ومعصيةٌ لله ثمَّ لهم.
نستمع للمقطع الحادي عشر من السُّورة.
﴿قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً﴾ .
قل يا محمد لهم: ﴿إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ ، كلمة "أحد" تشمل كلَّ أحدٍ أيًّا كان، أي: لن يجيرني من الله لا جنٌّ، ولا إنسٌ، ولا مَلكٌ.
﴿لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدً﴾ قيل "الملتحد" هو عبارة عن الشَّق والميل في الأرض، فهو يقول: لن أجد أحد ينصرني، أو يجيرني، أو يأويني مِن الله البتَّة، وكما قال: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50].
﴿قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ كل هذا تحقيق لشأن التَّوحيد، ولهذا ينبغي تعظيم التَّوحيد في ألسنةِ الدُّعاة، وفي كتاباتهم، وفي محاضراتهم، وربط النَّاس بالتَّوحيد، وبخاصَّة في هذه الأوقات التي زَهِدَ كثير مِن النَّاس في الكلام عن التَّوحيد.
وأنا أكرر: النَّاسُ فيهم خير، والمجتمعاتُ فيها خير، لكن إذا أحسن الدَّاعي عرضَ الخيرِ بالعلمِ الشَّرعيِّ، والبصيرةِ الشَّرعيَّةِ.
﴿إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ﴾ ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: لن يجيرني من الله أحد، لن يمنعني من الله أحد، ولن يعصمني من الله أحد، ولن يدفع عني ما أراد الله به من أحد.
﴿إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ﴾ أُبلِّغ ما أُمرت به، أُبلِّغ رسالات الله التي أمرني بها، وهذا الذي سينفعني عند ربي، أن أطيع الله تعالى، وأُبلِّغ ما كُلِّفتُ به، وأتحمَّل في ذلك ما يأتيني.
﴿إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ قال بعض المفسرين: المعصية هنا هي المعصية الكفريَّة؛ فليس كلُّ معصيةٍ تدخل النَّار، إلا الوقوع في الشِّرك وما شاكله.
{﴿قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً﴾ }.
ما إعراب كلمة "نار"، هو قال: ﴿لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ لماذا ما قال: له نارُ جهنَّم؟
{اسم "إنَّ"}.
اسم "إنَّ"، يعني التَّقدير: فإنَّ نار جهنَّم له، ومثلها: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 7]، "رسولُ" أم "رسولَ"؟
{رسولَ}.
لماذا؟
{اسم "أنَّ"}.
ممَّا أؤكِّد عليه: دائمًا الاستشهاد في الكلام بالآيات القرآنيَّة، وإيضاح ما قد يُشكل -بخاصة في مقام التَّوحيد- هذا أبلغ في صدور المدعوِّين؛ لأنَّ للقرآن هيبةً، ولسماعه في النُّفوس تأثيرٌ، فإذا ذكر الإنسان الآيات، وأوضح ما قد يظن أنَّه يخفى؛ يكون هذا أبلغ في فائدة المتكلِّم، وإفادة السامعين.
المقطع الذي بعده.
﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا * قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدً﴾ .
﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدً﴾ ، بعضهم قال: هذا في بدر، ولعلَّ الصَّحيح: إذا رأوا العذاب، رأوا أنَّ ما كانوا يفخرون به، أو ما كانوا يتعاظمونه، ويدَّعون أنَّهم أقوى؛ سيعلمون في تلك اللحظة وتلك الساعة مَن أضعف ناصرًا وأقلُّ عددًا، وأنَّ العاقبة للمتَّقين وسيعرف هؤلاء المعاندون والمخالفون أنَّ قوتَّهم وأنَّ أعدادهم مهما كثُرت فهي قليلة وضعيفة، بالنَّسبة لما يؤول إليه الأمر في الآخرة.
وأيضًا نستفيدُ: عدم الاغترار بالكثرة، وأنَّ القلَّة قد تكون محمودةً، ولهذا في القرآن الكريم جاءت آيات كثيرة في ذمِّ الكثرة، مَن يذكر منكم آية؟
{أحسن الله إليك. ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 116]}.
آية أخرى.
{﴿وَيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئً﴾ [التوبة: 25]}.
أحسنتَ.
{قوله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103]}.
أيضًا كذلك: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ [ص: 24]، مدح القلَّة، وأيضًا: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، فلا يغتر الإنسان بالكثرة، لو كان عندك عددَ الحصى والرَّملِ من الجنود، أو من المال، فليس هذا دليل على القوَّة والغلبة؛ لأنَّ المحمود إذا كان الأمر في طاعة الله، والقلَّة في طاعة الله أفضل وخيرٌ من الكثرة في معصية الله تعالى.
﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدً﴾ لا يدري هذا الذي وُعدوا به من العذاب أو من قيام السَّاعة متى يكون، وعلى القول إنَّها السَّاعة؛ فهذا أمرٌ غيبيٌّ محضٌّ، لا يعلمه إلا الله -عز وجل- فعلم السَّاعة أخفاه الله، لكن هناك قرائن ودلائل على قرب قيام السَّاعة، الآيات ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ [القمر: 1] ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: 1]، وما جاء من العلامات لقيام السَّاعة، قد قسَّمها بعضُ العلماء إلى: علامات صغرى، وعلامات كبرى.
وقسَّمها بعضهم من حيث الوقوع إلى: علامات وقعت وانقضت، وعلامات لم تقع، وعلامات وقعت ولا تزال مستمرة.
هل أحد منكم يعطيني مثال على كل نوع؟
{من العلامات التي ظهرت ولا تزال تتابع: كثرة القتل}.
كثرة القتل من علامات السَّاعة، ظهرت ولا تزال تتابع.
نعم يا سعيد.
{أحسن الله إليك، قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»[102]}.
قالوا: من العلامات التي ظهرت وانقضت: البعثة النبوية وموت الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام.
وعلامات لم تظهر بعد، مثل: خروج الدَّجال، وما شاكله.
أيضًا من عِلم السَّاعة أنَّها لا تكون إلا في يوم الجمعة، لكن في أي سنةٍ؟ في أي شهرٍ؟ في أي مكانٍ من الشَّهرِ؟
علمُها عند ربِّي، وقد ورد في الحديث: قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ»[103]، وما نسمع الآن من بعض تخرُّصات الكَهنة، أنَّ السَّاعة تقوم بعد كذا، في عام كذا؛ هذا كلُّه رجمٌ بالغيب، لا يُلتَفت إليه، بل يُبصق عليه، فكلُّه تدليسٌ على النَّاسِ، وكما قال ابنُ حزم في بعض سقوط الأخبار: "سقوطها يغني عن إسقاطها، وبطلانها يغني عن إبطالها، ونكارتها تغني إنكارها".
المقطع الذي بعده.
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدً﴾ .
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدً﴾ الله تعالى هو المتفرِّد بعلم الغيب، ولا يُظهر على غَيْبِهِ أحدًا، ثم أتى الاستثناء "إلَّا" ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ علم الغيب أخفاه الله تعالى واستثنى من ذلك مَن ارتضى من الرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- ولهذا فكلُّ حديثٍ نقرأه: "لا تقوم الساعة حتى يكون كذا..."، يكون من علم الغيب بالوحي، فأخبر الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن أمورٍ ووقعت بعد مئات السِّنين «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ تُضِيءُ لَهَا أَعْنَاقُ الإِبِلِ بِبُصْرَى»[104]، خرجت في القرن السابع تقريبًا، في زمن الإمام النَّووي -رحمه الله تعالى- وجاءت أحاديث كثيرة وتحقَّقت فيها نبوءة الرَّسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها غيب أطلعه الله تعالى عليه.
ونستفيد أنَّ كلَّ مَن ادَّعى علمَ الغيبِ أنَّه كذَّابٌ أشِرٌ، وأنَّ دعواه باطلة، وهؤلاء الكهنة والسَّحرة والعرَّافون، ومَن يقرأ الفنجان، أو يقرأ الكف؛ كل هؤلاء يُسترزقون، ويُضلُّون النَّاس، والنَّاس بعضهم سُذَّج يُصدِّقون.
وهناك أمورٌ غيبيَّة تُدرَك بالأسباب، مثل: الكسوف والخسوف، فهو من العلوم علوم فلكية التي تُدرَك بالأسباب، كما أجرى الله سننه في الشَّمس أنَّ لها درجات، وأنَّ القمر له منازل، وأهلُ التَّخصُّصِ يعرفون بما أجرى الله به السُّنَّة الكونيَّة، هم يقولون: نعرف متى الشَّمس تنكسف، كما نعلم أنَّ الليل يعقبه نهار، هذا ليس غيبًا، نحن درسنا سُنن الله تعالى، بما أطلعنا الله تعالى عليه من العلم، وأدركنا وتوصَّلنا إلى أنَّ هذا الكوكب مرتَّب على سنَّةٍ كونيَّةٍ، فعرفنا متى يكون الكسوف بأمر الله تعالى، فلا يُعتبر هذا من الرَّجم بالغيب.
﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدً﴾ له معقبات، الرَّسول صلى الله عليه وسلم يحفظه الله تعالى، ويحفظ وحيه، ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، ويصل الوحي إلى النَّاس محفوظًا من التَّحريفِ والتَّبديلِ، وقد حمى الله تعالى رسوله -عليه الصَّلاة والسَّلام- وحمى الذِّكر والوحي ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
المقطع الأخير في سورة الجن.
﴿لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدً﴾ .
﴿لِيَعْلَمَ﴾ منهم من قال: ليعلمَ الرَّسولُ أنَّ الملائكة أدُّوا الرِّسالة إليه فأدَّاها.
ومنهم من قال-وهو الرَّاجح: ليعلمَ اللهُ تعالى علم ظهورٍ أنَّ هؤلاء الرُّسل -عليهم السَّلام- أنَّهم بلَّغوا الرِّسالة كما أمرهم وائتمنهم، فأدُّوا الأمانة، ونصحوا الأُمَّة.
﴿لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾ أبلغوها كاملةً غير منقوصةٍ.
﴿وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدً﴾ ، كلَّ ما كان وسيكون في هذا الكون فمردُّ أمره ومردُّ علمه إلى الله تعالى.
هذه السُّورة الكريمة إجمالًا فيها فوائدُ كثيرة، ذكرت لكم بعضها وفاتني أكثرها، ومن الفوائد المهمَّة - كما تقدَّم وكُرِّرَ:
-       الأولى: تعظيم شأن التَّوحيد.
-       الثَّانية: التَّحذير من الغُلوِّ في الأنبياء والرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
-       الثَّالثة: أدب الجن وحرصهم على تلقِّي العلم وعلى تبليغه.
-       الرابعة: الغيب أمره إلى الله تعالى، وأنَّ مَن ادَّعى الغيبَ فهو كاذبٌ كافرٌ بالله تعالى؛ لأنَّ الغيب -كما قال ربُّنا في غير آية: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [هود: 123]، ﴿قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65].
-       الخامسة: الذِّهاب إلى السَّحرة والكَهَنة ومُدَّعي الغيبَ حرام لا يجوز.
-       السَّادسة: الدَّاعي إلى الله بحقٍ محفوظٌ، ومُسدَّدٌ، ومُؤيَّدٌ، ولو أصابه ضرُّ في بدنه أو ماله، فذلك من المُضاعَف درجاته يوم القيامة.
-       السَّابعة: السَّاعة لا يعلم وقت وقوعها إلا الله -عز وجل- ومن عجائب عقول كثير من النَّاس، أنَّهم إذا أخبرهم مُنجِّمٌ أو أحدٌ هؤلاء الضُلَّال من السَّحرة والكَهَنة، أنَّ العالَم سينتهي كذا، بنوا على كلامه تصوُّراتٍ، وبنوا على كلامه آلامًا وآمالًا، وهذا لا يقع إلا من لَبَّسَ عليه الشَّيطان.
ختامًا: وفَّق الله الجميع لكلِّ خيرٍ، ورزقنا الله وإيَّاكم العلمَ النَّافع والعملَ الصَّالح، وهنا أقول: ينبغي لمَن علَّمه الله علمًا، ورأى من جَهِلَه؛ أن يستخدم الحكمة في إبلاغِ العلم، وفي توصيلِ العلم، وأن يُحسن عرضَ العلم، فإن قَبِلَ المدعو؛ فلكَ ولَه، وإن أصرَّ المدعو وعانَد؛ فلَكَ وعلَيهِ، وأيضًا على مَن يدعو النَّاسَ للخيرِ، ألَّا يترقَّبَ النَّتائجَ، لست مسئولًا عن النَّتائج، فادعُ كما قال تعالى:﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]، ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7].
رزقنا الله التَّوفيق والسَّداد في الأمر كلِّه، شكرَ الله لكم، وللمشاهدين والمستمعين، وللإخوة المخرجين، والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-----------------------
[96] مستدرك الحاكم (3897) بلفظ "علموا أنفسكم وأهليكم الخير".
[97] صحيح البخاري (3884).
[98] صحيح البخاري (13316).
[99] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283) وقال: على شرط مسلم.
[100] سنن ابن ماجة (1887)، وأصله في البخاري بلفظ "دَعِي هَذِهِ، وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ"
[101] صححه ابن القيم في مدارج السالكين (1/602).
[102] صحيح البخاري (6504).
[103] صحيح مسلم (854).
[104] صحيح ابن حبان (6996).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