الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

5058 12
الدرس الثامن

تفسير جزء تبارك

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حيَّا الله المشاهدين والسَّامعين، حيَّا الله الشَّيخ سعيد، وصهيب، وعبد الكريم، ومالك، واللهَ تعالى أسألُ أن ينفع المتكلِّم والسَّامعين والمشاهدين والحاضرين.
الرَّابع من شهر ربيع الأول، للعام التَّاسع والثلاثين بعد المائة الرَّابعة والألف للهجرة النَّبويَّة، على صاحبها أتمُّ الصَّلاة والتَّسليم.
وقفنا جميعًا في الأسبوع الماضي عند قوله تعالى في سورة المعارج: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾ ، وهو المقطع العاشر، نسمع الآن التِّلاوة.
قال تعالى: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾ .
ذكر الله تعالى أوصاف المؤمنين وأنَّهم على صلاتهم دائمون، مَن يذكرنا بأوصاف أهل الإيمان في الأيات السابقة؟
ذكِّرنا يا شيخ ممَّا مرَّ في الآيات السَّابقة مِن أوصاف أهل الإيمان.
{أحسن الله إليك. من أوصافهم: أنَّهم على صلاتهم يحافظون، وعلى صلاتهم دائمون، وأنَّهم لأماناتهم ولعهدهم راعون}.
فهمنا جميعًا أنَّ تلك الصِّفات هي صفات النَّاجين، والآن ذكر الله تعالى صفات القوم الآخرين، وهم المعاندون المعارضون المكابرون.
قال تعالى: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾ ، وجاء في سورة أخرى، ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي﴾ [القمر: 8]، أي: مسرعين، وقيل هنا بمعنى: معرضين.
قال تعالى: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾ ، أي: اجتمعوا على معاداة الحق، ولهذا هناك عبارة للإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن أهل البدع، قال: "فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على خلاف الكتاب"[65]، فهم بينهم خلاف وتناحر، إلا أنَّهم متَّفقون على معاداة الحق.
قال تعالى: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ هذا عين التَّناقض، هذا مخالفٌ للفطرة، وللعقل السليم، الآن هم كفروا وعاندوا وحاربوا وجاهروا، وخالفوا نهج الرسل، بعد هذا كله، ألا يخشون الله أو يخشون عقوبة الله، هل يطمع أحد من أولئك أن يُدخل جنة نعيم؟ هذا عين الجهل والضلال.
﴿كَلَّ﴾ ، كلا مرَّت علينا أكثر من مرة. ماذا عرفنا عن ﴿كَلَّ﴾ ؟
{قلنا: "كلا" كلمة إذا كانت في السُّورة تعني أن السورة مكية}.
قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾ ، يعلمون أصل خلقتهم، وأنَّهم من مَّنِيٍّ يُمْنَى، وأنَّهم نطفة، فلماذا الكِبر، ولماذا العُجب ولماذا التفاخر؟!
ونستفيد من هذا أنَّ الإنسان إذا علم أصله ونشأته، كان ذلك من أسباب طرد الكبر والعُجب عن النفس، وأنَّ الفخر والخيلاء والتَّعاظم إنَّما يدلُّ على جهلٍ وعلى نقصٍ في عقله ودينه.
ذكرت لكم في المجلس السابق -ولعلكم تذكرونه جميعًا- أنَّ أحد المتكبرين مرَّ في سوقٍ فقام النَّاس له، ولم يقم أحدهم، فقال: لِمَ لَمْ تقم؟ قال: الطريق ليس ضيِّق حتى أوسعه لك، قال: ألا تعرفني؟ قال: أعرفك -هو لا يعرف شخصه ولكن يعرف وصفه- فقال: "أوَّلُك نطفة مزرة، وآخرك جيفة قذرة"[66]، وهكذا جميع بني آدم باستثناء الأنبياء والرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- واستثناء مَن حرَّم الله على الأرض أكل أجسادهم، قال: "وأنت بين ذلك تحمل العذرة"، هذا أنت، فلماذا تفاخر؟ لماذا تكابر؟
نسمع المقطع الحادي عشر.
قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ .
﴿الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ ، جاءت في القرآن الكريم بصيغة الإفراد والمثنى، وهنا بصيغة الجمع. أحد يعرف موضع السورة التي وردت فيها بصيغة المثنيى؟
{الآية: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: 17]}.
