الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

12803 18
الدرس الخامس عشر

كتاب التوحيد 3

{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من شرح (كتاب التوحيد) لإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، يشرحه لنا فضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان فهيد، نرحب وإياكم بفضيلة الشيخ، أهلًا وسهلا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا، يسر الله لنا ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، والتوفيق لِمَا يحبه الله ويرضاه، على بركة الله نبدأ تفضل.
{وقفنا في اللقاء السابق عند (باب مَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الْحَلِفِ) }.
نعم، تفضل على بركة الله.
{قال الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمنا الله وإياه-: (بابُ مَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الْحَلِفِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَاحْفَظُواْ أيمانكم﴾ [الْمَائِدَةُ:89].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ» أَخْرَجَاهُ.
وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لاَ يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ وَلاَ يَبِيعُ إِلاَّ بِيَمِينِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ».
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شِهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ».
قَالَ إبراهيم: "كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ")
}.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛ فيقول الإمام المجدد شيخ الإسلام/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد: (بابُ مَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الْحَلِفِ) ، وقوله: (مَا جَاءَ) يعني: من نصوص القرآن والسنة في كثرة الحلف، والحلف هو ذكر المعظم على أمرٍ ليثبته ويؤكده، فهذا معنى الحلف في اللغة.
وكان في الجاهلية يحلفون بغير الله -عز وجل- فيعظمون أصنامهم، أو يُعظمون طواغيتهم، أو يُعظمون آبائهم فيحلفون بذلك؛ ليؤكدوا صحة الكلام، أو يوثقوه، ونحو ذلك.
وحرَّم الله -عز وجل- في الشرع الإسلامي فيما أوحى إلى رسوله الحلف بغير الله، وأمَّا الحلف بالله فهو جائز، وقد يكون مستحبًا في بعض المواضع، وقد يكون محرمًا في بعض المواضع.
والحلف بالله هو بيان أنَّ الحالف يُعظم الله -سبحانه وتعالى-، ويؤكد صحة كلامه بذكر اسم الله أو بصفةٍ من صفاته، فالحلف يجوز بلفظ الجلالة، كأن يقول مثلًا: "والله"، أو بصفةٍ من صفات الله كأن يقول مثلًا: "وعزة ربي"، ونحو ذلك، ولا يجوز الحلف بغير الله؛ لأنه من الشرك، كما مَرَّ معنا في بابٍ سابق.
وأمَّا الحلف بالله فهو تعظيمٌ لله -عز وجل-، ولكن مع هذا انظر وتدبر فيما ورد في كثرة الحلف، ما الذي ورد في شأن كثرة الحلف؟
كثرة الحلف يعني: أن يُكثر من الحلف دائمًا، وقد دلَّت النصوص على أنَّ هذا منهيٌ عنه، أعني: كثرة الحلف بالله منهي عنه.
والدليل: أورد الشيخ آية كريمة، وأورد أربعة أحاديث عن رسول الله ، وأثرًا عن أحد كبار التابعين، وكل هذا يدل على أنَّ كثرة الحلف منهيٌ عنه.
لماذا جاء النهي عن كثرة الحلف؟
لأنها تُنقص التوحيد، وتدل على عدم المبالاة، وربما تَجُرُّ إلى الكذب والتساهل؛ فلأجل هذا ولِمَا فيه من إضعاف الإيمان، وإضعاف التوحيد، وعدم المبالاة، ولأنه قد يجر صاحبه إلى الكذب، فلهذا صار كثرة الحلف حرامًا ومنهيًا عنه.
أمَّا الآية الكريمة وهي قول الله -عز وجل-: ﴿وَاحْفَظُواْ أيمانكم﴾ [الْمَائِدَةُ:89]، وجاء في تفسيرها أنَّ حفظ اليمين ألا يحلف إلا بالله، وأيضًا ألا يحلف بالله إلا صادقًا، وأيضًا ألا يُكثر من الحلف بالله -عز وجل- إلا عند المصلحة الراجحة والحاجة، وأيضًا إذا حلف بالله ثم حنث في حلفه، فله أن يُكفر عن يمينه، وهذا من حفظ اليمين.
إذًا قوله: ﴿وَاحْفَظُواْ أيمانكم﴾ [الْمَائِدَةُ:89]، أي: لا تحلفوا إلا بالله، وإذا حلفتم بالله فلا تحلفوا إلا وأنتم صادقون، وإذا حنثتم في أيمانكم فلابد من كفارة، قال النبي : «إنِّي واللَّهِ لا أحْلِفُ علَى يَمِينٍ، فأرَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْها، إلَّا كفَّرتُ عَن يميني، إلَّا أتَيْتُ الذي هو خَيْرٌ»[1].
