الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

5058 12
الدرس السابع

تفسير جزء تبارك

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرفِ الأنبياء والمرسَلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد.
فهذا هو اليوم الخامس والعشرون من الشَّهر الثَّاني، للعام التَّاسع والثَّلاثين، بعد المائة الرَّابعة والألف للهجرة النَّبويَّة، على صاحبها أتمُّ الصَّلاة والتَّسليم.
وحيَّا الله المشاهدين جميعًا، وحيَّا الله الأكارم الحاضرين، الشَّيخ سعيد، والشَّيخ صهيب، والشَّيخ عبد الكريم، والشَّيخ مالك حياكم الله جميعًا.
اليومُ عندنا سورة المعارج، هذه السُّورة سورةٌ مكيَّةٌ، بل نصَّ أهلُ التَّفسير على أنَّها مكيَّةٌ باتِّفاقِ، وآياتها أربع وأربعون آية.
ومِن أسمائها:
-       سورة المعارج، وهذا هو الاسم الأشهر.
-       سورة سأل سائل.
-       وتسمى أيضًا سورة الواقع، والأسماء مأخوذة من بعض ألفاظ السُّورة.
وقد ورد في فضلها حديثٌ لا يَصح، وَسَبَقَ التَّنبيه عليكم أنَّ طالب العلم يَعلم مَا يصح ليعمل به، ويُرغِّب النَّاس في العمل به، ويعلم ما لم يصح وخاصة الأكاذيب والموضوعات ليحذره ويُحذِّر منه.
حديث: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ المَعَارِج، أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ»، وهو حديث لا يصح، ولا يلزم -كما تقدَّم في دروس سابقة- أن يكون لكلِّ سورةٍ حديث مخصوص في فضلها، وتقدَّم أنَّه قد يجتمع فضل لسورتين أو أكثر، أو يأتي حديث لفضل سورة معينة، فهل يعطيني أحدكم مثالًا في فضل سورة؟
{سورة الملك}.
أحسنتَ. أو يأتي حديث في فضل آية معينة، أو في فضل آيتين، أو في فضل مجموع آيات، وقد تقدَّم الكلام عن هذا.
نستمع الآن إلى آيات من سورة المعارج.
{بسم الله الرحمن الرحيم،
﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلً﴾ }.
قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ ذكر بعضُ أهل التَّفسير أنَّ سببَ نزولِ هذه السُّورة: أنَّ رجلًا مِن زُعماء قريش -سمَّاه بعض المفسرين النضر بن الحارث- لما سمع الوعيد وأمور البعث؛ تهكَّم بها، ثم دعا على نفسه في ما ذكره الله تعالى في آية سورة الأنفال، وقال: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: 32]، قال بعض أهل التَّفسير: فكان نزول هذه السُّورة في الرَّد على هذا الرجل، وقد قَبِلَ الله دعاءه على نفسه، فقُتل يوم بدر صبرًا – أي: بالسَّيف.
قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ الباء هنا بمعنى "عن"، مثل قوله: ﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرً﴾ [الفرقان: 59]، أي: فاسأل عنه خبيرًا.
قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ يعني: سأل هذا السَّائل عن العذاب، والكفار أنكروا البعث، وأنكروا ما جاء في الآية من الوعيد والنَّعيم؛ لأنَّ عقولهم ضعفت عن قبول الوحي، وقد بيَّن الله في غير آية؛ بل في آيات كثيرة بُطلان هذا الزَّعم، وردَّ عليهم في آيات كثيرة.
قال تعالى: ﴿لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ ، أي: إذا أراد الله أمرًا تمَّ، قال تعالى: ﴿إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ [الرعد: 11]، لا مَانِع لمِا أَعطَى، ولا مُعطي لما مَنَعَ ولا رَادَّ لقضائه.
وهذا العذاب الذي أصابهم إنَّما هو بما اقترفته أيديهم، وبما جنوا به على أنفسهم، فقد جاءتهم الآيات البينات، وجاءهم الوصف الواضح والتَّرغيب لمن أطاع الله ورسوله، والتَّرهيب لمن عصى الله ورسوله، وجاءهم وصف النَّعيم في آيات مجملات ومفصلات، والسُّنَّة كذلك في أحاديث مجملة ومفصلة، وفي المقابل وصف الجحيم مفصَّلًا ومجملًا؛ ومع هذا كله كابروا واستكبروا وعاندوا، وكانت النَّتيجة أنَّه لا يجني جانٌ إلا على نفسه، ولا يظلمُ ربُّك أحدًا.
