السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين، أما بعد.
الحادي عشر من الشَّهر الثَّاني للعام التَّاسع والثَّلاثين بعد المائة الرَّابعة
والألف، للهجرة النبويَّة، على صاحبها أتمُّ الصَّلاة والتَّسليم.
حيَّاكم الله يا شيخ سعيد، ويا شيخ صهيب، ويا شيخ عبد الكريم، وحيَّا الله الجميع.
تقدَّم في المجلس السَّابق شيءٌّ عن سورة الحاقَّة، وسيُعاد الكلام السَّابق؛ لنبدأ
السُّورة جميعًا من أولها إلى آخرها -إن شاء الله تعالى- ونسمع مطلع هذه السُّورة.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا
الْحَاقَّةُ﴾ .
هذه السُّورة الكريمة سورة مكيَّة، وآياتها اثنتان وخمسون آية، وقد ورد في فضل
قراءتها حديث، لكنَّ الحديثَ لا يصح: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، حَاسَبَهُ
اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرً»[39]، وقد تقدَّم في المجلس السَّابق أنَّه لا يلزم أن
يكون هناك فضل لكل سورة بعينها، وقد تقدَّم أيضًا أنَّه قد يأتي حديث واحد في فضل
سورة واحدة، أو لسورتين، أو لثلاث، وقد يأتي حديث في فضل آية كما في آية الكرسي، أو
بفضل آيتين مثل ماذا؟
{آخر سورة البقرة}.
آخر سورة البقرة. وقد يأتي حديث في فضل آيات. مثل ماذا؟
{آخر عشر آيات من سورة آل عمران}.
وكذلك أواخر سورة الكهف، أما أواخر آل عمران فلا أدري لها حديث، لكن أواخر الكهف
لها حديث.
على كل حالٍ، هناك حديث جمع سور القرآن الكريم، وكل من قرأ سورة كذا فله كذا، وهذا
الحديث ذكر أهل العلم -فيما أذكر- أنَّه قد وضعه جماعة من المتزهدة، الذين غلب
عليهم التَّعبُّد، وقلَّ عندهم العلم، وهذه مصيبة!
وإذا غلب التعبُّد على شخص، ولم يتكلم إِلا بعلم، فهذه نعمة، بينما المصيبة تكون
إذا ما غلب التعبُّد عليه، ثم تكلم بجهل وصدَّقه النَّاس لتعبُّده!
فالعلم شيء، والتَّعبُّد شيء آخر، قد يكون الإنسان عابدًا، ولكن حظه من العلم قليل.
إذا كان ذلك كذلك، فهذا الحديث الطَّويل في فضل السور، قد ذَكَرَ بعضُ أهل العلم
أنَّ مداره على رجل يُكنى بأبي عصمة، واسمه نوح المروزي، ويلقَّب بنوح الجامع،
يقولون: جمع كل شيء إلا الصِّدق، فهو كذَّاب.
﴿الْحَاقَّةُ﴾ اسم مِن أسماء القيامة، و "حقَّت" يعني: وجبت.
﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ﴾ ذكر بعض أهل العلم أنَّ الأفصح أن يقول: ما
السؤال؟ وما الجواب؟ كما جاء في القرآن الكريم.
وهنا لفتة أخرى لُغوية: قد يكون هناك أسلوب لم يأتِ في القرآن الكريم، فلا يُقال
إنَّه غيرُ فصيح، لكن يقال: مَا جاء في القرآن أفصح، مثل قولهم: "شكرت لك، أشكر
لك"، قالوا: جاء في القرآن الفعل هذا مُعَدَّى بـ"إلى"، أو باللام، ﴿أَنِ اشْكُرْ
لِي﴾ [لقمان: 14]، وبعض النَّاس يقول: "أشكرك"، فلا يقال: إنَّ "أشكرك" لحن، أو غير
فصيح من لغة العرب، بل جاءت في الشِّعر، كما في شعر طرفة:
شكرتك إنَّ الشُّكر حبلٌ من التُّقى ***........................
لكنَّ الأفصح ما جاء في القرآن الكريم.
قال تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ﴾ العرب إذا أرادوا التنويه إلى خبر
عظيم، أو الاهتمام بأمرٍ ما، بدؤوه بالاستفهام.