وكفارة اليمين ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة:89]، فكفارة اليمين: إطعام، أو كسوة، أو عتق رقبة؛ ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ [المائدة:89] هذه الثلاثة، -والثلاثة هذه على سبيل التخيير-، أي: تختار هذا أو هذا أو هذا، فإذا لم تجد هذا أو هذا فتنتقل إلى الصيام، ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة:89].
وهذا يُبين لك عِظم شأن اليمين بالله -عز وجل-، أنك إذا حنثت فيها فإنك تحتاج إلى هذه الكفارة.
عرفنا معنى قوله تعالى: ﴿وَاحْفَظُواْ أيمانكم﴾ [الْمَائِدَةُ:89]، ومن ضمن المعاني التي فُسرت بحفظ اليمين ألا تُكثروا من الحلف، وعدم الإكثار بالحلف إلا عند الحاجة والمصلحة.
قال: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ»، وفي رواية: «ممحقة للربح») .
قوله: («الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ») ، يعني: اليمين التي يحلف بها لتُنفق السلعة تمحق الكسب، وتمحق الربح، وتذهب الخير والبركة.
كيف مُنفقة للسلعة؟
يعني أن السلعة تروج عند المشتري، إذا جاء يشتري البضاعة، قال: والله إنها عليّ بكذا، حتى وإن كان صادقًا، والله إنها جيدة، والله إنها كذا وكذا، فهكذا يرغب المشتري وتباع السلعة.
ولكن! ما العقوبة؟
قال: («مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ») ؛ أي: الربح والبركة فيه.
قد يكسب في الدنيا، فيبيعها مثلًا بسعر طيب، ولكن لا بركة فيها، تكون منزوعة البركة ممحوقة، كما قال: («مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ» أَخْرَجَاهُ) .
وهذا يدل على ماذا؟
على تحريم ترويج السلع بالحلف، والناس يتساهلون في هذا الأمر، ولذلك إذا أردت أن تبيع أو تشتري أو توقع عقدًا مع أحد، فلا حاجة إلى أنك تقول: والله أنا وكذا وأنا كذا، وهذه البضاعة كذا، بل قُل ما عندك من معلومات صحيحة صادقة بدون حلف، كأن تقول: هذه السيارة أو هذه البضاعة جيدة، ولا تقل: والله إنها جيدة، بل قل: هذه البضاعة جيدة، هذه السيارة اشتريتها بكذا، أو هي عليّ بكذا، وأنا أبيعها بكذا، فلا بأس أن تُخبر بالحقيقة.
وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة.
قال: (وَعَنْ سَلْمَانَ) يعني الفارسي –رضي الله عنه- (أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لاَ يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَبِيعُ إِلاَّ بِيَمِينِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ) .
هذا الحديث يُبين عدة أمور، والشاهد منها: أنَّ هذا الرجل «جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ»، أي: جعل الحلف بالله وذكر اسمه -جلّ وعلا- في البيع والشراء، فإذا جاء يبيع قال: والله إن البضاعة كذا وكذا، والله والله، أنا أحلف لك بالله أني وكذا وكذا؛ لأجل أن يبيع السلعة، يُقنع المشتري.
وهذا النهي وارد في حق البائع ووارد في حق المشتري كذلك، فالمشتري قد يقول: أنا والله ما عندي إلا كذا، والله ما في جيبي إلا كذا، والله إني كذا وكذا، فيجعل اسم الله -عز وجل- في البيع والشراء لأجل التأكيد، وهذا يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب.
من أين أخذنا أنه من كبائر الذنوب؟
من الوعيد الشديد، («لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ») ، كم عقوبة؟
ثلاث عقوبات، وهي كالتالي:
·      العقوبة الأولى، قال: («لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ») .
·      العقوبة الثانية: («وَلاَ يُزَكِّيهِمْ») .
·      العقوبة الثالثة: («وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ») .
وهذا وارد في القرآن العظيم في شأن من يكتم العلم، وينقض ما عاهد الله -عز وجل- عليه مثل: كفرة أهل الكتاب وغيرهم، («لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ») .
فقوله: («لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ») أي: يوم القيامة، وفيه دليل على أنَّ الله يتكلم، وفيه الرد على أهل البدع، الذين ينفون صفة الكلام عن الله -عز وجل-، ويقولون: إن الله لا يتكلم، وهذا من أقوال المعتزلة الضالين، وشابههم الأشاعرة، ومن سلك نحوهم ممن اقتفى علم الكلام المذموم، فنفوا صفة الكلام، وقالوا: إنَّ الكلام يراد به الكلام النفسي، وأنَّ الله -عز وجل- يتكلم بكلام نفسي، وليس لكلام ربنا صوت، ولا يُسمع كلامه، وهذا كلام باطل.
أيضًا قوله: («لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ») ، المراد التكليم الذي يكون يوم القيامة تكليم رحمة؛ لأن الله -عز وجل- يقول لأهل الجنة: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر:73]، هذا تكريم من الله لأهل الإيمان وهم أهل الجنة.