أخذنا في الأسبوع الماضي جملة تتعلَّق بالظُّلمِ يقولها بعض النَّاس في دعاءٍ يدعو به بعض النَّاس، وفيه نسبة الظُّلم إلى الله، وبيان أنَّ هذه الدَّعوة خاطئة، هل أحد يذكرها منكم؟
{قلنا: لا يُقال: خانه الله}.
هذه الخيانة، أو ظلمه الله، يدرُجُ على ألسِنةِ بعض النَّاس: ظَلَمَ الله الظالم، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ الله تعالى نزَّه نفسه عن الظلم، قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
قال تعالى: ﴿مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ﴾ ، في المعراج أقوال، منها:
-       قيل: ذو الفواضل والنِّعم.
-       وقيل: مَن تعرج إليه الملائكة والأرواح، وجاءت الآية الأخرى مفسِّرةً.
قال تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ ، هذا فيه دليل واحد من أدلَّة إثباتِ علوِّ الله تعالى، وعلوُّ اللهِ تعالى ثابتٌ في الفِطَر وفي العقول السَّليمة، والنُّصوصُ لا يحصيها ديوانُ كاتبٍ لا بمنطوقها ولا بمفهومها، فكلُّها دالَّة على علوِّ الله تعالى.
وكان أحدُ مخالفي مذهب أهل السُّنَّة والجماعة ينفي علوَّ الله تعالى، ويقرِّرُ ذلك بأدلَّة عقليَّة، فقال أحد الحاضرين -يقال له الهمداني: دعنا من هذا، لماذا يجد أحدنا في نفسه ضرورة إذا أهمَّه أمرٌ رفع يديه إلى السَّماء؟
فصُعِقَ ذلك الرجل، وقال: حيَّرني الهمداني!
هذا لأنَّ الفطرةَ تُنازع صاحبها، وذكر ابن القيم أنَّ البهائم عندها هذه الفطرة، وذكر أنَّ الماعز إذا استعسرت عليها الولادة فرفعت رأسها إلى السَّماء، فهذه فِطَر فُطِرَ الخلق عليها.
قال تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ﴾ تقدَّم أنَّ الملائكة عالم غيبي، مخلوقون مِن نور، مكلفون بأعمال، لا يَعصون الله مَا أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وتقدَّم لكم أيضًا الخلل العَقدي في بعض الموسوعات العلميَّة العالميَّة كالموسوعة البريطانية، حيث ذكروا أنَّ الملائكة هم نوازع الخير في الإنسان، كما أنَّ الشَّياطين هم نوازع الشر. وهذا التَّعريف خلل عقدي، والصَّحيحُ أنَّ نَوازع الخير وثمار الخير مِن آثار الملائكة، فهم يصلُّون ويدعون للمؤمنين، ويدافعون عنهم، أمَّا الشَّياطين فيغونهم.
وما ذُكرَ في الموسوعة البريطانية فيه قصور وخلل عظيم، فالملائكة والشَّياطين خلق من خلق الله، وبما أنَّ الآية فيها ملائكة، فهم عالم غيبي مخلوقون مِن نور، وليس فيهم شيء من صِفات الألوهيَّة، فلابد من هذا القيد حتى لا نقع فيما وقع فيه بعض الغلاة كالذين جعلوهم بنات الله، وهذا منكرُ القول وزوره.
قال تعالى: ﴿الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ قيل: إنَّ الرُّوح هو جبريل -عليه الصَّلاة والسَّلام- وذِكْرُه مخصوصًا من عموم الملائكة من باب مَا يُسمى بعطف الخاص على العام؛ لأهميَّة ذلك الخاص، ومثله في قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]، مع أنَّ جبريل وميكال من الملائكة، لماذا أفردهم بالتَّسمية وخصهم بالذكر؟
لعظيم شأنهما، وقيل: لأنَّ الكفار يعادونهما أكثر من غيرهما.
قال تعالى: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ، هذا اليوم قدَّره الله بخمسين ألف سنة.
قال بعض أهل العلم: إنَّ هذه المدة الزمنية هي ما بين العرش إلى أسفل سافلين.
وقيل: هي اليوم الفاصل بين القيامة وآخر أيام الدنيا، وهذه الأقوال قيلت ولكن تحتاج كلها إلى دليل؛ لأنَّ الأمور الغيبية لابدَّ فيها من دليل، ولهذا جاء في سورة السجدة في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: 47]، وهنا قال: ﴿خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ، قال بعضهم: هو كألف سنة، لكن يُثقِّله الله على الكفار فيكون كخمسين ألف سنة.
