الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

7888 12
الدرس السادس

تفسير جزء تبارك

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا زكاة العلم عملًا به ودعوةً إليه، وصبرًا على تبليغه.
الثَّامن عشر من الشهر الثَّاني للعام التَّاسع والثَّلاثين بعد المائة الرَّابعة والألف للهجرة النَّبويَّة، على صاحبها أتمُّ الصَّلاة والتَّسليم.
حيَّا الله الحاضرين، الشَّيخ سعيد، والشَّيخ صهيب، والشَّيخ عبد الكريم، وحيَّا الله مَن يسمعنا جميعًا، ومَن ينظر إلينا جميعًا.
تقدَّم في المجلس السَّابق كلامٌ عن سورة الحاقَّة في قول الله-جل وعلا: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقة: 13]، جاء ذكرُ أسماء للصُّور، منها؟
{أحسن الله إليكم. القَرْن، الصُّور، النَّاقور}.
جاءت تسمية أخرى وهي: البوق.
{تسمية البوق هي من تفسير مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس}.
مجاهد بن جبر المكي، من أشهر تلاميذ ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما.
الضَّابط الثَّاني في مقدمة السُّورة في قوله: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ﴾ ، ذُكر ضابط في ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ ، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ، فما هو؟
{إذا قيل: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله بما سيأتي}.
أعطني مثالًا غير سورة الحاقَّة.
{في قوله تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة: 1- 3]}.
يا شيخ عبد الكريم، الضابط في ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ؟
{إذا قيل: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ فهذا معناه أنَّ الله لم يُخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم بما وراء هذا السؤال}.
ممكن تُمثِّل بمثال؟
{﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبً﴾ [الأحزاب: 63]}.
أحسنتَ بارك الله فيك. نسمع الآن مقطعًا جديدًا.
{بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ }.
تقدَّم في المجلس السَّابق أنَّ مَن أوتي كتابه بيمينه يُسرُّ ويستبشر، ويقول: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ﴾ هنا الظَّنُ بمعنى اليقين.
قوله: ﴿أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ ، ثم ذكر الله تعالى حال هؤلاء وما لهم من النعيم المقيم، ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ ، راضية لا سخط فيها، ﴿فِي جنَّة عَالِيَةٍ﴾ رفيعة المنزلة، ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ سهلة التَّناول، وكما في سورة الرحمن: ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ [الرحمن: 54]، وإلى آخر ما ذكر الله تعالى، ثم قال هنا: ﴿وَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ .
قال بعض المفسرين: إنَّ أخْذَ النَّاسِ كتبَهم يوم القيامة على قسمين:
الأوَّل: كما جاء في هذه السُّورة ﴿فَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ .
الثَّاني: ﴿وَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ .
جاء وصف آخر لأخذ الكتاب بصورة مغايرة  لما في سورة الحاقة، أحد منكم يذكر الآية؟
{قوله تعالى: ﴿وَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ [الانشقاق: 10]}.
عبد الكريم، أي سورة هذه الآية؟
{سورة الانشقاق}.
نعم. ﴿وَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ قال بعض المفسرين: هو الذي يأخذ كتابه بشماله، لكن تُلوى يده الشِّمال خلف ظهره، ثم يأخذ الكتاب بشماله، وهذا إمعانٌ في إذلاله، وإمعانٌ في إهانته.
