الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

7888 12
الدرس الأول

تفسير جزء تبارك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد.
ففي هذا اليوم الثالث عشر من الشهر الأوَّل للعام التاسع والثلاثين، بعد المائة الرابعة والألف للهجرة النبويَّة، على صاحبها أتم الصلاة والتسليم.
ومن ضمن برامج الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، برنامج البناء العلمي، وبعد الترحيب بالمشاهدين الأكارم، والحاضرين الأكارم، وقبل ذلك أشكر الله تعالى، الذي يسَّر ما كان عسيرًا، وقرَّب ما كان بعيدًا، وهيَّأ لنا جميعًا مِن أمورنا رشدًا.
ثم أشكر القائمين على هذه الأكاديمية المباركة، التي تُعنى بنشر العلم وتفقيه الناس، وعلى رأس القائمين كما بَلَغَني الشيخ راشد بن عثمان الزهراني، والإخوة الأكارم الذين يعملون تحت إدارته، فشكر الله للجميع، وبارك الله في جهود الجميع، وحيى الإخوة الأكارم الحاضرين، فحيَّاكم الله تعالى وبيَّاكم.
وسيكون الكلام -إن شاء الله تعالى- متعلِّقًا بتفسير جزء تبارك، وأحبُّ أن أطرح مقدِّماتٍ قبل أن أنقل بعض كلام أهل العلم عن تفسير هذا الجزء، وعن سوره.
أحب أن أقول: إنَّ العلم له فضلٌ وفضائل، وصاحب العلم له رفعتان: رفعةٌ عامَّة، ورفعةٌ خاصة.
الرفعة العامَّة والخاصَّة اجتمعتا -كما قال بعض أهل العلم- في قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، فأهل الإيمان رفعتهم عامَّةٌ على غيرهم ممَّن ليسوا من المؤمنين.
والرفعة الخاصَّة رفعة أهل العلم على سائر أهل الإيمان، ممَّن ليسوا من أهل العلم، وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ شرف العِلم مِن شَرف المـَعلوم، وأعظم العلوم ما كان متعلِّقًا بكتاب الله تعالى، وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
ويعلم الجميع عِظم شأن التفسير، وممَّا يدل على عظيم شأن هذا العلم الشريف كثرة التصانيف في التفسير، مِن المخطوط، والمطبوع، والمفقود، وما يتعلَّق بالتفسير من العلوم الأخرى، علوم الناسخ والمنسوخ، وعلم أسباب النزول، وعلم غريب القرآن وما يتبع ذلك.
وقد ذكر أهل العلم في تعريف التفسير تعاريف كثيرة، قال بعضهم:
إنَّ التفسير في اللغة مأخوذٌ من التفسرة.
التفسرة: آلةٌ يدوس بها الطبيب بَدَنَ المريض؛ فيعرف -بإذن الله تعالى- مكمن دائه وعلَّته.
وقيل: مأخوذٌ من مِسفرة؛ لأنَّها تُسفر عن وجه الأرض، كما أنَّ التفسرة تُبيِّن مكان العلَّة، كذلك التفسير يصل القائل إلى المقصد والحِكَم والأحكَام التي تضمَّنت الآيات.
وقيل مأخوذٌ من الإسفار، وهو الإظهار؛ فالتفسير يُظهر ما يخفى من معاني أو من حكم من أحكام الآيات للناس.
وذكر آخرون في تعريف التفسير اصطلاحًا أو شرعًا، أنَّه علمٌ يُفهَم به كتاب الله، المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويُستخرج من ذلك حِكَمه وأحكامه، ويُستمد من علوم اللغة، والنحو، وما يَتبع ذلك من كتب أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وقبل ذلك من سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا العلم مِن أعظم العلوم، وقد أقول -ما بها سُبِقْت- إنَّ هذا العلم أُسمِّيه أنا أبو العلوم؛ لأنَّ فيه علم الاعتقاد، وفيه علم الفقه، وفيه علم السلوك والرقائق، وفيه علم النحو، فالقرآن الكريم جامع لجميع أنواع العلوم، ولهذا ترى كتب التفسير في بحارٍ زاخرةٍ بالفوائد المتنوِّعة، وتنوُّع العلوم، وتنوُّع طرق التفسير، وتنوُّع ذات التفسير.