جاء أنَّ ابن أبي مُليكة، وعبد الله بن فيروز دخلا على ابن عباس -رضي الله تعالى عنهم جميعًا- فسألاه عن هاتين الآيتين، فقال: "هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا"[53]، فسكت. ثم سألوا سعيد بن المسيب بعد حين، فلمَّا بلغه قول ابن عباس، قال: "يسعني ما وسع ابن عباس"[54].
فهو يوم كخمسين ألف سنة بمسيرة الراكب، أو مسيرة الخيل، أو مسيرة..، الله أعلم.
فإن قيل: هناك ألف سنة، وهنا خمسون ألف سنة، يقال: يومان أخبر الله تعالى بهما، وهذه أمور غيبية نؤمن بها ولا نخوض فيها، ولا نُقدِّر أشياءً ليس عليها دليل.
قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلً﴾ ، جاء في القرآن الكريم وصف "الجميل" لأمور، منها: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلً﴾ [المزمل: 10]، ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85]، وأذكر أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية سُئل عن الصفح الجميل، وعن الصبر الجميل، وعن الهجر الجميل. فقال: "الصبر الجميل: صبر بلا شكوى"[55]، إذا ابتلي الإنسان من أحد، أو بمرض، فيصبر صبرًا لا شكوى فيه حتى لا يذهب أجره، أو يقل أجره. قال: "والصفح الجميل: صفح بلا عتاب"، إذا صفحت عن أحد فلا تعاتبه، يكفي المدة التي هجرته قبل الصفح عنه. قال: "والهجر الجميل: هجر بلا أذى"، فيكفيه الهجر تأديبًا له.
قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلً﴾ ؛ لأنَّ عاقبة الصبر الجميل حميدة.
نسمع المقطع الآخر.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنرَاهُ قَرِيبً﴾ .
الكفار يَرون يَوم البعث بعيدًا، ويؤمِّلون آمالًا، ويستبعدون وقوع ذلك، واحتجُّوا بقولهم:  كيف يبعث الله العظام النَّخرة؟
يقولون: مات الآباء، ومات الأجداد، فهل يُعقل أن يُبعث أولئك كلهم؟ هذا لا يكون من نظرهم. فغلبت عليهم عقولهم بإنكار البعث.
وذكر بعض أهل التَّفسير أنَّهم لما احتجُّوا بأدلَّة عقليَّة، ردَّ الله تعالى عليهم بدليل عقلي يَرونه ويُشاهدونه ويَسمعونه ويَحسونه.
فلمَّا أنكروا البعث، وثَقُل عليهم، وشُقَّ على عقولهم أن يُبعث هؤلاء الموتى بعظامهم النَّخِرة؛ جاءت الآية بهذا الرَّد: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ كانت خاشعة ميِّتة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: 39].
قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدً﴾ أي: يرون أنَّ هذا العذاب لن يكون، وأمورُ بعثٍ يُستبعد وقوعها، وأنَّهم لن يعذبون؛ ولكن خلافَ ظنِّهم واعتقادِهم هو قريبٌ، وما ذَهَبَ مِن الدنيا أكثر ممَّا بقي، فالذي بقي في الدنيا الآن أقل ممَّا ذهب، ولهذا قال الله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ [القمر: 1]، ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: 1]، اقتراب نسبي طبعًا، لكن مَا ذَهَبَ مِن الدنيا أكثر ممَّا بقي منها.
نسمع المقطع الثالث.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ﴾ .
تتغير السُّنَن الكونيَّة عند قيام السَّاعة.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾ ، قالوا: المُهل هو الرصاص المذاب. وقالوا: هو كأثر الزَّيت. وقالوا: كماء الفضة إذا ذابت.
وجاءت أوصافٌ أخرى للسَّماء عند قيام السَّاعة: مثل قوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾ [الانشقاق: 1]، أيضًا: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: 1]، فهذه الآيات العظيمة فيها تَغيُّر السُّنَنِ الكونيَّة، فينبغي أن يتَّعظ الإنسان إذا رأى مثل هذه التَّغيرات في السُّنَن الكونيَّة كالكسوف، والخسوف، والصواعق الشَّديدة، حتى قال بعض شُرَّاحِ الحديث: "إن من الحِكم في وقوع الكسوف والخسوف: تذكير النَّاس بعلامات الساعة الكبرى".
