{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا
محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في درسٍ من دروس العقيدة وهو شرح كتاب "لمعة
الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد" للإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى.
ومع سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، مفتي عام المملكة ورئيس هيئة
كبار العلماء.
مرحبًا بكم سماحة الشيخ.}
حيَّاكم الله.
{وردتنا بعض الأسئلة أحسن الله إليكم، لو تتفضلون بالإجابة عليها..
السؤال الأول: أحسن الله إليكم يقول: هل تثبت العقيدة بالحديث الحسن؟}
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
أسماء الله وصفاته توقيفيةٌ، لا يُثبت المرء شيئًا منها برأيه وهواه، ولا بقياسه،
ولا بعقله، وإنما يتلقاها من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ما دل الكتاب عليه فهو حقٌّ مقبولٌ بلا شك، وما دلت عليه صحيح السنة مقبولٌ، يبقى
الحديث الحسن والذي اختلَّت فيه بعض شروط الصحة، فهذا الصحيح أنه تثبت به الصفات،
فإذا جاءنا حديثٌ حسنٌ بإسناده أثبتنا به أي صفةٍ جاءت، سواءً كان بالكتاب أم السنة
أم بالحسن الذي هو يلي الصحيح في الأهمية، فنثبت به الصفة، كذلك أيضًا الأحاديث
التي ليس فيها التواتر، فالآحاد الصحيحة مقبولةٌ وتثبت بها الصفات، ولو كانت
آحادًا، ما دام صحيحةً ثابتةً، فلا يضرها كونها آحادًا.
{أحسن الله إليكم.. هذا يسأل يقول: كيف الجواب على من يقول أحاديث الآحاد لا تثبت
بها العقيدة، وأنها لا تفيد إلا الظن.}
هذا خطأٌ، من تأمل السنة رأى أن هناك صفاتٍ ثبتت بالسنة من طرقٍ قليلةٍ، إما واحد
أو اثنين، فاشتراط التواتر في إثبات الصفات جاء به المعتزلة، لينكروا صفات الله،
ويعترضون عليها، بقولهم أين التواتر؟، إلى آخر ذلك، فجموع المسلمين على أن أحاديث
الآحاد تثبت بها الأسماء والصفات لله جلَّ وعلَا، كما دلت عليه.
{هذا يقول: عبارة ابن قدامة رحمه الله تعالى وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظًا،
وترك التعرض لمعناه، ألا يفهم منها تقرير مذهب المفوضة، وكذلك عبارة الإمام أحمد:
"لا كيف ولا معنى"}
الإمام الموفق عبد الله بن أحمد بن محمد إمامٌ من أئمة الإسلام، ومن فقهاء الشريعة،
وأئمة الدين، ذوي الورع والصدق والإخلاص والجهاد في سبيل الله، والفقه في دين الله،
وهو ممن ينتسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو إمامٌ عظيمٌ، قال شيخ
الإسلام: ما دخل الشَّام بعد الأوزاعي بأفضل من ابن قدامة، وهو رجلٌ من قدماء
المسلمين وعلمائهم الذين لهم شأنٌ ومكانةٌ.
عاش في الإسلام قريبًا من سبعين سنة، كلها تعلُّمٌ وعلمٌ وبذلٌ، وكان يُرجَع إليه
حتى في مواقيت الصلوات، وتحديد الجهات لعلم الإمام، أعطاه الله من العلم الواسع
العظيم، وقد أَلَّفَ هذا الإمام في الفقه، وفي العقيدة.