أنا لمَّا أقول لكم: في الطريق وأنا آتي إليكم، رأيت كذا وكذا وكذا،. هذا فيه
تشويق، لكن أشوق منه أن أقول: هل تعلمون ما رأيت وأنا في الطريق إليكم؟ يكون هذا
الأسلوب أدعى للسَّمع، أو أدعى للترَّكيز على ما سيقال، لمعرفة هذا الخبر.
ثم جاء –أيضًا- الاستفهام ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ ، يا شيخ عبد الكريم،
أخذنا ضابطًا في ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ وفي ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ، تذكره؟
{قلنا: إذا قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ فهذا يعني أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أُخبر
بالجواب، لكن عندما يُقال: ﴿يُدْرِيكَ﴾ فكأنه لم يُخبر بما سيأتي}.
أحسنتَ. أعطني يا شيخ صهيب مثالًا على ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ غير سورة الحاقة.
{قال -سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ
مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ [الانفطار: 17، 18]}.
أحسنتَ. شيخ سعيد، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ تعطيني شاهدًا.
{قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبً﴾ [الأحزاب:
63]}.
بارك الله فيكم.
إذن، قوله: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ ،
استفهامات متعاقبة للتَّشويق والاهتمام والتَّنويه بهذه الحاقة.
جاء الجواب: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ ثمود قوم صالح -عليه
الصلاة والسلام- كذَّبوا بخبر نبيِّهم -عليه الصلاة والسلام- ولم يُصدِّقوا ما جاء
به.
وعادٌ قوم هود -عليه الصلاة والسلام- كذَّبوا بما جاء به هود.
وهناك قاعدة أو ضابط ذكره أهل المعتقد: مَن كذَّب رسولًا واحدًا، فهو مُكَذِّبٌ
لجميع الرُّسل.
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105] رسولهم واحد،
لكن مِنْ لَازِم تكذيبهم لنبيهم نوح -عليه السلام- أنهم مكذبون لجميع الرسل؛ لأنَّ
دعوتهم -عليهم الصلاة والسلام- واحدة.
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ نفس القضيَّة، القارعة هي
الحاقَّة، وهي لما سيكون مِن البعث في يوم القيامة، والحساب، والجزاء، وهذا الأمر
صعب على كثير مِن مُخالفي الأنبياء؛ لأنَّهم حكَّموا عقولهم، ولم يحكِّموها ببصيرة،
بل بهوًى، وبمجرد تقليد مَن سَبَقهم.
وفي هذه الآية الكريمة أيضًا: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ جاء وصف
لنوع العذاب بإجمال.
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ ، طغوا وتكبروا، خطيئتهم
عظيمة، ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ ، قيل: بما طغوا، وقيل: الطَّاغية هي الصَّيحة
التي عاقب الله بها قوم صالح.
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ .
الفرق بين "الريح والرياح":
ذَكَرَ بعضهم أنَّ الرياح أتت في القرآن الكريم بالرحمة: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ
لَوَاقِحَ﴾ [الحجر: 22]، ﴿الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: 46].
أمَّا الريح فجاءت بالعذاب: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ﴾ [الذاريات: 41]، وهنا: ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ .
قرأت لطيفة تقول: جاء وصف الريح في القرآن بالعذاب، إلا في موضعٍ واحدٍ، جاء وصف
الريح بالرحمة والطيب، في أي سورة؟
{في سورة يونس}.
ما شاء الله، تبارك الله. الآية؟
{الآية قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم برِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: 22]}.
قرأت قولاً لبعض المفسرين: أنَّ الرياح المتعارضة في البحر قَد تَقْلِب المركب،
أمَّا إذا كانت الريح في جهة واحدة، فهذا أرحم وأرأف وأفضل لأهل المركب.
نسمع بعض الآيات..
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ *
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى
الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى
لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾ .
الريح الصرصر: هي الرَّيح الشَّديدة في البرودة والهبوب.
إذا اجتمع في الرِّيح قوَّة اندفاع، وصوت مزعج، وكان فيها برودة أو حرارة، فهذا
أشدُّ على من تُسَلَّط عليه.
وعذاب الأمم يتنوع، ولله تعالى في ذلك حكمة، فقوم يهلكون بالغرق، وقوم يهلكون
بالصَّيحة، وقوم يهلكون بالريح ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾
[الروم: 4].
قال تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ﴾ يعني: بقيت هذه الريح أيامًا، فلو بقيت لحظات
لكانت مؤلمة ومزعجة، فكيف إذا بقيت ساعة! فكيف إذا بقيت أيامًا!