في سورة؟
{سورة الرحمن}.
بصيغة الإفراد؟
{﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلً﴾ [المزمل: 9]}.
في سورة؟
{المزمل}.
إذن قوله تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ في المزمل والشعراء، أمَّا ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ فجاءت في سورة الرحمن، بينما ﴿الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ هنا في سورة المعارج، لا اختلاف بين الآيات.
وخذوها قاعدة؛ بل هذا من مسلمات القرآن الكريم: لا تُعَارِض آيةٌ آيةً، والسُّنَّة ثابتة صحيحة على الإطلاق، بل هناك -كما يُقال- الجمع بين الآيات، والجمع بين الأحاديث، وقالوا في الأحكام: إن فيها ناسخ ومنسوخ، وأمَّا الأخبار فيستحيل أن يكون فيها نسخ.
ولهذا يقول: ﴿رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ ، يعني: مشارق الكواكب ومغاربها، وقال بعضهم في قوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ ، يعني: مشرق الشمس والقمر في الصيف، ومغرب الكوكبين في الصيف، وهلم جرا، فهي اسم جنس يشمل كل ما يُشرق وكل ما يَغرب.
يقسم رب العالمين بالمشارق والمغارب. لو قال قائل يا عبد الكريم: لماذا تمنعونا من القسم بغير الله، والله تعالى أقسم بمخلوقاته؟ فماذا تقول؟
{إنَّ الله خالق كل شيء، له حق أن يقسم بما يشاء، والمخلوق ليس له حق إلا أن يُقسم بالله}.
نعم.
قال تعالى: ﴿عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ .
قال تعالى: ﴿أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ قال بعضهم: كما في سورة محمد: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]، وهذا يظهر أنَّه اختيار ابن جرير -رحمه الله تعال.
وقال آخرون: المراد أن نُبدل أجسادهم بعد ما يخرجون من البعث، بأجسادٍ خيرٍ من أجسادهم التي يعيشون فيها الآن، ولعلَّ قول ابن جرير -رحمه الله- هو الأقرب للصَّواب، والله تعالى أعلم.
قال تعالى: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ ، أي: لن يسبقنا أحد، فالله تعالى لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، حُكْمُهُ يَنفذ، وَحُكُمُ غَيره لا يَنفذ إلا بإرادته ومشيئته.
أنا قلت هنا "ينفذ"، ما الفرق بين "ينفد وينفذ"؟ أي: ما الفرق بين "ينفذ" بالذال المعجمة و "ينفد" الدال المهملة؟
وهنا أنبه الإخوة الأكارم من المشاهدين والسامعين والحاضرين، يخطئ بعضهم في إبدال الدال المهملة بدون نقطة، بالذال المعجمة المنقوطة، فمثلًا في سورة النَّحل: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ﴾ [النحل: 96] بالدال المهملة، يقرأها بعضهم بالذال، وفي خاتمة الكهف: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ﴾ [الكهف: 109] بالدال المهملة بدون نقطة، وفي سورة الرحمن: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾ [الرحمن: 33]، بالذال المعجمة.
"النفاد" بالدال المهملة، و"النفاذ" بالذال المعجمة، ما الفرق بينهما؟
{"النفاذ" بالذال المعجمة المنقوطة يعني: أن حكم الله واقعٌ لا محالة}.
و"النفاد" بالدال؟
{أمَّا "النفاد" فيعني الانتهاء}.
نعم. ولهذا يقول بعض النَّاس: هذا الشيء "نفد" بالدال، هذا صحيح، نفدت البضاعة: انتهت.
نسمع المقطع الثاني عشر.
قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ .
لست وكيلًا عليهم، دعهم ليخوضوا، وليلعبوا باللهو الباطل، وليفعلوا ما شاءوا، فهم لهم غاية ونهاية.
و"حتى" حرف غاية، أي: حتى لو عُمِّروا عشرات السنين، أو مئات السنين، أو آلاف السنين؛ بل مهما عاشوا فلهم غاية سينتهون لها، وما فعلوه في تلك السنين من اللهو والخوض إنما هو حجَّة عليهم.
قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ﴾ ، يوم لا مفرَّ منه، هذا اليوم كلٌّ سيشهده، وهو يوم الجزاء والحساب، يوم موعود لكلِّ النَّاس، سيقفون هذا اليوم، لكن يختلف وقوف أهل الإيمان، من وقوف أهل الكفر والطغيان.
نسمع المقطع الذي بعده.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ .
يوم القيامة ذلك اليوم الذي يوعدون، سيخرجون فيه من الأجداث.
عبد الكريم، ما المراد بالأجداث؟
{القبور}.
هناك أسماء أخرى للقبور، الجَدَث، والقبر، وأيضًا الرِّمس، والجَدَف.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعً﴾ فإذا نُفخ في الصِّور يَفزع النَّاس، وكما تقدَّم نفخة يصعقون، ونفخة يخرجون.
قوله: ﴿سِرَاعً﴾ ، أي: مسرعين، ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ [القمر: 8]، مهطعين -كما تقدَّم- مسرعين.
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ﴾ ، النُّصب: العلامة، وقيل: إلى أصنامهم التي كانوا يقصدونها عندما يحتاجون لها في دفع ضُرٍّ أو جلب نفعٍ، أو إرادة سفر، أو ما شاكله.
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ يفزعون ويهرعون قاصدين هذه العلامة التي هي الصَّنم، فإذا قاموا مِن قُبورهم يهرعون مسرعين إلى المكان الموعود.
قوله: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ الخشوع هنا من الذُّل.
الخشوع أقسام:
-       الخشوع المحمود، كالخشوع في الصَّلاة، والإخبات لله تعالى.
-       خشوع الذُّل، كما في قوله: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ [القلم: 43]، وفي سورة الغاشية: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية: 2]، فهذا خشوع الذل والاعتراف بالمعصية والضلال والعناد.
قوله: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ ، هذا ذل لا عِزَّ بعده، وخَوَر لا قوة بعده، وذلك الموقف -كما يُقال- موقف أخير، مَن فاز فله، ومن خسر فعليه، ولا يظلم ربك أحدًا.
قوله: ﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ هنا يتخيَّل الإنسان، أنت تعرف أنَّ الذُّلَّ والإهانة أمام النَّاس أمر ثقيل، فلو أنَّ أحدًا تكلَّم عليك وأهانك أمام النَّاس، ستشعر بحرج وضيق، وخاصَّة إذا كان محقًّا، وهؤلاء مجموعة من النَّاس سينتهي المجلس إذا تفرَّقوا، وسينساها النَّاس بعد حين، فكيف إذا كانت تلك الإهانة أمام جمع كبير من النَّاس؟! فقل لي بربك إذا كانت أمام الملأ أجمعين؟!
جعلنا الله وإياكم ممَّن يُعَزَّون في ذلك الموقف، والسَّامعين والمشاهدين.
قوله: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ ، يلقى كلٌّ ما قدَّم.
هذه خاتمة سورة المعارج.
هنا أنبِّه! جرى على ألسنة بعض النَّاس أنَّه يلعن الجَدَف، فيقول: لعن الله جَدَفَكَ. هذه العبارة خطيرة، فإذا لعن جَدَفَهُ كأنه يلعن قبره، يعني لا يتمنى له الرحمة ولا المغفرة، واللعن مُطلقًا حرام، «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللِّعَانِ»[67]، لكن هذه الكلمة دارجة، وأنا قد أجزم بل أقسم أنَّ كثيرًا ممَّن يقولها لا يعلم معناها، والمسلم -إن شاء الله- حريص إذا علم الخير اتَّبعه،«كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[68].
نسمع سورة نوح.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
هذه السُّورة الكريمة مكِّيَّة، واسمها في المصاحف: "نوح"، وفي كتب علوم القرآن -في حد علمي- لم يُذكر لها إلا هذا الاسم.
وآياتها: ثمان وعشرون آية، وهي مكيَّة النُّزول، وقد ورد فيها حديث «من قرأ سورة نوح، كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح -عليه السلام». وهذا الحديث لا يصح، فليس له زمام ولا خطام.
ونوح -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو أوَّل رسولٍ إلى أهلِ الأرض، وهو مِن أولوا العزم الخمسة.