فقبل أن يدخلوا الجنة ﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا﴾ [الزمر:73]، هذا دليلٌ على أنَّ الكلام قبل أن يدخلوها، ولذلك جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله قال: «إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ»[2]، يعني: ستره، فيقول: «ألم تفعل كذا يوم كذا؟ ألم تفعل كذا يوم كذا؟ فيقرره بذنوبه؛ حتى إذا ظن أنه قد هلك، قال الله -عز وجل-: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، هذا تكليم من الله لمن؟ للمؤمن.
إذًا هؤلاء الذين فعلوا هذه الأشياء في الدنيا؛ يحرمون من هذا، فلا يكلمهم الله، وإنما هم محل غضب لله -عز وجل-.
قال: «وَلَا يَنْظُر إِلَيهِم يَومَ الْقِيَامَة»، أيضًا النظر والرؤية والبصر، وهذه صفات لربنا -جلّ وعلا-، فهو السميع البصير، وهو يُبصر جميع الأشياء، ولا تخفى عليه خافية، ويرى -جلّ وعلا-كل شيء، قال: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق:14] فهو سميعُ بصير، يوصف بالبصر.
وهنا قال: «ولا ينظر إليهم»، معنى هذا: أن عدم النظر لهم للعقوبة، كما قال الله -عز وجل- في سورة المطففين عن الكفار، قال: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ﴾ [المطففين15-16].
قال علماء السلف كالشافعي، وسفيان، وغيرهم من علماء السلف: "لَمَّا انحجب أولئك في حال السخط، دلَّ على أنَّ أولياءه يرونه في حال الرضا"، ولكن آية سورة المطففين وإثبات الرؤية، هذا فيما يتعلق بالعبد المؤمن وهو يرى الله -عز وجل- في الآخرة، والكافر لا يراه ويُحجب الله -عز وجل- عنه عقوبًة له.
لكن هذا الحديث الذي معنا هنا فيه أن الله -عز وجل- لا ينظر إليهم، ومعناه أن هناك من ينظر الله -عز وجل- إليهم، وإذا نظر إليهم فهذا يترتب عليه الرحمة.
إذًا هذا نظر خاص، وهذا نظرٌ يترتب عليه الرحمة، فحُرم منه هؤلاء الثلاثة، فصاروا محل غضب الله -عز وجل- فلا ينظر إليهم كما أنه لا يكلمهم.
وإلا فالله -عز وجل- يرى كل شيء، ولا تخفى عليه خافية، فليسوا محل خفاء على الله، لا، ولكن لا ينظر إليهم نظرًا يترتب عليه رحمتهم، والعفو عنهم، ونحو ذلك.
قال: («وَلاَ يُزَكِّيهِمْ») ؛ أيضًا التزكية من الله -سبحانه وتعالى- إنما هي للمؤمنين، يزكيهم في الدنيا، ويزكيهم في الآخرة، أي: يُطهرهم في الآخرة.
قال: («وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ») ، يعني: أنهم يُعذبون -نسأل الله العافية والسلامة- وهذا العذاب موصوفٌ بأنه أليم. وهذا كله وعيدٌ بعدَ وعيد.
قال: «أُشَيْمِطٌ زَانٍ»، الأشيمط تصغير أشمط، والأشمط هو الرجل إذا كبر عمره وانتشر الشيبُ في رأسه ولحيته، فصار فيه سواد في الشعر وصار فيه بياض، شمطه البياض، فيسمى هذا أشمط، فإذا صُغر تحقيرًا له قال: أشيمط، مع كونه كبرت سنه يعني: ليس من الشباب، فهذا يضعف داعي الشهوة عنده، ويضعف داعي الزنا جدًا، هذا معروف، فكلما كبر عمر الإنسان ضَعف.
فمع هذا، ومع أنه ضعف داعي الشهوة عنده إلا أنه يرتكب جريمة الزنا -نسأل الله العافية والسلامة- وهذا يدل على أنه مع ضعف الداعي إلا أنه مستمرٌ على الإجرام، وعلى ارتكاب الفاحشة، وهذا يدل على تأصل حب الفاحشة في قلبه -نسأل الله العافية والسلامة- حتى مع ضعف الداعي يميل إلى هذه الشهوة، ويكررها ويفعلها ولا يتوب.
هل معناه أن الشاب معفو عنه؟
لا، حتى الشاب إذا وقع في الزنا فهو على جريمة عظيمة، وكبيرة من كبائر الذنوب -نسأل الله العافية والسلامة- ولكن هذا أقبح -أعني كبير السن الذي شمطه الشيب، وكبرت سنه، وضعف الداعي عنده- ويستمر على هذا الفاحشة، نعوذ بالله من هذا الحال.