مِن أهميَّة هذا العلم أنَّه يَزيد الإنسان بصيرةً بكلام الله تعالى، وإنَّ ممَّا يُؤسَف له -أيُّها الأكارم- أن ترى أناسًا لا أقول من عامَّة الناس، بل من القرَّاء ممَّن يحفظون القرآن الكريم بالقراءات المتواترة، وعندهم علمٌ شموليٌّ بالقراءات الشاذَّة، وعندهم إجازات، هم وغيرهم كثير، ولا أقول -إن شاء الله- من باب التشاؤم، لكن أقول: إنَّ كثيرًا من سواد المسلمين -وبالأخصِّ من بعض القرَّاء- يقرءون القرآن الكريم يُتقنون تلاوته، يُعنون بأحكام التجويد، يحرصون على الإجازات، وعلم الوقوفات والمدود.. إلى آخره، لكن لو سألت أحدًا منهم أو من عامَّة المسلمين عمومًا، قلت له: لو أنا ذكرت في حديثي مفردةً غريبةً، مثلًا: أنت يا شيخ صهيب وسعيد وسفيان، أنا من بلدٍ وأنتم من بلد، فلو ذكرت كلمةً أو أنتم تكلَّمتم معي، وذكرتم كلمة، قد تكون عندكم في بلدكم شائعة، أنا ما أعرفها، تكون هذه الكلمة قطعت عليَّ فَهم الحديث؛ فبعض الناس أو كثيرٌ من المسلمين، وبعض القرَّاء إذا قلت له الآن: أنت تقرأ قِصار السور -دع عنك طوال السور-، فما معنى ﴿الصَّمَدُ﴾ ؟ ما معنى ﴿كُفُوً﴾ ؟ ما معنى ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ ، ما معنى ﴿غَاسِقٍ﴾ ؟ ما معنى ﴿وَقَبَ﴾ ؟ ما معنى ﴿الْخَنَّاسِ﴾ ؟ -أيضًا- ما معنى ﴿تَبَّتْ﴾ ؟ ما معنى ﴿أَبَابِيلَ﴾ ؟ ما معنى ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحً﴾ ؟ ما معنى ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحً﴾ ؟ وسورة التكوير، ما معنى ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ﴾ ؟ وسورة المدثر ﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ ؟
إذا ترقيت السور الطويلة ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ﴾ ما معنى هذا الكلام؟ إذا علمت معناه، ثم سمعت الآية أو قرأتها، تتلذَّذ بسماعها أو بقراءتها؛ لأنَّك عرفت معناها.
فلو قال لك قائلٌ مثلًا: ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ ؛ الغاسق: هو الليل إذا اشتدَّ ظلامه، وأمرنا بالتعوُّذ منه؛ لأنَّ سلطان الشيطان في الليل أقوى من سلطانه في النهار، وقد جاء في الحديث: «إِذَا انْتَشَرَتْ، أَوْ جَاءَتْ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تَنْتَشِرُ فِيهَا الشَّيَاطِينُ»[1].
الشاهد: أنَّ هذه الكلمات إذا فهمناها أصبحت تلاوة الآية تتشنَّف بها الآذان، تتلذَّذ بسماع ما تَفهم، لكن يقرأ الإمام، أو تقرأ أنت، أو تسمع في المذياع يقرأ مثلًا: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ﴾ ، ما معنى "الخُنَّس"؟ ما معنى "الجوارِ"؟ ما معنى "الكُنَّس"؟ أظنُّ واضحٌ مقصدي.
هذا ممَّا يُعين علم التفسير على كشفه؛ بل من أهميَّته أفرد العلماء له مصنَّفات، سمُّوها "علم غريب القرآن"، ويُسمَّى "علم معاني القرآن"، ويُسمِّيه بعضهم "علم مجاز القرآن"؛ فيُعنى بهذا المسلم، ويحرص على فهم كلام الله تعالى.
هناك طريقةٌ أَنصح نفسي وإيَّاكم بها، تُعين أو تُرسِّخ فَهْمَ الآيات في الذِّهن.
أوَّل أمرٍ في هذه القضيَّة وفي كلِّ قضيَّة: الدعاء؛ أن تدعو الله تعالى أن يرزقك العلم النافع والعمل الصالح، فمثلًا شخصٌ يُحبُّ التفسير، ويُريد أن يَفهم التفسير، أو تفسير كلام الله تعالى، يُقال لكلِّ من أراد أمرًا عليك بلزوم الضراعة إلى الله جل وعلا.
الأمر الثاني: أن تقرأ السورة، وليكن مثلًا سورة تبارك، تقرأها أكثر من مرَّة، تُعيد قراءتها؛ لأنَّ التكرار يُزيد رسوخ الألفاظ، ومِنْ ثَمَّ يزداد الإنسان تشوُّقًا إلى فهم تلك الألفاظ.
الأمر الثالث: أن ترى الألفاظ الغريبة في السورة التي لابُدَّ أن ترجع إلى كتب التفسير أو اللغة، هذه تجعلها على حِدَة، تجعلها في زاويةٍ في الورقة، وتكتب غريب ألفاظ السورة.
الأمر الرابع: أن تأخذ الآية الأولى تقرأُ فيها، ثُمَّ تُحاول وتشحذ الذهن؛ فتذكر فوائد من هذه الآية، ليس المقام مقام فتيى، أو القول على الله بلا علم، أنت الآن تقرأ وتقول: استفدتُ هذه الفائدة، وهذه الفائدة، وهذه الفائدة. ثم هكذا إلى آخر السورة، ثم تُعيد القراءة مرَّةً أخرى؛ لعلك تزيد فائدة، أو تُبعد فائدةً غير واردةٍ في الموضع.