فتخيل هذا الكوكب العظيم، فجأة تغيب الشمس وتظلم الدنيا، فهذا يذكِّر بالآخرة.
وهنا قال: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾ ، أي: تذوب، وتنشق، وتنفطر. وفي سورة القارعة: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾ [القارعة: 5]، العهن: هو القطن المنثور. وفي سورة طه: ﴿وَيسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولَا أَمْتً﴾ [طه: 105 - 107]، أي: متساوية، كل هذه علامات كبرى للسَّاعة.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمً﴾ لا يسأل صديقٌ صديقَه، انتهى الأمر، بل لا يسأل الحميمُ حميمَه، ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾ [الحج: 2] هل يُعقل أنَّ الأم وهي ترضع ولدها، وهو يبكي يريد الرضاع، جائع، عطشان، ورحمة الأم بولدها أعظم رحمات البشر، فتخيَّل أنَّ هذه الأم تَذهل ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاس سُكَارَى وَمَا هُم بسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 2]. إذن، هذا من علامات الساعة، وما سيكون في يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ أي: يرون، فالمجرم يعرف أنَّه جنى على نفسه، وأنَّه سيلقى ما قدَّم، وأنَّه رأى ما كذب به واقع لا محالة.
قال تعالى: ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ﴾ ، "يومِئذٍ" بكسر الميم، وفي قراءة بفتحها"يومَئذٍ"، ولا أدري هل القراءة متواترة أو لا؟[56] الله أعلم.
قال تعالى: ﴿بِبَنِيهِ﴾ ، أي: أقرب النَّاس له.
قال تعالى: ﴿وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ﴾ سُميت الفصيلة فصيلة؛ لأنَّه انفصل عنها.
قال تعالى: ﴿الَّتِي تُؤْوِيهِ﴾ ، أي: كل هذه القرابات والعشائر والقبائل والأسر لن تنفعه شيئًا.
قال تعالى: ﴿وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ﴾ ، وجاء في سورة لقمان: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ولَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئً﴾ [لقمان: 33]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئً»[57]، يا عباس، يا فلان، يا فلان، ففي ذلك الموقف لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَوْلًى شَيْئًا.
وهذا دليل على أنَّ الإنسان لابد وأن يجتهد في الدنيا بالعمل الصالح؛ لأنَّ في موقف القيامة لن ينفعك إلا الله -عز وجل- فأنت الآن في الدنيا إذا ألَمَّت بك نازلة، ووعدك أحدُ النَّاسِ مِن مسئولٍ أو قريبٍ، أو جارٍ، أو صديقٍ؛ بمعونة أو بشفاعة ثم انتظرته وتخلف عنك؛ فستشعر بالضيق لأنَّه لم يتحقَّق ما تريد، أو قد يعدُك لكن يعجز، لكن في الآخرة ليس لك أحد إلا الله، فالأم تغفل عن وليدها إذا قامت السَّاعة، والحامل تضع حملها، وكلُّ أحدٍ يفرُّ من صاحبِه.
نسمع المقطع الرابع.
قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾ .
﴿كَلَّ﴾ أخذنا فائدة تتعلق ب﴿كَلَّ﴾ هل تَذكُرَهَا؟
{أحسن الله إليك. إذا وردت كلمة ﴿كَلَّ﴾ في سورة، فتكون هذه السُّورة مكيَّة}.
إذن هذه سورة المعارج مدنيَّة ؟
{لا، مكيَّة}.
مكيَّة، نعم.
﴿كَلَّ﴾ أي حقًّا، وتأتي بمعنى لا، ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾ ، هذا وصفٌ للنار، أي: تتلظى من حرها، وتقدَّم أنَّ كثرة الأسماء للشيء تدلُّ على عظيم شأنه في الغالب، وأعظم الأسماء هي أسماء الله تعالى، وأسماء الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- وأسماء القرآن الكريم، وأسماء الإسلام، وذُكِر أسماءٌ للجنَّة والنار لعظيم شأنهما.
قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى﴾ قيل: إِنَّ الشَّوى: جلدة الرأس، وقيل: أطراف الأصابع. وبغض النظر عن الأقوال الأخرى، لكن معناها: أنَّها تنزع الجلود، وتنزع المفاصل. وهذا الوصف حتى لو لم نعرف معناه؛ إلا أنَّه يدلُّ على شناعة وقوة العذاب.
قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً﴾ ، قيل: تنزع جلدة الرأس عن عظامه.