وهنا أمر لابدَّ أنَّ أنبِّه عليه: الله تعالى لا يَظلم أحدًا؛ لأنَّه أقَام الحجَّة، وبيَّن طريق المحجَّة، بإرسال الرسل، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4]، ورتَّب على الطَّاعات الأجر والثَّواب، ورتَّب على الخطيئات الوزر والعقاب، ومع ذلك كله حلُمَ عليهم وأمهلهم، ولو عجَّل لهم العذاب مَا تَرك عَليها مِن دَابة، ويستر على العاصي، ويقبل توبة التَّائبين، بل مَنْ هَمَّ بحسنة ولم يعملها كُتبت له حسنة، ومَنْ هَمَّ بسيئة وتركها، كُتبت له حسنة، كل هذه فضائل من رحمة الله تعالى.
فهذا الذي سنسمع الآن من قوله تعالى: ﴿وَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ أي: نَكَصَ على عقبيه، وتنكَّب طريق الهدى، وَحَلُمَ الله عليه وعلى أمثاله، وعمَّرهم في الأرض ما عمَّرهم، وأسبغ عليهم النِّعم، ومع هذا كابروا، وعاندوا، وجحدوا، إذن: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
وهنا أستبيحكم عذرًا في بيان لفظة عقدية خاطئة تجري على ألسنة بعض النَّاس، وبخاصة في مقام الظلم والقهر: إذا ظُلِمَ أحد النَّاس، أو قُهِرَ في سلب حق، أو ما شاكل ذلك، فإنه يقول: "ظَلَمَ اللهُ مَنْ ظَلَمَني"، "ظلم الله الظالم" أنتم تعلمون أنَّه لا يُثبت لله صفة إلا التي جاءت في النَّص الصَّحيح الصَّريح، فكيف نُثبت لله ما نفاه الله عن نفسه؟ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاس شَيْئً﴾ [يونس: 44]، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: 76]، ﴿ولَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]، وفي الخبر القدسي: «يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نَفسِي وجعلتُه بينَكم مُحرَّمًا »[48].
إذن، لا يجوز قول مثل هذا الدعاء؛ لأنَّه مُنكر، ومثله قول بعض النَّاس: "خَانَ الله من يخون"، الله لا يخون، تعالى الله عن ذلك، ولهذا: ﴿وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ﴾ ماذا قال؟ ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأنفال: 71]، إذن قول: ظلم الله الظالم. لا يجوز
عودٌ على بدء: ﴿وَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي﴾ ، هنا أداة تمني ﴿يَا لَيْتَنِي﴾ ولكن ولات حين مندم، ولات حين مناص، أمهله الله وأعطاه فُسحة في العمر والرزق إلى آخره، فلا يَنفع النَّدم، فقد قامت الحجَّة، واستبانت المحجَّة.
قال تعالى: ﴿فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ ؛ لأنَّه يعرف أنَّ في هذا الكتاب ما يستحقه، وفيه ما فعل وما ترك، إلى آخره.
وتقدم أنَّ بعض القراء يَقرأ: ﴿لَمْ أُوتَ كِتَابِيَ﴾ ولكن ذُكرت الهاء لإظهار فتحة الياء.
قال تعالى: ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ ، لو عَذَّب الله النَّاس، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لو ما حاسبهم؛ لأنَّ الله تعالى -ومن أصدق من الله قيلًا- لا يَظلم مِثقال ذرة، ولكن يحاسب النَّاس، كُلٌّ بحسبه؛ لئلا يكون للنَّاس على الله حجَّة.
قال تعالى: ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا‎ لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ أي: تمنى أنَّ موتته في الدُّنيا أنهت الأمر ولا بعث بعدها. وهذا يخالف السُّنَّة الكونيَّة، وهي أنَّ الموت يعقبه بعثٌ وحسابٌ، ومستقرٌ إمَّا إلى جنَّة وإمَّا إلى نار.
وللفائدة: الإنسان في حياته يمر بعدَّة عوالم يعيشها:
العالم الأوَّل: عالم الرحم، رحم الأم.
العالم الثَّاني: عالم اليقظة.
والعالم الثَّالث: عالم النَّوم.
والعالم الرَّابع: عالم البرزخ،.
والعالم الخامس: عالم عرصات القيامة.
والعالم السادس والأخير: المستقر الأخير، إمَّا إلى جنَّة وإمَّا إلى نار.