بعدما تنتهي، تأتي الطريقة التي بعدها، وهي الطريقة الترحُّليَّة؛ فتأخذ التفاسير؛ الأقصر فالأطول، مثلًا: تبدأ في تفسير الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى، فتقرأ كلامه عن الآية الأولى، وترى الفوائد التي استنبطتها، هل استنباطك خاطئٌ أم صائب؟
إن كان الاستنباط خاطئًا، فاحمد الله على أن دلَّك على الصواب، وإن كان صائبًا، فاحمد الله على أن وفَّقك إلى الصواب.
فمثلًا لو ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي فائدةً وأنت ذكرت فائدتين، وذكر الشيخ خمس فوائد أو ستَّ فوائد، قد يكون الشيخ ذَكَرَ مَا ذكرته؛ فتزيد الفوائد التي ذكرتها في كتابك هذا، أو في أوراقك هذه، وهكذا، ثم تُعيد قراءتها مرَّات.
ومن أسباب رسوخ الفَهم: أن تقرأ بالسورة في صلاتك، لهذا جاء في الحديث: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَقَامَ بِهِ بِالليْلِ لَمْ يَنْسَهُ بِالنَّهَارِ»[2]، يقرأ بتدبُّرٍ وتفهُّمٍ.
و-أيضًا- ممَّا يُعين على بقاء الفهم ورُسوخه: أن تُعلِّم غيرك.
الهديَّة أنواع: وأعظم الهديَّةِ هديَّةُ العِلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يُسمُّون الفائدة العلميَّة هديَّة، جاء في الحديث: "ألَا أُهْدِيكَ هَدِيَّةً"، يقول الصَّحابي، فعلَّمه الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذه بعض الطرق المقترحة، ولعلَّ من يَسمعني، أو أنتم أيُّها الأكارم أدرى بكثيرٍ ممَّا قلت لكم.
أيضًا ممَّا يتعلَّق بترسيخ فهم السورة: الرجوع إلى كتب علوم القرآن التي تُعنى بأسماء السور، فتكتب مثلًا مِن أسماء السورة، سورة تبارك لها أكثر من اسم، ثم تكتب -أيضًا- من فضائل السورة، يعني: هل لها فضلٌ مستقل؟ أو فضلٌ تابعٌ مع سورةٍ أخرى، ثم تكتب مِن مواضع قراءة السورة، هل لها مواضع تُقرأ فيها، "ليليَّة – نهاريَّة"، أو بعد الصلاة إلى آخره.
هذه تجعل الإنسان -بإذن الله- يُحيط بكثيرٍ ممَّا يتعلَّق بالسُّورة.
سورة تبارك لها أسماء كثيرة، وقبل -أيُّها الأكارم- ذِكر الأسماء، لو قال لكم قائلٌ: هل أسماء السور توقيفيَّة -يعني بالوحي-؟ أو اجتهاديَّة من الصحابة رضي الله عنهم؟
صهيب، ما عِنْدَك.
{نعم دكتور، جزاكم الله خيرًا، أسماء السور ليست توقيفيَّة، ممكن نقول: بعضها توقيفيَّة، وبعضها اجتهادٌ من الصحابة}.
هذا هو الجواب الصحيح، فيها أشياء جاءت مسمَّاة بالوحي، وأشياء من الصحابة، حتى قال بعض المفسِّرين، ومن التابعين وأتباع التابعين: حتى إنَّ بعض السور قد يكون لها أكثر من عشرين اسمًا، وقد تشترك سورتان أو ثلاث في اسمٍ واحد، كالفاتحة، والإخلاص، والكافرون، يُسمِّيها بعضهم سورة الإخلاص، وسورة الإيمان، وسورة الأساس.
وبعض السور جاءت تسميتها بالنَّصِّ الشرعي، قال عليه الصلاة والسلام: «اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ»[3]، ما هما؟ البقرة وآل عمران.
و-أيضًا- جاء في الحديث: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ»[4] جاء النَّصُّ عليها، فيقال: السور أسماؤها تارةً تكون بالوحي؛ أي توقيفية، وتارةً تكون اجتهاديَّة.
ولهذا أسألكم أنا، قال بعضهم: جاءت سورٌ بأسماء الأنبياء، مثل: سورة محمد، سورة نوح، إبراهيم، يوسف، يونس، هود. قال بعضهم: أكثر الأنبياء ذكرًا في القرآن هو -أخباره وقصصه-؟
- {نبي الله موسى عليه السلام}.
- نعم، موسى عليه السلام.
فيه سؤالٌ لطيف، قال بعض المفسِّرين: هناك سورةٌ تُسمَّى سورة موسى، لكنَّها اشتهرت باسمٍ آخر، ما هي تلك السورة؟
-       {طه}.
-       ما شاء الله، نعم سورة طه، أحسنت.
وهنا فائدةٌ، كلمة طه يظنُّ بعضهم أنَّها من أسماء النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وكذلك يس، والسبب الضمير ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ﴾ [طه: 1، 2]، ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ﴾ [يس: 1 - 3] ، والصواب: أنَّ "طه" و"يس" ليستا من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هما من جملة الحروف المقطَّعة، كـ "طس"، "الم" وهلمَّ جرَّا.
سورة تبارك، لها أسماء كثيرة؛ تُسمَّى: "تبارك"، و"الملك"، وهذان الاسمان هما أشهر الأسماء.
