الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

5058 12
الدرس الثالث

تفسير جزء تبارك

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الليلة هي ليلة السابع والعشرون من شهر الله المحرم للعام التاسع والثلاثين بعد المائة الرابعة والألف للهجرة النَّبويَّة على صاحبها أتمُّ الصَّلاة والتَّسليم.
وعندنا اليوم سورة "القلم". أولًا أسماؤها:
-       تُسمَّى هذه السُّورة الكريمة بـسورة "القلم".
-       وتُسمَّى سورة "نون".
-       وتُسمَّى سورة "نون والقلم"، فبعض المفسرين يقول: تُذكر "نون والقلم" تميزًا لها عن سورة "العلق"؛ لأن من أسماء سورة العَلق "القلم".
هذه السُّورة الكريمة آياتها: اثنتان وخمسون آية.
ونوع نزولها:
·       قيل إنَّها مكيَّة.
·       وقال بعضهم: إنَّها مكيَّة إلى قوله تعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ .
·       وقال آخرون: إنَّها مدنيَّة.
ولعلَّ الصَّحيح أنَّها مكيَّة، وقد نزل كثيرٌ مِن آياتها -كما يقول بعض أهل التَّفسير- في الوليد بن المغيرة.
 فضائل السُّورة:
جاء في ذلك أحاديثٌ، لكن ينبغي أن نَعلم أنَّه لا يَلزم أن يَرِدَ حديثٌ في فضل كل سورة، فتارة يَرِدُ حديثٌ في فضل آيةٍ كما ورد في فضلِ آية الكرسي، وتارة يَرِدُ حديثٌ في فضل آيتين كما ورد في حديثِ «الآيتانِ من آخرِ سورةِ البقرةِ، مَن قرأهُما في ليلةٍ كفَتاهُ»[21]، وتارة يَرِدُ حديثٌ في فضلِ آياتٍ، كقراءة العشرِ الآيات الأخيرة من سورة "الكهف" وتارة يَرِدُ حديثٌ في فضلِ سورةٍ واحدةٍ، كحديثِ قراءةِ سورة "الكهف" يوم الجمعة، وتارة يَرِدُ حديثٌ في فضل سورتين اثنتين «اقرَؤوا الزَّهرَاوَين»[22] وهما "البقرة وآل عمران"، وتارة تأتي أحاديثٌ في مجموعةٍ من السُّور.
الشاهد: سورةُ القلم ورد فيها -فيما وقفتُ عليه حسبَ البحثِ القاصرِ- حديثان مكذوبان، وطالبُ العلم يعرفُ الحديثَ الصَّحيحَ ليعمل به ويُعلِّمه للآخرين، ويعرفُ الحديثَ الباطل المكذوب ليَحذرَه ويُحذِّرَ منه.
ورد في هذه السُّورة حديثان -وقد يكون أكثر لكني وقفت على حديثين:
الأول: "مَن قرأ سورةَ القلمِ أُعطِيَ أجرَ الذين حسُنَت أخلاقُهم" ولعلَّ هذا من قوله ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
والثَّاني: "مَن قرأ سورةَ القلمِ نوَّر اللهُ قلبَه وقبرَه وبيَّضَ وجهه وأعطاهُ كتابَه بيمينِه، وأجرى عليه بكلِّ آيةٍ يقرأها أجرَ مَن مات مبطونًا". والحديثان مكذوبان لا يصحَّان.
وأيضًا هنا أحبُّ التَّنبيه على ما يلي:
 مع وسائل التِّقنية ووسائل الاتصال يقول لك "انشر تؤجر"، يُزَيِّل الرسالةَ بها، ويضع حديثًا لا تعرفُ صحَّته، فيقوم هذا المرسَل إليه فينشر، فأنا أقول هنا "انشر تؤزر"، فِعْلُك هذا وِزرٌ وليس أجرٌ، فلا تنشر إلا ما كان ثابتًا عن النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وإذا نشرت ما كان ضعيفًا منكرًا فبيِّن ضعفه ونكارته.
هذه السُّورة الكريمة بدأها الله تعالى بقوله: ﴿ن﴾ قال بعضهم: المراد بالنون الحوت، وذكروا أخبارًا بأن الأرضَ على ظهرِ حوتٍ، وأن هذا الحوتُ اضطرب؛ فثبَّت الله الأرضَ بالجبالِ. فكلُّ هذه وما شاكلها أخبار إسرائيليَّة لا زِمَامَ لها ولا خطامَ.
والصواب: أن ﴿ن﴾ من الحروفِ المقطَّعةِ كما في قوله تعالى: ﴿ص﴾ [ص: 1]، ﴿ق﴾ [ق: 1]، ﴿طس﴾ [النمل: 1]، ﴿الم﴾ [البقرة: 1] وهكذا.
﴿وَالْقَلَمِ﴾ [القلم: 1]، القلم: هو ما يُكتب به. وقال بعضهم: المرادُ هو القلمُ الذي كُتِبَ به القضاء عند الله تعالى، أي الذي تَكتب به الملائكة، وهي مجموعة أقلامٍ كما في الأحاديث «سمعت صرير الأقلام»[23].