قوله: ﴿يَا‎ لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ يقول: يا ليت أنَّ موتته في الدُّنيا لم يَعقبها لا بعث ولا نشور ولا حساب.
لكن نقول: لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ولا يظلم ربك أحدًا. وهذا النِّداءُ يكون يوم القيامة، ولكن ولات حين مندم.
ومما قرأت مِن اللطائف: قام أحد النَّاس يعظ عند عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- فقرأ هذه الآية، وقال: "يَا لَيْتُهَا" وهذا لحن جَلي، فقال عمر: تقضي عليك وتريحنا منك. لأنَّه لحن جلي لا يخفى على أحد.
نسمع الآية التي بعدها.
قال تعالى: ﴿يَا‎ لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ .
في قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ ، من أسباب عناد الرسل وعناد الحق: الاغترار بأمور، أشهرها أمران:
الأمر الأوَّل: الحُجج والبراهين التي تصادم الحق وترد الحق، من تلبيس الشيطان، وعقليات خارجة عن العقل السليم في ردِّ النُّصوص الشَّرعيَّة.
الأمر الثَّاني: قوة المال، يعني لما ذكر الله هنا: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ قال بعضهم: السُّلطان: الحجج والبراهين. والمال: الثروات، وغالب أهل الباطل ومَن يَرد الحق يتقوى بهذين الأمرين، ولا يرد الحق بنفسه فقط، بل يكون معه مِن أتباعه، ومن علماء السوء، وعلماء الضلال، وعلماء البدع، الذين يزينون الباطل له، ويُبَغِّضون الحق له، كذلك قوة المال والثراء.
فالقوَّة الماليَّة، والقوَّة العقليَّة التي تخفى على كثير، وتنطلي على كثير من البراهين الباطلة، تصد عن سبيل الحق، وترد النَّاس عن طريق الخير، فلهذا جاء يوم القيامة وتذكَّرَ أنَّ سبب إضلاله وعناده وبُعده عن الحقِّ أنَّه اغتر بكثرة مالِه، وما لَه من الثَّرَوات، وأضِف إلى هذا اغتراره بما كان عنده من الحجج، وممَّا كان له من بطانة من علماء السوء والضلال ما كانوا يزيِّنون له الحجج والبراهين.
وقال بعضهم: السلطان بمعنى: المُلك، وما يتبعه مِن الأملاك، وهذه داخلة أيضًا في قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ﴾ .
ولهذا تلاحظ أنَّ صاحب الباطل إذا كان عنده قوة مال، وعنده من يدافع عن هذا الباطل بالحجج الباطلة؛ يُؤثِّر كثيرًا في الجهَّال من النَّاس، ولهذا الدَّجال الذي سيخرج في آخر الزَّمان، يأمر الخِرَب فتتبعه ذَهَبًا، ويخدع النَّاس، فيقول للسَّماء أمطري فتمطر بحكمة من الله، وللأرض أنبتي فتُنبِت، ثم يضرب الرجل نصفين ثم يقول: ارجع.
كل هذا ابتلاء من الله وحكمة، فهذه تَخْدع، لكنَّ الذي عنده علم وبصيرة لا يتأثر بهذه الحجج وهذه الدلائل؛ لأنَّ العلم نور يُطفئ ظُلمة الشُّبَه، كذلك المال ما ينفع صاحبه، إلا إذا سخَّره  في الخير.
تذكرون في هذه المجالس السابقة أنَّي ذكرت لكم فائدة وهي أنَّ موازين أكثر النَّاس في التفاضل خمسة:
الميزان الأوَّل: في كثرة المال.
الميزان الثَّاني: في كثرة الأوَّلاد.
الميزان الثَّالث: في الفخر بالأنساب.
الميزان الرَّابع: الفخر بالعشيرة.
الميزان الخامس: الفخر بالمنصب.
هذه الموازين إذا لم تُسَخَّر في طاعة الله فإنَّها تكون حجَّة على صاحبها، وقد بيَّن الله بطلان هذه الموازين، وأنَّها لا تنفع إِلَّا إذا كان صاحبها قد وطَّأها وسخَّرها وذللها في طاعة الله.
أمَّا بطلان ميزان التَّفاخر بالمال والولد، فقال الله عنه: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ ولَا بَنُونَ﴾ [الشعراء: 88]، هذان اثنان من الخمسة، بقي ثلاثة.
الثَّالث: النَّسب: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ [المؤمنون: 101].