من يذكر أولوا العزم من الرسل؟
{نوح، موسى، إبراهيم، عيسى، الرَّسول -عليهم الصَّلاة والسَّلام-}.
وهنا فائدة: هناك مَن يقول إنَّ أولي العزم أكثر من خمسة، بل إنَّ بعض المفسرين جعل جميع الأنبياء والرُّسل من أولي العزم، ومنهم مَن يقول: إن أولي العزم هم مَن جاهدوا، وقد ذكرهم الله في القرآن الكريم في سورة الأنعام، لكن لعل الأقوى والأشهر: أنَّهم أصحاب الشَّرائع الكبرى. وقيل: إنَّهم الخمسة الذين ذكرهم الله تعالى مجموعين في آيتين: الأولى في سورة الشورى، والآية الأخرى في النِّساء: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163]، فنوح -عليه الصَّلاة والسَّلام- من أولي العزم، وهو أوَّل رسول إلى أهل الأرض، وأطولهم عمرًا، فقد لبث يدعو في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
تدل الآية على رحمة الله تعالى بالخلق بإرسال الرسل، لإقامة الحجَّة وبيان المحجَّة، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُول﴾ [الإسراء: 15]، وهنا قال: ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ ، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: 4]، وهذا أيضًا من رحمة الله تعالى.
وهنا فائدة تتعلَّق بمبحث النَّبوَّات: الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- بُعثوا إلى قومهم خاصة، إلا النبي محمد صلى الله عليه وسلم بُعث للنَّاس عامَّة.
وهنا فائدتان:
الفائدة الأولى: خصائص الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- دون النَّاس:
أولًا: الوحي.
ثانيًا: العصمة.
ثالثًا: أنَّهم يخيَّرون عند الموت.
رابعًا: أنَّهم أحياء في قبورهم يصلون.
خامسًا: أنَّهم لا يتَركون ميراثًا.
هذه بعض الخصائص، وهناك أشياء أخرى.
الفائدة الثانية: خصائص النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- دون الأنبياء:
أولًا: أن بعثته عامَّة للثَّقلين، بخلاف الأنبياء السَّابقين -عليهم الصَّلاة والسَّلام- فدعوتهم خاصَّة لأقوامهم.
ثانيًا: أُعطي جوامعَ الكَلِم.
ثالثًا: جُعلت له الأرض مسجدًا وطهورًا.
رابعًا: نُصر بالرُّعب مسيرةَ شهرٍ.
خامسًا: أُحلت له الغنائم.
هذه فائدة عارضة على ذكر قول الله تعالى: ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ .
قوله: ﴿أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النِّذارة تكون بالخير ترغيبا، وعن الشَّرِّ ترهيبًا، وهنا ينبغي لمَن أراد دعوة النَّاس للخير أن يُبيِّن لهم ما يضرُّهم ليجتنبوه، وما ينفعهم ليسلكوه، فبعض الدُّعاة يُبيِّن للنَّاس الخير، لكن ما يُبيِّن طرق الضلال والبدع والمحرَّمات؛ فقد يتلوَّث كثير مِن المدعوين بأمور الشُّبهات والشَّهوات لعدم علمهم بالنَّهي عنها، فالصَّواب أن يُبيِّن لهم ما يُرغِّبهم في طاعة الله وما أمر الله به، ويُرهبهم عما نُهوا عنه، ولهذا في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: 55]، وفي قراءة: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ﴾ يعني: يستبين هو، وأمَّا قراءة: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ لَكُمْ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ ذكر ابن القيم أنَّ بعض النَّاس يعرف سبيل المؤمنين، لكن لا يعرف سبيل المجرمين فيقع، وبعضهم يعرف ويتتبَّع أخبار الضَّلال، لكن ما عنده قاعدة عقديَّة ينطلق منها، وبعضهم لا يعرف هذا ولا ذاك، والأكمل في طالب العلم أن يعرف المنهج السَّليم فيلزمه، ويحثُّ على لزومه، ويعرف طرق الضَّلال المخالفة لمنهج الرَّسول صلى الله عليه وسلم والصَّحابة والسَّلف فيُحَذِّر منها.