هذا الكلام قد يفهم منه أن قصد الحافظ الموفق، أنَّ النصوص ما علمناها نطقنا بها،
وما جهلناه فوضنا أمرنا إلى الله، دون التعرض لها بعلمٍ، وهذه الطريقة خطأٌ؛ لأنها
طريق المفوضة، والصحيح عند أهل العلم أنَّ الأسماء والصفات وأحاديثها كلها واضحة
الدلالة كلها واضحةٌ لا إشكال فيها، فدعوى أن هناك صفاتٍ لا ندري عنها، خطأٌ، جميع
الصفات مثبتةٌ لله سمعًا وبصرًا وحياةً وعلمًا وقدرةً وحكمةً وحلمًا إلى آخره،
نثبتها لله حق إثباتها الكامل، بلا تعطيلٍ، وتنزيهًا بلا تمثيلٍ، ﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
أمَّا ادّعاء أن هناك بعض الصفات تُفوض، نفوض أمرنا إلى الله من دون معنى، بمعنى لا
نعتقد المعنى، وإنما نمرها لفظًا مع جهل المعنى فهذا خطأٌ، وابن قدامة لا يريد ذلك،
وأن في الحديث: «لا تظن بأخيك سوءًا وأنت تجد له على الخير محملً»، فاحمله على
الخير، وهذا رجلٌ إمامٌ من أئمة الإسلام وعلماء الأمة، نحمله إن شاء الله على
الخير، وأن مراده بجهل معانيها هو الكيف لا أنها لا معنى لها، لكن هذا المعنى مما
استأثر الله بعلمه.
{قال: هل يُفهم من استدلال الموفق -رحمه الله- بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ الآية [آل عمران: 7]،
أنَّ الصفات من المتشابه}
لا، أرجو ألا نفهم شيئًا من هذا، الصفات من الواضحات، والتشابه تشابهٌ نسبيٌّ،
بمعنى أنه يعلم بعض العلماء، كما قال الله جلَّ وعلَا: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾ [آل عمران:7]، فمعنى هذا الكلام أننا
نعتقد أن الصفات لله جلَّ وعلَا، غير متشابهةٍ، بل واضحةٌ بينةٌ، لكن هناك محكمٌ
واضح الدلالة لكل أحدٍ، وهناك متشابهٌ قصرت علوم الناس عنه وهو واضحٌ وبينٌ ولله
الحمد، وفي الكتاب ما يوضح هذا المعنى، قصورها على شخصٍ أو عدم فهم شخصٍ لا يدل على
أن لا معنى لها، لأن التشابه نسبيٌّ يعلمه البعض ويجهله البعض.
{قال: قَوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [آل عمران:7]، لو
توضحون معنى التأويل في هذه الآية}
قوله جلَّ وعلَا: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ الآية، العلماء
اختلفوا في قراءتها، ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾، فيعني بالتأويل
هنا حقيقة الصفات، ومنهم من قرأها: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾، قائلين أن الراسخين يعلمون ما خفي من دونهم.
فعلى كل حالٍ إن جعلنا الوقف على التأويل، فالمراد به الحقيقة والكيفية، وإن جعلناه
على الراسخين في العلم فمعناه أن الراسخين يتميزون عن غيرهم حيث إنهم قد وُفقوا
لِفَهمِ ذلك.
كما في الحديث: «الحلال بينٌ والحرام بينٌ، وبينهم أمورٌ مشتبهاتٌ، لا يعلمهن كثيرٌ
من الناس».
{أحسن الله إليك، جاء عن ابن عباس قوله: "وأنا ممن يعلمون تأويله"}
نعم، مما يدل على أنَّ التأويل يعرفه أهل العلم، لكن التأويل الذي يعرفه أهل العلم
هو بمعنى التفسير وإبانة المعنى، لا بمعنى الحقيقة.
{قال: أحسن الله إليك ما السبب في جعل السلف الصالح مذهب المفوضة، من شر مذاهب أهل
البدع في الأسماء والصفات}
يقول: أولا: خانوا الكتاب والسنة.
ثانيا: طعن في الرسل وأتباعهم، أنهم لم يفهموا عن الله أسماءه وصفاته.
