الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

5119 12
الدرس الرابع

تفسير جزء تبارك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا هو اليوم الرَّابع مِنَ الشَّهر الثَّاني، للعام التَّاسع والثَّلاثين، بعد المائة الرَّابعة والألف للهجرة النَّبويَّة، على صاحبها أتمُّ الصَّلاة والتَّسليم.
حيَّا الله المشاهدين جميعًا، وحيَّا الله الشيخ سعيد، وصهيب، وعبد الكريم.
وَقَفَ بنا الكلام في سورة القلم، عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ ، ثمَّ ذكر الله بعد ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ ، فذكر الله مَا آَل إليه أصحاب الجنَّة وكيف عُوقبوا، ثم أنَّهم لما عَلموا بخطيئتهم ندِموا وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، إلى آخر ما قصَّ الله تعالى من خبرهم.
قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ مِن حكمة الله أنَّه يُعطي مَن يشاء بفضله، ويُعاقب مَن يشاء بعدله، ولا يظلم ربنا أحدًا.
قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ لا يستويان مَثلًا، وتأبى حِكمةُ الله -عزَّ وجلَّ- أن يكون هؤلاء كهؤلاء، ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُو﴾ [الجاثية: 21]، ما يكونون! الظلماتُ مَا تَستوي مَعَ النَّور، ولا الظلُّ ولا الحرور، هذان متضادان، فللمسلمين جزاء وثواب، وللمجرمين جزاء وعقاب، وكل ذلك بفضل الله تعالى للمؤمنين، وبعدله مع المُخالفين.
وهنا فائدة: دَرَجَ على لسانِ بعض النَّاس قول: "اللهمَّ عاملنا بعدلك".
يقول بعضُ أهل العلم: لو عَامَلنا الله بعدله، فمَن منَّا لا يَسلم مِن الخطيئة والذنب ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاس بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ﴾ [فاطر: 45]، ولكن يقول: "اللهمَّ عاملنا بفضلك". فالله تعالى رحمته واسعة، فيتفضل بما شاء على ما شاء من عباده، فنقول: "اللهم عاملنا بفضلك ورحمتك وكرمك".
قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ، أي أنَّ هؤلاء المجرمون بماذا يحكمون بأنفسهم، وبأيِّ حجَّةٍ يدافعون عن باطلهم؟.
قال تعالى: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ ، يعني: هل لكم كتاب درستم فيه أنَّكم على حقِّ، وعلى هدًى، وأنَّ من خالفكم على ضلالة؟ كل هذا تخرُّصٌ وأسلوبُ عنادٍ من باب ردِّ الحق، وإحقاقِ الباطل.
قال تعالى: ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ هَب أنَّ لكم كتابًا كما تزعمون، فتخيروا إذن ما شئتم. فأنتم على ضلالٍ ليس لكم حجٌة، وليس لكم برهانٌ، وكل ما تقولون وتفعلون مِن دواعي الشَّيطان والكبر، فدائمًا صاحب الكبر يَلتمس أي حُجَّة في سبيل إقرار باطله، قال تعالى: ﴿إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم ببَالِغِيهِ﴾ [غافر: 56]، ولهذا دائمًا صاحبُ الباطلِ اللَّجوجُ في باطله لا يستسلم ولا ينقاد للحق، بل يستميت في التماس أي حُجَّة وأي شبهة حتى يَمتطيها في ردِّ الحق، ولهذا وصفهم الله تعالى في غير آية بعدم العقل، قال ﴿ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ ؛ لأنَّهم تركوا طريق الصواب، ولم يُحكِّموا عقولهم ببيِّنة، بل اتَّبعوا أهوائهم وما تهوى أنفسهم.
قال تعالى: ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يعني: هل لكم عُهود ومواثيق في زعمكم هذا؟ أنتم الآن مُصرِّون على باطلكم. ما الذي دعاكم للباطل؟ هل عندكم كتاب فيه هذا الأمر؟ هل عندكم منَّا مواثيق وعهود على ما أنتم عليه؟.
قال تعالى: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُم بذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ مَن الكفيل ومَن الضَّامن لكم؟ من المُدافع عنكم؟ مَن تكفَّل لكم بأنَّكم على حقٍّ وضَمِنَ لكم النَّجاة من عذاب الله؟
قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾ فهؤلاء الشركاء لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فضلًا عن أن يدافعوا عن غيرهم.