الميزان الرَّابع: كثرة العشيرة: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [عبس: 34، 35] إلى آخره.
الميزان الخامس: التَّفاخر بالمنصب، فما نفع فرعون المُلك، ولا نفعت قارون التجارة، ولا نفعت هامَّان الوزارة.
بقي الميزان الحق، ميزان أدق من ميزان الذهب، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، فهذا ميزان بالوصف، مَن كان لله تقيًّا كان له وليًّا.
إذن، هذا أوتي الكتاب بالشِّمال، أخَذَ كتابه بشماله، ثم ندم وتحسَّر، وتمنى أنَّه ما بُعث بعد موته، ثم ذكر أسباب ضلاله، فقال الله عنه: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ ، إذن قامت عليه الحجَّة. نسمع الآية لنعرف ما يأتيه من الجزاء.
قال تعالى: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ .
قال تعالى: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ قيل: إِنَّ الخطاب هنا لخزنة جهنم.
والغَلُّ: أن تُغل يداه إلى عنقه إمعانًا في إذلاله.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ يُقاد إلى الجحيم ليصلاها، ويَصِلُ الجحيم مغلولًا، وهذا أشد في إهانته، لو أخذوه يمشي مشيًا عاديًّا فمآله إلى النار. ترى الجاني إذا قُدِّمَ لينال عقابه، وهو يمشي مشيًا عاديًّا، يعرف أنَّ مآله العقاب الذي بالحدود الشَّرعيَّة، فإذا أخِذ مقيَّدًا مكممًا فهذا أشد عليه.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ﴾ قدَّمها للتَّشنيع والتَّهويل، وفي وصف السلسلة جاءت أخبار وآثار، وأظن أنَّ الأحاديث ليس لها زمام ولا خطام، فلا ينبغي أن يُشتغَل بها، وتُقال أمَّام النَّاس لعدم وجود مستند صحيح لها.
قال الله: ﴿فِي سِلْسِلَةٍ﴾ والسلاسل معروفة، لكن هل سلاسل الآخرة كالدُّنيا؟ الله أعلم.
قال تعالى: ﴿ذِرَاعً﴾ قالوا بذراع الملك، وقالوا بذراع الإنسان، أيضًا هذا أمر لا نعلمه.
قال تعالى: ﴿ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعً﴾ عدد السبعين عند العرب يؤتى به للتَّكثير، ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ [التوبة: 80] وفي حديث المرأة -رضي الله تعالى عنها- التي تابت: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ»[49]، فقالوا: إنَّ السَّبعين أكمل الأعداد فيؤتَى به للتَّكثير.
قال تعالى: ﴿سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ يُسلك في هذه السلسلة.
جاءت آثار ذكرها بعض المفسرين في وصف كيف يُسلك هؤلاء في السلسلة، لكن لسنا جميعًا بحاجة إلى ذكرها إذا لم تقم على دليل صحيح صريح، يقال: تُدخل في دبره، تخرج مِن فِيه، يُعلَّقون في صفوفها كصف الجراد، من باب التَّمثيل طبعًا، وفيه أشياء أكثر من هذا، لكنَّ الصحيح أن يُقال: هكذا جاء الوصف، أمَّا تحديد كيفيَّة هذا الوصف بالدقَّة، فعلمه عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
نسمع الآية التي بعدها.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ .
مِن أَسباب عذابه ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ قال بعض المفسرين: الآية الأوَّلى عَلاقته بالخالق، والثَّانية عَلاقته بالمخلوقين، وقد فرَّط في الأمرين، فعصا ربه وكابر، وفي المقابل ظلم النَّاس ولم يؤتيهم ما أمر الله تعالى أن يؤتَوا، إمَّا بالظلم أو بسلب الحقوق، أو ما شاكله.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ يُنكر ما لله من الحقوق، يُنكر البعث، يدخل فيه كل من حادَّ الله تعالى، إمَّا بكفر أو بإلحادٍ، أو ما شاكله.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ في سورة "أرأيت" تذكرون آية كهذه الآية؟
{أحسن الله إليك. قوله تعالى في سورة الماعون: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الماعون: 1- 3]}.