ثالثا: أن هذا التأويل يؤدي إلى تعطيل الصفات كلها، وأن نقرأ كلامًا لا نفهم معناه،
وأيضًا الفلاسفة يستدلون به على نفي الحقائق الشرعية كالجنة والنار، والحساب
والصراط والحوض، ويقولون هذه أشياء نتلوها دون أن نعتقد أن لها حقائق لأنهم يقولون
هذه أشياء ينكرها العقل، فلا يمكن أن نثبتها، وهذا من أعظم الجهل والضلال، فالمفوضة
مذهبهم أقبح حالًا من المؤولة، يقول: اقرأ كلاما لا أفهم معناه، والله يقول:
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، كيف
نتدبر شيئًا لا نفهمه، التدبر إنما يكون لشيءٍ نعقله ونفهم معناه.
{أحسن الله إليكم، هنا السؤال الأخير يقول: قال الإمام أحمد "بلا حدٍّ ولا غايةٍ"،
جاء إثبات الحد عن السلف كقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: "الله على العرش
بحدٍّ"، وجاء نفيه كما في عبارة الإمام أحمد، فكيف الجمع بين الأمرين}
الأصل عند أهل السنة، أنَّ الألفاظ المحتملة في الحق والباطل لا تُقبل، نطلب منه
تفسيره، فإن فسره بالمعنى الطيب، قبلناه، وإن فسره بغير ذلك، رددنا عليه، والأولى
أن نسكت عن هذه الأشياء التي ما دل الكتاب والسنة عليها ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِي﴾ [مريم: 64].
ابن المبارك قصد بالحد أن الله على عرشه، وأنه فوق عرشه بائنٌ من خلقه، يقصد أن
الله جلَّ وعلَا على عرشه استوى، بائنٌ من خلقه، لا يحده شيءٌ، وأنه بحدٍّ أي:
بمعنى أن إثبات العرش واستواء الله عليه وعلوه عليه، وهو فوق خلقه.
أما قول الإمام أحمد: بلا معنى، قيل: إن هذه اللفظة جاءت عن بعض أصحاب أحمد، ولم
تثبت عن أحمد -رحمه الله، وقيل معناه: بلا معنى، أي: بلا فهمٍ للحقيقة، وإنما دَلَّ
الكتابُ والسنة عليه، لكن نجهل كيفيتها وتصورها.
{أحسن الله إليكم..
توقفنا في الحلقة السابقة عند قوله:
(وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم)}
عبد الله بن مسعود أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين،
والمهاجرين رضي الله عنه، والبدريين، وأحد من لزم النبي صلى الله عليه وسلم في جميع
غزواته، إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم.
وهو من خيار الصحابة، يقول في حقه صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يقرأ القرآن
غضًّا طريًّا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد»، وهو من خيار الصحابة، وأرسله عمر
للكوفة يُفقه الناس بدين الله، ويعلمهم شريعة الله.
هذا الصحابي يقول: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم"، لفظ "اتبعوا ولا تبتدعوا"، كما
قال سبحانه: ﴿اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾ [الزمر:
55]، ولا تأتوا ببدعةٍ في القول والفعل، فأسماء الله وصفاته اتبعوا فيها الكتاب
والسنة، فالله سميعٌ، الله حيٌّ، الله قيومٌ، لكن لا تأتوا تأويلًا وتكيفًا
وتمثيلًا، أثبتوا لله الصفات وكلوا حقائق علمها إلى ربكم، أسلم لدينكم، فإن اتبعتم
البدعة والمبتدعين ضلوكم عن سواء السبيل.
{نعم، أحسن الله إليكم..
قال: (فقد كفيتم)}
كفيتم بأن بيَّن لكم السلف الصالح آيات الأسماء والصفات والطريقة المثلى فيها.
{قال: (وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كلامًا معناه: قف حيث وقف القوم،
فإنهم عن قومٍ وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو
كانوا فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن
سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسرٌ، وما دونهم
مقصرٌ، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم في ما بين ذلك لعلى
هدى مستقيم)}.