وتُسمَّى: "تبارك الملك"، لماذا؟ بعض السور يكون البدء فيها بلفظٍ واحد، فلا تُعرف السورة مِن أختها إلَّا بالتمييز، فمثلًا يقال: "الم تنزيل السجدة".
إِذَنْ نَعرف الآن أنَّ هناك سورٌ كثيرةٌ بـ "الم"، لكنَّ المراد "الم تنزيل السجدة".
قالوا: "تبارك الملك" احترازً من سورة ماذا؟
-       {من سورة الفرقان}.
-       من سورة الفرقان؛ لأنَّها تبدأ بكلمة "تبارك".
وتُسمَّى المانعة، والمنجية، والمجادلة، والواقية، والمنَّاعة.
هذه الأسماء الخمسة أُخذت من نصٍّ نبوي، هل أحدٌ منكم يعرف هذا النصَّ؟
هذه السورة الكريمة لها أسماء، المنَّاعة والمنجية، والمجادلة، والواقية.
-       {النص كما يقوله صلى الله عليه وسلم لا أحفظه باللفظ، ولكن: من قرأ سورة تبارك في ليله، وعدَّد هذه الألفاظ}.
- أحسنت. أوَّل شيءٍ أنت قلت: النص لا أستحضره، لكن بمعناه. هذا كلامٌ طيِّب، كان بعض السلف -كما ذكر الخطيب البغدادي- إذا ساق الحديث قال: أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الحديث فيه أنَّ سورةً جادلت عن صاحبها، ومنعته من عذاب القبر، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهي سورة تبارك.
هذه السورة نزولها مكي، وللفائدة -أيُّها الأكارم- هناك ضوابطٌ وضعها بعض أهل العلم من علماء علوم القرآن، تُعرف بها السور المكية من المدنية؛ يعني: علامات، وبعض العلامات تجزم أنَّ هذه السور مكِّيَّة، مثل:
قالوا: كلُّ سورةٍ فيها سجدةٌ فهي مكية، فمتى ما مررت بسورة فيها سجدة فهي مكية.
علامةٌ ثانية: كلُّ سورةٍ فيها لفظ "كلَّا" فهي مكية، ولهذا قال الناظم:
وَلَمْ تَنْزِلَنَّ كَلَّا بِيَثْرِبَ فَاعْلَمَنْ


 
وَلَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي نِصْفِهِ الْأَعْلَى[5]


أسألكم أنا عن الشطر الثاني، الشطر الأوَّل "ولم تنزلن (كلَّ) بيثرب فاعلمن"؛ يعني في المدينة، "وليست من القرآن في نصفه الأعلى"، ما المراد بالشطر الثاني يا صهيب؟
-       {النصف الأعلى هو من البقرة إلى الكهف أو الإسراء}.
- أحسنت. يعني يقول: إنَّ كلمة "كلَّا" لم تنزل في سورة مدنية البتَّة، ولو قرأت القرآن من أوَّله إلى نصفه -نصفه الكهف- وقرأت في كتابٍ قديمًا يقول صاحبه: إنَّ نصف القرآن بالحروف هو اللَّام الثانية من قوله تعالى: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ [الكهف: 19]، على كلِّ حالٍ، لم تنزل "كلَّا" في سورةٍ مدنية.
وذكر بعضهم أنَّ كلَّ سورةٍ فيها قصَّة آدم وإبليس فهي مكية باستثناء البقرة وآل عمران، فيما أذكر، أو البقرة وسورة أخرى، أو الأعراف، بل الأعراف مكيَّةٌ لا إشكال فيها، على كلِّ حالٍ هذه فائدةٌ أحببت أن أذكرها لكم.
سورة تبارك من فضائلها كما تقدَّم قبل قليل: أنَّها سورةٌ دافعت عن صاحبها حتى أنجته من عذاب القبر، وقال بعض شراح الحديث: إنَّ المراد ليس قراءتها فقط؛ بل القراءة والعلم والعمل بها.
ولهذا لمـَّا قيل لوهب أو لغيره: قيل: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن إذا أَتيت بمفتاحٍ له أسنان فُتح لك؛ بمعنى: الأعمال؛ أعمال القلوب، أعمال الجوارح.
من مواضع قراءة هذه السورة
الكهف مثلًا، متى تُقرأ؟ يوم الجمعة.
من السنة، "الم تنزيل" السجدة، تُقرأ في فجر يوم الجمعة.
سورة الغاشية، تُقرأ في صلاة الجمعة.
آية الكرسي تُقرأ في مواضع مثل؟
-       {آية الكرسي بعد الصلاة}.
-       نعم، بعد الصلوات المكتوبة، وهكذا.
هذه السورة الكريمة جاءت في بعض الأحاديث أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأها عند النوم، هي وسورة الزمر كان يقرأها عند النوم.
الآية الأولى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [تبارك: 1].