قال تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُومً﴾ أسبوعًا كاملًا وليلةً، وهذا الوقت جزء يسير منه يكفي في أن يتعذَّب
ويتألم أصحابه، فكيف بها مجتمعة متوالية؟!
ويقولون: إنَّ اليوم والليلة إذا اجتمعا يفترقان، وإذا افترقا يجتمعان، مثلًا في
سورة هود، في قوله تعالى: ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾
[هود: 65]، تشمل الليالي والأيام، وفي قوله ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ
أَيَّامٍ﴾ جمعها وفرَّقها، أي: سواد الليل وبياض النهار.
﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا
رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً
وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ .
قال تعالى: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ﴾ يقصُّ الله تعالى أخبار هؤلاء للعِبرة والاعتبار.
"فرعون" اسم لمَن مَلَكَ مصر، هذه ألقاب ذكر أهل العلم أنَّها أوصاف على أشخاص،
ففرعون وصف -أو لقب- يُطلق عَلى مَن مَلكَ مصر.
أنا أسألكم: "النجاشي" وصف يطلق على شخص يحكم ماذا؟
{الحبشة}.
و"كسرى" وصف يطلق على شخص يحكم ماذا؟
{الفرس}.
و"هرقل" وصف على شخص يحكم ماذا؟
{الروم}.
و"المقوقس" وصف على شخص يحكم ماذا؟
{الأقباط}.
نعم.
قال تعالى: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ﴾ فرعون، يقال: إنَّ اسمه رمسيس
الثاني، وهذا يسمونه فرعون موسى.
قال تعالى: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ وفي بعض
القراءات: ﴿وَمَن قِبَلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ﴾ .
وقصَّة فرعون مع موسى -عليه الصَّلاة والسَّلام- مشهورة، وهي أكثر القَصص ورودًا في
القرآن الكريم.
قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ هم قوم لوط -عليه الصَّلاة والسَّلام- وإفكهم: هو
عمل الفاحشة في الذكران من العالمين، وهذا العمل تأباه المروءة، وتأباه النفوس،
وتأباه الطباع، فهم خرجوا عن الفطرة بهذا العمل المشين القبيح.
قال تعالى: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً﴾ لا
يظلم ربك أحدًا، يُعطي مَن يشاء بفضله، ويُعاقب مَن يشاء بعدله، فأخذهم أخذةً
رَّابيةً، وفي الآية الأخرى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر:
42].
الرَّابية: الزائدة، القويَّة، الشَّديدة، ومنه الرِّبا: أي: الزيادة، والرَّبوة:
الأرض المرتفعة الزائدة عن سطح الأرض.
قال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً﴾ بعدله، ولا يَظلم رَبُك أحدًا.
قال تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ في وقت نوح -عليه السلام- لما جاء
الطوفان والغرق عقوبة مِن الله لقوم نوح، استُثني قوم نجَّاهم الله تعالى مع نوح
-عليه السلام- وهم أصحاب السَّفينة، ومع طول مدة نوح -عليه السلام- وتنوع أساليب
دعوته لقومه، ولين نوح -عليه السلام- وجميع الأنبياء مع أقوامهم، إلا أنَّهم طغوا
وبغوا، وما آمن معه إلا قليل.
قيل إنَّ المقصود بـ"الجارية" في قوله: ﴿حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ أي:
السَّفينة، الفلك المشحون، وقيل: حملناكم في أصلاب آبائكم.
وقال بعضهم في قولهم: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ كل ما رأوا السفن،
تذكَّروا السفينة الأولى، التي جعلها الله تعالى نجاةً لنوحٍ -عليه السلام- وقومه
المؤمنين، وتذكَّروا أنَّ هذه مِن نِعم الله أن حمل المؤمنين، وبقيَ مَن في أصلابهم
إلى هذه السَّاعة.
ويستفاد من هذا أنَّ الإنسان إذا رأى شيئًا يذكِّره بالنِّعم يتَّعظ، ويحمد الله
-عز وجل- وفي المقابل إذا رأى شيئًا يذكره بالنِّقم يتَّعظ ويخشى الله.
هل يعطيني أحد منكم مثالًا نراه في حياتنا يذكِّر بالعذاب، وحثَّنا نبينا -عليه
الصلاة والسلام- على الاتعاظ؟
{أحسن الله إليك. ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: 1]}.