هذا كلام الخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز -رحمه الله، في بيان عقيدة السلف
الصالح بأسمائه وصفاته، فمن تأمل هذه الألفاظ العظيمة، عرف أنَّ السَّلف مجمعون على
هذا، وأن هذا هو الطريق الأسلم لدينه، وفي وصفه لربه -جلَّ وعلَا.
قال عمر بن عبد العزيز: (قف حيث وقف القوم).
إذ حيث وقف القوم، القوم وقفوا، لما قرؤوا قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64]، ما قالوا: كيف اليد؟ وصفة اليد؟ حقيقة؟ مجازية؟ لا،
قالوا: هذا يدل على أن لله يدين، ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، ﴿تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1]، ما قالوا: القدرة، قالوا بإثبات اليد لله
-جلَّ وعلَا.
فالقوم وقفوا حيث دل القرآن عليه، وذكر صفاتٌ أخرى فآمنوا بها، وأقروها على
حقيقتها، معتقدين معانيها بما دل الكتاب والسنة عليه.
{قال: (فإنهم عن علمٍ وقفو)}.
ما وقفوا عن جهلٍ، عن علمٍ وبصيرةٍ وقفوا، لو كان التوسع في الأشياء، وتشقيق
الأشياء مشروعًا لكانوا أولى الناس به، لكنهم قوم تسليمٍ وإيمانٍ والتزامٍ، ولهذا
ما فعلوا هذا الفعل، فلهذا وقفوا عن علمٍ، وتكلموا عن علمٍ.
{قال: (وببصرٍ نافذٍ كفو)}.
وببصرٍ نافذٍ، يعني أُعطوا بصيرةً في دينهم، بصيرةً في قلوبهم، عرفوا الحق والباطل،
قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ
عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ [الزمر: 22].. وحي الله، آمنوا بالكتاب والسنة إيمانًا
جازمًا قطعيًّا لا إشكال فيه، ولم يستو الشيطان عليهم، بل وقفوا موقف صدقٍ، فألبسوا
لله ما ألبس به نفسه، ونفوا ما نفى عن نفسه، لكن بأدبٍ واحترامٍ، من غير تشقيقٍ،
ومن غير ابتداعٍ في دين الله.
{قال: (ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كانوا فيها أحرى)}.
ولهم على كشفها كانوا أقوى، يقول: لو كان الأمر كما أردتم، لكان الصحابة أقدر من
كشفها وتبينها وقفوا، الصحابة هم أعلم الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
فهم وقفوا ولم يتجاوزوا الحد، وأمسكوا عما لا يعنيهم، واشتغلوا بما يعنيهم.
أما هؤلاء المتأولة، فقد أذهبوا أعمارهم في الباطل، وَشَقُوا في آَخِرِ حياتهم،
وتمنوا أنهم لم يفعلوا هذا الشيء، وأنهم عاشوا على عقيدة المسلمين الصَّافية
الخالصة.
{قال: (فلئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم)}.
فلئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من بعدهم، ومن بعدهم لا اعتبار لهم «عليكم
بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ»، أما
هؤلاء المتأخرون المتأولون، الذي تأول بلا علمٍ، فلا دليل لهم، ولا حجة معهم، وإنما
إشغال وقتٍ بالباطل، وتعرض لما لا يعلمون، وتكذيب لكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله
عليه وسلم.
{قال: (ورغب عن سنتهم)}.
فإن من كان بعدهم، ورغب عن سنتهم أحد الأشياء، الذي بعثهم، وسار على طريقهم
ومنهجهم، فإنه هو الذي سلم بأمر دينه.
{قال: (ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي)}.