قال تعالى: ﴿ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى﴾ أدبر عن الخير، وعن الإيمان بالله، وعن تصديق ما سيكون في القيامة، هذا الذي أدبر تولى عن آياتنا وأعرض واستكبر، ولا يجني جان إلا على نفسه.
قال تعالى: ﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾ هَمُّهُ الدُّنيا، ولم يرَ لِلآخرة أمرًا، فاهتمامه بالدنيا وجمعه لها، وإعراضه عن الآخرة؛ أضرَّ به، حتى يقول بعض النَّاس: أضر به في الدنيا والآخرة؛ لأنَّه في دنياه لم يهنأ بها، حتى وإن تلذذ بالمطاعم والمشارب، لكن لم يهنأ بنعمة الإيمان، ولا بنعمة القرآن، ولا بنعمة طاعة الله -عز وجل- فألهته دنياه عن آخرته، جمع المال ووعاه ومنع الحق المستحق للفقراء والمساكين، وأخذنا في المجلس السابق قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الحاقة: 34]، فهذا الرجل الذي أدبر عن الحق، وأعرض عنه وكان هَمُّهُ الدُّنيا، جنى على نفسه في الدنيا بحرمانها من العمل الصالح، وجنى على نفسه في الآخرة بأنَّه صَلَى النار، عدلًا من الله تعالى وحكمة.
نسمع المقطع الذي بعده.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعً﴾ .
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ﴾ ، أي: جنس الإنسان، ويشمل كل بني آدم، كقوله: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُو﴾ [العصر1 -3 ] يعني: كل بني آدم.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعً﴾ ، هَلوعًا: أي: يَفزع ويخاف، فالهلع طبيعة في بني آدم، ودائمًا في حياتنا تأتي أخبارُ أفراحٍ، وأخبارُ أتراحٍ، تارة تأتي بشارة بالخير، وتارة تأتي بشارة بالشر.
وهنا أسألكم، هل تعبير "بشارة بالشر" سليم؟ أو لا تكون البشارة إلا في الخير؟
{ البشارة لا تكون بشارة شر}.
{أحسن الله إليك. يصح الإطلاق، فقد ورد في السُّنَّة: «إِذَا مَرَرْتُم بِقَبْرِ كَافِرٍ، فَبَشِّروهُ بِالنَّارِ»[58]، والحديث صححه ابن باز}.
وجاءت آيات بذلك؟
{﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24]}.
نعم، سميت البشارةُ بشارةً؛ لأنَّ بشرة الوجه تتغير إذا سمعها الإنسان، فهنا قال: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعً﴾ قيل: إذا مسه الشَّر لم يصبر.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعً﴾ ، أي: لم يشكر، فكثير من النَّاس إذا أتته المصيبة ترك الآداب الشَّرعيَّة، كالاسترجاعِ، وسؤالِ الله الثَّباتَ، والعوض، والتَّأدُّب في اللَّفظ والقول، وبعضهم -كما نعلم – يفعل من أخلاق الجاهلية، كشقِّ الثَّوب، ونتف الشَّعر، واللَّطم، إلى آخره..
وهذه أوصافٌ في بني آدم، وهي قاسم مشترك في جميع بني آدم، دون استثناء، الفقراء والأغنياء، المسلمون وغير المسلمين، الكبار والصغار، الذكور والإناث، فهي طبيعة في بني آدم، مثل البكاء، مثل النوم، مثل الجوع، عوارض بشرية، لكن التَّعامل معها يختلف من شخص إلى آخر.
فهذا الوصف لشريحة أو لطائفة من النَّاس، إذا مسهم الشَّر جزعوا ولم يصبروا، وإذا مسَّهم الخير أيضًا لم يشكروا، لكن هناك استثناء يخرج من هذه القاعدة ومن هذه العموم، فمن هؤلاء الذين استثناهم الله؟ نسمع المقطع الذي بعده.
قال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ .
قوله: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ ، دليل على عِظم أثر الصَّلاة على جوارح العبد، وعلى قلبه، وعلى تعامله مع الله، ومع نفسه، ومع النَّاس.
 لكن السؤال: هل هم كل من صلى وركع وسجد؟
لا، يختلفون، فقد جاء في الأثر: "وَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونَانِ فِي الصَّفِّ وَأَجْرُ مَا بَيْنَ صَلَاتِهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"، لهذا ترى المصلين خلف الأئمة بالمئات أو بالآلاف كما في الحرم، لكن يختلفون في صلاتهم.
هنا قال: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ ثم بدأ يذكر صفات أولئك المصلين.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ جاء وصفٌ آخرٌ في نفس السُّورة، ذكر أنَّهم على صلاتهم يحافظون، وأيضًا جاء وصف لهم في سورة المؤمنون.