تبارك: تَعَاظَمَ وَتَقَدَسَ، قيل: مَن كَثرت بركته وعظمت خيراته، وأعظم البركة والخيرات خيرات الله تعالى وبركاته، وهي تشمل مصالح الناس في حياتهم وفي برزخهم وفي آخرتهم، فما أرسل الله من الرسل، وأنزل من الكتب فهو من بركته وخيراته.
وما وفق الناس في القيام بدعوة الرسل فذلك من بركة الله وخيراته، وهذه الأرزاق التي نعيشها، والنعمة التي نستشعرها -الحسية والمعنوية- كلها من بركات الله تعالى وخيراته.
وأنا سأختصر أوَّلًا: لقلَّة علمي، وثانيًا: لضيق الوقت.
قال بعضهم: إنَّ من أسماء الله تعالى "المبارك" أخذًا مِن هذه الآية، ولكنَّ أسماء الله توقيفيَّة، فما جاء في النصِّ يُقال إنَّه اسم أو جاء في الخبر النبوي فـ "نعم"، وما سوى ذلك فلا.
﴿الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [تبارك: 1]، مُلك الله تعالى كامل، قال بعضهم: مِن الملوك مَن يَملك لكنَّه لا يُدبِّر غيره، ومنهم مَن يُدبِّر لكنَّه لا يَملك، ومنهم مَن يَملك ويُدبر لكن في تدبيره نَقص، وَيَعتريه الخلل من المرض، والنسيان، والنوم والموت. أمَّا مُلك الله تعالى فهو مُلكٌ تامٌّ كامل، قد بلغ في الحسن أعلاه، وفي الكمال منتهاه، لا يَعتريه نقصٌ ولا خلل.
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قالوا: هذا من تمام الملك، يَملك المـُلك التام، ولا يمتنع عليه فعل أيِّ شيءٍ؛ بل هو على كلِّ شيءٍ قدير، وكلُّ شيءٍ عليه يسير.
ماذا نستفيد من هذه الآية؟
دائما ربط الآيات بالتوحيد هو المطلب الأسمى والأكمل، هذه الآية نأخذ منها توحيد العبادة؛ أي: توحيد الألوهية، فمن كان بهذا الشأن فهو المستحِقُّ للعبادة، لا معبود بحقٍّ إلا هو، بركاته عامَّة، وبيده الملك، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، إِذَنْ فالله تعالى هو المستحقُّ للعبادة، لا معبود بحقٍّ إلا الله، ودائمًا -أيُّها الأكارم- في قراءتنا للقرآن الكريم والسنة النبوية وفي أعمالنا دائمًا نُحاول ربط جميع أمورنا بتوحيد الله تعالى، فذلك يُزيد الإيمان، ويُزيد حبَّ الله جلَّ وعلا في قلب العبد.
الآية الثانية: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ [تبارك: 2]، قدَّم الموت؛ لأنَّه أدعى للتأثُّر، وأدعى للإقبال على الطاعة، والموت يكرهه الإنسان بطبيعة الحال، ولهذا في الحديث القدسي: «يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ إِسَاءَتَهُ»[6]. فتقديمه على الحياة مِن بَاب شَحذ الهمم، والاجتهاد في العمل.
خلق الموت والحياة لحكمة، والقاعدة: كلُّ أفعال الله لحكمة، كلُّ مَا خَلَقَ الله عزَّ وجل وَأَمَرَ بِه ونَهى عنه فهو لحكمة، هذه الحكمة قد تَظهر وقد تَخفى، إن ظهرت فالحمد لله، وإن لم تظهر فالحمد لله، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ يعني: هذه من حِكَمِ خلق الموت والحياة.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ الدنيا دار بلاء وابتلاء، ومن كمال عدل الله وحكمته أنه أقام الحجة وأوضح المحجَّة، فكان الابتلاء بِعدل.
أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأوضح السبل، ورتب للطائع أجرًا وثوابًا، وللعاصي وزرًا وعقابًا، يُعطي مَن يَشاء بفضله، ويمنعُ مَن يَشاء بعدله، ولا يَظلم ربُّنا أحدًا.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً﴾ ليس المراد كثرة العمل؛ إنما المراد حسن العمل قبل كلِّ شيء، ولهذا ذكر بعض المفسِّرين أثرًا عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أنَّه قال: "أحسن عملًا ما كان صوابًا خالصًا". فالخالص أن يكون لله تعالى، والصواب أن يكون على هدي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ عزيزٌ في أحكامه، وغفور لمن أطاعه، ولمن عصاه -إذا تاب توبة نصوحًا-، يغفر ذنوب الطائعين السالفة لطاعتهم، ويغفر ذنوب المسيئين إذا تابوا توبةً نصوحًا، بِعزِّ الإنسان في الحياة قد يعفو أو يَتَنَازل عن حقِّه وهو ذليلٌ يخشى العقوبة لو لم يتنازل، لكنَّ الله تعالى يصفح ويغفر بعزَّةٍ وحكمة.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً﴾ نستفيد مِن هذه الآية أنَّ كثرة العمل لا يُمدح بها صاحبها، ولا تُشفع له، إلَّا إذا كان العمل -كما تقدَّم آنفًا- خالصًا لله تعالى، موافقًا لهدي النبيِّ عليه الصلاة والسلام.