قوله: ﴿أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أيضًا هذا -كما تقدَّم- من رحمة الله تعالى: بعث الرسل الكرام -عليهم الصَّلاة والسَّلام- لبيان ما يُرغِّب النَّاس في الخير، ويُرهبهم من الشَّرِّ، ويُحذِّرهم من عاقبة المعصية والمخالفة للرُّسل والعناد لهم، وأنَّ هناك عذابٌ أليمٌ لمن خالف وكابر.
نسمع المقطع الثاني.
﴿قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .
قوله: ﴿قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ ، من فقه الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- التَّحبُّب في دعوة قومهم بذكر القرابة، أو العُصبة، أو القبيلة، أو العشيرة، أو الانتماء للبلد.
قوله: ﴿قَالَ يَا قَوْم﴾ ، هذا الأسلوب فيه تلطُّف مع المدعوين، ولهذا ذكر بعض المفسرين أنَّ الخليل -عليه الصَّلاة والسَّلام- استعمل أرقَّ عبارات البُّنوَّة في مخاطبة الأبُّوَّة أربع مراتٍ متتاليةٍ في سورة مريم: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ﴾ [مريم: 43]، ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ [مريم: 44]، ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ﴾ [مريم: 45]، كلها تلطُّف مع أبيه. نوح -عليه الصَّلاة والسَّلام- قبل إبراهيم: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا ولَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود: 42]. النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام: «يا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ »[69]، فدائمًا ذكر القرابة، وذكر العُصبة، وذكر العشيرة، فيه نوع من التَّودُّدِ والتَّآلف، وإظهار التَّرحم والرَّحمة والخوف على المدعو.
قوله: ﴿قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ ، على داعية الخير أن يُبيِّن للنَّاس الحقَّ بجلاء، ولا يُغمض في عباراته، ولا يُسهب إسهابًا يُضيِّع المراد في ثنايا كلامه.
والإبانة للناس: أن يخاطبهم على قدر ما يعقلون وما يفهمون، ويُنبَّه هنا على عدم الإكثار من السَّجع في الكلام، والعبارات الرَّفيعة البليغة التي لا يفهمها إلا خاصَّة أهل العلم؛ بل خاصَّة أهل العلم بالعربيَّة، فينبغي للشَّخص أن يُخاطِب النَّاس بالأسلوب الذي يفهمونه، ولهذا إذاكان الإمام يخطب في أناس ليسوا عربًا، فيجوز له أن يخطب بلغتهم: قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: 4]؛ لأنَّه لو خطب بالعربيَّة ما فهموها وضاع المراد.
فالقصد أنَّ الإنسان في دعوة النَّاس، أو في خطبة الجمعة، أو في المحاضرة، أو في الموعظة، أو في أي مجلس يُحدِّث النَّاس؛ عليه أن يسلك العبارات السَّهلة الواضحة التي لا تخفى على السَّامعين، نعم قد يحتاج إلى مصطلحات علميَّة رفيعة؛ لكن لكل مقامٍ مقال، وقد يخاطب القوم بمصطلحاتٍ لهم؛ فلا مانع من ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويجوز مخاطبة كل أهل اصطلاح باصطلاحهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة"[70]، فداعية الخير أو الخطيب، سواءٌ كان خطيبًا، أو واعظًا، أو أيًّا كان متكلمًا؛ عليه أن يسلك السَّبيل الذي فيه بيانٌ للمخاطَبين، وليس فيه نوع من الغموض أو الإيهام.
قال تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ كل الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- دعوتهم واحدة، وهي دعوة التَّوحيد، جاء في الحديث: «الأنْبياءُ أوْلادُ عَلَّاتٍ ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى»[71]، ما المراد بهذا الحديث الصحيح في البخاري؟
قالوا: المعنى أنَّ الأصل واحد، وأمَّا فروع الشَّرائع فمختلفة، لهذا كل الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- جاءوا بحفظ ما يُسمى بالكليات الخمس، أو الضروريات الخمس، وهي: حفظ الدِّين، .... إلخ
كل الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- دعوا إلى التَّوحيد، كل نبي يقول لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: 23].
إذن حفظ الدين من الكليات الخمس، أو تسمى عند بعض الأصوليين: الضروريات الخمس، وهي:
-       حفظ الدين.
-        حفظ النفس.
-       حفظ العقل.
-       حفظ المال.
