السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فهذا هو اليوم العشرون مِن الشَّهر الأوَّل للعام التاسع والثلاثين بعد المائة
الرابعة والألف للهجرة النبوية على صاحبها أتمُّ الصَّلاة والتسليم.
أحيِّي المستمعين والمشاهدين، وأحيِّي الإخوة الحاضرين، الشيخ سعيد والشيخ صهيب
والشيخ عبد الكريم -حيَّاكم الله جميعًا.
ولا زال الكلام مستمرًّا عَن آيات سُورة "تَبَارَك"، وقبل البدء في هذا الدرس أحبُّ
أن أسأل سؤالين أو ثلاثة.
فقد تقدَّم في المجلس السابق بعض المسائل العلمية والفوائد المتعلقة بالسُّورة أو
بالقرآن الكريم، وجاء في ضمن المجلس السابق كيفيَّة فهم الآيات الكريمة والتَّلذُّذ
بسماع الآيات أو بقراءتها.
سعيد أعطني أمرين اثنين؟
{أحسنَ الله إليكم، ذكرتم: الدعاء، قراءة السُّورة أكثر من مرة}
أيضًا مِن ضمن الفوائد: علامات السُّور المكيَّة، أحدٌ منكم يعرف شيئًا منها؟ بم
تعرف السُّور المكيَّة؟
{السُّور المكيَّة فيها علامات كثيرة، منها: كل سورة فيها كلمة "كلا"، وكذلك كل
سورة فيها "يَا أيَّها النَّاس"}.
على كل حالٍ شكرًا لكم جميعًا، وقبل البدء أيضًا أحبُّ التَّنبيه على ما تقدم مِن
أنَّ هذه السُّورة -سورة تبارك- تسمى أيضًا "سورة الملك" ولها أسماء كثيرة.
وقد ذكر بعض أهل التَّفسير أنَّ مِن أسباب تسميتها بـ"سورة الملك" يَرجع إلى أنَّ
فيها ما يقتضيه الملك من تدبير الأمور، وتوزيع الأرزاق، وحسن التصرف، والعدل في
النَّاس، وهذه كلها من مقتضيات المُلك، والله تعالى هو المَلك الحق، ومُلكه كاملٌ
لا نقصَ فيه.
ومِن ضمن المسائل التي أحبُّ التنبيه عليها أيضًا: أنَّ بعض المفسرين ربَط بين سورة
التحريم السابقة لهذه السُّورة -وهي آخر سورة في جزء "قد سمع"- وبين سورة تبارك،
وقال: إنَّ الله تعالى ذَكَرَ في سورة التحريم مصير امرأتي لوط ونوح، وامرأة فرعون،
ثم قال: وفي سورة تبارك ذكَرَ الله المثل ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّ﴾ [الملك: 22].
هذا الرَّبطُ أنكره بعضُ أهل العلم، وقالوا: إنَّ تكلُّف بعض المفسِّرين وبعض أهل
العلم في الرَّبط بين آخر السُّورة وأول السُّورة التي تليها فيه ما يلي:
أولًا: لأنهَّ ليس مِن هَدي السلف الصالح، نعم في بعض السُّور كـ "الفيل وقريش"
بينهم ترابط، لكن قضيةُ آخر سورة البقرة متعلق بأول سورة آل عمران، وآخر سورة آل
عمران متعلق بسورة بأول سورة النساء، وهكذا، فهذا تكلف في إيجاد مناسبة بين آخر
السُّورة السابقة وأول السُّورة اللاحقة، فلو أنَّ هناك شاعرًا له قصائد رثاء،
ومدح، ومعارضة، إلى آخره، وشئ متقدم، وشئ متأخر، ثم جاء شخص وحاول أن يربط القصيدة
هذه بما بعدها، فهذا فيه تكلف وبعد عن مُراد الشاعر.
قالوا: إذن هذا المنهج وهذا المسلك ليس بسليم.
ومِنَ الفوائد النفيسة في هذا ما ذكره الشوكاني في تفسيره، وبالتحديد في سورة
البقرة، وتحديدًا عند الآية الأربعين، وهي أوَّل موضع في سورة البقرة ﴿يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: 40]، حيث أشار الشوكاني إلى هذا الصنيع وهذا التكلف وردَّ
عليه وفنَّده -رحمه الله تعالى.
وقد ألَّف بعض أهل العلم كالبيقاعي والسيوطي كتبًا في تناسب السُّور، وأذكرُ مِنَ
اللطائف أنَّ كتابًا اسمه "أسرار ترتيب القرآن للسيوطي"، اقتنيته ثم فوجئتُ بأنَّ
الكتاب هو كتاب السيوطي "تناسق الدرر في تناسب السور"، لكنَّ المحقق -عفا الله عنه-
قال: غيرتُ اسمه القديم إلى اسم حديث حتى يَفهمه النَّاس.