وهنا أذكر لكم حديث النفر الثلاثة رضي الله عنهم من شباب الصحابة، جاءوا إلى بيت النبيِّ عليه الصلاة والسلام، فسألوا عن عبادته، فكأنَّهم تقالُّوها، قالوا: هو رسول الله عليه الصلاة والسلام قد غفر الله ما تقدَّم منه وتأخَّر، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الآخر: وأمَّا أنا فأقوم الليل ولا أنام. وقال الآخر: وأمَّا أنا فلا أتزوج النساء ولا آكل اللحم.
قصدهم رضي الله عنهم الحرص على التعبُّد، فلمَّا بلغ ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ الناس، وَجَمْعُ الناس لا يكون إلَّا لأمرٍ مُهم، فلمَّا جَمَعَ الناس حدَّثهم عن النفر الثلاثة، ثم قال: «وَأمَّا وَاللهِ» لاحِظْ القسم! «إِنَّ» تأكيد، «أَتْقَاكُمْ وَإِنَّ أَعْلَمَكُمْ وَإِنَّ أَخْشَاكُمْ للهِ لَأَنَ».
«أَمَا وَاللهِ»  قسمٌ ثانٍ، «إِنِّي» تأكيد، «لَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»، ثم قال: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[7].
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى في الاعتصام: وهذه الجملة هي أبلغ كلمةٍ في الزجر.
فكثرة العمل لا تنفع إلَّا إذا كان صاحبها على بصيرةٍ مِن عَمَلِه؛ لهذا لا نغترُّ بما نقرأ في بعض الكتب عن أخبار بعض الزُّهَّاد، حيث "كان يفعل وكان يفعل"؛ فنعرض عمله على الكتاب والسنة، ولهذا لمـَّا قيل لسفيان: رأينا إنسانًا يطير ويسير على ماء البحر من عبادته ومن صلاحه. فقال: اعرضوا عَمَلَه على الكتاب والسنة. ولمـَّا قيل هذا الخبر للشافعي، قال الشافعي نظمًا:
إذا رأيت إنسانَ يطيرَ


.:.
أو فوق ماء البحر قد يسير


ولم يقف عند نصوص الشرع


.:.
فاعلم أنه مستدرج وبدعي


 إِذَنْ ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً﴾ نستفيد أنَّ العمل لا يكون حسنًا إلَّا إذا كان خالصًا لله تعالى، وهذا بين العبد وربِّه، متَّبعًا في عمله النبي عليه السلام، ولهذا في السورة الأخرى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]، لاحِظْ وصف وموصوف الكلم لابُدَّ أن يكون طيِّبًا، والعمل لابُدَّ أن يكون صالحًا، ولا يكون طيِّبًا وصالحًا إلَّا إذا كان حسنًا؛ يعني موافق للهدي النبوي، والعامل فيه مخلصًا لله تعالى.
﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ [تبارك: 3]، هذه الآية الكريمة تضمَّنت ذِكْرَ خَلقِ السماوات، وفي آيةٍ أخرى السماوات والأرض.
﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ ، ليس في خَلق الرحمن خَلَل؛ بل في خلق الرحمن كمالٌ في جميع الأحوال، خلق الإنسان، خلق الحيوان، خلق السماء، خلق الأرض.
هنا في آخر الآية: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ ، الفطور: الشقوق. وارجع البصر؛ أي: أَعِدْ البصر. نستفيد فضل التأمُّل والتفكُّر في خلق الله تعالى، ولهذا جاء الأمر بالنظر في آياتٍ كثيرة، ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191]، نستفيد أنَّ النظر في مخلوقات الله تعالى وملكوته يَزيد العبدَ وجلًا مِنَ الله، وخشيةً منه، وحبًّا له، وطمعًا في مرضاته، واجتنابًا وفرارًا مِن سَخَطه ومعاصيه.
وقد جاء في الحديث «تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللهِ»[8]، تفكروا في خلق الله ولا تفكَّروا في الله، تفكَّروا في آلاء الله، ما معنى آلاء ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ سورة الرحمن، تكرَّرت كثيرًا، وفي سورة النجم: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ [النجم: 55]، "الآلاء" جمع "إِلَى"؛ أي: نِعم الله، وآيات الله، وعظم مخلوقات الله تعالى.
فالنَّظر في السماوات وفي الآيات الكونية يزيد العبد إيمانًا بالله، نحن في هذه الليلة ليلة الرابع عشر من الشهر، أليس كذلك؟ شهر الله المحرَّم، يُقال: أفصح أن يُقال: شهر الله المحرم، أو شهر المحرم. ولا يُقال: شهر محرَّم. هكذا سمعت. الشاهد أنَّنا في هذه الليلة ليلةِ الرابع عشر -ربطًا بهذه الآية- وأنَّ النظر في آيات الله العظيمة والتغيُّرات الكونية يزيد العبد إيمانًا في الله كما في آل عمران: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ، لاحظ هذا الدعاء، لمـَّا رأوا الآيات وعِظم مخلوقات الله، فخالقها هو العظيم الكامل العظمة.