-       وحفظ العِرض.
هنا أيضًا نستفيد من هذا: أنَّ يبدأ الدُّعاة في دعوة النَّاس بدعوة التَّوحيد، فبعض الدُّعاة يبدأ بأمور تُشغِل النَّاس عن دعوة التَّوحيد، يبدأ بالأمور السِّياسيَّة، ويخوض في أمورٍ لا تفيد أكثر النَّاس، بل قد يكون بعضهم قواميس في الأمور السِّياسيَّة ويُهمل التَّوحيد، وهذا من الجهل! وبعض النَّاس يُغلِّب جانب الرَّقائق في كلِّ دعوته، ويُهمل التَّوحيد، بعض النَّاس يدخل في غرائب المسائل، ويهمل التَّوحيد، وقد يكون أولئك المدعوين مساكين لا يفقهون شيئًا من التَّوحيد، أو حديثي عهد بالإسلام.
فينبغي تعظيم جناب التَّوحيد، حتى مع أهل التَّوحيد، من باب ترسيخ التَّوحيد في نفوسهم، ولهذا كان يقول بعض السَّلف: "كانوا يعلموننا ونحن صغار حب أبي بكر وعمر، والرسول صلى الله عليه وسلم" ماذا يقول عن الحسين؟ علمهم: «اللَّهمَّ اهدِنا فيمَنْ هدَيْتَ»[72]، وهم صغار، فهذا ترسيخ التَّوحيد، فعلى دعاة النَّاس للخير أن يُعظِّموا التَّوحيد قبل كل شيء، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا لليمن، قال: «يا معاذ، إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»[73] وهذا هو التَّوحيد، الآن في بعض المجتمعات الإسلاميَّة وفي عموم ديار الإسلام؛ النَّاس فيهم خير، حتى مَن هو على بدعٍ وضلالاتٍ من عوام المسلمين لو رُزِقوا بأشخاص أو بدعاة يعلمونهم التَّوحيد النَّقي الصَّافي؛الفِطَرُ تتقبَّل وتستنير، لكن إذا أهمل مَن يدعوهم أمورَ التَّوحيد، والأحكام الشَّرعيَّة، وأشغلهم في أمور لا تنفعهم بل قد تضرهم؛ فهذه مصيبة.
ولهذا بعض المسلمين قد شاب رأسه في بعض البلاد بعيدة عنا، ومع ذلك قد لا يعرف أحكام الصَّلاة.
قال تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .
هنا ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ عبادة الله لابدَّ لها من شرط. ما هو؟ في الآية مذكور، تأملوها.
{الطاعة والانقياد}.
لمن؟
{لله}.
نعم، لكن يطيع مَن؟
{الرَّسول}.
نعم، لا يُعبد الله إلا بما شَرعَه، ولهذا تقوى الله لابد أن تكون على علم، والعبادة على علم، مَن اتقى الله على غير علم يضل، ولهذا هناك -في ما ذكر أهل العلم- عُبَّاد على ضلال؛ لأنَّهم عبدوا الله على غير علم.
ودعني أُمثِّل لكم مثالًا وللسَّامعين والمشاهدين: قسَّم أهل العلم الزهد إلى قسمين: زهد شرعي، وزهد بدعي.
وإن شئت فقل: عبادة شرعيَّة، وعبادة بدعيَّة.
أحد النَّاس كما ذكر في بعض كتب الوعظ، رأى امرأة جميلة، وأتبعها بصره، فندم وتحسَّر وبكى، واستغفر ربه، هذا مشروع، التأسُّف والتحسُّر والاستغفار، لم تطب نفسه بهذا الأمر، يعني لم ير أن هذا يكفي في توبته، قال: فأخذ كُلَّابًا من حديد، فأخرج عينه، وقال: الآن طابت نفسي، هو الآن وقع في معصية أكبر من السَّابقة، أليس كذلك؟ لأنه عبدَ الله بغير ما شرع، وبغير علم، وكما قالوا: الإخلاص لله تعالى، والاتباع للنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- ولهذا جاءت الآيات: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [التغابن: 12]، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7]، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُو﴾ [النور: 54].