على كل حال؛ هذا المسلك -وهو ربط آخر السُّورة السابقة بأوَّل السُّورة اللاحقة-
فيه نوعُ تكلُّفٍ، ولم يُعرف أنَّ هذا مِن هَدي الصَّحابة رضي الله عنهم ولا مَن
بعدهم.
عودٌ على السُّورة الكريمة، في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10].
السمع: سماع النصوص.
والعقل: الفَهْم.
فهم سمعوا لكن لم يسمعوا سمعَ الإجابة، ولم يُعمِلوا عُقولهم فيما يَنفعهم؛ لأنَّ
الهوى حَكَمَهُم، ولهذا أعطى الله الإنسان العقل ليُميِّز به، ويَعقله عمَّا لا
ينبغي، وسُمي كما قيل: "الحجر" لأنه يحجر صاحبه، فإذا ما وظَّف الإنسان عقله فيما
ينفعه، وفكر فيما ينفعه؛ أصبح العقل وبالًا عليه.
ولهذا لمَّا سَأل أحدهم عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: يا عمرو أنتم في
الجاهلية سادة العرب، كيف خالفتم محمدًا -عليه الصَّلاة والسَّلام- وأنتم أهل
العقول؟!
فقال: يا ابن أخي لقد جالست رجالا تَزِنُ عقولهم الجبالَ رجاحة، لكن أَضَلها
بَارِيها.
حكَّموا أهواءهم، وقدَّموا مَا تهوى أنفسُهم؛ فعطَّلوا عقولهم عن فَهم تلك النصوص
الواضحة الجليَّة التي هي سببٌ في هدايتهم إلى الصراط المستقيم.
﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 11]،
يعلمون عِلم اليقين أنَّهم هم الذين أضلُّوا أنفسهم، ولو ما اعترفوا فقرائن الحال
والمقال تدلُّ على أفعالهم، لكنَّهم لما غُلِّقت عليهم الأبواب، وقامت عليهم
الحجَّة، واستبانت المحجَّة، لم يكن لهم العذر ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ
فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ .
ثم قال ربنا -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالْغَيْبِ لَهُم
مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12].
ذَكَرَ أولئك المُعرضين، وذكر مآلهم وما صاروا إليه مِن العَذاب المُقيم بعدل مِن
الله؛ لأن الله تعالى يُعطي مَن يشاء بفضله، ويُعذب ويَمنع مَن يشاء بعدله، ولا
يَظلم ربك أحدًا.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالْغَيْبِ﴾ . الخشية ذكرها الله تعالى في
مواضع كثيرة، والخشية نوع مِن أنواع العبادة؛ لأنَّ من أشمل وأجمع تعاريف العبادة
ما ذكره شيخ الإسلام: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الظَّاهرة
والباطنة.
والخشية مِن أعظم أنواع العبادة وذكرها الله تعالى في كتابه في مواضع كثيرة في
القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون:
57]، ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ [البقرة: 150]، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
وقد جاء عن الحسن البصري -رحمه الله تعالى- أنه قال: الخشيةُ العلم، فمن كان بالله
أعلم كان له أرجى، وله أحب، ومنه أخوف، وأكثر حسنَ ظنٍّ به من غيره.
فالعلمُ الخشية، ولهذا قال هنا: ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالْغَيْبِ﴾ في الشهادة -أمام
النَّاس- قد يمتنع الإنسان عن فعل المعصية من أجل النَّاس، قد يدفعه إلى فعل الطاعة
ثناءُ النَّاس، قد يدفعه إلى فعل القُربى أمرٌ يرجو حصوله، أو يَتمنى دفعه عنه. هذا
في الشهادة.
أمَّا في الغَيب إذا كان خاليًا بنفسه، فالغالب والأصل أنَّه يتعبَّد الله مخلصًا
له، لا يرجو مدح مادحين، ولا ثناء مثنين، ولا تسميع مُسمِّعين.
ولهذا خصَّ الله الغيب ومدح أهله؛ لأنَّ الغالب -بل هو الأصل- مِن حال أولئك أنَّهم
يَرجون وجه الله تعالى، ولا يُريدون وجه غيره.
ولهذا قال: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ، ذكر المغفرة والأجر: غفران
الذنوب وتحصيل الأجور ﴿أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ، فرق بين من خلِيَ بنفسه وأخذ يناجي ربه،
وذرفت عينه، ولهذا جاء في الحديث: «ورجلٌ ذكر الله خالي»[11] في الغيب لا يراه
أحد، لا يعلم به أحد إِلَّا مَن خَلَقَه، فكلما كان العبد لله أخشى كان له أرجى.