قال تعالى: ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ فهم ما تركوا سبيلًا ولا حجَّة ولا شبهة إلا لَبِسوها في سبيل ردِّ الحق، فليس لكم عَلينا أيمان ولا عهود، ولا مواثيق، وليس لكم ضامن يضمن لكم النجاة، ولم ينزل عليكم كتاب، إنَّما كل هذا بما تهوى أنفسكم.
ونستفيد أيضًا أنَّ الإنسان إذا سمع الدَّليلَ انقاد له، ولا ينبغي أن يُفكر أو أن يكون للشيطان عليه مدخل في التَّردد، أو التَّحرُّج من الحكم الشرعي، بل ينقاد؛ لأنَّ المَردَّ إلى الله -عز وجل- فهو الذي أمرنا ونهانا، وتعبَّدَنا بفعل الأوامر وترك النَّواهي.
ولهذا إذا ناظرت صاحبَ باطلٍ أو دعوته لخير، في الغالب أن يتشبَّث بشُبَهٍ، أو حُجَجٍ داحضة، فمثل هذه الشُّبَهِ التي رسخت في ذهنه ينبغي لداعِ الخير أن يكون على بيَّنة في علاجها، وهذا مما يُخطئ فيه بعض مَن يُريد الخير للناس، فيأتي إلى صاحب باطل عنده قناعات، وعنده شُبَه قد تشبَّث بها وشبَّ وشَاب عليها، فيأتي بعضُ النَّاس يناظره ليقنعه، ولا يكون عنده أدلة شرعيَّة تبطل هذا، أو ما يستحضر أدلَّة شرعيَّة، ولا يعرف أسلوب المُناظرة مع أهل الباطل، فضعفُ حُجَّةِ صاحبِ الحقِّ، وضعف العلم والبصيرة للدَّاعية يقوِّي الباطل ويُضعف الحق، ولهذا يقال له: لا تُناظر، ولابدَّ أن تكون على بيِّنة أولًا.
الآن وسائل الإعلام والقنوات يكون فيها مناظرات، أنتم ترونها وتسمعونها، فأحيانًا يكون صاحب الباطل حجَّته ضعيفة، لكن الطَّرف المقابل مَا يَكون عنده علم، فإذا جلس على كرسي الدفاع عن الإسلام وعلى هذه المنصَّة يَدفع هذه الشُّبَه، أو يردُّ على هذه الشُّبَه وما عنده قوَّة علميَّة، ولا قوَّة عقليَّة، ولا استحضار الأدلَّة الشَّرعيَّة، والباطلُ الضَّعيفُ، فإذا بالباطل يتقوَّى بضعفِ صاحبِ الحقِّ.
ثم قال ربُّنا: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ جاء في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- أنَّ يوم القيامة: " يكشِفُ رَبُّنا عن ساقِه، فيسجُدُ له كلُّ مؤمنٍ ومُؤمنةٍ"[33]، إلا مَن أَبى السجود، "فيكون ظهره كصياصي البقر، لا يستطيعون"[34]، والسَّاق صفةٌ لله تعالى تليق به، والقاعدة: القولُ في صفةٍ كالقول في سائر الصِّفات، وما أثبته الله تعالى لنفسه نُثبته حقيقةً دون تشبيهٍ أو تكييفٍ أو تمثيلٍ.
وبعضُ النَّاس لا تقبل نفسُه بعض أمور الصفات، يقول الإمام أحمد: "لا نَنفي عن الله صفة مِن صفاته، لشناعة مُشنِّع"، يعني: إذا جاء الدليل من القرآن الكريم، أو من ثابتِ السُّنَّة ومن صريحها، قلنا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، فالقول في صفة السَّاق كالقول في صفة اليد، فيقال: لله ساقٌ تليق به، لا يشبه أحدًا من خلقه.
ومما ذكره أهل الاعتقاد في هذا الباب: يُردُّ على مَن شبَّه صفات الله بصفات خلقه بمثال هو: وجه الطائر في صفات المخلوقين يختلف عن وجه الحيوان، وكذا يختلف وجه الحيوان عن وجه الإنسان، وهي كلها مخلوقة، ولله المثل الأعلى.
إذن، فصفات الله تعالى ليست كصفات المخلوقين ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
قال تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ فأبصارهم خاشعةٌ من الذُّل، ويُرهقهم ذلُّ المعاصي، فذل المعاصي إذا لبسه أو كُسي به الشخص يكون عقوبة مِن الله وعلامة الخسران.
وقد كانوا في الدنيا يُدعون إلى السجود وهم سالمون، والحقُّ أبلج، والحجج واضحة، والطريق واضح، لكن لمَّا كابروا وعاندوا، كان جزاؤهم كما قال الله تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ .
وهنا الجزاء من جنس العمل كما قال بعض أهل العلم: القرآن الكريم كله قائم على أنَّ الجزاء من جنس العمل. فهم عاندوا في الدنيا، فلم يُوفَّقوا في الآخرة، ومَن أَطَاعَ في الدنيا، وُفِّق في الآخرة.
قال تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ القرآن الكريم يسمى "حديثًا" في آيات كثيرة، ومنها: ﴿أَفَبِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ﴾ .
قال تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ الاستدراج: أن يفيء عَليهم مِن نعم الدنيا كالمال والبنين والمساكن والضياء والأصحاب؛ فبهذا الاستدراج يظن أنه في قوَّة وفي خير وعلى هدى.
قال تعالى: ﴿مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ولهذا ورد في الحديث: «إنَّ اللَّهَ يُملي للظَّالمِ»[35] يعني بنعمه وخيراته «فإذا أخذَهُ لم يُفلِتْهُ»، وما يسبغه الله على الشخص مِن نعم قد تكون رفعة له، وقد تكون عقوبة عليه، فإذا وظَّفها في طاعة الله فهي رفعة له، أمَّا إذا وظَّفها في معصية الله فهي عقوبة وحجَّة عليه.
قال تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ إذا أخذ الله أحدًا أخذه كما وصف في قوله: ﴿أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 42]، ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ [الحج: 18]، يعني: قد يتوعدك في الدنيا صاحبُ جاهٍ وسلطانٍ وقوَّة، لكن قد لا يستطيع أذيتك، فقد يموت، وقد يَنسى، وقد يَضعف، وقد تَفر أنت منه، أمَّا في شأن الله لا مَفرَّ مِنَ الله إلَّا إلى الله.
قال تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرً﴾ يعني: هل أنت سألتهم أجرًا على دعوتك لهم وهم تثاقلوا هذا الأجر؟
أبدًا، لم تطلب مِنهم مَالًا في دعوتهم للحق حتى يتثاقلوا عن قبول دعوتك.
لم تطلب منهم مالًا، ولا متاعًا من متاع الدنيا، وليسوا غارمين، فلماذا يتثاقلون؟ فكل شيء ميسر لهم، لكنَّ العناد ركب رءوسَهم.
قال تعالى: ﴿أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ ، يعني: هل يعلمون الغيب حتى يضمنوا نجاة أنفسهم؟ وهذه كلها قواطع لباطلهم.
قال تعالى: ﴿أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ ، أي: يكتبون مصيرهم ومآلهم، ما عندهم شيء، لكن الكبر والحسد يعمي صاحبه، ويجعله يرى الأمور منكوسة، وهذا من عقوبة الله وعدله؛ لأنه ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: 23]، وفي آية الأنفال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرً﴾ [الأنفال: 70] ما قال: يؤتيكم مثله، بل قال: ﴿خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ﴾ [الأنفال: 70]، وماذا قال بعدها؟ ﴿وَيغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 70].
قال تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْ﴾ [الأنفال: 23]، إذن هم على باطل وعلى ضلال، ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالً﴾ [التوبة: 47]، فنيتهم فاسدة حتى لو خرجوا.
قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ الحكم هنا حُكمان: الحُكم القدري، والحكم الشرعي، وكل مسلم مأمور بأن يصبر لهذين الحكمين.
الحكم القدري: مَا يُصيبك مِنَ المصائب في الدنيا مِن أَقدار الله، فاصبر ولا تتجزَّع، ولا تتسخَّط، ولا تعترض على قضاء الله وقدره، هذا الصَّبر على الأحكام القدريَّة.
الصبر على الأحكام الدينية يكون بامتثال الأوامر واجتناب النواهي بالتسليم والقبول والانقياد وعدم الحرج، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ ﴾ [النساء: 65]، لاحظ قال: ﴿حَرَجً﴾ وهي نكرة، أي: لا يكون لديك أدنى مثقال ذرة مِن الحرج، ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء: 65] يعني الانقياد، وعدم الممانعة، بدون توقف أو تردد.
قال تعالى: ﴿ولَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ مَن صاحب الحوت؟ يونس بن متى -عليه الصلاة والسلام- أُلقي في بطن الحوت.
هناك نبي أُلقي في النَّار من هو؟
{أحسن الله إليك. إبراهيم -عليه السلام}.