قال: («وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ») ، العائل هو الفقير ذو عيال يعولهم، وعنده نفقات لا يستطيع أن يقوم بها، فعادة الفقراء لا يتكبرون على الناس؛ لأنَّه ليس عندهم شيء يتكبرون فيه، ولكن هذا مع كونه فقيرًا إلا أنه مستكبر، ويرى الناس دونه، ويحتقرهم ويزدريهم، مما يدل على تأصل هذا الشر -أعني الكِبر- في قلبه.
الثالث: وهذا هو الشاهد في هذا الباب: («وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لاَ يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ وَلاَ يَبِيعُ إِلاَّ بِيَمِينِهِ»)، نسأل الله العافية والسلامة، وهذا يُبين لنا حرمة استعمال الأيمان في البيع والشراء، فإنه ينفقون بها السلعة، ولكنهم يحصل لهم هذا الإثم العظيم.
{حتى لو كان صادقًا؟}.
نعم، لا يجوز فعل ذلك حتى وإن كان صادقًا، وهذا وعيدٌ شديدٌ، لماذا هذا وعيد شديد؟
لأنَّ هذا يدل على عدم المبالاة بـأسماء الله سبحانه وتعالى؛ ولأنَّ الغالب عليهم أنهم يتوسعون ويتوسعون، ويجرهم هذا إلى الكذب، فيحلف وهو كاذب، فيغر الناس ويخدعهم -نسأل الله العافية والسلامة-.
وهذا الحديث ورد أيضًا عن أبي ذر، قال : «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ولا يَنْظُرُ إليهِم ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ، المَنَّانُ الذي لا يُعْطِي شيئًا إلَّا مَنَّهُ، والْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذب، والْمُسْبِلُ إزارَهُ»[3].
·      المسبل إزاره الذي يجعل ثوبهُ أو إزاره أو سرواله أو بنطاله تحت الكعبين، يسبل ذلك.
·      والثاني: «المَنَّانُ الذي لا يُعْطِي شيئًا إلَّا مَنَّهُ»، يعطي الناس ويمن عليهم.
·      والثالث: «والْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذب»، هذا دليلٌ على أنه يستحق هذا الوعيد أيضًا.
قال: (وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قرنين مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ») .
هذا الحديث في صحيح البخاري ومسلم، حديث عمران بن حصين، وفيه عدة فوائد:
أولًا: فضل الصحابة -رضي الله عنهم- وهم القرن الذين كان فيهم رسول الله ، وفضل الصحابة ثابتٌ بكتاب الله، وبسنة رسوله وبالإجماع.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:100].
وقال تعالى في سورة الحشر في تعداد المهاجرين والأنصار والذين بعدهم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر:8]، من هم؟ المهاجرون.
الثاني قال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر:9]، من هم؟ الأنصار –رضي الله عنهم-.
وهذا فيه إبطال مذهب الرافضة الذين سبوا الصحابة وشتموهم وتنقصوهم، كيف يُثني عليهم الله -عز وجل- ولا يبقى إلا خمسة فقط؟! خمسة فقط هم الذين تزعمون - يا معاشر الرافضة- أنهم محل الثناء، والبقية ارتدوا وفسقوا! وهذا معارض للقرآن العظيم، وعدم إيمان بكلام الله -عز وجل-.
استمع إلى هذه الآية التي بعدها، قال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر:10]، من بعد من؟ بعد الصحابة -المهاجرون والأنصار-، ويدخل فيها من أسلم بعد الفتح من الذين تأخر إسلامهم، إلى جميع الصحابة، ويدخل فيها أيضًا من جاء من التابعين وأتباعهم إلى قيام الساعة.
ماذا يقولون؟
﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا﴾ [الحشر:10] وإخوة تدل على الولاء والمحبة، وأنهم على عقيدة واحدة. اسمع ما بعدها: ﴿الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ [الحشر:10] شهدوا لهم بالسبق، وشهدوا لهم بالخيرية، وشهدوا لهم بالإيمان، فالذين جاءوا من بعد وشهدوا على الصحابة بأنهم ارتدوا أو أنهم فسقوا أو أنهم ظلموا لا يدخلون في هذا الوعد العظيم، ولا ينالون من هذا الخير.
ولهذا الإمام مالك بن أنس –رحمه الله- إمام دار الهجرة، كان يقول: ليس للرافضة نصيبٌ من الفيء، والفيء: هو العطايا التي تكون من بيت المال، قال: لأن الله -عز وجل- بيّن من يستحق هذ الفيء؛ لأنه قال: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [الحشر:6] إلى آخره، فهنا بيّن الله من الذي يُعطى الفيء؟ فالذين يسبونهم ويشتمونهم ولا يقولون هذا الدعاء لهم لا يستحقون هذا.
﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر:10]، وهذا فيه الرد على من يخوض فيما شجر بين الصحابة. الصحابة -رضي الله عنهم- وقع بين بعضهم ما وقع من خلاف واجتهادات.
وأهل السنة والجماعة يقولون: الواحد منهم ليس معصومًا، ولكن لو قُدر أنه وقع في خطأ فبحار حسناته تغمر هذا الخطأ، هذا لو قُدر، وكثير مما ينسب ويقال إنهم فعلوه هو من أعداء الإسلام، ومن هؤلاء الكائدين من يذكر الروايات المكذوبة، أو التي لم يتثبتوا منها.
فماذا يحدث لهم؟
يحدث الغل في قلوبهم، فيبغضون بعض الصحابة، ويقول: والله فلان من الصحابة كذا، وفلان كذا، وفعل كذا، وفعل كذا، وذلك بناء على روايات لم يتحققوا منها أغلبها باطلة، والصحيح مما ورد في الخلاف الذي وقع بينهم -رضي الله عنهم- هم فيه معذورون بين الأجر والأجرين، إما مجتهد مصيب، وإما مجتهد مخطئ، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر، ولا نخوض فيما شجر بينهم، ولا نذكر مساوئهم كما يفعل أهل البدع، بل نثني عليهم.
﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر:10]، شهدوا لهم بالإيمان أيضًا، هذا فيمن جاءوا من بعدهم.
فإذا جاء من بعدهم أقوام يسبون أبا بكر، ويسبون عمر، ويسبون عثمان، ويسبون عليًّا، ويسبون عائشة، ويسبون حفصة، ويسبون معاوية، ويسبون أبا موسى، ويسبون عمرو بن العاص، ويسبون أصحاب النبي ، فاعلم أنَّ هؤلاء أرادوا الطعن في الإسلام نفسه؛ لأنَّ الذين نقلوا لنا الإسلام -من القرآن والسنة- هم هؤلاء، ومن معهم من الصحابة.
فأراد هؤلاء الباطنية الكيد للإسلام، فقالوا: ما فيه حيلة إلا أنكم تبحثون عن أشياء وتنسبونه للصحابة؛ حتى يقع البغضاء والكراهية في قلب الذي يستمع لكم، فإذا جاء الحديث عن أبي موسى، عن عمرو بن العاص، عن معاوية، عن أبي هريرة، عن عائشة؛ فهذا المستمع قد امتلأ قلبه غيظًا من هؤلاء الذين تلقوا عن هؤلاء المبتدعة، فلا يقبل هذه الأحاديث، ويكون تاركًا للدين، هذا طريقة الباطنية، هذه حيلتهم.
والنبي في هذا الحديث يقول: («خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي») ، يُذكر أن واحدًا من الرافضة ذَكر حاكمًا عندهم -هذا الحاكم كانوا يمجدونه ويعتقدون فيه اعتقادات-، فقال: هذا الحاكم كذا وكذا، فقال له واحد: سمعنا أنهم يدبرون مكيدة لحاكمكم، قال: لا، لأنهم لو دبروا له مكيدة لأطلعه الله -عز وجل- على ذلك، والله -عز وجل- لا يتركه وكذا وكذا، وأخذ يدافع عنه حتى أنه نسب إليه علم الغيب وغير ذلك.
فرد عليه هذا، وقال: أنتم تسبون أصحاب رسول الله ، وتزعمون أنَّ أصحاب رسول الله ارتدوا، وأنهم نافقوا، وأنهم وأنهم، وتشتمونهم بالشتائم العظيمة، أتظنون أن الله -سبحانه- يختار لرسوله من هذا شأنهم؟! وصاحبكم هذا الذي تدافعون عنه تظنون أن أصحابه لا يمكن أن يغدروا به لأن الله سيطلعه على ذلك! سبحان الله! ظننتم بصاحبكم خيرًا مما يجب أن تظنوه في رسول الله ، بل ظننتم ظن السوء، نسأل الله العافية والسلامة.
والحديث عن ضلالاتهم ليس هذا محله، ولكن أوصي طلبة العلم بعدم الاستماع لشبهاتهم، ووجوب محبة الصحابة، وحفظ حقوقهم، والترضي عنهم، ومعرفة مراتبهم، وفضائلهم، والكف عمَّا شجر بينهم، وألا نخوض فيما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بخير، وأن نترضى عنهم، ومن ذكرهم بغير ذلك نُسيء الظن به، ونحذر منه أشد الحذر، ولو كان يذكر واحدًا فقط من الصحابة.
يعني لو رأينا شخصًا يتكلم في واحدٍ من الصحابة وينتقده ويسيء إليه، فيجب أن نسيء الظن بهذا المتكلم؛ لأنَّ الواحد من الصحابة زكاه الله -عز وجل- بقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح:29]، "وَالَّذِينَ مَعَهُ"، هذه المعية كم؟ قد تكون ساعة، قد تكون يومًا، وشرف عظيم أن يكون مع الرسول ما دام أنه من المؤمنين.