هذه الليلة فيها آيةٌ كونية، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام دائمًا يُربِّي أصحابه رضي الله تعالى عنهم على ربط التغيُّرات الكونيَّة بالأمور الأخرويَّة، أن يزدادوا طاعةً لله تعالى.
أليس القمر هذه الليلة مكتملًا؟ قال عليه الصلاة والسلام يخاطب أصحابه، حتى نستفيد من النظر بعين البصيرة؛ لأنَّ النظر تارة يكون بعين البصر المجرد، وتارةً يكون بعين البصيرة.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كلامٍ له: نظر البصر يشترك فيه المسلم والكافر والحيوان والطائر، أمَّا نظر البصيرة خاصٌّ بأهل الإيمان، جعل الله من يُشاهد ويسمع من أولئك.
قال عليه الصلاة والسلام: «هَلْ تُضَارُّونَ» وفي لفظٍ «هَلْ تُضَامُّونَ» يُصيبكم ضررٌ أو زحام «فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟»، الاستفهام يجعل توطئة الكلام أبلغ في النفس، والقرآن الكريم من أساليبه، ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ﴾ [الحاقة: 1، 2]، ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة: 1، 2]، قالوا: لا يا رسول الله، قال: «كَذَلِكَ تَرُونَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[9]. جعلنا الله جميعًا ممَّن يرى ومِمَّن تقرَّ أعينُهم برؤية الله تعالى.
إِذَنْ ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ تأمَّل في مخلوقات الله، حتى ذكر بعض المفسِّرين أو بعض أهل الحديث أنَّ من السُّنَّة إذا قام الإنسان من الليل أن ينظر في السماء، في حديث ميمونة: الرسول صلى الله عليه وسلم قام توضَّأ ورفع بصره، ثُمَّ تلا الآيات الأخيرة من سورة آل عمران، ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ .
﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [تبارك: 4] أَعِد البصر، مَن أَعَاد البصر والتفكُّر في خلق الله تعالى سيستفيد أمورًا عظيمة، كمال خلق الله تعالى لهذه المخلوقات، تجده خوفًا ومحبةً لله تعالى، يزيد تعظيم الله تعالى في قلبه.
فالإنسان إذا رفع بصره إلى السماء، أو رأى هذا القمر البهي في نصف الشهر مكتملًا، ثم بقدرة الله يتنقَّل في منازله حتى يعود هلالًا، وهلمَّ جرَّا، هذا التفكر والنظر -إذا كان على بصيرة- يزيد العبد إيمانًا.
﴿يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [تبارك: 4]، البلاغة القرآنيَّة؛ لو أراد الإنسان ينظر في هذا الملكوت، مهما بحث عن عيب فلن يجد عيبًا، مهما فعل، لماذا؟ لأنَّه تبارك الله أحسن الخالقين، أحسن كلَّ شيءٍ خلقه ثم هدى.
والبصر يرجع خاسئًا؛ لأنَّ صاحبه مهما فعل، ومهما نظر؛ فلن يجد في خلق الله خللًا ولا فطورًا.
الآية الخامسة: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [تبارك: 5]؛ النجوم. السماء مهابة، وخلقها عظيم، سبع سماواتٍ طباقًا -كما جاء في الآية-، ولو كانت السماء يعني "سادة" أي: ليس فيها مصابيح، فهي عظيمة، لكن زاد مِن عِظَمِها وشأنها وجود هذه الكواكب.
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ ؛ هي النجوم، وهذه النجوم -كما ذكر الله تعالى-: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾ [تبارك: 5]، كما أنَّها زينة في ذاتها للسماء، فهي -أيضًا- رجوم للشياطين، وقد أُثر عن قتادة رحمه الله تعالى؛ "قتادة" تابعي، واسمه "قتادة بن دعامة السدوسي"، يقول: "خلق الله النجوم لثلاث"؛ يعني: لِحَكمٍ ثلاث:
"زينة"؛ كما في هذه الآية للسماء.
"ورجوم للشياطين"؛ كما في هذه الآية.
- ما الحكمة الثالثة؟
- {كما قال الله تعالى: ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: 16]}.
- ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ للمسافرين، المسافرون إذا سافروا في الصحراء يهتدون إلى طرقهم بفضل الله تعالى ثم بمعرفة منازل النجوم.
ثم قال "قتادة" -أيضًا-: "فمن زاد على هذه الأمور فقد تعدَّى وظلم". فبعض الناس قد يجعل هذه النجوم منازلها يربطها بأنَّها سبب التغيُّرات، مُطرنا بنوء كذا ونوء كذا، وهذا لاشَكَّ كما جاء في الحديث الصحيح زيد بن خالد: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي» في الحديث القدسي «مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ»[10].
ممَّا يُنبَّه عليه في هذا المقام -أيضًا- ما يُسمَّى بأبراج الحظ؛ الجوزاء والجدي والأسد والسنبلة، لها علاقةٌ في أمور هذه، وهذه كلها من الطلاسم ومن الشعوذة ومن لعب الشيطان.
بعدها: ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [تبارك: 6].