وأعيد تنبيه على ما ذكر الحسن البصري -رحمه الله تعالى- عندما قال: العلم الخشية.
ليس العبرة بكثرة التعبد، كما أخذنا في أول السُّورة: ليبلوكم أيكم أكثر عملا؟!
لا، قال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً﴾ [الملك: 2].
ثم قال تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك: 13]، قدَّم الإسرار لأنَّه هو الغاية في الغيب عن
النَّاس، لكن لا يخفى على الله شئ، سواء أسررت فالسِّر عنده علانية، ﴿وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ قد يَخفى العمل عن النَّاس، لكن إذا ظهر عرفوه،
فإذا كان العامل مختفيًا غائبًا عن أعينهم، فلن يسمعوا كلامه ولن يعلموا مراده.
أما عند الله تعالى فلا تَخفى عليه خافية، ولهذا قال: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، ﴿قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65].
فهذه الآية إذا استشعرها الإنسان زادت خشيته لله تعالى، فالإسرار بالقول وما تخفي
الصدور يعلمه الله -عزَّ وجلَّ.
ولهذا جاء في بعض الآثار أنَّ رجلًا قال لأحد العلماء: أريد أن أَعصي الله ولا
يُحاسبني.
فقال له: اخفض صوتك حتى لا يسمعك.
قال: يسمع السَّر وأخفى.
قال: اختفِ في مكان لا يراك فيه.
قال: لا تخفى على الله خافية.
إذن ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ يعني: لا يخفى على الله سر ولا
علن.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فيه أن الإنسان دائمًا يتفقد داخله، يتفقد
نيته، يتفقد مراده، فقد يُظهر الإنسان العمل فيكون إظهاره للعمل مِن أجل مَدح
النَّاس، وقد يقول القول ويفعل المعروف من أجل مدح النَّاس، فالله تعالى يعلم خفايا
النفوس، وما تخفي الصدور.
وهنا ينبغي التنبيه! ذَكَرَ بعضُ أهل العلم: أنَّ للشيطان نصيبٌ مِن تعطيل كثير مَن
الأعمال الصالحة، بدعوى أنَّها رياء، فإذا أرادَ أن يعمل عملًا أمام النَّاس قال
أخشى أن يكون رياءً، وهلمَّ جرا.
يقول الإمام مالك -رحمه الله تعالى- عن هذه المسألة: لو أنَّ كلَّ عاملٍ أراد العمل
جاء عنده هذا الأمر؛ ما صلَّى ولا زكَّى ولا حجَّ أحدٌ، لكن الإنسان يعمل الخير فإن
نازعته نفسه بحبِّ الثناء فليجاهد نفسه، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنهُمْ سُبُلَنَ﴾ [العنكبوت: 69].
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
كيف يخفى على الله سرَّهم وأمورهم وهو الذي خلقهم، ودبَّر أمرهم! فهذا حجَّة لإبطال
ما يَزعمون.
وهنا وقفة! ذَكَرَ بعضُ المفسرين أنَّ كفار العرب احتجُّوا واعترضوا على الوحي
بأدلة عقليَّة، فجاء الجواب عليهم بأدلة عقليَّة تتضمَّن بطلان أدلتهم.
مثل: أنكروا البعث، قالوا: ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدً﴾ [الإسراء: 49]، وقالوا: ﴿عِظَامًا نَخِرَةً﴾
[النازعات: 11]، وقالوا: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَ﴾
[البقرة: 259]، استبعدوا وجود البعث، هذا دليل عقلي.
جاءت الآيات بما هم يعقلون بأنفسهم، يرون، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى
الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾ [فصلت: 39]، أنتم ترون الآن الأرض
هامدة مُغْبرَّة، فيأتيها المطر -بإذن الله- ثم تبدأ تنبت أشجارها المتنوعة -بإذن
الله- هذه لما كانت ميِّتة أحياها الله، إذن فإنَّ الذي أحياها لمحي الموتى، ﴿أَلَا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ بلى يعلم.
﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ قالوا من معاني اسم الله اللطيف: أن يُهيئ لعبده
مِن الخير ويَسوقه إلى طُرق الخير مِن حيث لا يحتسب، وقد يبتليه بأمور مكروهة مِن
لُطفه تعالى مآلها إلى خَير، ولهذا يوسف -عليه السَّلام- حَسَدَه إخوانه ورموه في
البئر، واتُّهِم في نفسه وسُجن، ثم كانت العاقبة له، والعاقبة للتقوى، والعاقبة
للمتقين.
فمن لُطفِ الله أن ابتلاه بأمور ثم كانت العاقبة والمآل الأخير في رِفعته حسًّا
ومعنًى في الدنيا والآخرة.
﴿الْخَبِيرُ﴾ : أي: الخبير بأحوالكم وأموركم وجميع شؤونكم.