الصحابي يدخل في هذا، سواء من قلت صحبته أو كثرت، ولكن الذي كثرت صحبته وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي؛ هؤلاء لهم منزلة أعلى في المحبة والاحترام، ولكن من قلت صحبته أيضًا له نصيب من هذا الخير.
فالله -عز وجل- قال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح:29]، فهذه المعية شرف، شرفهم الله -عز وجل- بها، هذا التعليق على هذا الحديث.
قال: («ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ») ، أي: التابعون.
(«ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا») ، والمحفوظ المعروف في أكثر الأحاديث أن القرون المفضلة ثلاثة؛ فيصير قرن الصحابة -يا عمر- رقم واحد، والثاني: قرن التابعين، والثالث: أتباع التابعين، فيكون قد ذكر بعد لفظة "قرني" مرتين أو ثلاثة؟ الراجح أنه ذكر بعد قرن الصحابة مرتان، وهذا هو الذي جاء في أكثر الأحاديث.
قال: («ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ») ، ما معنى يَشهدون؟
يبذلون الشهادة، ما حكم بذل الشهادة؟ إذا كان عندك علم.
مثال ذلك: أنت لك حق في أرض أو في سيارة أو في أي شيء، لكن ليس عندك دليل، وليس عندك بينة، إما أن الورقة احترقت، أو الذين يعرفونك ذهبوا -ليسوا موجودين- ولكن أنا أعرف أن هذا الحق لك علم اليقين، عندي علم بذلك، وأنا رأيتك وأنت تشتريه مثلًا أو كذا، فأنا الآن أستطيع أن أشهد لك، وأستطيع أن أمتنع، ما حكم بذل الشهادة حينئذٍ؟
بذل الشهادة واجب عليّ؛ لأن بهذا يتحقق حفظ الحق.
مثال: واحد مثلًا يسير في الطريق، ورأى شخصًا يضرب شخصًا وقتله -نسأل الله العافية والسلامة- ثم هرب القاتل، الآن هذا الذي رأى هذا الشيء صار شاهدًا أو لا؟
صار شاهدًا، وشهادته مهمة، وتدل وتبين الحق، ولا يجوز أن يكتمها.
لكن الرسول ذَكر أن هناك («يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ») ، يعني: بدون طلب منهم، يُسارعون في بذل الشهادة بغير تحري، وبغير تأكد، وبغير تثبت؛ فقط لأجل الطمع في الدنيا؛ لأن الشهود بعضهم قد يأخذ أجرة على شهادته، فقال: («يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ») ، هذا معنى أنهم يبادرون ببذل الشهادة بدون تحقق ولا تثبت.
والمراد هنا شهادة الزور، الشهادة التي فيها كذب، أو مجاملة لقريب، أو طمع في دنيا، أو عداوة للمشهود عليه، هذا ما يجوز، هذا شهادة زور.
{هذه الشهادة المراد هنا كل أنواع شهادات الزور}.
هذا شهادة الزور، شهادة الكذب، أو الشهادة التي لم يتثبت منها، ولم يتأكد منها، يقول له: تعال لتشهد أنَّ هذه الأرض لي، وهو لا يدري هل الأرض ملكه أو لا، ولكنه يفعل لكونه صديقًا له. وأحيانًا يفعل ذلك بدون ما يطلب منه الشهادة، («يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ») .
قوله: («وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ») ، يخون الأمانة، يعني: تترك عنده بضاعة، تترك عنده وارث لقسمته مثلًا، أو تترك عنده مثلًا أغراض فيخون الأمانة، ولا يحفظ الأمانة.
قال: («وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يُوفُونَ») ، النذر في اللغة هو التزام المكلف شيئًا ليس بواجب عليه في أصل الشرع.
ما حكم النذر؟
النذر يجب أن يكون لله؛ لأنه تعظيم لله، هذا إذا نذر.
لكن هل يُشرع لك ابتداءً أن تنذر؟
الجواب: ما جاء في الصحيح -صحيح البخاري- قال رسول الله : «لا تَنْذِرُوا، فإنَّ النَّذْرَ لا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ شيئًا، وإنَّما يُسْتَخْرَجُ به مِنَ البَخِيلِ»[4].
لا تنذروا؛ لأن هذا فيه تكليف لك، يعني مثلًا تقول: عليّ نذر أن أصوم ثلاثة أيام، لله عليّ نذر أن أذهب إلى العمرة، لله عليّ نذر أن أحج، لله عليّ نذر أن أتصدق بالمبلغ الفلاني، هذا لا شك أنه نذر طاعة، فكل هذه الصور طاعة، لكنه كلف نفسه وأوجب عليها، وصار الأمر واجبًا عليه بعد أن كان مستحبًا.