صهيب، هناك نبي أُلقي في بئر –الجب- مَن هو؟
{نبي الله يوسف -عليه السلام}.
عبد الكريم، هناك نبي أُلقي في السجن؟
{يوسف -عليه السلام}.
ثلاثة أنبياء. إبراهيم -عليه السلام- أُلقي في النار فكان ذلك رِفعة وعزًّا له، وظهورًا على قومه.
ويوسف -عليه السلام- أُلقي في السجن فكان في ذلك عزٌّ له، وإظهارٌ له.
ويونس -عليه السلام- أُلقي في بطن الحوت في قصَّته المشهورة المعروفة، فنادى ربه واستغاث به، فخرج في عزٍّ ومَنَعة، وأكرمه الله تعالى واصطفاه.
قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ ، أي: مهمومٌ مغمومٌ.
القصة: لمَّا ذَهَبَ مغاضبًا مِن قَومه حينما عاندوه وكابروا، ركب في سفينة -كما في الروايات- فكانت السَّفينة فيها ثِقل، فاقترعوا من أن ينزل أحدهم في البحر لتكون السَّفينة على مقدارهم، فوقع السَّهم على يونس -عليه السلام- فلمَّا نزل في البحر التقمه الحوت.
فَنَادَى في الظلمات، قيل الظلمات هي: ظلمة الليل، والبحر، وبطن الحوت. فقال: ﴿أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].
قال تعالى: ﴿لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ كل شيء لا يكون إلا بتوفيق الله، لا يكون شيء مِن خَير في هذه الدنيا، ولا رفع بلاء، إلا إذا شاء الله ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29].
قال تعالى: ﴿لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ﴾ ، العَرَاء: هي الأرض الخالية الجرداء، ﴿وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ لكنَّ الله اجتباه وتاب عليه، ﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ .
أكمل يونسُ -عليه السلام- رسالته، وكان هذا البلاء الذي حصل له مِن عدل الله تعالى، وأشدُّ النَّاس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم.
والابتلاء هنا فيه فائدة، فابتُلي بعض الصالحين العُبَّاد الصَّوام القوَّام، وبعض الناس يتساءل ويقول: كيف يُبتلى هؤلاء؟ تصيبهم الأمراض، بينما هناك أناسٌ أهلَ فُجور وشرٍّ، وفي صحة وعافية؟
فيُقال لهم: إنَّ المصيبة إذا نزلت على صاحبها، فلها أبواب ثلاثة:
-       الباب الأول: إِمَّا أن تكون عقوبة معجَّلة في الدنيا، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165].
-       الباب الثاني: أن تكون كفارة لذنوب سالفة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما يُصيبُ المُسلِمَ، مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوْكَةِ يُشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بِها مِن خَطاياهُ»[36].
-       الباب الثالث، وهذا الذي يَغفل عَنه كثير مِن النَّاس: أن تكون رفعةً له، قال صلى الله عليه وسلم: «وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم»[37]، وقال -عليه الصلاة والسلام- في معنى الحديث: «إذا كتب الله للعبد منزلة في الجنَّة ولم يصل إليها  بعمله، سلَّط الله عليه المصائب حتى يرقيه إليه»[38]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ قال بعضهم: من شدة نظرهم، أي: ينظرون شزرًا بحقد وعداوة للنبيِّ -عليه الصلاة والسلام- إذا قرأ القرآن الكريم.
والنظر الشزر يؤذي المنظور إليه، فلهذا يقال: مِن عُقوق الوالدين: أن ينظر الولد إلى والديه شزرًا، أي: نظرة فيها عَداء وفيها بُغض، وفيها نَوع مِن الحقد.
وهؤلاء الكفار إذا رأوا النبي -عليه الصلاة والسلام- ورأوا أصحابه نظروا إليهم نظر شزر، يعني مَكمنُ عداءٍ بَرَزَ في نظرهم له، يعني: قد يخرج العداء باللسان فَيَتَلفظ، وقد يخرج العداء بالجوارح فَيَضْرِب، وقد يخرج العداء بالإعراض، وقد يخرج العداء الكامن في النِّفس بالنَّظر.
وقال بعضهم: إنَّ المراد هنا العين، يصيبونك بأعينهم، والعين كما نعلم حق، ولكنَّها لا تضر إلا بإذن الله، فَتُدخل الرجل القبر، والجمل القِدر.
وعند ذكر العين أحبُّ التَّنبيه إلى بعض الأمور:
الأمر الأول: أن بعضهم يُنكر العين، ويقول: هذا أمر غير حقيقي، كيف يكون ذلك! كيف يصيب الإنسانُ شخصًا ولم يَمسه بشيء؟ مجرد ينظر ثم يصيب!