وقال بعضهم: هو القلم الذي يُكتب به. كما مع الأخ هذا القلم.
والصواب: أنَّه يحتمل الأمرين.
والقلم الذي يُكتب به له شأن عظيم الآن؛ لأن بالقلم تُوَثَّقُ الشَّهادات، ويُقَيَّد العلمُ، وتُضبَطُ الوَصَايا، ويُدَوَّن التَّاريخُ، وإذا كان ذلك كذلك، فإنَّ الأقلام في الجُملة على قسمين:
-       أقلامٌ مشكورة يَكتب أصحابها بها الخيرَ والعلمَ.
-       وأقلامٌ مسمومة يَكتب أصحابها بها الشَّرَّ دعوةً إليه ودفاعًا عنه.
هنا مسألةٌ عَقديَّة ذكرها بعضُ أهل التَّفسير عند هذه الآية، وهي حديث «إنَّ أوَّلَ ما خَلقَ اللهُ القلَمَ، فقال لهُ: اكتُبْ، قال: يا ربِّ وما أكتُبُ؟ قال: اكتُبْ مقادِيرَ كلِّ شيءٍ حتى تقومَ الساعةُ»[24]، هل هذا القلم هو أول المخلوقات التي خلقها الله أم هناك ما خُلق قبله؟
ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- في النُّونيَّة هذه المسألة ونَظَمها كسائر نَظْمِه في النُّونيَّة، فقال:
والنَّاس مختلفون في القلم الذي


 
كُتب القضاء به من الديان


هل كان قبل العرش أو هو بعده


 
قولان عند أبي العلا الهمداني


والحق أنَّ العرش قبلُ لأنه


 
وقت الكتابة كان ذا أركان


هنا يرجح ابن القيم فيقول:
والحق أنَّ العرش قبل لأنه


 
وقت الكتابة كان ذا أركان


كان الله ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، وحديث «أول ما خلق الله القلم»، يعني عندما خلق الله القلم، كان أوَّل ما قال له: "اكتب"، ولا يُفهم من الحديث أنَّها الأوليَّة قبل كلِّ المخلوقات، فالعرش قبله، وعندما خلق الله القلم كان أول ما أُمر به أن يكتب.
قال تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ [القلم: 1]. أقسم الله بالقلمِ لعظيمِ شأنِ القلمِ، وسبق أن تقدم الكلام -فيما أذكر- أنَّ الخالق يُقسم بما شَاء مِن مخلوقاته، وأمَّا المخلوقُ فلا يُقسم إلا بخالقه -عزَّ وجلَّ- ففي القرآن الكريم ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَ﴾ [الشمس: 1]، ﴿وَالْقَمَرِ﴾ [الشمس: 2]. وهنا ﴿وَالْقَلَمِ﴾ والنَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقول: «من كان حالِفًا، فلْيَحلِفْ باللَّهِ أو لِيَصْمُتْ»[25] فما نسمع الآن على ألسنة بعض النَّاس، مثل: "والنَّبيّ، والحياة، وحياة أمي، والراية، ورأسي"، كل هذا القَسَم لا يجوز، ومن حَلف بها يُتَلَطَّفُ في تعليمِه أنَّ هذا لا يجوز ويُبَيَّنُ له الدَّليل الشَّرعي في أنَّ الحلف لا يكون إلا بالله.
إذن، أقسم الله بالقلم لعظيم شأنه، والأقلامُ التي نكتب بها الآن سواء كتابة مباشرة أو بأجهزة التِّقنيَّة تقوم مقام القلم، وشأنها عظيمٌ، وهي بابٌ عظيمٌ إلى الخيراتِ والحسنات، أو بابٌ عظيمٌ وخطيرٌ إلى السَّيئات والموبقات، فالأقلام إمَّا مسمومة أو مشكورة.
قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ لأن الغالب في الكتابة تكون في أسطر. يقال: سَطَرَ الكاتب رِقعتَه أي: كتبها. والغالب أنَّ الكتابة تكون مِن أسطر.
ما أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ لأنهم قالوا له: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6]، فما أنت بنعمة ربك بمجنون بل هو -عليه الصَّلاة والسَّلام- في أشرف المنازل.
ذكر بعض أهل العلم مِن علماء الشافعية -عليهم رحمة الله- فقال: "أشرفُ الوظائف في الدنيا: الرسالة، وأذلُّها: المسألةُ لغيرِ حاجةٍ".
﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ أي: بالرسالة والهداية وأنك أفضل الأنبياء، وأن دعوتك أفضل الدعوات، فأنت في منزلةٍ رفيعةٍ وعاليةٍ، والمجنونُ مَن انتقصكَ، والمجنونُ مَن حاربكَ، والمجنونُ مَن اتَّهمكَ. وسيأتي ضمنَ الآيات ما يُؤكِّد أنَّ القوم يتَّهمونه وهم أولى بالاتِّهام.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ ، أي: كثير غير مقطوعٍ، والنَّاس في الدنيا إذا قالوا: فلانُ أَعطى كثيرًا، فهذه صفة مدح، لكن "كثير"َ بني آدم له حدٌّ ينتهي إليه، وقد يرجع بني آدم في عطيَّته، وقد يُقلِّلُ هذا الكثيرَ، أمَّا ما عند الله تعالى فلا يَنفد ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96].
قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ، هنا مَن الذي مَدَحَ النَّبيَّ؟ الله تعالى. ذكرتُ هذا لكلمةٍ قرأتُها عند هذه الآية لبعضِ أئمةِ الشَّافعية -عليهم رحمة الله- يقول: "تعظيمُ العظماءِ للشَّيء يدلُّ على توغُّله في العَظَمةِ، فكيف إذا كان المُعظِّمُ أعظمَ عظيمٍ!".
دعوني اضرب لكم -ولمن يسمع ويشاهد- مثالًا:
لو جاءنا رجلان في هذا المكان، أحدهما: ثريٌ غنيٌ، والآخر: فقير، فقال الثريُّ الغنيُّ: رأيت بيتًا جميلًا فارهًا في الجهة الغربية. وقال الفقير: رأيت بيتًا فارها في الجهة الشرقية. لو قيل لنا: أيهما أحسن في البيتين؟ البيت الذي رآه الغني أو رآه الفقير؟ ماذا سنقول؟ نقول: البيت الذي رآه الغني قطعًا؛ لأن الغنيَّ عنده بيت فاره وبيت فيه من التُّحف والأشياء الكثيرة، فمدحُ الغنيِّ يدلُّ على أنَّ البيت الذي رآه فاق مَا عنده.
أمَّا الفقيرُ فيكتفي بأردأ الأشياء، فهنا الذي عظَّم ومدح خُلُق النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو الله -عزَّ وجلَّ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وهو -عليه السَّلام- حقيقٌ بهذا الوصف ويكفي أنَّ الله تعالى مدحه، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدً﴾ [الفتح: 28]، ولهذا أمُّنا عائشة -رضي الله تعالى عنها- لما سُئِلت عَن خُلق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أجابت بجملة تدل على ذكائها وعلى فقهها وفطنتها، قالت: «كان خلقه القرآن»[26]، كلمة موجزة تحمل في طيَّاتها معانٍ كثيرةٍ. يَأتمرُ بأمرِهِ، ويَنتهي عند نهيه، ويَتأدَّبُ بأدبِهِ، إلى غير ذلك.
وهنا نستفيدُ قاعدة: إذا مَدَحَ الله نبيًّا بخُلَّةٍ حسنةٍ حميدةٍ فهي في جميع الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- كلُّ الأنبياء على خلقٍ عظيمٍ بدون استثناء، ولما جاء الحديث في أنَّ إبراهيم -عليه السَّلام- أكرم أضيافه، فكلُّ الأنبياءِ أهلُ كرمٍ وأهلُ جودٍ، ولما جاء الحديث أن إبراهيم -عليه السَّلام- نصحَ والده ووعظه ودعاه، فكلُّ الأنبياءِ دعوا آبائهم إذا كانوا على غير دينهم، وإن كان آباؤهم أمواتًا دعوا مَن يَقوم مَقامهم مِن الأعمام وغيرهم.
ونستفيد هنا: أنَّ مَن يَدعُ النَّاسَ إلى الخيرِ لا ينبغي أن يبالي بما يُتَّهمُ به من الصِّفات،أنت سفيه، وأنت كذا وكذا، فقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم شاعرٌ، وقالوا كاهنٌ، قالوا مجنونٌ.
وشريطة مَن يدعو النَّاس للخير أن يكون على بيِّنة مِن أمره وعلى بصيرة؛ لأنَّ بعض النَّاس يدعو على غير بصيرة وعلى جهالة، فإذا أؤذي قال: أنا أحتسب، يقال له: أنت الآن أثمت بدعوتك؛ لأنَّك لم تدعُ على بصيرة وعلى بيِّنة، تُؤجر على ابتلاء النَّاس لك إذا كانت دعوتُك على بيِّنة وعلى بصيرة.
 وأيضًا على صاحبِ دعوةِ النَّاس ومَن يُنصِّبَه النَّاس مُعلمًا لهم أن يتخلَّقَ بالأخلاق الفاضلة، ودرجة الأخلاق عظيمة، قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «إنَّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ قائمِ الليلِ، وصائمِ النهارِ»[27]، وقال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «إنَّما الأَعمالُ كالوِعاءِ، إذا طابَ أسفَلُهُ، طابَ أعلاهُ، وإذا فَسدَ أسفلُهُ، فَسدَ أعلاهُ»[28]، وقال: «وإنَّ الخُلُقَ السَّيِّءَ يُفسِدَ العَمَلَ كَما يُفسِدُ الخَلُّ العَسَلَ»[29].
إذن الأخلاقُ دعوةٌ صامتةٌ تؤثِّرُ في النَّاسِ أحيانًا أكثرَ مِن الدَّعوة النَّاطقة، فالأخلاق تأسرُ من يجالس صاحبها، والأخلاق الفاضلة الطيَّبة عبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى.