يقولون: ذكر الله هذا الوصف -المنع وعدم الحض- من باب قبيح وصف من تشبَّه بها.
هنا لطيفة لغوية ذكرها بعض مَنْ كَتَبَ في الفروق اللغوية، أظنه أبو هلال العسكري، وابن القيم في كتاب "الروح" أفرد مبحثًا أو فصلًا عن الفروق، وفي كتب أخرى مستقلة، المهم أنَّهم قالوا: إنَّ الشُّح والبخل وصفان ذميمان، ومؤداهما المنع، لكنَّ الشُّح أقبح من البخل، والفرق بينهما:
البخل: أن يمنع نفسه من إعطاء المساكين والفقراء، أمَّا الشُّح: فهو منع غيره، يعني شخص تأبى نفسه أن يتصدق مع أنَّه في غِنى وفي خير، بل لا يخرج زكاته مع أنَّها فرض عليه، ويمنع غيره من إخراج الزَّكاة، ومن باب أولى يمنع غيره من التَّصدق، فالبخل مَنَعَ نَفْسَه، والشُّح مَنَعَ غَيره، وكفى بهذين الوصفين قُبحًا لمن اتَّصف بهما.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ هذا فساد المعتقد، وضياع التوحيد، ومعصية الرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- والمحادة لله تعالى، ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ هذا مثال من سوء عمله، وقبيح وصفه.
سيأتي الآن وصف آخر لعذاب هذا النَّوع من النَّاس.
نسمع الآيات.
قال تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ .
قال تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَ﴾ المقصود باليوم: يوم القيامة.
قوله: ﴿هَا هُنَا حَمِيمٌ﴾ أي: صديق، أو قريب، أو شفيع، ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: 18]. والحميمُ وصفٌ للماء الحارِّ المحترق، قالوا: سمي بذلك لأنَّ القريب والصديق يتحرَّق قلبه على صاحبه، فهناك لن ينفعه قريب، بل يَفِرُّ المرء من أخيه وأمه وأبيه، فإذا فَرَّ المرء مِن أُمه وأبيه ومن أخيه، فمن باب أولى يَفرُّ مِن صديقه، فلن ينفعه الصديق شيئًا؛ لأنَّ الحُجَّة قامت عليه.
قال تعالى: ﴿وَلَا طَعَامٌ﴾ ، لاحظ الوصف البلاغي: ﴿وَلَا طَعَامٌ﴾ نفي، ثم الاستثناء: ﴿إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ .
ذَكَرَ بعض المفسرين أنَّ الغسلين هو: صديد أهل النار، قبيح المنظر، نتن الرائحة، قبيح المذاق، فهذا زيادة في عذابهم.
نسمع الآيات بعدها.
قال تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ .
قوله تعالى: ﴿لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ ، هنا خطيئة الاعتقاد، والخطأ الأكبر في الذنوب هو خطأ الكفر بالله، فالمراد ب﴿الْخَاطِئُونَ﴾ ، أي: الكافرون، الذين استحقوا هذا العذاب. ووصفهم بالخطأ مِن الخطيئة الكبرى، وهي الشِّرك بالله تعالى والكفر به.
نسمع المقطع الجديد مرة أخرى.
قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ﴾ ، هنا أقسم الله بما يبصرونه من مخلوقات، وما لا يبصرونه، حتى قال بعضهم: دخل في ذلك أنَّ الله تعالى أقسم بنفسه الكريمة.
وهنا مسألتان أحب التَّنبيه عليهما:
المسألة الأولى: بعضهم قال في حرف الفاء هنا، بأنَّه زائد، وهذا مبحث في علوم القرآن، أو عند المفسرين، هل في القرآن شيءٌ زائدٌ؟ إذا كان لا، فما تعبير المفسرين بقولهم: هذا حرفٌ زائد؟
قالوا: أي زائد في الإعراب، أي لم يؤثر على المسار، أو على وجه الإعراب.
وقال بعضهم: إنَّ المعنى تام، لكن هذه الزيادة تقوم مقام التأكيد، ولا ينبغي أن يُعبَّر بكلمة "زائد"؛ لثقلها وشناعتها، وبخاصَّة عند العامَّة.
وأعجبتني فائدة ذكرها شيخي عبد الله بن جبرين -رحمه الله تعالى- قال: كنا نقرأ على الشَّيخ  إسماعيل الأنصاري -رحمه الله تعالى- في تفسير الجلالين، وكان يُكثر من كلمة "زائد" فكان الشَّيخ إسماعيل يتمثَّل ببيتين من الشِّعر:
وسمِّ ما يُزاد لغوًا أو صلة