وكثير من الناس يظن أنَّ النذر يتحقق به المقاصد، كيف؟
يقول: يا رب إن شفيت مريضي فلك عليّ نذر أن أفعل كذا وكذا، فقال النبي : «لا يرد من قدر الله شيء، لا يأتي بخير»، لا تنذر، بل قل: يا الله اشف مريضي مباشرة.
ما الخطر على الإنسان في هذا؟
الخطر على الإنسان أنه يظن أن هذا يرد من القدر، هذا واحد.
الثاني: أنه قد لا يستطيع الوفاء بالنذر، ويعجز عنه. ولذا نجد بعض الناس يتصل كثيرًا ويسألون مشايخنا وفي الإفتاء، يقول: نذرت أن أصوم عشرة أيام في كل شهر.
صام أول شهر، صام الشهر الثاني، صام الشهر الثالث، صام الشهر الرابع، السنة طويلة، اثنا عشر شهرًا، وذلك إلى أن يموت.
لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق؟
يكفيك صيام شهر رمضان، فرض الله عليك، لا تنذر أن تصوم، ثم تبحث عن مخرج، بعضهم يقول: أنا إذا جاء الراتب لي علي نذر أن أفعل كذا وكذا، لماذا؟ لا تنذروا.
لكن نقول: إذا كان النذر نذر طاعة فيجب الوفاء به، وإذا نَذَرَ نَذْرَ معصية فلا يجوز الوفاء به. ونذر الطاعة قد مرت أمثلة عليه، ونذر المعصية كأن يقول: عليه نذر أن يشرب الخمر، أو عليه نذر ألا يُكلم والديه، أو لا يُسلم على والديه، هذا نذر معصية، ولا يقل: عليه نذر أن لا يصل رحمه، أو عليه نذر أن يتعامل بالربا، هذا نذر معصية ولا يجوز الوفاء به، بينما نذر الطاعة فيجب الوفاء به.
طيب بقي عندنا النذر المباح: النذر المباح ما حكمه؟
حكمه حكم كفارة اليمين، مثاله أن يقول: لله عليه نذر أن يشرب هذا الكأس من الماء، أو أن لا يشرب هذا الكأس، أو أن يركب هذه السيارة، أو لا يركب هذه السيارة، أو لا يدخل البيت الفلاني، أو يدخل البيت الفلاني، هذا نذر مباح.
فالحكم فيه أنَّ له أن يفعل ما نذره، ويمتنع أو يفعل بحسب ما نذر، أو يخالف ذلك فيكفر كفارة يمين، كما جاء في الحديث.
{متى يكون النذر شركًا؟}
النذر يكون شركًا إذا عَقده تقربًا لغير الله، مثل أن يقول، حتى يعني بعض العبارات بعض الناس ما يُنتبه لها وهي نذر شركي، النذر في الأصل قد أثنى الله -عز وجل- على أهله ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان:7]، ومر معنا باب ما جاء في النذر، ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ﴾ [البقرة:270]، مر معنا في الأبواب المتقدمة، هذا نذر الطاعة، «مَن نذَر أنْ يُطيعَ اللهَ فلْيُطِعْه ومَن نذَر أنْ يعصيَ اللهَ فلا يعصِه»[5].
قال: إنِّي نذرتُ أنْ أنحرَ إبلًا ببوانةَ، فقال رسولُ اللهِ : «أكانَ فيها وثنٌ مِنْ أوثانِ الجاهليةِ يعبدُ» قال: لا. فقال : «أوفِ بنذركَ»[6].
إذًا النذر الذي يكون نذر طاعة لله -عز وجل-، ونذر المعصية الذي تكلمنا عنه هو لله أيضًا، ولكنه في محرم، فلا يجوز فعله وكفارته كفارة يمين، ونذر مباح لله -عز وجل- ولا يجوز، النذر الشركي، وهو المعظم فيه غير الله.
مثاله أن بنذر لسيده عبد القادر الجيلاني أو الجيلي أو لسيده البدوي أو لسيده كذا أو القبر الفلاني نذر، هذا نذرٌ لغير الله، وهذا يعتبر شركٌ أكبر مخرج من ملة الإسلام، لماذا؟
لأنه صرف هذه العبادة، وهي عبادة النذر، مُتقربًا بها إلى غير الله؛ حتى لو قال: أنا ما أعلم، هذا نذر، هذا نذر للقبر، أو نذر للجن، أو غير ذلك، فهذا كله من أفعال الجاهلية.
كانوا في الجاهلية ينذرون لله وينذرون لغير الله! من النذر لله قول عمر -رضي الله عنه- لَمَّا كنت في الجاهلية: "نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً في المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقالَ النَّبيُّ : «أوْفِ نَذْرَكَ»[7]، هذا نذر لله في الجاهلية.