قال تعالى: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيبْصِرُونَ﴾ ستعلم يا محمد صلى الله عليه وسلم وسيعلم الذين اتَّهموك بالجنون وانتقصوك، وستكون النَّتيجة يراها الطرفان -أنت وهم.
قال تعالى: ﴿بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ هل أنت مفتونٌ بما تقول ومجنون؟ أو هم باعتراضهم عليك مجانين ومُحارِبين ومعاندِين للحق؟
وهنا أيضًا نُؤكِّد على ما سبق: أن مَن دعا النَّاس للخير على بصيرة، فعليه أن يعلم أنَّ مَا يأتيه مِن البلاء أمر قد سبق إليه أنبياء الله ورسله، فيحتسب ويصبر، بل إنَّ البلاء له سواء كان قولًا أو فعلًا إن كان على بيِّنة، وهو تأكيدٌ لحقيقة دعوته وأنَّه على حق.
قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ الله تعالى يعلم حال النَّاس جميعًا، ويُعطي مَن يشاء بفضله ويمنع مَن يشاء بعدله، وأقام الحجة وبيَّن المحجَّة ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5 - 10]، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورً﴾ [الإنسان: 3]، ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَ﴾ [الإسراء: 19] إلى آخره.
الشاهد: أنَّ الدلائلَ واضحةٌ على طريق الخير ليسلكه مَن أراد الخير، والتحذيرات واضحة على طرق الشِّر ليحذرها من أراد الخير.
قال تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ، المُكَذِّب لا خير فيه ولن يأتيك بخير، والآية دليلٌ على قُبحِ خصلةِ الكذب. وأولى النَّاس بالبعد عن خصلة الكذب لفظًا أو سماعًا هو طالب العلم الذي يدعو النَّاس إلى الخير، لا تسمع المكذبين إلا لِتنصحهم عن كذبهم، فلا تأخذ آرائهم، فالكاذب لن ينفعك؛ بل سيضرك، سيقول لك خلاف ما في نفسه، وسيكذب في مقولته لك، ولهذا فلا تطع المكذبين.
وإذا كان هذا الخطاب مِن الله تعالى إلى الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- فطالبُ العلم عليه أن يحذر وأن لا يُصغي بسمعه إلى المكذِّبين، فكلامهم لغوٌ وباطلٌ، وأنت مأمور عند اللغو أن تُعرض، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55] إلا مَن كان عنده قدرة أن يُقيم الحجَّة بعلمٍ وبصيرةٍ، فيُبيِّنُ لهم هذا الكلام الباطل، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن ردُّوا فالحمد لله على كل حال، والأجر له والوزر عليهم.
قال تعالى: ﴿وَدُّو﴾ يتمنون ﴿لَوْ تُدْهِنُ﴾ المداهنة: اللين.
قال تعالى: ﴿لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ . قيل في معناها:
-       لو تلين عن دينك فيلينون عن عداءهم له.
-       وقيل: لو تعرض عن دينك فيعرضون عن إيذاءهم لك.
-       وقال بعضهم: تعبدُ آلهتهم ويعبدون آلهتك.
ومتى ما لانَ صاحب الحقِّ عن حقِّه طمع فيه عدوه، لهذا صاحب التَّوحيد والسُّنة لا يتأثَّرُ مع تغيرِ الأحوال، فصاحب التَّوحيد والسُّنة على بصيرة لا يتغير أبدًا، لكن مَن لم يكن على بيِّنة ولا على بصيرة من دعوته فهو كالمُناخِ يتقلب، تارة قَرّ، تارة بارد، تارة حار، تارة متقلب، فهو مُتلوِّن.
قال بعضهم في مباحث الفروق في اللغة: المداهنة مذمومة والمداراة محمودة. والمداهنة أن تجعل دينك مطيَّةً إلى دنياك، والمدارة أن تجعل دنياك مطيَّة إلى دينك. يعني: بعضهم يتنازل عن أمور دينه حتى يترك الفرائض، يترك معتقدًا حتى يُحصِّل دنياه. وبعضهم يقول: أنا أترك بعض المصالح الدنيويَّة في سبيل هداية النَّاس بتوفيق الله لي للخير، وفي سبيل إزالة هذه الشبهة، وفي سبيل إقناع هذا المتكلم.
قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ﴾ ، أيضًا هذا أولى النَّاس به مَن يدعو النَّاس للخير، ولاحظ صيغة المبالغة "حلَّاف"، أي كثير الحلف.
قال تعالى: ﴿حَلَّافٍ مَّهِينٍ﴾ لأن احتقار النَّاس له لمهانته، يحاول يُرقِّع نقصه وفقره العلمي والعَقَدي بالحلف، يقول: والله، والله، وهلم جرا.
ولهذا قال بعض السلف -رحمهم الله: "من كَثُرَ حَلِفُه بالله قَلَّت هيبة الله في قلبه".
وغالبًا يحلف باستمرار، ومن كثرة الحلف بالله وقد يضطر للكذب أحيانًا، وقد يتعود الحلف حتى في أمور الكذب، فيكون طبعه الحلفُ الكاذب، وهذا مُحذَّر منه شرعًا.