 
أو قُل مؤكدًا فكلٌ قيل له


لكن زائدًا ولغوًا يُجتنب


 
إطلاقه في مُنزلٍ فذا وجب


يقول: لا يُقال: هذا لغو، ولا زائد، ولكن يُقال: هذا تأكيد.
قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ﴾ أقسم الله تعالى بما نرى وما لا نرى -أي بجميع الكائنات- على صدق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق هذا الكتاب، وأنَّ ما فيه حق لا مِرية  فيه ولا شك ولا ريب.
المسألة الثانية: ينبغي في هذا المقام أن يُنبَّه إلى أنَّ بعض المسلمين يتساهل بسماع مَن يحلف بغير الله، هذا الذي حلف بغير الله جاهل ما يعرف، أو قد يحلف نسيانًا، أو جهلًا بالحكم الشرعي، لكن يَنبغي لمن سمع هذا الذي يحلف بغير الله، أن يتلطَّف في إخباره بأنَّ هذا لا يجوز، وبخاصة إذا كان الحالف كبير السن؛ لأنَّه شبَّ وشاب عليها، كمن يحلف بالنَّبي، أو بالأمانة، أو بالعيش، أو بالوطن، أو بحياة الأم، أو بحياة الأب، أو بحياته، قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»[50].
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ يعني: القرآن الكريم بلَّغه الرسول صلى الله عليه وسلم فنُسب إليه، من باب أنَّه قام بتبليغه.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ كريم الصفات، كريم النعوت، أمين على ما أؤتمن عليه.
قال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ ، العرب عندهم مقامٌ عظيمٌ للشعر، لكن إذا وظِّف الشِّعر في ردِّ الحق فلا قيمة له، ولا أجر لمن قاله، وكانوا يُعظِّمون شأن الكُّهان، ويسمعون كلامهم، فلما سمعوا القرآن الكريم عَلموا في داخل أنفسهم أنَّه ليس من كلام الشُّعراء، وليس من كلام الكُّهان، وأنَّ هذا يخالف مَا ألِفُوه، ولهذا ماذا قال الوليد بن المغيرة لما سمع القرآن؟
قال: إن عليه لحلاوة[51].
وجاء حديث في المسند عن عمر رضي الله عنه والحديث فيه انقطاع بين عمر وبين التابعي شُريح بن عُبيد، ولكن من باب الفائدة، طالب العلم يعرف الضعيف حتى يُبيِّن ضعفه للناس، وفيه: أنَّ الفاروق عمر رضي الله عنه، تَبِع النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى المسجد، فقرأ سورة الحاقَّة، فقال عمر: عجبت من تأليف القرآن، إنَّه الشعر، فقرأ: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾ ، فقال: إذن كهانة، فتلى الآية التي بعدها: ﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ﴾ ، هذه اشتهرت في أسباب إسلام عمر، لكن القصَّة كما قلت لكم فيها انقطاع بين شُريح بين عُبيد، وبين الفاروق -رضي الله تعالى عنه- ورحم الله شُريح بن عُبيد.
قال تعالى: ﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ ثم بيَّن حقيقته، بأنَّه ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
قال تعالى: ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: هذا الذي جاء به محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام- وتلاه عليكم ليس من كلامه، وليس من كلام الشعراء، وليس من كلام الكُّهان، لا مقارنة ولا مقاربة؛ بل هو تنزيل من ربِّ العالمين.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ﴾ ، قالوا: لو قُدِّرَ أنَّه تقوَّل وافترى، وحاشاه -عليه الصَّلاة والسَّلام- فقد حَمَاهُ الله تعالى وَعَصَمه، أنَّه لو تقوَّل بعض الأقاويل، وافترى على الله تعالى، ما عقوبته وما جزاؤه؟
قال تعالى: ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ ، قيل: لأخذنا بيمينه، اليد اليمنى أقوى، فإذا أُخِذَ بها فهذا من باب الإضعاف، وقيل المراد: أخذناه أخذًا قويًّا، ويُعبَّر باليمين عن القوَّة. ويقول الشاعر في مدح عرابة الأوسي، وكان أميرًا على اليمن وعدَّه بعضهم في تراجم الصحابة رضي الله عنه وأعتقد أنَّه مات في السنة السادسة، يقول فيه الشاعر يمدحه:
رأيتُ عَرابةَ الأوسيُّ يمسوا