قال: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَ﴾
[الملك: 15]، ذلولًا: مذللة، يُقال هذا بعير مُذلل، طريق مُذلل، أي: مُعبَّد،
فذلولًا أي: مذللة لكم، منبسطة للزرع وللمشي، ثابتة بالجبال، كل هذا -بإذن الله
تعالى.
﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَ﴾ ، مناكب الرجل أي: أطرافه، وقيل: مناكب الأرض يعني
أطراف الأرض.
في هذه الآية نعمة الله العظيمة في تذليل الأرض للنَّاس، وإلا لو لم تكن مُذللة
لتعطَّلت مَنافعهم، وأصابهم الضَّرر العظيم.
تَخَيل أنَّ الأرضَ ليست متساوية، متعرجة كلها، كيف يعيش النَّاس؟! كيف تمشي عليها
الدواب؟! تخيل أنَّ الأرض مضطربة غير ثابتة -كما ستكون في آخر الزمان- كيف يعيش
النَّاس؟! لكنها مذللة بتذليل الله لها.
ثم قال: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَ﴾ فعل الأسباب، وهذا مِن رحمة الله، ذلل الأرض،
وسهَّل المشي في مناكبها؛ لأن ذلك مِن أسباب الرزق.
قوله: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ فيه ردٌّ على من عطَّل
الأسباب، ولهذا يقولون: فعل الأسباب من التوكل على الله -عزَّ وجلَّ- فالإنسان يمشي
في مناكبها متوكلاً على الله -جل وعلا.
فمِنَ النَّاس مَن يترك الأسباب ويضر نفسه ويتعرض للمرض والجوع والعطش بدعوى
التوكل، ولا يخفى عليكم وأظنكم إن شاء الله تعرفون أثر عمر لما رأى أُناسًا إمَّا
في الحج أو في غير الحج، بلباسٍ رثٍّ، فقال: "مَن هؤلاء؟" قالوا: "هؤلاء المتوكلون"
لا يحملون زادًا ولا متاعًا ولا أكلًا ولا شربًا، لكنَّهم يَسألون النَّاس، قال:
"هؤلاء الأكَّالون وليسوا بالمتوكلين".
فالتوكل على الله لا يَمنع فعل الأسباب، وأعظم النَّاس توكلًا على الله مَن هُم؟
الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- وكانوا يفعلون الأسباب، هذا يَرعى الغنم، وهذا
حدَّاد، وهذا نجَّار، وهذا كذا وهذا كذا، وهم أنبياء الله.
لاحظ في "سورة مريم" -عليها السَّلام- أمُّ عيسى -عليه السَّلام- كانت في حالة
ولادة سيتغيَّر معها مجرى التاريخ، فهي امرأة ضعيفة، وتعلم أنَّ بهذه الولادة
سيلحقها مِن الضيق والهمِّ والغمِّ ما الله به عليم، وخاصة أنَّها ولادة ليس لها
مَثيل في النساء، وكما قلت لكم ستغير مجرى التاريخ، مع ضعفها الحسي وضعفها المعنوي،
وتكالب التُّهَم عليها، مع هذا جاء الأمر لها بفعل السبب، ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّ﴾ [مريم: 25]، فدلَّ على
أنَّ فعل الأسباب أمر مطلوب شرعًا وعقلًا.
وهنا تنبيه عند آية مريم! بعضهم يذكر كلمة أو جملة على أنها آية، وهي: "وجعلنا لكل
شئ سببا"، هذه ليست آية إطلاقًا، جاء ذكر السبب ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبً﴾ [الكهف: 85]،
لكن الصحيح أن هذه شطر من بيت شعر متعلق بخبر مريم -رحمها الله- ذكره بعض المفسرون
يقول فيه:
ألم تر أنَّ الله قال لمريم
وُهزي إليك بجذع تساقط رطبًا
ولو شئنا لأسقطناه مِن غَير هزه
ولكن جعلنا لكل شئ سببًا
إذن هو بيت من الشعر، أو شطر بيت من الشعر.
قال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]، أي: إليه المرجع والمآل، فكل هذه أسباب، فمن حكمة الله أن
ذلل الأرض، لتمشوا فيها، تسترزقوا فيها، تتكسَّبوا فيها، ثم مآلكم ومصيركم ومردُّكم
إلى الله تعالى، ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ ، ولهذا نحن في أذكار النوم إذا أصبحنا
نقول: «الحمد لله الذي أحيانًا بعد ما أماتنا وإليه النشور»[12]؛ لأن النوم موت
أصغر، وقد جاء في الحديث: «النوم أخو الموت»[13]، فإذا نام الإنسان مَاتَ مَوتة
صُغرى، ففي الحديث «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتن»، قال تعالى: ﴿اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَ﴾
[الزمر: 42].
قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ﴾ مِن رحمة الله تذليل الأرض، ومن
رحمة الله تيسير المشي في مناكب الأرض، ومِن رحمة الله تسهيل الأسباب.
أذكر كلمة قالها شيخي الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد -رحمه الله تعالى- في درسه،
قال: "خلق الله الأسباب، ورتَّب عليها المُسبِّبات ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ ذَلُولً﴾ سهَّلها ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَ﴾ أسباب ومسببات ﴿وَكُلُوا
مِن رِّزْقِهِ﴾ .
قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَ﴾ إيمان
بالقلب، وتصديق باللسان، عمل القلب والجوارح.
قال تعالى: ﴿آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَ﴾ ، آمنا بالله، وتوكلنا عليه،
وفوضنا أمورنا إليه، مع فعل الأسباب.
قال تعالى: ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ يا من ترك هذه الأمور ﴿مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ﴾ ، نحن أو مَن آمن واستقام وتوكل، أو مَن أَعرضَ ولم يسمع، ولم يَعقل، سمِع
سمْعَ مجرد، أي: سمْعَ الأصوات والحروف، لكن ما سمِعَ سمْعَ المريد للإجابة
والطاعة.
ثم قال تعالى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ
فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ ، لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، إذا مارت الأرض،
واضطربت حركتها؛ وتعطَّلت منافعها التي ذكرها الله في حال تذليلها وانبساطها، لهذا
ترون إذا وقع زلزال لثوانٍ معدودة؛ ما الذي يحصل من المهالك، ويحصل مِن الضرر
والخوف؟
مع أنَّ أحيانًا الهزة الزلزاليَّة تُحرك قشرة الأرض ما تأخذ إلا ثوانٍ، فما الذي
يحصل من الخوف؟ المباني الشاهقة، والمزارع، والسدود، والجسور، والطرق، في خلال
ثواني تنقلب رأسًا على عقب، ويذهب ما عمَّره النَّاس وبنوه وشيَّدوه في عشرات
السنين في عُشر ثانية.
قال تعالى: ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ .
"الحاصب": الرَّمل فيه حصباء حارة، الريح إذا هبت وزادت سرعتها تضر، وقد عاقب الله
قومًا بالرِّيح، فتخيَّل أنَّ معها حاصب مِن الرمل الحار، ماذا يكون؟
يشتد العذاب، وكل هذا يُؤدي ويدلُّ على توحيد الألوهيَّة، فهو القادر على هذه
الأمور، ولا يقدر عليها إلا الله -عزَّ وجلَّ- ومِن ثَمَّ فلا يُعبد إلا هو، لا
عبادة بحق، ولا معبود بحق إلا الله -عزَّ وجلَّ- وينبغي دائمًا ربط الآيات، وربط ما
نشاهده في حياتنا بالتوحيد.
ثم ذكر أيضًا الآية الأخرى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ
صَافَّاتٍ﴾ .
طير صافات: أي: بَسط الأجنحة.
﴿وَيقْبِضْنَ﴾ : بضم الأجنحة.
﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾ الطير ليس مِن السهولة إمساكه، الصيد شئ
آخر، لكن صيده باليد مِن الصعوبة بمكان، حتى بالرصاص إلا إذا شاء الله تعالى، فهذه
من آيات الله تعالى.
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيقْبِضْنَ
مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾ كل هذا الذكر -ذكر الآيات، وذكر الحاصب،
وذكر مَور الأرض- كلها مِن باب أن يعلم هؤلاء أنَّهم في عدم سماعهم لما قُرأ عليهم،
وعدم عقلهم لما طُلب منهم، أنَّ هذا كله محادة لله تعالى، وهذه صفات مَن حادَّ الله
أو عاند الله.
ثم قال: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ﴾ مهما كانت الجنود في كثرتها،
وعتادها، وعدتها، فلن تُغنِ عَنكم مِن الله شيئًا.
قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ
الرَّحْمَنِ﴾ ماذا تفعلون؟ لو شاء الله لقال لهم: كونوا ترابًا، كونوا هباءً.
قال تعالى: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ الغُرور إذا أَصَابَ الشخص
أعماه عن الحق، وقد يعرف أنه حق، لكن الكِبر، ولهذا جاء في الحديث: «العزُّ إزاري،
والكبرياء ردائي، فمن نازعني إزاري وردائي قصمته»[14].
فنستفيد أنَّ الغرور والعُجب يَمنع الإنسان مِن خَيرٍ كثيرٍ، بل قد يَمنعه الخير
كلَّه، كلما زاد غرور الإنسان وعُجبه وكبره؛ كلما حُرم مِن أشياء كثيرة مِن الخير.
قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾ لو حَبَسَ
الله مطر السماء، وحَبَسَ نبات الأرض، مَن يَستطيع إنزال المطر أو إنبات الأرض؟!