وصفوا منه ما يشفي، من الصفات التي أثبتها في كتابه، وأثبتها له رسوله -صلى الله
عليه وسلم- ما يكفي، وتكلموا منه بما يكفي، إذن فهم عرفوا الحق وتمسكوا به، وعضوا
عليه بالنواجذ، ولم يفتحوا على أنفسهم باب التأويل والتحريف والتعطيل، الذي أودى
بقوم إلى أن خرجوا من الإسلام، بأسباب هذه التأويلات الباطلة، أدتهم إلى أن يقولوا
أن الله ليس بحيٍ، يقولون: إن الله لا حي ولا ميت، ولا أعمى ولا بصير، ولا أصم ولا
يسمع، كلها -والعياذ بالله- كلماتٌ سيئةٌ، يقولها من يقولها، والضلال والزيغ عن
طريق الله المستقيم.
{قال: (فما فوقهم محسرٌ، وما دونهم مقصرٌ)}.
فما فوقهم محسرٌ، يعني ضائعٌ، ضائقٌ، ومن دونهم مقصرٌ، فالواجب أن نكون معهم، وعلى
طريقة هدايتهم، لا نقصر في حقهم عنهم، ولا ننصرف عنهم، بل نجعل طريقتهم الوسطية بين
التقصير وبين التفريط، أن نجعل هذه الطريقة -طريقة السلف- هي طريقتنا، ومنهجنا في
الحياة، فلا نقصر عنهم، ولا نترفع عنهم، فإن قصرنا فقد ضيعنا، وإن غلونا فوقهم فقد
ضيعنا أيضًا، لابد أن نثبت على الكتاب والسنة؛ ليكون وسيلة نجاتنا يوم القيامة.
{قال: (لقد قصر عنهم قومٌ فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلو)}.
نعم، لقد قصر عنهم قومٌ فجفوا، جفوا بمعنى أنهم أعرضوا عن طريقهم، وساروا على طريق
الضلال، وغلا قومٌ وأثبتوا الصفات، غير اللائق بالله، بأن حاولوا أن يشبهوا الله
بمخلوقٍ، بصفات الخالق، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وكل هذا من قوله -جلَّ
وعلَا: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الزمر: 67].
{قال: (وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيمٍ.
قال: وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي -رضي الله عنه: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك
الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول)}.
الأوزاعي إمام أهل الشام، توفي في حدود مائة وخمسة وخمسين من الهجرة، يقول:
عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس.
عليك بآثار من مضى، وإن سخطك الناس، فإن الناس أعداءٌ لما يجهلون.
فتمسكنا بما عليه السلف الصالح في الحلال والحرام، في الأسماء والصفات، في الأمر
والنهي على طريقتهم وتعاملهم مع أئمتهم وتعاملهم مع الناس، معرفة طريقة السلف
الصالح في ذلك، وكما قال السلف: "لا تغتر بالباطل لكثرة السالكين، ولا تزهد في الحق
لقلة السالكين، إنما عليك أن تكون ميزان عدلٍ وإنصافٍ، وإياك وزخرف القول، إياك
والآراء الشاطة، وإن زخرفوها وحسنوها، وجاءوا لها بقواعد وأصولٍ باطلةٍ، فإياك
وقبولها، فإنها باطلةٌ؛ لكونها تخالف الكتاب والسنة.
{قال: (وقال محمد بن عبد الرحمن الأذرمي، لرجلٍ تكلم ببدعةٍ، ودعا الناس إليها: هل
علمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؟ أم لم
يعلموها؟
قال: لم يعلموها.
قال: فشيءٌ لم يعلمه هؤلاء، أعلمته أنت؟!
قال الرجل: فإني أقول: قد علموها.
قال: أفوسعهم ألا يتكلموا به، ولا يدعو الناس إليه؟ أم لم يسعهم؟
قال: بل وسعهم.
قال: فشيء وسع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخلفاءه، لا يسعك أنت؟ فانقطع
الرجل.
فقال الخليفة وكان حاضرًا: لا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم)}.