 
إلى الخيراتِ منقطعَ القرينِ


إذا ما رايةٌ رُفعت لمجدٍ


 
تلقاها عَرابةُ باليمينِ


يعني أخذها بقوة.
قال تعالى: ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ أخذًا شديدًا قويًّا، مقدورٌ عليه.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ ، الوتين: عرقٌ متصلٌ بالقلب. وقيل: عرق في الظَّهر، إذا قُطِعَ هذا العرق انتهى أمر صاحبه. ونستفيد منه: أنَّ مَن افترى على الله وتقوَّل على الله، أنَّه على خطر عظيم.
وهنا يُقال أيها الأكارم: إنَّ من الخطورة بمكان، وإنَّ من الذنب العظيم الذي مع الأسف تهاون فيه بعض النَّاس، وتناقض فيه أولئك هو: القول على الله بغير علم. قال بعض أهل العلم: إنَّه أساس كل بليَّة، وإنَّه هو سبب الشرك؛ لأنَّ المُشرك ما وقع في الشرك إلا لأنَّه قال على الله بغير علم، ولهذا قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ﴾ [الأعراف: 33]، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى: ذكر الله تعالى المنكرات، وختم بأعظمها، كل المنكرات عظيمة، لكن تتفاضل وتتغاير وتتضاعف الشناعة.
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، الله تعالى نزَّه أنبياءه عن القول على الله بلا علم وحذَّرهم منه، فقال: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]، ونوح -عليه السَّلام- قال: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ [هود: 47]، فالقول على الله بغير علم من أعظم المنكرات، ومع الأسف الشديد؛ تجد من التَّناقض أنَّ بعض النَّاس إذا  ألمَّ به مرض لا يقبل وصفةً مِن أحب النَّاس له، بل مِن والديه، فلو قال له أبوه: هذا الدواء استعمله؛ لا يستعمله، يخشى أن يكون هذا الدواء سببًا في تلفه، أو في زيادة مرضه، وهو بنفسه لا يُفتي نفسه في استعمال دوائه، فيذهب إلى الطبيب؛ لكن إذا ألمَّت به نازلة أو أمر في عقيدته، أو في ماله -من حيث مسائل المالية- يُفتي نفسه، أو يستفتي مَن ليس أهلًا للفتيا، هذا هو التَّناقض، يعني في أمور الشَّرع يقول بلا علم، ويسأل من لا علم عنده، أمَّا  في أمور الطِّب أو البناء أو ما شاكله، لا يسأل إلا أهلَ الاختصاص، وهذا من التَّناقض والشَّناعة.
قال تعالى: ﴿فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ ، لا يستطيع أحدٌ منكم أن يردَّ العذاب عنه البتَّة، مهما بلغ في قوته؛ لأنَّ هذا الأمر من الله تعالى، ولا مَردَّ لما أراد الله، لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما مَنع.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ﴾ ، هذا القرآن تذكرة وذكرى وعظة لمن اتقى، واستقام، واستجاب، وكان لسان حاله ومقاله: سمعنا وأطعنا.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ﴾ النَّاس انقسموا في اتِّباع الرُّسل، فمنهم من آمن واتبع وصدق في اتباعه، ومنهم من كذَّب وكابر وعاند، ولا يجني جان إلا على نفسه، ولهذا جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإمَّا كَفُورً﴾ [الإنسان : 3]، ﴿فَإمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل : 5 - 7]، والآخر: ﴿وَإمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل : 8 - 10]، كما سمعنا في وصف عذاب هذا المكذِّب.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ وهذا القرآن جاء فيه الوعيد، وجاء فيه التخويف، وجاء فيه أنَّ مَن خالف ما فيه من الأوامر، وتنكَّب ما فيه، وارتكب النواهي، سيكون حسرة عليه.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ .
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾ فيه آية ﴿عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ ، وفيه ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ ، في أي سورة؟
{في سورة التكاثر}.
تعطيني الآية؟
{﴿ثُمَّ لَتَرَوُنهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر: 7]}.
إذن عندنا ﴿عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ ، و﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ ، و﴿حَقُّ الْيَقِينِ﴾ ثلاث أشياء:
عِلْمَ الْيَقِينِ: ما أُدرك بالسمع.
عَيْنَ الْيَقِينِ: ما أُدرك بالبصر، والبصر أبلغ من السمع، قال الشاعر:
يا ابنَ الكرامِ ألا تدنو فتبصر ما
 