وفي سورة القصص: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ
سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم
بِضِيَاءٍ﴾ [القصص: 71]، والآية الثانية: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ النهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ سرمدًا: يعني دائمًا
أبديًّا، ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾
[القصص: 72]، لو استمر الليل سرمديًّا أبدًا تتعطل مصالح العباد والبلاد، وتختل
حياة النَّاس، لو خرج النهار واستمر سرمديًّا تتعطل؛ لأن الله تعالى نظَّم هذه
الحياة بليل ونهار. ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثً﴾ [الأعراف:
54].
فلو أنَّ الله تعالى أَمسَك رزقه، فمَنع السماء مِن المطر، ومَنَعَ الأرض مِن
الإنبات، ماذا يكون حال النَّاس؟
لكن هؤلاء الكفَّار لجُّوا في عتوٍّ ونفور، هم يَعلمون هذه الحقائق، ولكن عنادهم
وكبرهم أعماهم، ولهذا قال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾
[النمل: 14]. فهُم يعرفون.
وفي الآية الأخرى لمَّا قال موسى لفرعون في سورة الإسراء: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ
مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾
[الإسراء: 102] تعرفها يا فرعون ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورً﴾
[الإسراء: 102]، يعلمون أنَّ هذا حق وجحدوا به، وهم يعلمونه في نفوسهم.
ولهذا لمَّا بَعَثَ الله محمدًا -عليه الصَّلاة والسَّلام- فكان المنافقون واليهود
يَعرفونه -ليس كجيرانهم أو أصحابهم- وإنما يعرفونه كما يعرف الوالد ولده؛ لكن
الكِبر، والعتو، والنفور عن الحق أضلهم.
قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي
سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ، لا يستويان.
قال بعضهم: من يمشي مُكِبًّا هو: "أبو جهل"، ومَن يَمشي سويًّا هو: "الرسول صلى
الله عليه وسلم" ولكن الصحيح أنَّها عامَّة، ﴿مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ﴾ ، أي" مَن
تنكَّب طريق الحق، تشبيه شخص يسقط على وجهه ويحبو، وشخص يمشي على صراط مستقيم، وهذا
مِن الأمثال في القرآن الكريم، والقرآن الكريم تضمَّن أمثالًا كثيرة، حتى إنَّ
بَعَضَ السلف إذا قرأ قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43] كما ذُكر عن إبراهيم
النخعي أو غيره، يقول: "إذا قرأتُ المثل في القرآن، ولم أَعقل مُراد الله فيه،
بَكيتُ على نفسي؛ لأن الله يقول: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43].
إذن، صاحب الحق يمشي سويًّا على صراط مستقيم، وهذا ليس في الدنيا فقط.
يقولون: مَن لَزم الصراط المستقيم في الدنيا، لزم الصراط المستقيم في قبره والآخرة.
كيف ذلك؟
يُثبِّته الله بالقول الثابت في القبر، وفي الآخرة يُثبِّته الله تعالى بالقول
الثَّابت، وينجِّيه مما يُهلك فيه غيره؛ وكما قيل: للعبد مقامان بين يدي الله
تعالى: مقام في الدنيا، ومقام في الآخرة، فإذا أحسن المقام في الدنيا، أعانه الله
على الإحسان في مقامه في الآخرة ووفقه وكافئه.
كذلك المراد هنا بمن قام المقام الحسن في الدنيا، أي: الذي يمشي على صراط مستقيم.
قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ﴾ هو الذي ذَرَأَكُمْ، بدأكم، أوجدكم من
العدم، ﴿أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ ،
وفي سورة النحل: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا
تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78].
هذه وسائل: العقل ليفهم مُراد الله تعالى، والسمع، والبصر ليرى، ومَن حُرِّم هذه
الأمور مِن توظيفها في طاعة الله، فبعض النَّاس يسمع لكنَّه أبكم، وبعض النَّاس
أبكم لكنَّه يسمع، فالذي يسمع كلام الله ولا يُطيع الله، فهذا الأبكمُ ومَن يُطيع
الله فهو خير منه.
بعض النَّاس له عين البصر لكنَّه محروم مِن عَين البصيرة، وبعض النَّاس محروم من
عين البصر لكنَّه مُنعم عليه بعين البصيرة، وبعض النَّاس صحَّته ودقات قلبه في
نشاط، لكنَّه ميِّتَ القلبِ مُعرضٌ عن طاعة الله، وبعض النَّاس قد يكون مريضًا
مُتعبًا مُنهكًا، وقد يشكو مِن مرض قلبه لكنَّ قلبه سليم مِن حيث الإيمان، والتسليم
لله تعالى، فهذه الجوارح هي وسائل يُستعان بها، يُفهم بها الحجج والأوامر الشرعية.
