السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السابع عشر من الشهر الثالث، للعام التاسع والثلاثين، بعد المائة الرابعة والألف،
حياك الله يا شيخ صهيب، وحيى الله الشيخ عبد الكريم، وحيى الله الشيخ عبد الله.
اليوم سيكون الكلام -إن شاء الله تعالى- عن سورة الجن، وقبل أن نسمع الآيات، هذه
السورة مكية، بل ذكر بعضهم بأنها مكية بالاتفاق، هذا أولًا، ثانيًا، ذكروا أو ذكر
كثير من المفسرين أن لها اسمين: المشهور قل أوحي، والثاني: الجن، يعني هذان الاسمان
مشهوران لهذه السورة.
ثالثًا: آياتها ثمانٍ وعشرون آية، وبعض المفسرين أو بعض القراء جعلها سبعًا وعشرين
آية، يبدو أنه دمج من خلال رواة القراء آية شبك آيتين، أو جعل آيتين آية واحدة،
وهذا له نظائر في بعض السور.
وأما فضائلها: فحسب البحث والعلم، حسب البحث القاصر والسؤال، لم يرد في فضلها حديث
صحيح، قد ورد: أن من قرأ، طبعًا حديث باطل، لكن يُعرف ليُحذر، من قرأ سورة الجن،
أعطاه الله عدد من صدَّق أو كفر بمحمدٍ عتق رقبة، وهذا حديث ليس له زمامٌ ولا خطام.
هذه السورة الكريمة، مبدوءة بـ"قل"، وقد ذكر بعض أهل العلم مصطلحًا للسور المبدوءة
بـ"قل" تُسمَّى السور القواقل، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ، ﴿قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ﴾ ، ولا أدي هل أدخلوا سورة الجن معهم؟ أو أنها خاصة بقصار السور.
هذه السورة الحقيقة آياتها يعني كثير من الحفاظ يخطئون في بعض آياتها، وقرأت أثرًا
أظنه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أو عن غيره، أنه ذكر عند اختبار الحافظ
ثلاثة مواطن، من خلال سماع الأئمة في رمضان، وغير رمضان، كنت أقول: إذا أردت أن
تعرف حفظ الحافظ، فاسمع إلى حفظه في آية الطلاق في البقرة، وآيات المواريث في سورة
النساء، وآية الأطعمة في سورة الأنعام، وقصص الأنبياء في سورة الأعراف، هذه مقاطع
من السور، وأما السور الكاملة، ففي سورتي النحل والجن، فهذا نظر لي، وقد أكون..
هذه السورة الكريمة -كما قلت لكم- تتحدث عن الجن، وعن قصة الجن مع النبي -صلى الله
عليه وسلم-، والجن كما ذكر بعض أهل العلم أن العقلاء من الخلق ثلاثة: الإنس، والجن،
والملائكة، وللفائدة العلمية قالوا: أولهم خلقًا الملائكة، ثم الجن، ثم الإنس،
الإنس هم الأخير، بآية الحجر أن الجن قبلهم: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن
صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن
نَّارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: 26، 27]، ولما خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له،
فذكر بعضهم الملائكة، ثم الجن، ثم الإنس.
والجن سموا بالجن: لاجتناهم وخفائهم، ولهذا سمي الجنين بالجنين؛ لاختفائه في بطن
أمه، وتُسمَّى الحديقة جنة أو جنينة؛ لأن أشجارها الظاهرة تستر أشجارها الباطنة أو
الداخلة في جوفها.
ومما ينبغي أن يُشار إليه: أن بعض الموسوعات أو بعض موسوعات المعارف المشهورة، فيها
أخطاء وبخاصة في ما يتعلق ببعض المصطلحات، أو بعض الأمور الشرعية، فمثلًا لما ذكروا
الملائكة، قالت بعض الموسوعات: الملائكة نوازع الخير في الإنسان، وهذا مجرد أثر من
آثار الملائكة -عليهم السلام-، لكن ما ذكروا أنهم مخلوقون، وأن لهم صفات إلى آخره،
كما قالوا في أن الجن نوازع الشر، وهذا التعريف فيه خلل، فالجن خلق من خلق الله،
مكلَّفون، لهم صفات متنوعة، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الجن أصناف
ثلاثة: قسم يطيرون، وقسم حيَّات وعقارب، وقسم يحلون ويظعنون» أو كما قال -عليه
الصلاة والسلام-.