فيه مثال آخر، يعني الآن إذا رأينا السُّفن تذكرنا بفُلك لنوح -عليه الصلاة
والسلام- هناك أشياء بقيت لبعض مَن عَصى الأنبياء إذا رأيناها اتعظنا؛ لأنها عقوبة.
{مدائن صالح}.
نعم، الحِجر، تقدَّم في المجلس السَّابق أنَّ مدائن صالح هي مدائن لصالح العباسي،
ذكرها ابن ناصر الدين في "المشتبه"، وأنَّ قوم صالح -عليه الصلاة والسلام- تُسمَّى
ديارهم بالحِجر، وكانت مدائن صالح العباسي قريبة من الحِجر، فاندثرت مع تقادم
الزَّمن، فأُلصقت التَّسمية "مدائن صالح" بالحِجر، وتعارف النَّاس عليها، والأمر
سهل، لكن في الأصل مدائن صالح قصور لأحد العباسيين، والحجر هي ديار قوم نبي الله
صالح.
فإذا رأينا السَّفينة؛ تذكرنا نوحًا -عليه السلام- وسفينته، فنحمد الله على النجاة،
وإذا تذكرنا ديارَ قومَ صالح -عليه السلام- حمدنا الله على نعمة التَّوحيد، ونعمة
طاعة النبي -عليه الصلاة والسلام، وإذا خاف الإنسان أن يصيبه مثل ما أصاب القوم
السَّابقين، سأل ربه التوفيق والثبات والسلامة.
قال تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَ﴾ المواعظ التي نسمعها لا
تنفع أصحابها إلا إذا توفر فيهم أمور:
- نقرأ جميعًا قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى *
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾ [الأعلى: 9- 11]، إذن
الذكرى تنفع من يخشى.
- والعمل بالموعظة إذا سمعها الإنسان، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
يُوعَظُونَ بِهِ﴾ ، أي العمل بالموعظة، ومن ثمار انتفاعه: ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾
في الدين، والدنيا، والبرزخ، والآخرة، ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتً﴾ [النساء: 66]، ثباتًا
على القول السليم، والفعل السليم، والنهج السليم ﴿وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن
لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴾ [النساء:
67، 68].
قال تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ مجرد
السمع لا يكفي، فالكل يسمع الكلام، حتى الدواب تسمع والطيور، والجن يسمعون، قال
تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ [الجن: 1]،
لكن يختلف هذا السماع، فالبهائم غير مكلفة لما تسمع، لكن هؤلاء الإنس والجن يسمعون
الذِّكر، ويسمعون الأوامر والنواهي، فمجرد السَّماع لا يكفي إذا لم يصاحبه وعي
وتقبُّل وانقياد في فعل الطاعات، وانقياد لتجنُّب وترك الخطيئات.
نسمع التي بعدها.
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ *
وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ .
قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ الصُّور جاء له في القرآن اسم آخر في
سورة المدثر، وجاء له في السُّنَّة اسم كذلك -في حد علمي- هل أحد منكم يتذكر الآية؟
{قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ [المدثر: 8]}.
نعم، وماذا جاء في السُّنَّة في تسميته؟
{البوق}.
لا، لكن في حفظي القاصر، جاء في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْعَمُ
وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ»[40]، إذن الصُّور، والنَّاقور،
والقرن.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ النفخات في الصُّورِ
ذكر أهل العلم فيها كلامًا:
- فمنهم من قال: إنَّ النفخ نفختان، واحتجَّوا بآية الزُّمر ﴿وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ
اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾ [الزمر:
68]، قالوا: هاتان نفختان: نفخة الصعق، ونفخة القيام.
- وقال بعضهم: بل هي نفخات ثلاث، الثالثة نفخة الفزع، سورة النمل: ﴿فَفَزِعَ
مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ﴾ [النمل: 87]، وابن حزم -رحمه الله
تعالى- يرى أنَّها أربع نفخات.
مَن قال إنَّها نفختان، قال بنصِّ آية الزمر.
وأمَّا الجواب عن مَن قال إنَّها ثلاث نفخات، قال النفخة الأولى: أولها فزع ثم
يصعقون، هذه واحدة طويلة. والنفخة الثانية: التي هي القيام.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ هذا النَّفخ من أشراط
السَّاعة الكبرى، وهذا النفخ يتولاه أحد الملائكة -عليهم الصلاة والسلام- الموكَّل
بالنَّفخ في الصُّورِ. ما اسمه؟
{إسرافيل}.