إذن نستفيد من قوله: ﴿وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ ، أنَّ مَن أراد النجاة لابدَّ أن يعبد الله على وِفق سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على فهم السَّلف الصَّالح -عليهم رحمة الله- من الصَّحابة والتَّابعين، ومَن بعدهم بإحسان، أما مجرد أن يقول: أنا أتعبَّد الله، وأنا كذا وأنا كذا، يقال له: لابدَّ أن تكون العبادة هذه على علم، فالشَّرع لا ينظر إلى الكثرة، إلا أن تكون منضبطة بالشَّرع، ولهذا بعض الصَّحابة رضي الله عنهم لمَّا وقعوا في الاجتهاد في العبادة، وجانب بعضهم الصَّوابَ، ردَّهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أحرص النَّاس على الخير.
وحديث النفر الثلاثة الذين أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثاني قال: أنا أقوم الليل ولا أنام، وقال الثالث قال: لا آكل، ولا أتزوج النساء، قالوا ذلك عن حُسنِ نيَّةٍ، وعن طيب طويَّةٍ، فهم يريدون الخير، ولما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك جمع النَّاس، ثم صدَّر كلامه بمؤكِّداتٍ وقسمٍ، فقال: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ»، هذا تأكيد. قال: «وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[74]، قال الشَّاطبي في الاعتصام: "وهي أبلغ كلمة في الزجر"
الصَّحابي الآخر الذي نذر أن يقوم في الشَّمس، فقال: «مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ، وَلْيَسْتَظِلَّ»[75]، والمرأة التي نذرت أن تحجَّ ماشية، قال لأخيها: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ نَفْسَهَا لَغَنِيٌّ»[76]، وهلم جرا.
فلابد أن يكون الإنسان في تعبُّده على بصيرة.
﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ غُفران الذنوب واضح، ﴿وَيؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ، قال بعضهم: ﴿وَيؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ بلا عقوبات وبلا عذاب إذا أطعتم الله تعالى.
وقيل: يزد في أعماركم، وهنا قال أهل العلم: القضاء قضاءان: قضاء مُبرم، وقضاء معلَّق، ذكر بعضهم هذا الكلام عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[77]، قال بعضهم في بعض الآثار: "يُقال للمَلك: إن وصل رحمه، فاقبضه على رأس السِّتِّين، وإن قطع، فاقبضه على رأس خمسين"، المَلك ما يعلم هل سيَصِل رحمه أو لا، لكن الله تعالى يعلم، قالوا: فعِلْم المَلك قضاءٌ مُعلَّق، أمَّا عِلْم الله فقضاءٌ مُبرم. فقيل هنا: التَّأخير إلى أجل مسمى، مع بسط الرزق وسعة الخيرات إن هم أطاعوا ربهم.
قوله: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إذا وقع المحتوم، أو جاء الأجل لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون.
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارً﴾ .
نوحٌ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وكلُّ الرُّسلِ اجتهدوا في دعوةِ قومِهم، فنوحٌ دعا قومَه ليلًا ونهارًا، ومع استمراره المستديم في دعوتهم، ما زادهم ذلك إلا فَرارًا، وما يئس ولا ترك دعوتهم؛ بل استمر.
ونستفيد من هذا: أنَّ من دعا النَّاس في الخير تحمَّل، وليست العبرة مرهونة بالنَّتائج، أنت مأمور أن تدعو ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ﴾ [النازعات: 45]، وفي الآية الأخرى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]، ولا تنظر لكثرة الحاضرين، «يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»[78]، نبي مدعوم بالوحي الإلهي، أرسله الله واصطفاه وأوحى إليه، وهو أخلص النَّاس لله تعالى، ومع ذلك لم يستجِب له أحد، لكن أدَّى ما عليه، فلا يحصل لك إحباط إذا لم يحضر، نصحتَ أو تكلمتَ فقام النَّاس عنك، هذا بشرط أن تتكلم بعلم، ليس مجرد أي كلام؛ لأنَّ المحمود مَن تكلم بعلم، وبلَّغ العلم ببصيرة، فإن استجاب النَّاس فله الجزاء، وإن أعرضوا فعليهم الحساب، لكن مَن تكلَّم بأمور وليس له فيها منهج شرعي وقام النَّاس عنه؛ فهنا القيام وترك من يدعو إلى ضلالة قد يكون واجبًا.