نسمع الآن المقطع الأول من السورة.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ
الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدً﴾ .
﴿قُلْ﴾ قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ ، أُوحِيَ إِلَيَّ
هنا فائدة نحوية قرأتها: أن كثيرًا من المتأخرين النحاة يقولون هذا مبني للمجهول،
بينما قرأت أن المتقدمين يقولون: هذا مبني لما لم يسمَّ فاعله، تأدُّبًا مع الله
-عز وجل-.
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ قل يا محمد، أخبرهم بأنه أوحي إليه، ذكروا ونسيت أن أذكرها
في المقدمة: أن الجن كانوا يسترقون السمع من السماء، كما سيأتي، وأنهم لما أرادوا
الاستراق رُموا بشُهب، فعلموا أن في الدنيا قد حدث أمر، ولما أعطاهم الله من سرعة
التنقل، طافوا الأرض يبحثون عن هذا السبب، حتى مروا بسوق عكاظة في وادي نخلة في
تهامة، فسمعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقرأ القرآن، فعلموا أن هذا المقروء من
أجله مُنعوا من استراق السمع، وأن من أراد الاستراق فإنه يُرجم أو يُرمى بشهابٍ
ثاقبٍ.
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ﴾ ، يفرِّق بعض أهل اللغة بين استمع وسمع،
فيقول: سمع مجرد، بعضهم يقول أن الأمر سيان، وبعضهم يقول: استمع زيادة مبنى وفيها
زيادة معنى، استمع ووعى ما سمع، ولهذا يفرِّق بعض الفقهاء هل إذا قرأ القارئ سجدة
في غير صلاة، فهل يسجد من يسمعه؟ قال: أما المستمع فيسجد أفضل، وأما السامع فهو
بالخيار، قالوا: لأن المستمع من جلس بقصد الاستماع، أما السامع مجرد مر أو أنه لم
يكن قاصد الاستماع.
﴿نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ نفر، العرب وضعت مصطلحات لحصر عدد أو أعداد معينة، النفر
قالوا: ما دون العشرة، وبعضهم قال حده أربعون، ما دون العشرة، وبعضهم قال: ما دون
الأربعين، ومثل البضع من الثلاث إلى التسع، ومثل النيف من الواحد إلى الثلاثة.
﴿نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ كم عددهم؟ الله أعلم، المهم أنهم مجموعة، ثم أيضًا هنا
يُقال: لا يضر أن يُعرف العدد، وأنبِّه إلى أن بعض المفسرين والعلماء -عليهم رحمة
الله- نبَّهوا إلى أن بعض أهل التفسير يذكر كلامًا لا يفيد القارئ، وليس له محصَّلة
علمية، ولا يترتب عليه حكم شرعي، ولا يترتب عليه إيضاح جهالة، وإنما هو كما يقال من
فضول العلم، ومما يحتاج إليه، ومثَّلوا بالشجرة التي أكل منها آدم، ما لونها؟ ما
نوعها؟ نقول: ما يهمنا ذلك، ومثل كلب أصحاب الكلب، ما لونه؟ يقول: ماذا يترتب عليه،
فضلًا أن لونه كذا، أو كذا، ما يترتب عليه شيء، وهذا من فضول القول، ولا ينفع
السامع، ولا ينفع الكاتب.
﴿نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَ﴾ استمعوا وفهموا، ثم هنا قال
أيضًا ﴿سَمِعْنَ﴾ على من قال بمعنى واحد، وقد يقال هنا أنهم ذكروا الاستماع
والوعي، ولا مانع من التعبير، ولهذا جاء في الحديث: «لقد خف على داود القرآن»،
الزبور يقرأ.
﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبً﴾ كلام ما سمعوه من قبل، سمعوا الشعراء، وقول
الكهان، لكن هذا الذي سمعوه تعجبوا من فصاحته، ومن بلاغته، ومن نظمه.
﴿فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبً﴾ أشار بعض المفسرين إلى أن هذا فيه
تبكيت لكفار قريش، سمعوا القرآن مرات وكرات، ومع ذلك ما تأثروا، ولا استجابوا،
وهؤلاء سمعوه لأول مرة، فكانوا أعقل ممن سمعوه مرات ولم يستفد ولم يتعظ.
﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبً﴾ عجيب في نظمه ولفظه ومعانيه.
﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ الرشد جاء ذكره في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، تعرف
الآية يا شيخ صهيب فيها ذكر الرشد؟ أي واحد منكم يعرف الآية، ذكر الرشد.
{في آية الكهف، في دعاء أصحاب الكهف، قالوا: ﴿وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا
رَشَدً﴾ [الكهف: 10]}.
المهم أن الرشد، هو ما فيه صلاح الأمر في الدين والدنيا، وما فيه السعادة،
والطمأنينة، وفيه مرضات الله تعالى، أي هو الحياة الطيبة.
﴿فَآمَنَّا بِهِ﴾ هذا القرآن يهدي إلى الرشد، يهدي للتي هي أقوم، فالقرآن يهدي إلى
كل الخير، إما نصًّا، وإما تضمُّنًا، وإما التزامًا، فكل آية في القرآن، كل القرآن
الكريم يدل على الخير، الخير الحسي والمعنوي، خير الدين، وخير البرزخ، وخير الآخرة.
﴿فَآمَنَّا بِهِ﴾ سرعة الاستجابة، سمعوا، وتعجبوا، وعلموا أنه يدل إلى الرشد، وهذا
من توفيق الله لهم، هداية إلهام وتوفيق من رب العالمين.
﴿فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ﴾ لاحظ، من لوازم الإيمان، وسلامة الإيمان ألا يكون
هناك شيء من الشرك. فكما قال بعضهم: قوة هنا سلامة إيمان الجن هؤلاء أنهم صدَّقوا
ثم تبرَّءوا ﴿فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدً﴾ .
ومن هنا يتبين أن دعوة الناس للتوحيد، وتعظيم شأن التوحيد، وخاصة عند غير المسلمين،
من أهم المهمات، فإذا دخل التوحيد إلى قلب الإنسان، تتغير أحواله، تتغير نفسيته،
تتغير مشاعره.
نسمع إلى المقطع الثاني.
﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً ولَا وَلَدًا *
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطً﴾ .
﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَ﴾ كلمة جَدُّ، أو لغة العرب، قد تأتي اللفظة،
وتستعمل في أكثر من موضع، بحسب القرائن، أنا أسألكم، لو دخلتم مستشفى، ثم وجدتم
هناك لوحة تقول: قسم العيون، ما المراد بالعيون؟ العيون الجارحة الباصرة، لو دخلنا
مثلًا وزارة الزراعة، وزارة زراعة، ثم لوحة أخرى قسم العيون، هل يقال العيون
الجارحة؟
{لا}.
لماذا؟
{لأنه هنا يُقصد بها عيون المياه}.
لماذا فرَّقت؟ لماذا ما تكون العيون هذه؟ لعل فيه وزارة الزراعة قسم للعيون جراحة.
{بقرينة}.
القرينة، أن المكان يتعلق بالزراعة والمياه وما شاكلها.
﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَ﴾ قرأت في بعض وسائل الاتصال أن هناك من يخطئ من
يقرأ بفتح ﴿جَدُّ رَبِّنَ﴾ ، ويقول: لا يُقال ﴿جَدُّ رَبِّنَ﴾ ، وإنما يُقال:
جِدُّ، وهذا من الجهل، ومن القول بلا علم، فنحن في أول الصلاة نذكر هذه الصلاة،
وعقب الصلاة نذكر هذه اللفظة، أين يا عبد الكريم في أول الصلاة؟
{في دعاء الاستفتاح}.
«وتعالى جدُّك»، وبعد الصلاة: «ولا ينفع ذا الجد، منك الجد»، ذا العظمة، لا ينفع ذو
العظمة، ولا ينفع ذو السلطان والقوة لا ينفع، فقوة كل أحد لا شيء عند قوة الله،
وسلطان كل أحد وعظمته لا شيء عند عظمة الله -سبحانه وتعالى-.
﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَ﴾ عظمة ربنا، وعظيم شأن ربنا، ﴿مَا اتَّخَذَ
صَاحِبَةً ولَا وَلَدً﴾ لم يلد ولم يولد، الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده
شيء، ولهذا كان قول هؤلاء الكفرة الذين ادعوا أن له ولدًا: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ
شَيْئًا إِدًّ﴾ [مريم: 89]، عظيمًا ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ
وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدً﴾ [مريم: 90- 93].