ما الفرق بين ﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ ﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ ؟
قيل: ﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ أي: خاشعون، فالماء الدائم هو الراكد الساكن، فهم في صلاتهم خاشعون، ويحافظون على أركانها، وواجباتها، وسننها القوليَّة والفعليَّة، ولهذا أيُّها الأكارم ينبغي أن نحرص على أن نتعلَّم وصف الصَّلاة النَّبويَّة، والنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقول في ما رواه البخاري عن مالك بن الحويرث: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[59]، ويقول -عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أُمِرَ، وَصَلَّى كَمَا أُمِرَ»، لاحظ «كما أُمِرَ»، ليس كما تعوَّد «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[60].
فالصَّلاة الَّنبويَّة واضحة والحمد لله في الأحاديث، وصنَّف فيها أهل العلم مصنفات، كالشَّيخ الألباني، والشَّيخ ابن باز -عليهم رحمة الله- وغيرهم من أهل العلم.
قال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ ، أي: في خشوع وسكون واطمئنان.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾ ، سمي المال بالمال لماذا؟ لأنَّه يتموَّل.
شيخ عبد الكريم، اذكر بعض حقوق الأموال على الشخص الذي يملكه.
{الزكاة}.
أحسنت، والنَّفقة على الأهل، وأيضًا من باب حق الفقراء الصدقات عليهم.
ونبَّهت من قبل على فائدة قد تخفى على كثير، وهي: إذا أعطى الإنسان الفقيرَ صدقة فلا يطلب منه الدعاء، بل يعطيه، وإذا دعا له الفقير فالحمد لله، وإذا ما دعا، فالله يعلم ما كنتم تعملون.
لماذا لا يطلب الدعاء؟
لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولَا شُكُورً﴾ [الإنسان : 9]، إذا أعطيته الصَّدقة، ثم قلتَ له: ادع الله لي، يقولون: كأنَّها معاوضة.
وهنا أنبِّه إلى خطأ يقع من بعض أرباب البيوت من الرجال أو النساء! إذا كان عندهم في البيت امرأة أو رجل يعملون بأجرة، ويعطونه من زكاة أموالهم، فلا مانع، لكن يطالبونه بعمل مضاعف، يقال لهم: ما لكم حق، هذا الرجل مثلًا سائق سيارة، فيعطيه مرتبه، ثم يعطيه مبلغًا من الزكاة، ويقول: غسِّل سيارة الجيران، غسِّل كذا. ما له حق في هذا، فالزكاة يستحقها الفقير شرعًا من الله، ليس لها معاوضة، وكأنَّه جعل الزَّكاة أجرةً.
قال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ .
السَّائل المحروم: الفقير. وقال بعضهم في المحروم: نعوذ بالله أنَّ بعض الأغنياء يبخل على نفسه، وعلى أهل بيته، حتى لا يُرى عليه أيُّ أثرِ نعمةٍ من بُخله، فهذا محروم، وكذلك تسبَّب في إعطاء أهل بيته الزَّكاة، فجمعَ إثمَ عدم النَّفقة مع إثمَ صرف الصَّدقة لأولاده، وحرمانه الآخرين، فأهل الصَّدقة والزَّكاة يصرفون أموالهم لأولاده لبخله عليهم، فهو بذلك عطَّل صرف الأموال إلى مَن استحقها من الفقراء.
فالشاهد: الإنسان يؤدي حق المال، ويتقرب به لله تعالى، ولا يَمُنُّ به في إعطائه، بل يفرح أنَّ الله أنعم عليه، ومِن شُكر نعمة المال: أن يصرفها في وجهها الشَّرعيِّ.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ .
ذكر هنا في وصف المصلين: حفاظهم على الصَّلاة، وأداؤهم لحق الأموال كالزكاة، ثم ذكر هنا المعتقد: ﴿يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ ، يوم الدِّين: هو يوم الجزاء والحساب، لهذا وصف يومَ الدِّين أنَّه يوم القيامة، في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار: 17، 18].
شيخ عبد الكريم، تذكر فائدة أخذناها جميعًا في ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ؟
{نعم، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ قيل: هذه الصِّيغة يعني أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره الله بما يأتي بعد ذلك، لكن إذا جاء بصيغة: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ، كأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ليس له خبر}.