جاء في الحديث أنَّه صاحب القرن، وفي بعض الروايات أنَّه إسرافيل.
وأذكر أنِّي قرأتُ تسميةَ ملك الموت بعزائيل، سألت بعض مشايخي فقالوا: هذه
التَّسمية دَرَجَت، وليس لها في القرآن الكريم أصلٌ، ولا في السُّنَّة -حسب البحث-
وإنَّما جاءت التَّسمية في القرآن الكريم: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾
[السجدة: 11].
أنا قلتُ في كلامي قبل قليل: وليس في السُّنَّة، حسب علمي.
وهنا أنبِّه تنبيهًا علميًّا ينبغي أن ننتبه له جميعًا وأن ينتبه له كلُّ طالب علم،
أحيانًا يقول بعض النَّاس: ما ثبت هذا في السُّنَّة، أو لم يرد هذا في السُّنَّة.
هذا القول ليس بالشيء اليسير؛ لأنَّه يلزم مِن قائله أن يكون محيطًا بالسُّنَّة،
ولذا ينبغي التَّريُّث، هذه الكلمة يقولها كبار أهل العلم، لأنهم ما يقولونها إلا
بعد البحث والتَّحري، حتى إنني قرأتُ -فيما أذكر- لأحمد شاكر -رحمه الله تعالى-
وغيره، يقول: "لا أطمئن لأحد يقول: (لم يرد) إِلَّا لشيخ الإسلام، وابن حجر"، وذكر
ثالثًا لا أذكره.
ومن اللطائف أنني قرأت في ترجمة الزهري -رحمه الله تعالى: أنَّه كان عند الخليفة،
فقام أحدهم يعظ، فهذا الواعظ ذكر حديثًا، فقال الزهري -رحمه الله تعالى: ما سمعنا
بهذا في السُّنَّة. فقام شاب، فقال: يا إمام، هل وعيت السُّنَّة كلها؟ قال: لا.
قال: شطرها؟ قال: أرجو. قال: ضعْ حديثَ الشَّيخ في الشّطر الآخر. وهذا هو الزهري
-رحمه الله تعالى.
فالقصد من هذه اللفتة: أن ننتبه إلى قول "لم يرد في السُّنَّة"، ينبغي التريث فيه.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ ، هذا المقام مقام
فزع، كما ذكر الله أنَّ النَّاس يفزعون، بل يُصعقون، فإذا قرأ الإنسان مثل هذه
الآيات، ينبغي أن يقف عندها، وهو يرى الصوت الرفيع للرياح في الدنيا يكون مزعجًا
وفيه خوف وقلق، مع أنَّها وقتيَّة وتنتهي، ثم تستمر الحياة بعدها، فكيف في موقف قد
أُخبرنا أنَّه نهاية الدنيا، وأن بعده حساب وعقاب، لطف الله بالجميع.
قال تعالى: ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ هنا
تتغير سننٌ كونيَّة، وجاء القرآن الكريم في مواضع كثيرة بهذا، نحو قوله: ﴿إِذَا
السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: 1] ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾ [الانشقاق: 1]
﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾ [الانفطار: 2]، ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾
[التكوير: 6] ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾ [المرسلات: 10]، وهكذا.
هنا قال: ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ عَطَفَ الجبالَ على الأرضِ، وَعَطْف
الخاصِّ على العامِّ له نظائر في القرآن الكريم، ومنه قوله: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا
لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [البقرة: 98] فجبريل
وميكال من الملائكة، لكن خصَّهم بالذِّكر؛ لأنَّ عداوتهم أشدُّ من غيرهم.
والخاص إذا عُطف على العام يكون تبينًا لمنزلة وعظيم شأن ذلك المخصوص -المعطوف على
العموم الذي في ضمنه- وقد يُقال: إنَّ الأرض خُلقت قبل الجبال، لقوله تعالى:
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [النحل: 15]، فقد يقال
إنَّها منفصلة.
قال تعالى: ﴿فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ ، الآن هناك جبال شُقَّت وأُزيلت،
ويمكننا الربط مع هذا ليذكرنا بعلامات الساعة، فهذه الجبال التي يأخذ فيها البشر
سنوات لفتح نفق فيها، أو توسيع الطريق، في قدرة الله تعالى ﴿وَيسْأَلُونَكَ عَنِ
الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفً﴾ [طه: 105].