﴿مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً ولَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى
اللَّهِ شَطَطً﴾ ، الجن قبل إيمانهم، وقبل سماعهم للقرآن الكريم، كان هناك لهم
قادة، يتبعون كلامهم، ويأتمون بما يقولون، فلما جاء القرآن، ومن أسمائه الفرقان،
فَرَقَ بين الحق والباطل، وعلموا أن أولئك الزعماء، كانوا يقولون قولًا شططًا،
خارجًا عن الحق، وبعيدًا عن الحق، ما الذي أدراهم؟ لما سمعوا القرآن، وبضدها تتميز
الأشياء، ولهذا دائمًا كلما أمعن الإنسان التدبير في القرآن الكريم، كلما زاد
استيضاحًا ولزومًا لطريق الصواب، واجتنابًا عن طريق الباطل، ولهذا قال: ﴿وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: 55]، قالوا
فيها قراءة: وَلِتَسْتَبِينَ يا محمد سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ، أخرى كما سمعت:
﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ أي تتضح لكم سبيل المجرمين.
المقطع الذي بعده.
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا *
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ
فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ
اللَّهُ أَحَدً﴾ .
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّ﴾ الظن هنا بمعنى اليقين، وهنا كما تقدم، قد تأتي الكلمة ولها
أكثر من معنى، تُعرف بالقرينة، وتُعرف بسياق الكلام.
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّ﴾ أي: أيقنا، ﴿أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى
اللَّهِ كَذِبً﴾ هذا كلام مستبعد، وبعيد عن الذهن؛ لأنه أمر عظيم أن يكذب الإنسان
على ربه، بل الكذب بذاته مستبشع فطرة وعرفًا، ناهيك عن قبحه شرعًا، والكذب أنواع،
وأعظم الكذب: الكذب على الله -عز وجل-؛ لأنه هو أعظم أنواع الكذب، ولهذا قال الرسول
-صلى الله عليه وسلم-: «إن كذبًا عليَّ ليس ككذبٍ على أحد، فمن كذب عليَّ، فليلج
النار»؛ لأن من كذب على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب على من؟ كذب على الله
تعالى، هو الذي أرسله.
وهنا نستفيد أيضًا قبح شأن الكذب، وأن المعصية تتفاوت في جرمها، أو في عظيم شناعتها
بحسب أحوالها، كما أن الطاعة أيضًا تتفاوت مرتبتها بحسب أحوالها، فمثلًا من تبسم،
التبسم صدقة، من برَّ والديه وأطاع أمرهما، هذا مأجور، فإذا تبسم في طاعته في
وجههما، فقد جمع بين أمرين، فإذا تلفظ في الحديث معهم بألفاظ طيبة، جمع بين البر
الفعلي، والبر القولي، والتبسم.
﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ
فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾ ، هذه الآية ذكر أهل التفسير لها معانٍ تحتملها الآية، كان
رجال من الإنس يعوذون، يلوذون، برجال من الجن، فزاد الجن أولئك الرجال الإنس رهقًا،
خوفًا وذُلًّا، إذا نزلت بهم نازلة، ذهبوا يستغيثون بأولئك الجن، حتى أن بعضهم إذا
نزل الوادي، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي، ليحمي ماشيته، أو ليحمي ماله وأولاده، فإذن
زاد الجن الإنس ذُعرًا وخوفًا وذُلًّا، والتفسير الآخر: زاد الإنسُ الجنَّ، الإنسُ
فاعل، زادهم كِبرًا، وزادوهم عُجْبًا في غير محله، لماذا؟ لتعظيمهم.
ونستفيد هنا فائدة: أذكر في مبحث القيام للداخل، قالوا: إذا كان الداخل يصيبه عُجب
وفخر وكبرياء إذا قام الناس له، فلا يقوم له أحد، إلا إذا ترتب على عدم القيام مضرة
أو مفسدة، وليكون هذا منهجًا في حياة المرء، أحيانًا يقدِّر بعضنا شخصًا من الناس،
فيبالغ في تقديره ومدحه، فيذل نفسه، ويضر غيره، لا تلبسه ثوبًا أوسع منه، ولا تذل
نفسك؛ لأنك الآن بتعظيمك الزائد، والمبالغة في مدحه وكذا، أنت لا تضره فقط، بل تضر
نفسك، تذل نفسك، ويصاب بالعُجب، ويزداد احتقارًا لك، ولو عاملته بقدره، لقدَّرك
واحترمك.
﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ
فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾ .
لعل المخرج يعيد المقطع مرة ثانية.
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا *
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ
فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ
اللَّهُ أَحَدً﴾ .
ظنوا أن ليس هناك بعثة، وأن النبوة انقطعت، وهذا الظن كله ذهب هباءً منثورًا ببعثة
نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
نسمع المقطع الذي بعده.
﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا
وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدً﴾ .
﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾ أعطى الله الجن قوة يتمكنون من التنقل السريع،
ولهذا من شواهد هذا ما جاء في سورة النمل، لما سليمان -عليه الصلاة والسلام- أراد
إحضار عرش صاحبة سبأ: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ [النمل: 37، 38]، الملك في
كرسيه ما يطيل الجلوس، وهذا سيذهب إلى اليمن، والعرش بثقله وحمله ثم يأتي به إلى
الشام، هذه قوة في التحمل، وقوة في الانطلاق والعودة، فمكَّنهم الله من أمور،
واعتادوا على استراق السمع، فلما أرادوا -كعادتهم- الاستراق، وجدوا أن السماء ليست
كما عهدوها، كانوا يلجون ويستمعون إلى آخره، حدود معينة، لكن هذا الأمر المألوف
عندهم تغير، فعلموا أنه قد حدث أمر جلل، فهذا التغير في السماء، ومنعهم من
اقترابها، وأنها مملوءة حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا.
هنا يقال: لو شاء الله ما جعل فيها أحدًا، لكن جعل من باب الحِكم في تعظيم رسالة
محمد -عليه الصلاة والسلام-، وإلا فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، لكن من باب
الأسباب.
﴿مُلِئَتْ﴾ لاحظ التعبير ﴿حَرَسً﴾ الحرس، الحارس قد يكون ضعيفًا، فيُستغفل، لكن
هنا ماذا قال: ﴿حَرَسًا شَدِيدً﴾ وليس فقط.. من الحرس، وهناك أيضًا ماذا؟ شُهُبٌ
من نار، يُرمى بها من استرق السمع.
أعد الأخ المخرج المقطع مرة أخرى.
﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا
وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدً﴾ .
﴿وَأَنَّا كُنَّ﴾ هذا الفعل الماضي، في المضي، ﴿كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَ﴾ وهذا كله
بمشيئة الله تعالى، أقدرهم على أمور لحكمة، ثم منعهم لحكمة.
﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ﴾ جمع مقعد كُثر، كلٌّ له مقعد، هذه
المقاعد، الله تعالى أعلم بكيفيتها، قد يكون في الهواء، وقد يكون لهم أشياء، الله
أعلم بذلك، أمور غيبية، لا يضر الجهل بها؛ لأن المعنى واضح، والمقصد واضح.
﴿نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ﴾ هذا في المضي، ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ﴾
المضارعة الآن ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ﴾ ماذا يكون له؟ ﴿يَجِدْ لَهُ﴾ له هو، ذلك
المستمع، له خاصٌّ به، كما قال: ﴿غِلْمَانٌ لَّهُمْ﴾ [الطور: 24]، خاصٌّ بأولئك،
كما أن هؤلاء الذين يستمعون لهم إذا استمعوا وتعدوا حدودهم، يجد له شِهَابًا
رَّصَدًا، هنا كما يقال الشيء المصيود، أو المصاب قد تخطئه الرمية، لكن هنا لا،
يرصده، لا يتعداه، بل يصيبه ولا يتجاوزه.
نعم بعده.
﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ
رَبُّهُمْ رَشَدًا * وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا
طَرَائِقَ قِدَدً﴾ .
﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي﴾ هنا القول ب﴿لَا نَدْرِي﴾ هو ليس المطلوب، هو الواجب، أن
يتكلم الإنسان بعلم، أو يصمت بحلم، وَأَنَّا لَا نَدْرِي من هذا الأمر، أمور غيبية،
أمور كونية، أمور عظيمة، تغير بها مجرى التاريخ، بهذه البعثة النبوية، على صاحبها
أتم الصلاة والتسليم.