نعم. يعني هنا في الآية لم يخبره بالجواب،﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ﴾ [الانفطار: 17 - 19]، إذن يوم الدِّين هو: يوم الجزاء والحساب، ومنه قول المثل: كما تَدين تُدان، كما تجازي تجازى، كما تُحَاسِب تُحَاسَب.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أي: يُصدِّقون أنَّه واقعٌ لا محالة، وأنَّ ما أخبرهم الله تعالى به واقعٌ لا محالة، جاءنا علم اليقين، وسنراه بعين اليقين، وسنباشره بحق اليقين.
ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ ، أي: خائفون لعلمهم بحقيقته، وأنَّه واقعٌ لا محالة، والمسلم دائمًا يرجو ويخاف، ولا يأمن مكر الله -عز وجل- لكن إذا علم الله صدق نيته، وطيب طويته، وأدَّى العبد ما أوجب الله عليه؛ فلن يرى من ربه إلا ما يشرح صدره، ويطمئن قلبه، ويقر عينه.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ لا يأمن مكر الله، هذا عذابٌ واقعٌ لا محالة لمن استحقه، وسيرى النَّاس جميعًا ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّ﴾ [مريم: 71]، لكن ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْ﴾ [مريم: 72]، جعلنا الله وإياكم ممن ينجيهم الله، والسامعين والمشاهدين.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ .
سُمِّيَت سورة الحجرات بسورة الأخلاق، لتضمنها كثيرًا من صفات الأخلاق، وهذه الآيات في وصف المصلين وما بعدها، اسمِّيها -اجتهادًا مني- أخلاق المصلين الصادقين؛ لأنّها جمعت أوصافًا لأخلاقٍ عظيمة.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ جاء في الحديث «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْنِ : النَّظَرُ، ...» إلى أن قال: «وَالْفَرْجُ : يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»[61]، فحفظ الفرج من أخلاق المؤمنين ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾ ، وهو الزواج الشرعي، ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ مِلك اليمين، حتى قال بعضهم: هذه الآية فيها دليلُ تحريم نكاح المتعة، لأنَّ الله استثنى أمرين: الأزواج، ومِلك اليمين.
يقول بعض أهل العلم: يلحق بحفظ الفروج: ما يثير الغرائز بأسباب محرمة، كالنظر، ومشاهدة القنوات الماجنة الفاحشة، والقنوات الهابطة والصور الهابطة، فكل ما يُثير في النَّفسِ الشَّهوة المحرَّمة ينبغي الإنسان يحذره ويُحذِّر منه.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ ، فهذا لا لوم عليهم، بل في ذلك أجر، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته له فيه أجر في هذه؟ قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟» قالوا: بلى، قال: «فَكَذَلِكَ»[62].
قال تعالى: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ ، أي: ظلم نفسه واعتدى عليها، وخرج عن الإطار الشَّرعيِّ الذي أباح الله له أن يمارس فيه ما شاء من المباحات، فتعدى عليها بتجاوزه هذا الحد الشَّرعي.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ .
هذا تابع للأوصاف السَّابقة، والأمانة تشمل الأمانة الحسِّية والمعنويَّة.
فالأمانة الحسيَّة: كأن يضع رجلٌ عندك مالًا ويقول: سأسافر وسأرجع بعد حين، أو هذه سيارة عندك تحتفظ بها حتى أرجع، أو أعطيها فلانًا، أو كذا.. فينبغي أن يرعى هذه الأمانة.
 والأمانة المعنويَّة: كالأمانة على الأولاد، وذلك بتربيتهم تربية صحيحة، عدم تضييع الأمانة، لأنَّ بعض النَّاس يكون أشدُّ حفظًا لأمانات الناس،و لكن يضيع أمانة تربية أولاده، بل إن بعض الآباء لا يعرف أولاده إلا في حالين اثنين:
حال المرض وحال الامتحان. فإذا نجح الأولاد في امتحاناتهم، أو شفى الله الأولاد من مرضهم؛ أهملهم، أصبح لسان حالهم: "ودع هريرة إن الرَّكب مرتحل".
قال تعالى: ﴿لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ﴾ ، يعني: إذا عاهدوا أوفوا، ولهذا بيَّن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّ من صفات النِّفاق، «إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ»[63]، ولكن المؤمنين يرعون عهودهم حق رعايتها.
{أحسن الله إليك.
من الأمانات المعنويَّة: الأمانة العلميَّة، وقد أخطأتُ في نِسبة الحديثِ السَّابقِ في تبشير الكفار بالنار، فقلتُ: إنَّ الشَّيخ ابن باز صححه. وهذا خطأ مني، وإنما ضعَّفه الشَّيخ ابن باز، وصححه الشيخ الألباني[64]}.