يقال: إن هذا رجلٌ من علماء السنة، جيء به من حدود تركيا إلى بغداد، في أيام
الواثق، الذي كان هو والمعتصم قبله، يجبرون الناس على القول بخلق القرآن، ويعذبونهم
على ذلك، حتى الإمام أحمد ما سلم من شرهم -رحمه الله ورضي عنه.
دخل عليه هذا الرجل الأذرمي، دخل على موفق، وعنده ابن أبي دؤاد، الذي هو رأس الفتنة
والفساد، سلم عليهم فلم يرد السلام، فقال: بئس المعلم، وبئس المؤدب الذي أدبك، إن
الله يقول: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]، ثم قال: تكلم أنت، قال هذه الأشياء التي نقلتها، من
القول بخلق القرآن وأمثاله، هل علمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر،
وعمر، وعثمان، وعلي؟ أم لم يعلموها؟
قال: لم يعلموها، قال: فشيءٌ لم يعلمه هؤلاء، أعلمته أنت؟!
لا يمكن أن يكون شيءٌ في أسماء الله وصفاته، ما علمه الصحابة والتابعون، يعلمه هذا
الجاهل، لا شك أن هناك فرقًا بعيدًا، فأمر ما علمه الأوائل، لابد أن يكون شرًا
محضًا، لا خير فيه.
{قال الرجل: (فإني أقول: قد علموه)}.
لأنه عجز، لما قال: هل علمه؟
قال: ما علمه، مصيبةٌ؛ لأنه ما يمكن أن يكون المتأخر أعلم من الماضين، قال: بل
علموه؟ قال: إذا كانوا علموه، فلمَ لم يدعوا إليه؟ ولماذا ما نشروه؟
ما معنى أنه كتموا دين الله، وأخفوا شريعة الله؟
هذا خطأٌ؛ لأنَّ الأنبياء بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، والصحابة
-رضي الله عنهم- تحملوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحق، ونشروا لنا وبينوا
لنا، فالأمر علموه وعرفوه، ولم يجهلوه، ولم يدعو إليه؛ لأنه باطلٌ، إنما دعوا إلى
علمٍ نافعٍ وعملٍ صالحٍ.
إذن رد على نفسه، لما قال: إنهم علموه، قال: أفوسعهم ألا يتكلموا به، ولا يدعو
الناس إليه؟ أم لم يسعهم؟ قال: بل وسعهم.
يعني معنى أنه وسعهم، يقول: لكنهم سكتوا لأنه باطلٌ.
قيل إن الخليل قام من مجلسه، واستلقى على سريره، وجعل يضرب عصًا بيده، ويقول: لا
وسَّع الله على من لم يسعه من وسعهم، فرفعت المنحة عن المسلمين بهذه المناظرة
الطيبة القصيرة.
وأيضًا.. قوله -جلَّ وعلَا: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات:
173].
{قال: (وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، والتابعين
بهم بإحسانٍ، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات، وقراءة
أخبارها، وإمرارها كما جاءت، فلا وسَّع الله عليه)}.
من لم يسعه فهم القرآن والسنة، لا وسَّع الله عليه، هو شقيٌّ، لو أراد أن يكتفي
بالخير والهدى، عهد الصحابة عن رسول الله وبعده، في أمرٍ استقر في أنفسهم، آمنوا
بالله، وبأسماء وصفات الله، لم يتأولوا تأول الجاهلين، لم يصرفوها عن حقيقتها، ولم
ينكروها، أثبتوها لفظًا، وأقروا بها معنى، وأمسكوا عن الكيفية، كل هذا مما أراح
قلوبهم ونفوسهم، أما من تشقق الأمور، فَشل، وعاد عليه بالضرر، نسأل الله السلامة
والعافية.
{شكر الله لشيخنا ما أفاد به من هذا الشرح الممتع، وجعله الله في ميزان حسناته،
والشكر موصول لكم أيها الإخوة المشاهدون، وإلى اللقاء في حلقة قادمة إن شاء الله
تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.