﴿وَأَنَّ﴾ أي الجن يقولون ﴿لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ
أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدً﴾ قالوا: من أدب الجن: لما ذُكر الشر، أتوا بما لم
يسمَّ فاعله، ما يُعرف بالمبني للمجهول، ولما ذُكر الخير الرُّشد، نسبوا ذلك لله
تعالى، مع أن الأمر كله لله.
﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ
رَبُّهُمْ رَشَدً﴾ ، هذه الرسالة هي من عاند وخاصم وكفر بها، هي وبالٌ عليه، ومن
آمن وصدق واتبع، فهي رحمة ورشاد له.
وهنا ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي﴾ ينبغي للإنسان في الأمور التي لا يظهر له، أو الأمور
الغيبية، أو الأمور التي يسمع ما ينبغي للإنسان أن يجزم بخبر، وهناك احتمالات أخرى،
قد تكون في القوة نفسها؛ لأن الجزم والقطع بالنتيجة ليس منهجًا سويًّا، بل قد يكون
من القول بلا علم، فهؤلاء الجن تأدبوا، ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي﴾ ، ما أدركوا، حتى
الآن ما ظهرت النتيجة، وما ظهر الأمر واضحًا، حتى يجزموا بأي الأمرين ذلك.
فنستفيد أن الإنسان بخاصة طالب العلم لا يجزم، وبخاصة فيما يتعلق بتنزيل الوقائع
على الله -سبحانه وتعالى-، أو تنزيل النصوص على الوقائع المعاصرة، فالجزم بها
والقطع هذا ليس منهجًا سويًّا.
﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدً﴾
الإنس يتفاوتون، فيهم الطائع، فيهم المقصِّر، فيهم المنافق، فيهم الكافر، كذلك
الجن، فالجن يختلفون في طاعة الله تعالى، منهم صالحون، ومنهم دون ذلك كما سيأتي
﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾ ، وهذا بحسب اجتهاد الشخص،
وبحسب ديانته وصدقه، واستجابته.
﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدً﴾ مختلفين، قِدَدًا قَدَّدَ اللحم أي: قطَّعه، متفرقون،
أحزاب وطوائف، كما في الإنس.
الأخ المخرج الذي بعده، بارك الله فيك.
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ
هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن
بِرَبِّهِ فلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقً﴾ .
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ
هَرَبً﴾ يعرفون مهما فعلوا، ومهما ابتعدوا لن يصلوا إلى نتيجة، ففروا يعني يفرون
من الله إلى الله، أين يفرون؟ وهذا أيضًا من بالغ علمهم، يعني لن يفروا من الله،
ولن يهربوا، ولهذا من اللطائف: أن أحد الناس أتى إلى العلماء، فقال: إني أريد أن
أعصي الله، وألا يحاسبني، فهذا العالم أراد أن يعطيه جوابًا، ذكَّرتني هذه الآية
الكريمة، قال: إن استطعت تذهب إلى مكان لا يراك الله فيك فافعل، قال: لا أستطيع،
قال: إن استعطت أن تعصي الله، أو بمعنى كلامه، المهم أنه كل ما قال، قال لا أستطيع،
قال: إذن لا تعمل المعصية واعمل الطاعات تؤجر عليها.
﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ﴾ سرعة استجابة وقبول، وانظر إلى
ما فتح الله عليه أبصارهم وقلوبهم: ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ﴾ إيمان، وقد تقدَّم في
أول السورة: ﴿فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ﴾ إذن تخلصوا من شوائب الشرك جميعًا،
وأصبح إيمانهم لله تعالى خالصًا، ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فلَا يَخَافُ بَخْسًا
ولَا رَهَقً﴾ ، ولهذا في سورة التغابن: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾
[التغابن: 11]، قرأت وسمعت أن فيه قراءة، لا أدري، أنتم أدرى مني: ﴿وَمَن يُؤْمِن
بِاللَّهِ يَهْدَأ قَلْبُهُ﴾ ، ولهذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، كما في حديث
هرقل وأبي سفيان، يشعر الإنسان بالراحة النفسية والبدنية، ومن ثمار ذلك: أن من يؤمن
بربه يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا، لا يقلق، ولا يقنط، ولا ييأس، وإذا نزلت به
المصائب، يتعامل معها التعامل الشرعي، لا يعترض على قضاء الله وقدره، بل يرضى عن
أقضية الله الدينية والكونية، ويسأل الله أن يرضى عنه، ولهذا كلما زاد إيمان العبد،
كلما تلذذ في الحياة، تلذذ في قراءته، في عبادته، حتى في أكله وشربه ونومه، وفي
مشيته وجلوسه، يشعر بحلاوة الإيمان.