وللفائدة: جاء حديث: «لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى تزولَ الجبالُ عن أماكنِه»[41]،
والآن ترى بعض الجبال غُيِّرت من حيث العمل في الطرق، فقد يكون المراد بزوالها في
الدنيا، أي: تزول عن أماكنها أو تغير أماكنها، وقد يكون المراد في الآخرة قطعًا كما
في الآيات، لكن قد يُقال: إنَّ مما نراه الآن من إزالة بعض الجبال، وشق الأنفاق،
وقطع بعض الجبال للتَّوسعة، أن يكون هذا من أخبار السَّاعة.
قال تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ يعني: قامت القيامة التي جاءت
علاماتها توطئةً ومقدمةً لها لتحقق وقوعها، ومن حكمة الله ورحمته أنَّ هناك مقدمات
لهذه القيامة، وهذا فيه فوائد:
أول فائدة: رحمة الله تعالى بالخلق، فعلامات الساعة وأشراط الساعة التي جاء الوحي
بها هي نُذُر؛ ليتَّعظ ويتنبَّه الغافل، ويزداد الطائع ثباتًا.
قال تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ *
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا
كِتَابِيَهْ﴾ .
﴿وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ ، جاءت سورة الانشقاق: ﴿إِذَا
السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾ ، الانفطار: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾ ، وهنا كما في
الآية السابقة ﴿وَاهِيَةٌ﴾ وَهَى أمرها، أي: ذهب سمكها وقوتها حينما أمرها الله
تعالى فانشقت.
قال تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَ﴾ الأرجاء هي الأطراف، قيل: يبقون على
أطرافها بعد انشقاقها.
هنا مسألة مهمَّة: الملك أو الملائكة خلق من خلق الله تعالى، جاء في بعض الموسوعات
العلميَّة الغربيَّة المعرَّبة، قالوا: إنَّ الملائكة هم نوازع الخير في الإنسان،
والشياطين هم نوازع الشر في الإنسان.
وهذا الكلام ليس على إطلاقه، بل هو كلام باطل إذا أُخذ هكذا، فالملائكة -عليهم
الصلاة والسلام- خلقٌ من خلقِ الله، مخلوقون من نور كما في النصوص، ولهم صفات
خَلقية، وخُلقية.
من الصفات الخَلقية: في سورة فاطر ذكر الله بعضها: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى
وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: 1].
ومن الصفات الخُلقية: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ
الْمَلَائِكَةُ»[42].
وقال بعضهم: العقلاء من خلق الله هم: الإنس، والجن، والملائكة، وأولهم خلقًا هم
الملائكة، ثم الجن، ثم الإنس، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن
صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن
نَّارِ السَّمُومِ ﴾ [الحجر:26، 27].
الإيمان بالملائكة -عليهم الصَّلاة والسَّلام- من أصول الإيمان الستة، وقد أخبرنا
الله تعالى ببعضهم، وببعض وظائفهم، وهم كُثُر ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ
إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]. ودليل كثرتهم: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «البيتُ
المعمورُ، يصلي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملَكٍ، إذا خرجوا لم يعودوا إليه»[43].
تخيل! هناك أعداد كما في علم الرياضيات جذر لا نهائي، لا يذكر العقل نهايته، أعداد
هائلة ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ .
قال تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ جاء ذكر حملة العرش في سورة أخرى أيضًا، أحد منكم يذكر
الآية في سورة غافر؟
{قوله -سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيؤْمِنُونَ﴾ [غافر: 7]}.
نعم. حملة العرش -عليهم الصَّلاة والسَّلام- ثمانية، وهناك مَن يقول: إنَّهم أربعة
في الدنيا، وفي الآخرة يكونوا ثمانية، ويحتجُّون بآثارٍ، ومنها بيت لأمية بن أبي
الصلت:
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ
النَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
ذُكر البيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «صَدَقَ»[44]، ذكر أربعة.
وقال بعضهم: إنَّ الملائكة كُثُر، وهم ثمانية صفوف يحملون العرش، لكن النص
﴿ثَمَانِيَةٌ﴾ عددًا ما بين السبعة والتسعة.
قال تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ﴾ ، العرش عرشٌ
حقيقي، جاء ذكره في القرآن الكريم في آيات كثيرة، والله تعالى استوى عليه استواءً
يليق بجلالته وعظمته، من دون تمثيل أو تشبيه أو تكييف، وذُكر الاستواء في سبع آيات.