يُقال أولًا: ما جاء به الشَّرع، فلا يَسعنا إلا أن نقول له سمعنا وأطعنا، وقد جاء بذلك النَّصُّ الصَّحيحُ الصَّريحُ في أحاديثٍ كثيرةٍ، ومنها: «العين حق»، وقد ذكر بعض أهل العلم أنها جاءت في القرآن الكريم في موضعين، هذا أحدها، والثاني في سورة يوسف، في قوله تعالى عن يعقوب: ﴿وَقَالَ يَا بَنِي لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾ [يوسف: 67]، قالوا: إنَّ يعقوب -عليه السلام- كان يخشى على بَنِيهِ من العين.
على كل حالٍ، فالعين حقٌّ بالنَّصِّ الصَّحيحِ النَّبويِّ الصَّريحِ، الذي لا مِرية فيه.
الأمر الثاني: أنَّ أَهلَ الغرب يَعرفون العَين، وبعضهم يُسمونها بالعين الشريرة، أو الروح الخفيَّة، وفي أدبياتهم وفي بعض أشعارهم، ومنظوماتهم ورواياتهم، يذكرون هذا الأمر، بل إنَّ عند بعضهم مسابقات في قتل البقرة بالنَّظر لها، وهذا عند بعض الشُّعوب في الغرب، لكن نحن في الإسلام نُعَرِّفها باسمها الشرعي وهو "العين".
الأمر الثالث: بعض النَّاس عنده وسواس وضعف إيمان، فأي شيء يصيبه يتَّهم إخوانَه، ويقول: هذا عين، كنت مع فلان البارحة فنظر إليَّ، وكنت عند عمَّتي أو خالتي فقالت وفَعَلت، وهي التي أصابتني. فهذا اتَّهام، ورميٌ للنَّاس بالبهتان، بمجرد التخرُّص، ولو فُتح هذا الباب لهَجَرَ النَّاس وتشاحن النَّاس.
الأمر الرابع: بعضهم يُصاب بمرض، فيُقال له إنَّه عين مثلًا، فَيَرَى في المنام شخصًا، فيقول: هذا الذي رأيته في المنام هو الذي أصابني بالعين، فيبني مَا رَأى في منامه ويتهم مَن رآه، فيقول: أنا رأيت في المنام رجلًا أو امرأةً أو صاحبًا لي، أو كذا، إذن هو الذي أصابني بالعين. هذا ظلم، ولا يجوز شرعًا، فلا تقطع بأنه هو الذي أصابك بمجرد أن تراه في المنام، وقد يكون أتقى لله منك، أو أتقى أهل الأرض لله، ولهذا من جميل كلام الشاطبي -رحمه الله- في "الاعتصام": "لا يحتج بالرؤيا إلا ضعيف المنَّة".
الأمر الخامس: ينبغي للإنسان إذا رأى مَا يُعجبه أن يُبَرِّك، فيقول: ما شاء الله، تبارك الله؛ لأنَّ النُّفوس تختلف في إقدامها وإحجامها على التَّشوُّف، وما قد يصيب أخاك بتفريط منك أنت.
ذكر صاحب "تاريخ دنيسر"، قال: "سألت عيَّانًا، كيف ترى؟
قال: "أرى إذا تاقت نفسي وهاجت للشيء، أرى أمام عيني خطين أحمرين كالنار، فلا يذهبان إلا أن تخرج".
وأيضًا أُوصي القرَّاء الذين يقرءون على المرضى، بعدم الجزم بأنَّ فيك كذا، وفيك كذا، مجرد تخمين، فيقول: أنت فيك سحرٌ، أنت فيك عينٌ، أنت فيك جانٌّ، ما ينبغي الجزم بهذا، والأولى أن يتثبَّت الإنسان، فإذا ما ظهر له شيء، يقول: هذا ابتلاء وامتحان من الله، واصبر واحتسب. لكن قضية أن يقول قطعيًّا: أنت فيك عين، أنت فيك كذا، أنت فيك كذا. فهذا يعني إلقاء رعب وظنون في نفوس النَّاس، وقد يكون الإنسان سليمًا معافًى، لكن مُجرد رمي هذه الكلمات بدون تثبُّتٍ لا ينبغي.