﴿فلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقً﴾ وعلى النقيض، ضعيف الإيمان يقلق، ويقنط منذ أن
تصيبه مصيبة، ويحزن، ويبقى في خوف مستمر، وفزع، وساوس؛ لأن إيمانه ضعيف، وكما قوي
إيمان العبد، كلما زاد خيره الحسِّي والمعنوي.
الذي بعده.
﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدً﴾ .
قبلها الآية مرَّت: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ ، وهنا:
﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدً﴾ ، وتقدَّم الرُّشد، أنه الخير، أو الجامع لخيري
الدنيا والآخرة، الحسي والمعنوي، المسلمون منهم تَحَرَّوْا رَشَدًا، ووفِّقوا إليه.
نسمع الذي بعده.
﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا * وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا
عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن
يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدً﴾ .
يا شيخ صهيب، الله تعالى يحب الْمُقْسِطِينَ، وهنا قال: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ
فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبً﴾ ، كيف ذلك؟
{الْقَاسِطُونَ هنا على معنى: الظالمون، ليس على معنى الْمُقْسِطِينَ}.
أي نعم. هناك فرق بين الْمُقْسِطِينَ، وبين الْقَاسِطِينَ، فالمُقسِطون هذه صفة مدح
لهم، العدل والفضل، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فصفة ذم، وكما ذكر ربنا: ﴿وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ﴾ يختلفون مراتب، الكفار، الظلمة، هذا قاسط في حكمه، في قضائه، ظالم
وجائر، والأكبر الذي هو الكفار هؤلاء.
﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبً﴾ يعني انظر إلى المبالغة في
عذابهم، أبدانهم وعظامهم حطب لجهنم، زيادة في تعذيبهم، أجارنا الله جميعًا ووالدينا
والسامعين والمشاهدين من ذلك، وجعلنا جميعًا من أهل الفردوس الأعلى.
﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا *
لِنَفْتِنَهُمْ﴾ هنا قالوا: هذه الآية كمثل: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ﴾ [الأعراف: 96]، لو أنهم أطاعوا الله
واتقوه، لجاءتهم الخيرات والبركات، وهؤلاء لو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
-الإسلام- أَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا، وقال بعضهم.. عفوًا، ذكر الماء دون غيره،
قال: لأن الماء أصل الأشياء، فذكره يدل على ذكر ما دونه من الطعام والشراب، وقيل
لأن الماء كان قليلًا في ديار العرب، جبال مكة، فذكره تعظيمًا لشأنه.
﴿لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ ، قال بعضهم: وللآية
معنًى آخر: أنهم لو لم يُسلموا، واستمروا على عنادهم، سننعم عليهم، لكن هذه النِّعم
لهم أم عليهم؟ ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182]،
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ [يونس: 24]، فتارة
النِّعم تكون مِنَحًا من الله، وفضلًا للطائعين، لكنها تكون استدراجًا وعقوبةً
مُعَجَّلةً للعاصين.
﴿وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدً﴾ ، قالوا:
﴿صَعَدً﴾ لأن العذاب يغشاه، يأتيه من فوقه، كأنه صعد عليه من شدته، والإعراض عن
ذكر الله من أعظم الأمور: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنكً﴾ ضيِّقة، نكد، ﴿وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]، يعني
لاحظ، في الدنيا في عمى معنوي، لا يُبصر الحق، ونكد، وفي الآخرة أعمى عن الخير،
﴿وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ ، عذابٌ في الدنيا مُعَجَّل، وعذابٌ في
الآخرة مؤجَّل.
أقف عند هذا الحد، شكر الله لكم، وللمشاهدين، وللإداريين، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.