والعرش في اللغة: سرير الملك.
وفي الاصطلاح: هو عرش الرحمن، عرش حقيقي، له صفات، ذكر بعضهم منها:
- أنه أعلى المخلوقات.
- وأثقل الموزونات «سبحان اللهِ وبحمدِه، عددَ خلقِه ورضَا نفسِه وزِنَةِ
عرشِه»[45].
- وأرفع المخلوقات.
- وقد جاء فيه أنه مقبب، أشار بعضهم إلى ورود ذلك في بعض الآثار. لكن الذي
أذكره الآن: أثقل الموزونات، وأرفع المخلوقات، وأول المخلوقات.
ذكر ابن القيم خِلافًا في أول المخلوقات، هل هو العرش أو القلم، وذكر في النونية:
وَالنَّاس مُخْتَلِفُونَ فِي الْقَلَمِ الَّذي
كُتِبَ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ الدَّيَّانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ الْعَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ
قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي الْعَلاَ الْهَمَدَانِي
وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَرْشَ قَبْلُ لأَنَّهُ
وَقْتَ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَا أَرْكَانِ
وجاء في الحديث: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ
عَلَى المَاءِ»[46].
- من صفات العرش: أنَّ له قوائم، قال -عليه الصلاة والسلام: «فَأَكُونُ أولَ
مَن يُفيقُ، فإذا أنا بموسى آخِذٌ بقائمةٍ من قوائِمِ العرشِ»[47].
- من صفات العرش: أنَّه بهي المنظر، أي: جميل الشكل لطيف. من أين أخذ أهل
العلم هذا الوصف؟
قالوا: رب العرش الكريم، والكريم في لغة العرب تطلق على مقابل البخيل، وعلى الجميل
البهي المنظر، ولهذا جاء قوله: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ
كَرِيمٌ﴾ [يوسف: 31]، استقر في الأذهان أنَّ الملائكة على صور جميلة، وكما في قوله
تعالى: ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ [النجم: 6]، يعني: ذو هيئة حسنة.
ومن الأدلَّة على أنَّ الكريم يُطلق على الجميل قوله تعالى: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا
مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: 10]، أي: شكل جميل ولطيف.
قال تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ﴾ .
فائدة: بعض الضُّلَّال، أو بعض الطوائف من الجهميَّة، يقولون: إنَّ العرش هنا هو
المُلك، حتى ينفون العرش. وهذا قول باطل، فالعرش من ضِمن مُلك الله تعالى.
وبعض الفلاسفة يقول: هو الفَلَكُ التاسع، والمراد بالثمانية: الأفْلَاك الثمانية.
وهذه كلها أقوال تصادم المنقول، وتصادم أيضًا المعقول، فهو عرش حقيقي، يحمله ملائكة
حقيقيون، كما أخبرنا ربنا تعالى.
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ ذكر بعض أهل
العلم أنَّ العرض يكون أكثر من مرة، أحد منكم عنده دليل؟
{في قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّ﴾ [الكهف: 48]}.
هذا الدليل، وجاء في حديث أن العرض ثلاث مرات:
الأول: عرض الجدل. يجادل الإنسان في طلب حقه وحقه محفوظ له.
الثاني: عرض المعاذير، يعتذرون.
الثالث: العرض الأخير، فتتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه باليمين -جعلنا الله وإياكم
والسامعين والمشاهدين من هؤلاء- وآخذٌ كتابه بالشِّمال -أعاذنا الله.
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ نستفيد أن هذه
المقامات تزيد العبد في الدنيا خوفًا، وأن الإنسان مهما فعل في الدنيا من المعاصي
سواءً بنفسه، أو أضرَّ بالآخرين، ولو اختفى في أعمق مكان، وأظلم مكان، وأبعد مكان،
فلا يخفى أمره على الله، وسيحاسب على كل شيء، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، فإذا استشعر وعرف الإنسان أنَّه سيحاسب،
وسيُصعق عند النفخ، وسيقوم، وسيحاسب بما فعله إذا كان منهي عن فعله، بما ترك إذا
كان مأمور بما تركه؛ فيزداد من الله خوفًا، وله حُبًّا.