أيضًا ينبغي أن يُقال للأمهات والآباء الذين يخشون على أطفالهم، إذا أصابهم شيء يذهبون للرُّقاة. فهؤلاء يُقال لهم: أنتم أيُّها الآباء والأمهات ارقوا أولادكم سواءً كانوا في عافية أو أصابهم بلاء.
يقول ابن حجر في كلام قرأته له في ما أذكر: "أنفع الرُّقى أن يكون فيها أمران: الصدق مِن القارئ، والإقبال مِن المقروء عليه"، فلن يكون هناك أحد أصدق في قراءته وأرحم وأرأف من الأمِّ بولدها، ومن الأب بولده، ولذا نقول: أيتها الأمهات ارقوا أولادكم إذا خشيتم عليهم، أو أصابهم بلاء.
وبعض المرضى، أو أهل المرضى يتعلقون بالقارئ لا بالمقروء، يذهبون للقارئ فلان، فإذا قيل لهم: غير موجود، فيصيبهم  إحباط. وإذا قيل له: اقرأ عليه، يقول: ما أحفظ، يقال له اقرأ الفاتحة، أم الكتاب، الشَّافية، اقرأ المعوذتين، سورة الإخلاص، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرقي الحسن والحسين بدعاءٍ، فلمَّا نزلت المعوذتين أخذهما وترك ما سواهما.
أختم كلامي بفائدة: الذين يُنكرون العَين ويقولون: كيف تؤثر، وهي لا نرى لها اتصال، يعني: معقول أن الشخص يؤثر في جسم وما بينهما اتصال؟
يُقال: هذه أمور غيبيَّة جاء بها الشَّرع، وكما قال بعض المفسرين: إن الكفار يحتجُّون بأدلَّة عقليَّة، فجاء الشَّرع بأدلَّة عقليَّة، لمَّا أنكروا البعث، وقالوا: ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ﴾ [النازعات: 11]، يعني: كيف نخرج؟ ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ [المؤمنون: 82]، جاءت الآية عن الأرض هامدة ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾ [فصلت: 39] الشاهد: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾ [فصلت: 39]. فلما احتجُّوا بدليلٍ عقليٍ، جاء الدليل العقليُّ يهدم حجَّتهم، فيقال مثلًا -من باب التنزل: هل مَن قال إن العين كيف تؤثر في شخص أو في حيوان، وليس هناك اتصال؟  فيقال: مثلًا "الريموت" هذه الجهاز التقني يغلق الباب، ويغلق الجهاز، هل ترى شيئًا؟ سيقول ذبذبات. تصدق الآن بقدرة البشر التي أوجدت الشيء، وتنسى قدرة رب البشر؟!
قال تعالى: ﴿وَيقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ يعلمون أنَّه أعقل العقلاء، وهذا العلم علم يقيني عندهم ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: 146]، ولكن: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّ﴾ [النمل: 14].
قال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ﴾ ، أي كل العالمين. هذه خاتمة سورة القلم.
سورة الحاقة.
الحاقة سورة مكيَّة، وهي اثنتان وخمسون آية، وورد فيها حديث لكن لا يصح: "من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابًا يسيرًا" هذا الحديث لا يصح.
وللفائدة العلميَّة: هناك حديث جمع فضائل لكل سورة، وذكر أهلُ العلم أن بعض المحدِّثين عند تتبُّعه لهذا الحديث وجد أنَّ قومًا من الزُّهاد العبَّاد يجتمعون في دار لهم، ويتذاكرون القرآن الكريم، فقالوا: رأينا أنَّ النَّاس قد أعرضوا عن القرآن، فأردنا أن نُرغِّبهم في القرآن الكريم بوضع أحاديثَ فيها ترغيب لقراءة القرآن الكريم، فلمَّا سُئلوا عن ذلك، قال بعضهم: نحن نكذب لرسول الله.
طبعًا هذا الكلام لا قيمة له، وقد قرأتُ أن في إسناد الحديثِ رجل اسمه نوح الجامع يُكنَّى بأبي عصمة المروزي، يقول عنه الذَّهبي: جَمَعَ كُل شَيء إلا الصدق. وهو كذَّاب.
على كل حالٍ، بعضُ المفسرين يورد الأحاديث لكن لا يبيِّن صحتها، وفيما أذكر تفسير أبي السعود "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" يختم كل سورة بحديث في فضلها، دون بيان صحته مِن سقمه.
وسورة الحاقة سورة مكيَّة وبدأها الله تعالى بقوله: ﴿الْحَاقَّةُ﴾ ، والحاقة: هي اسم من أسماء يوم القيامة، والقيامة لها أسماء كثيرة، منها: القارعة، الحاقَّة، الطَّامَّة، الصَّاخَّة، إلى آخره.