قال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ ، كلها صفاتُ قُبحٍ وذمٍّ، وصفات مبالغة. ﴿هَمَّازٍ﴾ ، أي: كثير الهمز.
جاء في سورة الهمزة: ﴿وَيلٌ لّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ [الهمزة: 1]، ما الفرق بين الهمز واللمز؟
-       قال بعضهم: الهمزُ واللمزُ بمعنًى واحدٍ.
-       وقيل: الهمزُ ذكر الشخص في حضوره، واللمز ذكره في غيابه.
-       وقال آخرون: الهمز بالقول، واللمز بالفعل.
وبكل حالٍ كلاهما مذمومان، وهنا نستفيدُ أنَّ الغِيبة قد تكون فعليَّة، فبعضهم يقصد أن الغيبة قولية، بل قد تكون الغيبة فعلية، ومثال ذلك: يذكر صهيب أحدَ النَّاس، فأقوم أنا أقول بيدي هكذا، أو أتبسم عند ذكره، بقصد إشعار الحاضرين والناظرين إلى لَمْزِ هذا الرجل.
فالغيبة الفعليَّة من الخطورة بمكان وتخفى على كثير من النَّاس، والدعاء قد يكون غيبة، أي أن الدعاء للشخص قد يتضمن في ثناياه غيبة. كيف ذلك؟
مثلًا: إذا ذُكر شخصٌ من النَّاس، فقال أحد الحاضرين: دعوه، عفا الله عنا وعنه، دعوه الله يستر علينا وعليه. فهذه الكلمة تُشعر الحاضرين، بل يجزم الحاضرون بأنها قدح، وأن في ذلك الشخص خللًا وعيبًا وقدحًا. أعتقد وضوح الكلام.
إذن، الهمزُ واللمزُ يكون بالقول والفعل في حضورٍ أو غيابٍ، وكلها مُحرَّمة ولا تجوز.
قال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ مشَّاء بالنميمة، فوصف حاله بأنه يمشي بالنميمة، من باب أولى في قعوده وجلوسه وإضجاعه، يعني كثير النميمة، فيمشي بها بين النَّاس، يحدث هذا وهذا، فكلما حدَّثَ أحدًا تتَّسع دائرة النيمية، فيعظُمُ إثم صاحبُها الأولِ.
والنميمة -كما نعلم- من كبائر الذنوب، وجاءت أحاديثٌ في تحريمها وذمها، وفي قبح صاحبها، ومن ذلك حديث: «لا يَدخلُ الجنَّةَ قتَّاتٌ»[30]، قيل: المراد به: النمام.
قال تعالى: ﴿مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ يمنع خيره القولي، وخيره الفعلي، وخيره المادي، لا ينفع بلسانه، ولا ينفع بجوارحه، ولا ينفع بماله، وهذا شر كله.
قال تعالى: ﴿مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ﴾ ظالم يتعدى على غيره.
قال تعالى: ﴿أَثِيمٍ﴾ يفعل الآثام من الأقوال والأفعال، كلها صفات قُبح، فلاحظ قوله: ﴿حَلَّافٍ﴾ ﴿مَّهِينٍ﴾ ﴿هَمَّازٍ﴾ ﴿مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ ، ﴿مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ﴾ ، ﴿مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ ، وأولها: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ، كلها صفاتُ ذمٍّ وقبحٍ، وينبغي لطالب العلم أن يكون أولى النَّاس بالبعد عنها، وبتعليم النَّاس لها.
قال تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ ، العتل: المتكبر الجوَّاظ المستكبر، وقد جاء في الحديث عند البيهقي وغيره: «إنَّ اللهَ يُبغِضُ كلَّ جَعْظَريٍّ جوَّاظٍ سخَّابٍ بالأسواقِ جِيفةٍ باللَّيلِ حِمارٍ بالنَّهارِ عالِمٍ بأمرِ الدُّنيا جاهلٍ بأمرِ الآخِرةِ»[31].
عتل: يعني متكبر، والكبر يعمي ويصم، والعتل هو المتكبر الذي ينظر إلى النَّاس بالدونية، فيرى أنه أحسن منهم، وأرفع منهم، وهذا من أعظم أسباب الصدود عن سبيل الخير.
قال تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ ، الزنيم: يعني أن فيه علامة، فما يُعلَّق في عنق الشاة أو في أذنها، ما يُعلَّق في العنق يسمى "زَلَمَة"، وما يُعلَّق في الأذن يسمى "زَنَمَة"، لكن قد تكون الكلمة واحدة وتُستعمل في معانٍ كثيرة، فبعض النَّاس يستعمل كلمة "زلمة" بمعنى "رَجُل"، وكما يُقال في لغة العرب: الكلمة واسعة. وأحيانًا تكون الكلمة بحسب العرف وما تعارف النَّاس عليه، إذا لم تخالِف نصًّا شرعيًّا أو أدبًا شرعيًّا.
وقيل أن هذا الرجل كان فيه علامة على أنفه كما سيأتي في قوله: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ .
قال تعالى: ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ هذا المعاند للخير، من أسباب عناده أنه صاحب أموال، وصاحب أولاد. ودائمًا هذه الأمور تكون استدراجًا من الله لهؤلاء، فيغترون بأموالهم وأولادهم، ويزدادون عداءً للخير، ولهذا قال: ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدً﴾ [المدثر: 13، 14]، أي أعطاه الله البنين، ومهد له سبل الرزق، فاستقوى بهذا على الخير، وما علم أن هذا استدراج.
قال تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ ، بعض النَّاس إذا يسمع الآيات لا يؤمن بها، فيسكت ولا يردها، ولا يسخر منها، ولا يعارضها، قد يتأمل فيها في نفسه، أو لاحقًا، لكن هذا المعارض بلغ من الشِّر مبلغًا، فقال: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ ، أي: أخبار الأولين، وما يقصُّون من أخبار الأوائل، فهو عناد وكبر بكل ما تعنيه كلمة عناد وكبر، وهو يعلم أن هذا حق، ويعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وكما قال الله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: 146]، ما قال جيرانهم، فـ "أبناءهم" أبلغ وأقوى، أي معرفة يقينيَّة قطعيَّة، ولكن ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّ﴾ [النمل: 14]، ولهذا في الآية الأخرى لما خاطب موسى -عليه السَّلام- فرعونَ: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ [الإسراء: 102].
قال تعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ ، سَنَسِمُهُ: نجعل له علامة، يقال: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29]، أي: علامتهم. وفي سورة الرحمن: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: 41]، أي: بعلاماتهم. وفي سورة آل عمران: ﴿بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 125]، أي: مُعَلَّمين.
سَنَسِمُهُ: يعني نجعل له علامة. على أي شيء؟ ﴿عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ ما المراد بالخرطوم؟
من لطائف في ما يذكره الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- لما كان في رحلة الحج، قال: لما كنَّا في الطريق للحج، قابلنا رجلًا من دولة السودان، وهي "الخرطوم"، قلنا: ماذا تريد؟ قال: ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ !
وهذا فهم خاطئ، الخرطوم هنا المراد به الأنف، وهو أبرز علامة في الوجه، فإذا خُتِمَ الوجه أو جاءت علامة فيه تكون أبرز من غيرها، مثلًا علامة في اليد قد تخفى، في القدم قد تخفى، لكن الوجه من المواجهة، فيراه كل أحد.
وهنا فائدة جغرافية عن كلمة الخرطوم، عاصمة السودان -حفظها الله حكومة وشعبًا- يقولون: أن سبب تسميتها بالخرطوم -في ما أذكر- أن فيها نيلين -النيل الأبيض، والنيل الأزرق- يسيران، ويكونُ النيلان في إنحناءٍ وميلانٍ في جريانهما، والأرض الواقعة بينهما تشبهُ خرطومَ الفيلِ، فسُميت الخرطوم بهذا الاسم. وقال بعض الرحالة المتقدمين: إن سبب تسميتها بالخرطوم لنبات القُرطم، كانت كثيفة النَّبات، وهذا النَّبات يُصدَّر إلى مصر وغيرها، ويستخرج منه زيت الإنارة، فالقُرطم مع التقادم قيل عنه "الخرطوم".
قال تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجنَّة إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنهَا مُصْبِحِينَ﴾ هؤلاء الكفار الذين عاندوك قد أعطيناهم من نعيم الدنيا الشيء الكثير. وشبَّهَهُم في الآية بأصحاب الجنَّة –البستان- الذين آتاهم الله بستانًا فيه من النَّعيم والخضرة، وفيه من الثِّمار الشيء الوفير، فهؤلاء يا محمد الذين عاندوك اغتروا بدنياهم، كما اغتر أصحاب الجنَّة بجنتهم. والمراد بالجنَّة هنا: البستان، وسمي البستان بالجنَّة؛ لأن أشجاره تستر ما في داخله وتجِنُّه، ولهذا سمي الجنينُ بالجنين؛ لأنه مستجنٌّ في بطن أمِّه، وسمي الجن بالجن؛ لاختفائهم عن أعيوننا، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27]، يعني مثل إخواننا المخرجين الآن، يروننا لكن ما نراهم، لكن ليسوا جن، هم طبعًا إنس.
قال تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجنَّة إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنهَ﴾ ، أقسموا أي: حلفوا.
هؤلاء أناس عندهم بستان، لا يريدون للفقراء حظًّا من هذا البستان، فأقسموا أن يخرجوا مصبحين -لاحظ سوء العمل وسوء القول- فأقسموا على عملٍ ونيةٍ فاسدة وسيئةٍ، ﴿لَيَصْرِمُنهَ﴾ أي: يقطعون ثمارها ويُجِذُّونها. ﴿مُصْبِحِينَ﴾ أي: في الصباح مبكرين؛ حتى لا يراهم الفقراء، فهم لا يأتون إلا وسط النهار.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾ ، يعني ما قالوا: إن شاء الله.
وقيل: ما استثنوا إلا الفقراء، بل أرادوا حرمان جميع الفقراء من هذه الثمرة. انظر كيف بيَّتوا النيَّة وكيف كانت العاقبة!
﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾ يعني لم يقولوا: إن شاء الله، ولم ستعينوا بالله، وأقسموا على الذِّهاب جماعة لقطع الثِّمار في الصباحِ الباكرِ، وقد يكون هذا بعد الفجر، لأن بعد طلوع الشَّمس مظنَّة مجيئ الفقرآء.
وهؤلاء يا محمد الذين عادوك عندهم خيرات وأموال وأولاد، لكن هذه الخيرات والأموال والأولاد، لن تغنِ عنهم شيئًا، كما لم تغنِ الجنَّة وما فيها من الثِّمار عن أصحابها شيئًا.
قال تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ ، الطائف قيل: ريح، وقيل غير ذلك.
قال تعالى: ﴿وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ قد بيَّتوا النية على الذهاب جماعة للتَّلذُّذ وأخذ ما زرعوا.
قال تعالى: ﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ لا شيء فيها، إذا صُرم النخل انتهى ثمره، فلم يروا فيها أثرًا.
قال تعالى: ﴿فَتَنَادَوْ﴾ فتنادوا للذهاب لها.
قال تعالى: ﴿مصبحين﴾ ، أي في الصباح الباكر.
قال تعالى: ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ﴾ لا يعلموا الذي حصل لها بالليل.
﴿أَنِ اغْدُو﴾ ، أي اذهبوا، الغُدُّوُّ: هو الذهاب أولَّ النهار.
قال تعالى: ﴿عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ﴾ ، أي: إن كنتم تريدون جُذاذ الثَّمرة كما اتفقنا.
قال تعالى: ﴿فَانطَلَقُو﴾ التعبير بالانطلاق من الإسراع والعجلة، وهذا الإسراع تشوقًّا لأخذ الثمرة، وفي المقابل من باب إخفائها عن الفقراء.
قال تعالى: ﴿فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾ انظر إلى الخُبث! يتخافتون حتى لا يسمعهم أحد، فكل هذه الأمور -القسم، والذهاب، وعدم الاستثناء، والتخافت في الكلام- من باب إغلاق الطرق على مجيء الفقراء.
قال تعالى: ﴿أَن لَّا يَدْخُلَنهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ﴾ لا يشارككم أحدٌ من المساكين هؤلاء، و"المسكين والفقير" يقال إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
والمسكين: مَن لا يجد قوت يومه.
قال تعالى: ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ ، قيل: إن كلمة "حرد" هي اسم البستان، واستبعد هذا بعض المفسرين.
وقال بعض المفسرين: إن المراد بالحرد هنا: أنَّهم غدوا على أرض لا خيرَ فيها بعدما طاف عليها الطائف، يُقال حَرَدت الإبلُ إذا لم يظهر حليبها، ويقال: هذه أرض حاردة، أو حرداء، أي لا خير فيها، ولا ثمر فيها، ويقال بأنها أرض رملة في اليمن لا تنبت.
قال تعالى: ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ ، أنهم هيئوا القوة الحسِّية والمعنويَّة للجُذاذ، لكن ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَ﴾ رأوا جنَّتهم وبستانهم الذي كانوا يُؤمِّلون بقطفه، ﴿قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ﴾ قيل المراد: أنهم قالوا أخطأنا مكانها، أيُعقل بعد أن كانت فارهة بالثمار، والآن هي هذه! إذن نحن أضللنا مكانها. لكن هذه الدَّهشة اليسيرة زالت بعدما وعوا أن هذا هو البستان الذي زرعوه، وما بينهم وبين موعد الثمار إلا ساعات، فأذهبها الله تعالى.
قال تعالى: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ أقروا وعلموا واستيقنوا أن هذه عقوبة حلَّت بهم، وحرمتهم من ثمارهم.
ونستفيد من مجموع ما ذُكر: أن حرمان الفقراء من حقِّهم، تنزل به العقوبة عامة على المال كله.
قال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ وهنا المراد بالأوسط: أعدلهم، وأعقلهم، وأفضلهم ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطً﴾ [البقرة: 143] أي: عدلًا، قال البخاري في الصَّحيح: "الوسط: العدل".
قال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾ ، يعني وعظهم، ونصحهم، وذكَّرهم بأن يكفوا عن ما همُّوا به، وأن يسألوا الله تعالى من فضله، ويسبحون الله تعالى ويعظمونه، فتذكروا وصيَّة صاحبهم، ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ .
نستفيد: أن تلزم من أصحابك من كان يُذكِّرُكَ إذا نسيت، ويُعينكَ إذا ذكرت، ويُصوِّبكَ إذا أخطأت، فمثل هذا الزمه، أما إذا رأيت الصَّاحب لا يهتم بخطئك، ولا يقيم عِوَجِك إذا أخطأت ولا يبالي، بل يُقرُّك على خطئك، فمثل هذا لا يُحرص عليه، وكما قيل: الصاحب ساحب.
قال تعالى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ ، قال بعض المفسرين: إنهم رجعوا إلى ربهم، واعترفوا لمَّا علموا خطيئتهم، ورأوا عقوبة الله تعالى في بستانهم، ومع أن الله عاقبهم، لكن من رحمته -عزَّ وجلَّ- أن رحمهم بأن العقوبة أصابت البستان والثمر، ومن رحمته أنه أمهلهم فتذكروا خطأهم، فهذا من رحمة الله تعالى.