جزاك الله خيرًا، هذا تنبيه طيب، وهذه أمانة علمية، جزاك الله خير على هذه اللفتة الجميلة.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُم بشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ إذا شَهِدَ عمروًا ثم طُلبت شهادته، فإنَّ من واجب الديانة أن يؤديها، ومَن يكتم الشَّهادة فإنَّه آثم، فيؤديها كما رأى، أو كما سمع، أو كما شهدها بنفسه.
قوله: ﴿قَائِمُونَ﴾ أي مهتمُّون، ولهذا جاء قوله: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمً﴾ [آل عمران: 75]، أي: إلا ما دمتُ عليه مُهْتَمًّا بذلك، فلان يقوم على هذا العمل، أي: يباشره، ويهتم، ويشرف، ويتابع.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ تقدَّم أنَّ الدَّوام على الصَّلاة: هو الخشوع، وأنَّ المحافظة: هي الإتيان بأركانها وواجباتها وسننها وأقوالها.
قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾ .
نقف عند هذه الآية، وهذا جزاء المصلِّين، الذين صدَّقوا بيوم الدِّين، وحفظوا فروجهم، وأدُّوا أماناتهم، إلى آخر ما ذكر الله، ﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾ أحسنوا في الدنيا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان!
جعل الله السَّامعين، والمشاهدين، والحاضرين، ووالدينا؛ من أولئك الذين هم في جناتٍ مُكرمون.
شكر الله لكم، والله تعالى أسأل للجميع أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، إنَّه تعالى سميع مجيب، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
---------------------
[53] مجموع الفتواى لابن تيمية ج 13 / فصل: فصل إذا لم يوجد التفسير في القرآن ولا في السنة.
[54] جاء في فتح القدير بلفظ "هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ أَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنِّي".
[55] قال ابن القيم في ( بدائع الفوائد : 4 / 112 ، 113 ): وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحة- مرارًا يقول: ذَكَرَ الله الصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل؛ فالصبر الجميل الذي لا شكوى معه، والهجر الجميل الذي لا أذى معه، والصفح الجميل الذي لا عتاب معه.
[56] يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:وَيَوْمَئِذٍ مَعْ سَالَ فَافْتَحْ أَتَى رِضًا     وَفِي النَّمْلِ حِصْنٌ قَبْلَهُ النُّونُ ثَمَّلَا
يقول صاحب الوافي في شرح الشاطبية في بَابُ فَرْشِ حُرُوفِ سُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ هُنَا، مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ فِي الْمَعَارِجِ، وَقَرَأَ غَيْرُهُمَا بِكَسْرِهَا، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَنَافِعٌ (يَوْمَئِذٍ) فِي النَّمْلِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ بِكَسْرِهَا، وَقَوْلُهُ: (قَبْلَهُ النُّونُ ثَمَّلَ) مَعْنَاهُ: أَنَّ الْكُوفِيِّينَ قَرَءُوا بِالنُّونِ، أَيِ التَّنْوِينِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ قَبْلَ (يَوْمَئِذٍ) فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَهُوَ مِنْ فَزَعٍ وَقَرَأَ غَيْرُ الْكُوفِيِّينَ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ فِيهِ.
وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ نَافِعًا يَقْرَأُ بِحَذْفِ تَنْوِينِ (فَزَعٍ) وَفَتْحِ مِيمِ (يَوْمَئِذٍ) وَأَنَّ الْبَاقِينَ وَهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ يَقْرَءُونَ بِحَذْفِ التَّنْوِينِ وَخَفْضِ الْمِيمِ، وَ(ثَمَّلَ) مَبْنِيٌّ لِلْمَعْلُومِ أَصْلَحَ)
.
[57] صحيح مسلم (205). بلفظ: "يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا"
[58] الصواب أن ابن باز ضعفه في مجموع الفتاوى (337/13).
[59] رواه الدارقطني في سننه (925) والبيهقي (1101) وابن عبد البر في التمهيد (638) وصححه الألباني في صحيح الجامع
[60] مسند أحمد (22971)، واللفظ لابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني.
[61] صحيح البخاري (11178).
[62] صحيح مسلم (1006).
[63] صححه الألباني في صحيح الجامع (3043).
[64] ضعفه ابن باز في مجموع الفتاوى (337/13). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (18) بلفظ: " حيثما مررتَ بقبرِ كافرٍ فبشِّرْهُ بالنارِ".

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