هنا يقول: ﴿مَا الْحَاقَّةُ﴾ العرب في بدء الكلام بالاستفهام تُشوِّق السَّامع إلى معرفة ما بعد الاستفهام، وهذا الأسلوب كثيرٌ في القرآن الكريم، يجعل السَّامع يتنبه ويتيقَّظ مما سيقال له، وهذه من أنفع الطرق لترسيخ العلم في أذهان السَّامعين.
سَرْدُ العلم نثرًا قد يُنسي كما يقال، ينساه مع أنه يسمعه، أو يُنسي آخره أوله، لكن إذا أخذ طالب العلم، أو بعض النَّاس، يُصدِّر في كلامه أو يُضمِّن كلامه أسئلة في أثناء عرض الحديث ويجيب هو عليها، فيقول مثلًا:
ما جزاء من خرج مبكرًا يوم الجمعة؟
أتعلمون ما الثَّواب المترتِّب على إدراك الصف الأول؟ وهلم جرا.
فالاستفهام في صدر الكلام يجعل السَّامعين يتنبهون ويتيقَّظون أكثر، لاحظ أنَّ القرآن الكريم فيه كثير من هذا الأسلوب ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ ﴾ [القارعة: 1، 2]، ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ﴾ في ثنايا الكلام ﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار: 16، 17]، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾ [المطففين: 19]، وهكذا.
قال تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ﴾ أفادني بعض أهل اللغة، فقال: دَرَجَ على ألسنة بعض النَّاس أن يقول: "مَا هو الجواب على هذا السؤال؟" و "ما هو الحل لهذا اللغز؟" قال: كان الأفصح أن يقول: "ما الجواب على هذا السؤال؟" و"ما الحل لهذا اللغز؟" أخذًا من سياق القرآن الكريم.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ أحدٌ منكم يذكر ضابطًا في "ما أدراك"، و"ما يدريك" ذكرته في أول مجلس.
{إذا جاء في القرآن "أدراك" فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخبرًا بالإجابة، لكن "يدرك" لا يعلم الإجابة}.
نعم، إذا جاء في القرآن: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ [الحاقة : 3، المدثر: 27، المرسلات: 14، الانفطار: 17، 18، المطففين: 8، 19، الطارق: 2، البلد : 12، القدر: 2، القارعة: 3، القارعة: 10، الهمزة: 5]، فقد أخبره ربه بالجواب، أمَّا إذا جاء ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ [الأحزاب: 63، الشورى: 17، عبس: 3]، فقد أخفى الله عنه الجواب، أظنها مقولة سفيان بن عيينة -رحمه الله تعالى- وطبِّق هذا الأمر، ترى مصداق هذا الضابط.
قال تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ ، أساليب استفهام غرضها التشويق لما سيكون بعدها، إذن نستفيد أنَّ طالب العلم، أو الواعظ، أو المتكلم؛ يحاول أن يُضمِّن كلامه استفهامًا يجيب عليه، أو يجعل السَّامعين يشاركونه في الجواب، فيكون ذلك أرسخ في أذهانهم.
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ تكذيب الرسل، وما وعدوا به، وما أخبروا به من أمور العقائد، هذا دأب أعداء الرسل دائمًا.
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ ، ثمود هم قوم صالح، وديارهم الحِجر، ﴿وَعَادٌ﴾ قوم هم هود.
وهنا فائدة: ديار ثمود الحِجر، وتُسمَّى مدائن صالح، وقد بيَّن ابن ناصر الدين في "تبصير المشتبه" أن الحِجر شيء، ومدائن صالح شيء آخر، هذه فائدة جغرافية أو تاريخية، قال: مدائن صالح هي عبارة عن قصور وبساتين، وصالح هذا أحد رجالات الدولة العباسية، كان له أنعام وبساتين بجوار الحِجر، والحِجر هو ديار ثمود -قوم النبي صالح عليه السلام- ففنيت مدائن صالح العباسي، وأُلحق الاسم بالحِجر، نظرًا لتشابه اسم النبي -عليه السلام- مع هذا الرجل، وهي موجودة الآن في مدينة العلا، ومشهورة ومعروفة.