قال تعالى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ ، ظلمنا أنفسنا، وظلمنا الفقراء.
قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾ هذا من التوبة النصوح، أن الإنسان إذا عرف خطأه رجع، سواءٌ كان واحدًا أو كانوا جماعة، فإذا أخطئوا ذكَّر بعضهم بعضًا بخطئهم، وذكَّر بعضهم بعضًا بالتوبة من خطئهم.
قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾ يلوم كل واحد صاحبه، هذا يقول: أنت أقررتني، وأنت لم تنكر علي، وأنا قلت وأنت أيدتني، وهلم جرا.
قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا وَيلَنَ﴾ هذا أيضًا من الاعتراف بالذنب ﴿إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾ الطغيان: هو تجاوز الحد. يعني أننا جاوزنا حدَّنا ولم نشكر نعمة الله تعالى، ولم نعطِ الفقراء حقهم، ولم نرعَ هذه النعمة حق رعايتها.
ثم دعوا ربهم: ﴿عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ .
ومعنى الآيات: هؤلاء الكفار بأموالهم وعدتهم وعتادهم ستكون عليهم، ولهذا جاء في آية الأنفال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هذا خبر، ماذا يترتب عليه؟ ﴿فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [الأنفال: 36]، يعني أنفقوها، وكانت عليهم حسرة، وغُلبوا، فأصحاب الجنَّة كذلك لما أرادوا معصية الله، وحرمان الفقراء، انقلبت الآية عليهم، لكنهم هنا تابوا، فالكفار لو تابوا ورجعوا وأنابوا لأَمرِ الرسول صلى الله عليه وسلم لكان خيرًا لهم، لكنهم ركبوا أهواءهم، ومن تاب تاب الله عليه، لأن كفار قريش منهم من أسلم وحسن إسلامه، ومنهم من عاند وأصر وكابر، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه.
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾ هذا في الدنيا، فأصابهم غمٌّ وهمٌّ ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾ ، يعني إذا رأيت نعيم الدنيا وأعظمته، فاعلم أن نعيم الآخرة أعظم، وإذا حلَّت مصيبةٌ في الدنيا أو عذابٌ بأحد، فاعلم أن مصاب الآخرة وأن عذاب الآخرة أعظم. ولهذا دائمًا الربطُ بين حوادثِ الدنيا والآخرة يَزيدُ المؤمن إيمانًا.
فمثلًا: نحن الآن في أبواب الشتاء وقد انسلخ الصيف، وانظر إلى هذا الربط العقدي الكوني من الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «اشتَكَتِ النارُ إلى ربها، فقالتْ: ربِّ أكلَ بعضي بعضًا، فأذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشتاءِ ونَفَسٍ في الصيفِ، فأشدُّ ما تجدونَ من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون من الزَّمْهَرِيرِ»[32]، وما الآن من برد فهو من زمهريرها، فبرد الدنيا مهما اشتد، الصقيع مهما اشتد في القطب المتجمد الشمالي والجنوبي، برودها في الآخرة أعظم من برودها في الدنيا، ولكنها ليست شيئًا عند برد النار، والحر الشديد ليس شيء عند حر النار، ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .
بعدما ذكر الله حال هؤلاء المعاندين والمكذبين، أتى بذكر: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ لماذا قال: "جَنَّاتِ" ولم يقل: "جَنَّاتُ" ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ ؟
{لأنه اسم إنَّ}.
ما شاء الله، لو كان سيبويه موجود، لزوجك ابنته.
أنتم تعلمتم العربية، وما شاء الله تبارك الله أرى كثيرًا من الأفاضل الذين درسوا العربية يتكلمون الفصحى، وهذه منقبة ونعمة، فاحمدوا الله تعالى عليها.
قال تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ هذا جزاءً وفاقًا من الله -عزَّ وجلَّ- فالعاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين، والتقوى تقدَّم تعريفها في مجلسٍ مضى: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معاصي الله، على نور الله، تخشى عقاب الله.
وجنَّات النَّعيم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، أسأل الله لكم، وللمشاهدين جميعًا، مع والدينا أن يجمعنا الله تعالى في فردوسه الأعلى.
أقف عند هذه الآية: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ حتى يكون الكلام متصلًا في الأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى- واللهَ تعالى أسألُه للجميع من حاضرين وسامعين وشاهدين التوفيق والسداد، في القول والعمل، وفي السِّر والعلن، إنه تعالى سميع مجيب، شكر الله لكم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
---------------------
[21] صحيح البخاري (4008).
[22] صحيح مسلم (804).
[23]
[24] صحيح الجامع للألباني (2018).
[25] صحيح البخاري (2679).
[26] صحيح الجامع للألباني (4811).
[27] صححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح (5011).
[28] سنن ابن ماجه (3404) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
[29] شعب الإيمان للبيهقي (6/2736)، وضعفه الألباني.
[30] صحيح البخاري (6056).
[31] صحيح ابن حبان (72)، وذكره الألباني في صحيح الجامع (1878).
[32] صحيح البخاري (3260).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