ما يظلم ربُّنا أحدًا، وهؤلاء الكفَّار قامت عليهم الحجَّة، ووضَحَت المحجَّة عليهم، وجاء الوعيد، عذاب جهنم -"جهنم": من أسماء النار، وقالوا: إنَّ كثرة الأسماء تدلُّ على عظم شأن المسمَّى، إمَّا مدحًا أو ذمًّا. وجهنَّم والنار لها أسماء كثيرة، مثل: "لظى، والحطمة، وجهنم"- فهؤلاء الكفَّار لهم عذاب جهنَّم عَدلٌ مِن الله تعالى، لهذا قال أهل العلم باعتقاد أن يُعطي الله من يشاء بفضله، أو يُنعم الله ويُعطي من يشاء بفضله، ويُعذِّب ويمنع من يشاء بعدله ولا يظلم ربُّك أحدًا.
ولهذا يُقال: إنَّ أحدهم قال: اللهمَّ عاملنا بعدلك. فقال الآخر: لا تقلْ هكذا، ولكن قل اللهمَّ عاملنا بفضلك، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ ..﴾ [النحل: 61].
﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ، نَعَمْ بئس المصير، أبأس مصير من كان مصيره النار.
﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ﴾ [تبارك: 7]، من شدَّة العذاب والنكال، أنَّه لو عذَّب الإنسان بصمت عذاب، لكن إذا كان فيه أصوات مزعجة وضوضاء، يجتمع عليه زيادة في العذاب، ﴿سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ﴾ .
والآية التي بعدها: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [تبارك: 8]؛ يعني: شناعة في فعل النار، تتفرَّق، تتقطَّع من غيظها، وأصوات شهيقة، وبئس المصير، فنعوذ بالله من حال أهل النار، ونسأل الله أن يُباعدنا وإيَّاكم عن النار وعن أسباب دخول النار.
﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ [تبارك: 8]، الله تعالى جعل هذا السؤال حتى تنقطع المعاذير، وإلَّا فالله لو عذَّبهم دون حساب ما ظلمهم، لكن ليُهلك من هلك عن بيِّنة.
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ ، استفهام، لا مجال للإنكار، ﴿قَالُوا بَلَى﴾ ، لابُدَّ من اعتراف، ما يستطيعون الإنكار، ﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ﴾ ، ثم بيَّنوا سبب إعراضهم، ﴿فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ﴾ ؛ يعني: الرسل وأتباع الرسل، ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ [تبارك: 9].
كلُّ هذه نستفيد أنَّها من عدل الله تعالى ورحمته، أنَّه لا يُعذِّب من أطاعه، وأنَّ من عصى وكفر وعاند الله تعالى فلا يجني إلَّا على نفسه.
أقف عند هذا الحدِّ، والله تعالى اسأل التوفيق للجميع، وأن يرزقنا وإيَّاكم العلم النافع والعمل الصالح، وأوصيكم كما أوصي نفسي قبلكم بالعناية بكتاب الله تعالى، و-أيضًا- أوصيكم -وأنتم أحرار في الطريقة التي ذكرتها لكم- أنَّ الإنسان إذا قرأ السورة يُعيد قراءتها، ثم يتأمَّل في اللفظ الغريب يعزله، ثم يبدأ في قراءة الآية ويكون معه قلمٌ وورقة، ويكتب فوائد -ليس المقام مقام فتيا- ولا تقل لأحدٍ هذه فوائد لتتأكَّد، هذه هي كما ذكر العلماء في مكانها الصحيح، أو أنَّ فيه فهمٌ خطأ، فإذا كتبت الفوائد ونحت الذهن ثم رجعت لكتب التفسير واستقيت الفوائد، فتحمد الله على الإصابة أنَّك أصبت، وتحمد الله على معرفة الخطأ أنَّك عرفت خطأك، تلك الساعة يزداد العلم رسوخًا في ذهن صاحبه وسامعه وناقله.
أخيرًا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
------------------------
[1] «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ». انظر: صحيح مسلم: 7748، 6/106.
[2] انظر: صحيح مسلم (7748)، 2/191. «وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ».
[3] انظر: صحيح مسلم (7748)، 2/197.
[4] انظر: سنن النسائي 6/236، وسنن الدارمي 2/546، وسنن البيهقي 3/249.
[5] قال الديريني: (وَمَا نَزَلَتْ كَلَّا بِيَثْرِبَ فَاعْلَمَنْ     وَلَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ فِي نِصْفِهِ الْأَعْلَى). انظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 1/70.
[6] انظر: صحيح البخاري، ترقيم فتح الباري، 16/339. "يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"
[7] انظر: صحيح البخاري: (5063)، 12/534، وانظر: صحيح مسلم: (7748)، 4/129.
[8] الطبراني: المعجم الأوسط 6/250، والبيهقي: شعب الإيمان 1/263، وحسَّنه الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/395.
[9] انظر: صحيح البخاري 6/2704، وصحيح مسلم 1/163، وسنن أبي داود 2/646، ومسند أحمد 2/533.
[10] انظر: صحيح البخاري 2/257، وصحيح مسلم: (7748)، 1/59.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