 
حدَّثوك فلا راءٍ كمن سمع


وخيرٌ من قول الشاعر، قول نبيِّ الشَّاعر صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ»[52]، فإن الله لما أخبر موسى أنَّ قومه عبدوا العجل، ما ألقى ألواح التوراة، فلما رآهم ألقاها فتكسرت، العيان له أثر، ولهذا قال الشاعر:
ولكن للعيان لطيف معنى


 
من أجله سأل المعاينة الكليم


قال موسى -عليه السَّلام- كما جاء في كتاب الله: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 143].
حَقُّ الْيَقِينِ: فهو مباشرةُ ذلك، فأخبار الجنَّة علمناها علم اليقين بالقرآن الكريم، ومن العلم هذا أنَّا سنراها رؤية عَيْنَ الْيَقِينِ، يعني هي الآن كأنَّها مَاثلة، ومَن أَصدق مِن الله قِيلا، وصدق الله ومن أصدق من الله حديثًا.
وحق اليقين هو المُبَاشرةُ. مثَّل بعضهم فقال: لو قيل إنَّ هناك عسل -والمُخبِر ثقة- يكون هذا علم اليقين. ثم رأينا العسل، ماذا يكون؟ عين اليقين. ثم ذقنا العسل؟ حق اليقين.
ولو قيل لنا: بعد الدرس عَشاء، هذا عِلم اليقين، فإذا رأيناه فهذا عين اليقين، فإذا أكلناه فهذا حق اليقين.
هذا يعود إلى المخرجين.
قال تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ نزِّه ربك العظيم، نزِّه الله عمَّا لا يَليق، من تنزيه الله: طاعته في ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، ومن تنزيه الله تعالى عن الظنون السيئة، والظن به الظن الحسن، ومن تنزيه الله تعالى الرضا بما قدَّر، سواءً كان قدريًّا، أو دينيًّا شرعيًّا.
أَسأل الله -جل وعلا- لمن يسمع ويرى، وللمسلمين، ولكم أيُّها الأكارم، أن يرزقنا حق اليقين، في جنات النعيم، في فردوسه الأعلى، بأن نكون ممن يفرحون إذا حزن أناسٌ في القيامة، وأن يجعلنا الله وإياكم ممن يعيش في طاعة الله، وعلى التَّوحيد والسُّنَّة، ويموت عليهما، والله تعالى عنه راضٍ، وأن يبعثنا الله جميعًا وهو عنَّا راضٍ.
اللهم اغفر لنا، ولأمهاتنا، ولآبائنا، وللمسلمين. شكر الله لكم أيها الأكارم، الشَّيخ سعيد، الشَّيخ صهيب، الشَّيخ عبد الكريم، ومَن يرى، ومَن يسمع، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
------------------------
[48] صحيح مسلم (2577).
[49] صحيح مسلم (1696).
[50] البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
[51] الحاكم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً! قال: لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟! فو الله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر (يؤثر يأثره عن غيره)، فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيداً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[52] مسند الإمام أحمد (3/254) صححه الشيخ أحمد شاكر.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