إمَّا أن صاحبها يوظِّفها في الخير فيطمئن قلبه ويرضى بما قسم الله له، وبما وعد
الله به، وبما ذكره الله تعالى فيطمئن القلب؛ لأن كلام الله كله حق، ويبادر ويسمع
سمع المستجيب، ويرى بعين البصيرة قبل البصر، وهكذا...
قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ ،
كما تقدَّم أنَّ النَّاس أجناس، فيهم الأبيض والأسود، الفقير والغني، السليم
والمريض -وهلم جرا في أرض الله- ولا تفاضل إلا بالتقوى، ومردُّ الجميع -المسلم
والكافر- إلى الله تعالى، ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ .
وكل هذه تؤكد على شأن التوحيد، أنَّ هذا الذي خلق وبرأ وذرأ ودبَّر الأرض، هذا هو
توحيد الربوبية، والكفَّار أقرُّوا به، لكن من لازمِ توحيدِ الربوبيَّةِ توحيدَ
الألوهيَّةِ، ولكنَّهم تناقضوا، ولهذا أنكر عليهم، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم
مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61] فأنى...، فأنى...،
تكرار استفهام، لماذا؟
لأنَّ توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وكذلك الألوهية يستلزم الربوبية، فهما
متداخلان، فهذا يلزم مِن هذا، وهذا يلزم من هذا.
قال تعالى: ﴿وَيقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ استفهام ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ،
يعني متى يأتي هذا الوعد؟! هذا أمرُ غيبٍ، ولهذا الوعد إمَّا أن يكون عذابًا في
الدنيا، أو في الآخرة يوم الحشر، يحتمل هذا وهذا.
هنا قال: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ﴾ نستفيد أنَّ الإنسان لا يتكلم
إلا بعلم، فإذا كان عنده علم تكلم، وإذا لم يكن يعلم قال: لا أعلم. أمَّا الأمور
الغيبية فأمرها إلى الله، ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ﴾ هذا الرسول صلى
الله عليه وسلم. ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ وظيفتي أنذركم وأبُيِّن لكم،
أمَّا متى يكون ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ﴾ غيب.
وهنا فائدة أيَّها الأكارم: الغيب أنواع:
- النوع الأول: غيبٌ استأثر الله تعالى به بعض خلقه، فأطلعهم عليه، وهم
أنبياء الله ورسوله، ﴿فلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى
مِن رَّسُولٍ﴾ [الجن: 26، 27]، فنقرأ نحن في كتب السنة: قال -عليه الصَّلاة
والسَّلام- إنَّ من علامات الساعة: أن يكون كذا وكذا، وأخبر عن أشياء غيب وقعت،
﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]،
فهذا غيب أَطْلَعَ الله عليه بعض خلقه، بعض رسله، فبلَّغوا مَا جاءهم مِن وَحي الله
تعالى، «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابون، كلهم يزعم أنه رسول الله»[15]،
«ولا تقوم الساعة حتى تشارك المرأة زوجها في التجارة»[16]، «لا تقوم الساعة حتى
تقارب الأسواق»[17]، «لا تقوم الساعة حتى تُزخرَف المساجد»[18] وهلمَّ جرا، هذا غيب
أَطْلَعَ الله عليه بعض خلقه، يعني لا يمكن أن يؤخذ بطريق آخر غير الوحي.
- النوع الثاني: غيب يُدرك، جعل الله له أسبابًا يُدرك به، كالكسوف والخسوف
يُدرك بالدراية والنظر، ولهذا ترون الآن أهل الفلك يقولون: سيكون كسوفٌ للشمس
جزئيًّا أو كليًّا، في اليوم الفلاني الساعة كذا والدقيقة والثانية، ويكون كما
قالوا.
وهذا يُدرك بمعرفة منازل الشمس ومنازل القمر، وهكذا...، حتى إنَّ من اللطائف أنَّ
بعض الصَّحابة رضي الله عنهم كان يَعرف الكسوف قبل وقته. فذكر الحافظ ابن حجر في
الفتح عن ابن زنجويه أنَّ أحد الصَّحابة بيَّن لأخيه "وقت الكسوف أو الخسوف" قبل
حصوله، فقال الصَّحابي الآخر: أرجم بالغيب؟ فقال الصَّحابي الفلكي رضي الله عنه:
"الغيب غيبان: غيب استأثر الله به، وغيب أطلع الله عليه بعض خلقه". فهذا تقسيم
إجمالي.