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُو﴾ أي اقرؤوا، خذوا،
وانظروا، ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ ، قال بعضهم: لماذا ذكر الهاء في قوله
﴿كِتَابِيَهْ﴾ ؟
ذكرها لتُبيِّن فتحة الياء. وبعضهم يقول: إذا وقفت على﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا
كِتَابِيَهْ﴾ تقف بالياء عند بعض القراء، وإذا وصلت تذكر الهاء، وهذا اختاره بعض
القراء، ومثلها: ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ ، ﴿مَالِيَهْ﴾ ،
﴿سُلْطَانِيَهْ﴾ كما ستأتي.
قال تعالى: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ فرِح بهذا الكتاب؛ لأنَّه أخذه بيمينه،
وهذه علامة الخير، فإذا أخذ الإنسان في الدنيا شهادة أو ظفر بشيءٍ فيه فوز؛ فإنَّه
يُطلع عليه أحبته وإخوانه من باب المشاركة لهم حتى يشاركونه في فرحه، ويبشِّرهم بما
بُشِّرَ به.
﴿إِنِّي ظَنَنتُ﴾ الظن هنا بمعنى اليقين، ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ
حِسَابِيَهْ﴾ يعني: أيقنت، سيلاقي ما قدَّم في الدنيا، وما وفَّقه الله تعالى وهداه
له من الخيرات فعلًا، ومن المنكرات تركًا واجتنابًا.
نسمع آيتين أو ثلاث.
قال تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ .
قال: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ كل هذه بشائر، أخذ الكتاب باليمين، هذا من
أول الخير له، ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ لا يكدِّرها كدر، ولا يزيلُها أحد
من الخلق، بل هذه تبقى له دائمًا، خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا.
وانظر آيات النعيم: العيش في رضا، وفي علو ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ ، ومن النعيم،
﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ ، أي: قريبة، ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ [الرحمن: 54].
ثم قال أيضًا من النعيم: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُو﴾ كلوا بنكد؟ واشربوا بنكد؟ لا،
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئً﴾ ثم يذكِّرهم بنعمته عليهم: ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي
الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ ، كلها نِعَم، عيشة راضية، ومقام رفيع، والثِّمار قريبة
بالتَّناول، قد يكون أحيانًا الإنسان في بستان، لكن الثمر بعيد ما يتلذذ بأكله.
وأكلهم وشربهم بأمرٍ من الله أو من الملائكة، ﴿هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي
الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ ، إذا كان الأكل بنكد وتعب ما يهنأ به، لكنهم ينالون
أكلًا، وعيشًا راضيًا، ومنزلةً رفيعةً، وقطوفًا دانيةً، ودعوةً للأكل بهناءة،
وتذكيرًا لهم بما قدَّموا ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ في
الدنيا.
جعلنا الله وإياكم ومَن يسمع ويشاهد مِن أهل جنات النعيم، وفردوسه الأعلى، وممن
يعيش عيشة راضية، وفي جنة عالية، قطوفها دانية، وأن نأكل ونشرب هنيئًا بما أسلفنا،
أن يوفقنا الله في هذه الدنيا للأعمال الصالحة.
شكر الله لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-------------------------
[39] قال ابن حجر العسقلاني في الكافي الشاف (حديث موضوع)
[40] سنن الترمذي (3243) وصححه الألباني.
[41] ورد من حديث سمرة مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى تزول الجبال عن أماكنها؛ وترون
الأمور العظام التي لم تكونوا ترونها". رواه الطبراني وحسنه الألباني بطرقه، وهو في
السلسلة الصحيحة للألباني (3061)
[42] صحيح مسلم (2401).
[43] مسند الإماما أحمد (4/88) وصححه أحمد شاكر.
[44] جاء في الحديث: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صَدَّقَ أُميةَ في
شيٍء من شِعْرِهِ فقال : رجلٌ وثورٌ تحت رِجْلِ يمينِهِ ** والنسرُ للأُخرى وليثٌ
مُرْصَدُ. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: صَدَقَ وقال: والشمسُ تطلعُ
كلَّ آخرِ ليلةٍ ** حمراءَ يُصبحُ لونُها يَتَوَرَّدُ. تَأْبَى فما تطلعُ لنا في
رِسلِها ** إلا معذِّبةً وإلا تُجْلَدُ. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
صَدَقَ. رواه أحمد في مسنده وصححه أحمد شاكر.
[45] صحيح مسلم (2726).
[46] صحيح البخاري (7418).
[47] صحيح البخاري (6421).