وعاد هم قوم هود -عليه السلام- وفي سورة النجم آية: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى﴾ [النجم: 50]، فهل عاد الأولى غير عاد هذه؟
ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" وغيره من المفسرين، أنَّ عادًا الأولى هم قوم هود -عليه السلام- تارة يذكرونها، ويذكرون أحيانًا عادًا –قوم هود- هي التي جاءت من أصلاب عاد الأولى، وتارة يقال عاد الأولى بالإطلاق أو العموم. والصحيح قول الجمهور أنَّ عادًا الأولى هم قوم هود -عليه السلام.
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ ، يعني بالقيامة، كما كذبت قريش بالبعث، فكان الجزاء من جنس العمل لما كذبوا وأنكروا وجحدوا.
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ﴾ قوم صالح ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ ، وقد جاء في سورة الأعراف، وسورة هود تفصيل لما أصابهم، يعني أشمل مما جاء هنا بالإجمال، والقرآن الكريم تارة يذكر الخبر مجملًا، وتارة يذكره مفصَّلًا، مثل أصحاب السبت، جاء في البقرة ذكره، وجاء في الأعراف تفصيلًا لخبره.
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ ، الصرصر: الباردة الشديدة، وقوله: ﴿عَاتِيَةٍ﴾ ، أي: المزعجة.
قال تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ﴾ ما  كانت يومًا واحدًا، أو ساعة واحدة، ولكن كان عذابًا أليمًا وفظيعًا حكمة من الله تعالى.
قال تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومً﴾ متتابعة، يسمون صاحب الكي الذي يكوي :حَسَم، أي يعود ثم يكوي ثانية، ثم ثالثة، ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومً﴾ بلياليها.
هنا مسألة لطيفة: يقولون "سبع ليال" لأن الليلة تسبق يومها، يقال: الليلة الآن ليلة الأربعاء.
ذكر بعض الفقهاء لغزًا هنا، قال: كل يومٍ تسبقه ليلته، إلا يوم واحد تتبعه ليلته، ما هو؟
{أحسن الله إليك. يوم القيامة}.
لا. قرأتُ أنَّه يوم عرفة، فالليلة بعده تتبعه حُكمًا. قالوا: مَن جاء للحجِّ، وفاته وقوف عرفة بعد الزوال، فيستمر حكم الوقوف إلى الفجر. فهم جاءوا بذلك من باب الإلغاز، يقولون: الليل يَسبق يومه، إلا يوم عرفة، فالليلة التي بعده تتبعه.
قال تعالى: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ نخلة قديمة في عمرها، خوت ذبلت، يبست، سقطت. ودائمًا القرآن الكريم يَذكر مَنظرًا مشاهدًا وصفًا لحال القوم بعد عذابهم، مثل قوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ [الفيل: 5]، يعرفون العصف ويتخيلونه، إذا حُصِدَ الزرع، ثم عاثت فيه الدَّوابُّ والطُّيورُ والسِّباعُ يكون شكله بشعًا.
إذا رأيت النَّخل بعد أن كان مثمرًا وأخضرًا في تيجانه، ورأيت المياه والتمر، ثم بعد حينٍ ترى الأرض صحراء قاحلة، ولا ثمر، ولا خضرة، والنخل يابس جاف، وساقط، هذه نخلة ساقطة، وهذه على وشك، منظر غير مقبول.
قال تعالى: ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾ انتهى أمرهم، هذا العذاب لو كان ساعة واحدة لقضى عليهم، ولكن الله جعله سبع ليال وثمانية أيام من باب شناعة جرمهم وخطيئتهم.
نقف جميعًا عند هذا الحدِّ، ونسأل الله جميعًا أن يرزقنا ومَن يسمع ومَن يرى ومَن حضر العلمَ النَّافعَ والعمل الصالحَ، إنَّه تعالى سميعٌ مجيبٌ، شكر الله لكم، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
------------------------------
[33] صحيح البخاري (4919). ولفظه" يكشِفُ رَبُّنا عن ساقِه، فيسجُدُ له كلُّ مؤمنٍ ومُؤمنةٍ، ويبقى كلُّ من كان يسجُدُ في الدُّنيا رياءً وسُمعةً، فيذهَبُ لِيَسجُدَ، فيعودُ ظهرُه طبقًا واحدًا".
[34] اللفظ: " وتبقَى أقوامٌ ظهورُهم مِثل صياصي البقرِ فيريدونَ السجودَ فلا يستطيعونَ" صعفه الألباني في تخريج كتاب السنة (630).
[35] صححه الألباني في صحيح ابن ماجة (3261).
[36] صحيح البخاري (5641).
[37] حسنه الألباني في صحيح الترمذي (2396).
[38] لفظ الحديث: " إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى". صححه الألباني في صحيح أبي داود (3090).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