هناك غيبُ تخرُّصٍ وضلال، كالدعوى والكهنة والسَّحرة، وقُرَّاءِ الفنجان، وقرَّاءِ
الكفِّ، هؤلاء دجَّالون كذَّابون أفَّاكون. ولهذا جاء الوعيد الشديد بالنهي عن
الذهاب لهم، ومِن ذلك ما يُسمَّى بأبراج الحظِّ، فبعض المجلات فيها الأبراج الاثنا
عشر -برج الجوزاء، الجدي، والسَّرطان، والعقرب، والسُّنبلة، والحمل- إلى آخره.
يضعونها تخرُّصات بمعادلة رياضية يُخرج الشخص ميلاده يوافق برج معين، فيقرأ على
وجلٍ، فيقول لك مثلًا هؤلاء الخرَّاصون المنجمون الكهنة: تصادف في هذا الشهر صديقًا
عزيزًا، تربح مالًا وفيرًا. كل هذا كلام لا قيمة له!
قال تعالى: ﴿ولَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: 69]، «من أتى كاهنًا أو
عرَّافًا لم تُقبل له صلاة»[19]، وفي اللفظ ا لآخر: «وصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما
أُنزل على محمد»[20] عليه الصَّلاة والسَّلام، فَنَحْذَر كُلَّ الحذر؛ لأن الله
يقول: ﴿ولَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: 69]، فنفى الله الفَلَاحَ
للساحر نفيًا مطلقًا، ومَن ذَهَبَ كذلك للكهنة والعرَّافين.
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ
مُّبِينٌ﴾ ، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد:
7]، فعلم وقوع العذاب والساعة، هذا عند رب العالمين.
قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ
رَحِمَنَ﴾ ، هنا يخاطب الكفَّار، سواءً أَهلَكَنَا اللهُ أو رَحِمَنَا، لكن أنتم
مَن يُنجيكم مِن عَذاب الله؟!
لو هَلَكْنَا فهل ستنجون من عذاب الله؟!
إذا رَحَمَنا الله فستنجون؟ فأنتم في عذاب، أنتم متوعدون، سواءً هلكنا افتراضًا أو
رحمنا الله.
قال تعالى: ﴿فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ التقدير: لا
يُجيرهم أحد.
قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَ﴾ نَحنُ
أطعنا ربنا، وآمنا به، وتوكلنا عليه، وقد وعدنا وثبَّتنا، ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ عندما تظهر الأمور، وتنكشف الحقائق.
أخيرًا، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرً﴾ أي:
بعيدًا غائرًا، ﴿فَمَن يَأْتِيكُم بمَاءٍ مَّعِينٍ﴾ ، ذُكر في تفسير الجلالين عند
هذه الآية أنها قُرأت عند أحد المتكبرين، فقال: تأتي به الفئوس والمعاول،؛ فأذهب
الله ماء عينه وأغار ماء بئره.
فهذا الماء الذي جعله الله سببًا للحياة، ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شئ
حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، لو غَارَ في الأرض وذَهَبَ، مَن يَأتي به؟ لو نَزَلَ
عُمقًا؛ بل لو كان قريبًا وشاء الله ألا يَرتفع، ما ارتفع!
إذن، يأتي به الله -عزَّ وجلَّ- لا أحدٌ سوى الله يستطيع فعل هذا.
وفَّق الله الجميع لكل خيرٍ، وشكر الله لكم حُسن أدبكم، والله تعالى أسأل أن ينفعنا
بما علَّمنا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والسَّلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
---------------------------
[11] صحيح البخاري (660).
[12] صحيح البخاري (7394).
[13] الدر المنثور للسيوطي (13/291) وصححه الألباني في صحيح الجامع 6808
[14] صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(2898) ولفظه "العِزُّ إِزارِي
والكِبْرياءُ رِدائِي فمَن نازَعنِي شيئًا مِنهُما عذَّبتُه".
[15] صحيح البخاري (3609) ولفظه "ولا تقومُ الساعةُ حتى يُبْعَثَ دجالونَ كذابونَ ،
قريبًا من ثلاثينَ ، كلُّهم يزعُمُ أنه رسولُ اللهِ".
[16] حلية الأولياء لأبي نعيم (3/410) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1171).
ولفظه "وشاركت المرأة زوجها في التجارة" ذكره ضمن أشراط الساعة.
[17] رواه أحمد ( 2\519) وابن حبان (رقم 6718) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة
(2772)
[18] رواه الذهبي في ميزان الاعتدال (2/258) بلفظ "وتُزخرف المحاريب"، وله شاهد "
لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يتباهى النَّاسُ في المساجدِ" رواه أبو داود وابن حبان
والنسائي وصححه الألباني.
[19] صحيح مسلم (2230) ولفظه "من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيٍء لم تُقْبَلْ لهُ
صلاةٌ أربعين ليلةً".
[20] سنن الترمذي (135) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ولفظه "من أتَى كاهنًا، فصدَّقه بما يقولُ ؛ فقد كفر بما أُنزِل على محمَّدٍ".