الشاهد: أنَّ نوحًا -عليه السَّلام- دعا قومه ليلًا ونهارًا، ومع عنادهم وإصرارهم، لم يقنط ولم ييأس، وسيأتي في سياق الآيات أيضًا أنَّ دعوته لهم تنوَّعت، نأخذ المقطع الرابع والأخير في هذا المجلس.
قال تعالى: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارً﴾ .
جمعوا بين الإعراض القولي، والإعراض الفعلي، فاستكبروا وجعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعون، وَاسْتَغشَوا ثيَابَهُم حتى لا يرونه، تخيل أنَّ أحد النَّاس قام يتكلم؛ فوضع السَّامعون أصابعهم في آذانهم، وغطُّوا وجوههم، وفروا قاموا، يعني جميع أنواع الإعراض، ومع ذلك نوح -عليه السَّلام- ما قنط ولا يئس؛ بل لم توقَّف ومازال معهم، فنستفيد من ها أنَّ الإنسان إذا دعا -بشرط أن تكون دعوته على علم وعلى بصيرة- فأعرض مَن يخاطبهم؛ فلا تثريب عليه، إنَّما التَّثريب والثُّبور عليهم ولهم.
ثم لاحظ! دعاهم ليغفر الله لهم، يعني نوح -عليه الصَّلاة والسَّلام- مع رقته لقومه ورحمته بهم، وخطابه لربِّه أن يغفر لهم؛ فعلوا ما فعلوا من العناد القوليِّ والفعليِّ.
بقي أحوال له مع قومه، لعل ذلك يكون -إن شاء الله تعالى- في المجلس القادم.
وقبل أن أختم هنا أيها الأكارم، نذكر ماذا فعله نوح مع قومه، وكيف أن قومه كابروا، فقد دعاهم ليلًا ونهارًا؛ فازدادوا فرارا، ودعاهم جهارا؛ فجعلوا أصابعهم في آذانهم. وأعلن لهم؛ فاسْتَغشَوا ثيابَهُم، وأسرَّ لهم إسرارًا؛ فأصروُّا على عنادهم، ورغَّبهم في الاستغفار؛ فاستكبروا استكبارًا، وذكَّرهم بآثار الاستغفار كالمطر والمال والبنون والجنات والأنهار؛ فمكروا مَكروا مَكرًا كُبَّارًا، وسألهم بتلطُّفٍ عن إنكارهم: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارً﴾ إلى آخره؛ فلزموا طريق الضَّلال لهم ولقومهم، وقالوا: ﴿لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ إلى آخر الآية.
طبعًا ما يلزم التَّقابل في كل خصلة وما يقابلها، لكن هذا مجمل ما فعل نوح -عليه الصَّلاة والسَّلام- مع قومه، وانظر كيف قابلوا ذلك بالعناد والاستكبار.
وفَّق الله الجميع لكل خير، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات، شكر الله لكم، وللإخوة المخرجين والمهندسين، وللسَّامعين والمشاهدين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
------------------------
[65] قاله الإمام أحمد في خطبة كتابه في الرد على الجهمية
[66] تاريخ الإسلام للذهبي ( 2/444).
[67] رواه البخاري في الأدب المفرد (310) وصححه الألباني.
[68] حسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[69] صحيح البخاري (1360).
[70] درء تعارض العقل والنقل ( 1 / 43 )
[71] صححه الألباني في صحيح الجامع (1452)، وأصله في البخاري بلفظ "الأنْبياءُ إخوة لعَلَّاتٍ ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى"
[72] صححه الألباني في إرواء الغليل (429).
[73] رواه أحمد (1995) وأبو داود (1584)، والنسائي (13124)، والترمذي (625)، بسندٍ صحيح.
[74] صحيح البخاري (4700).
[75] صحيح ابن خزيمة (2094)، وأصله في البخاري من حديث ابن عباس أن رجلًا نذَر أن يقومَ ولا يَقعُدَ، ولا يَستَظِلَّ، ولا يَتكلَّمَ، ويَصومَ . فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( مُرْهُ فلْيَتَكلَّمْ ولْيَستَظِلَّ ولْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صَومَه).
[76] مسند أحمد (16955).
[77] صحيح البخاري (1935).
[78] صحيح البخاري (5338).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