فهناك من ينذر لغير الله -عز وجل-، ومراده تعظيم غير الله -عز وجل-، من أصحاب القبور، أو من أصحاب التماثيل والأصنام، أو ينذر للنجم أو للكوكب، أو ينذر للجن، أو ينذر لشجرة، بعضهم يقول: هذا نذر نذرت شمع، شمعة عشان تضئ، أو نذرت لحمة أو نذرت قمح أن أضعه للقبر، حتى لو قال لله ترى يكذب، يُخادع نفسه، وهو يريد تعظيم صاحب القبر أو الشجرة التي تُعظم وتعبد من دون الله.
فهذا كله من صور الشرك، ما يجزئ فيها كفارة، هذه يجب أن يجدد إسلامه، ويتوب إلى الله -عز وجل-، ويشهد الشهادتين، ويستغفر الله -عز وجل- عن هذا النذر الشركي، فهذا نذر أهل الجاهلية وأهل الشرك وأهل الأوثان يُعظمون غير الله -عز وجل-، نسأل الله العافية والسلامة.
قال: («وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ») ، يعني: لانشغالهم بالدنيا وإقبالهم على الأكل، وإقبالهم على الشهوات، والتكاسل عن الصلاة، فهم أهل تنعم، لكن ليس معنى هذا أنَّ السمن حرام، فقد يكون السمن في مؤمنين صادقين طيبين صادقين مع الله -عز وجل-، فلا يضرهم هذا، وإنما المراد «وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» أي: الذين يقبلون على الشهوات، ويعرضون عن الآخرة، وعن الصلاة، وهذا يُبين غفلتهم عن الدار الآخرة.
بقي معنا حديث واحد وهو حديث ابن مسعود، قال: وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، أرأيت كم صاروا؟ ثلاثة، قرن الصحابة ثم قرن التابعين ثم قان أتباع التابعين.
قال: «ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شِهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ»، هذا شرح لقوله: «يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ»، وفي بيان أنه يشهد مع الحلف، والله أشهد لفلان، أو أشهد والله لفلان، يُقدم الشهادة على اليمين أو اليمين على الشهادة؛ لأنه لا يبالي وهو يكذب.
ولهذا قال إبراهيم بن يزيد النخعي: "كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَار"، وهذا فيه تربية الأولاد على أنه لا يقول: أنا أشهد بكذا، أو أشهد بالله، أو عليّ عهدٌ، لا، يا ولدي لا تقول كذا، إذا جاء يحلف الولد لا تحلف يا ولد، الحلف إنما يكون عند الضرورة، عند القاضي، أو في الشيء العظيم، لا بأس أن تحلف إذا كنت صادقًا.
كذلك الشهادة تقول: أشهد بالله، أو أنا أشهد بكذا، يضربونه، ويقولون: لا تشهد، حتى يتربى الصبي على تعظيم هذه الألفاظ، فإذا قالها، قالها عن صدق، والتزم بما يقول، ولم يكذب فيها، هذا من التعويد على الأعمال الصالحة، وعلى الأخلاق الطيبة، وهذا هو الواجب على المسلم أن يربي أولاده، وأن يربي بناته ومن تحت يده على هذا؛ حتى يُعظم الله -سبحانه وتعالى- ويحترم العهود.
قال الشيخ في المسائل:
(الأولى: الْوَصِيَّةُ بِحِفْظِ الأَيْمَانِ.
الثَّانِيَةُ: الإِخْبَارُ بِأَنَّ الْحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقةٌ لِلْبَرَكَةِ.
الثَّالِثَةُ: الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ لاَ يَبِيعُ وَلاَ يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ.
الرَّابِعَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ يَعْظُمُ مَعَ قِلَّةِ الدَّاعِي، «أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ».
الْخَامِسَةُ: ذَمُّ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ وَلاَ يُسْتَحْلَفُونَ.
السَّادِسَةُ: ثَنَاؤُهُ عَلَى الْقُرُونِ الثَّلاَثَةِ أَوِ الأَرْبَعَةِ، وَذِكْرُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُمْ)
، معنى هذا: أنه سيأتي بعدهم أقوام يكثر فيهم هذا الضلال، ويكثر فيهم الانحراف.
قال: (ذَمُّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ.
كوْنُ السَّلَفِ يَضْرِبُونَ الصِّغَارَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ)
، أخذه من كلام إبراهيم النخعي.
هذا ما يتعلق بهذا الباب، ونسأل الله لنا ولكم ولجميع إخواننا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم.
سؤال: بعض الناس يفهم قوله: قرني، أو يفهم أن القرن مئة عام؟}.
القرن المراد به الجيل، أي: جيل الصحابة، ولكن قد يوجد بعض أفراد الصحابة تأخرت وفاتهم، وكذلك التابعون، جيلهم: أي معظمهم، وقد تتأخر وفاة بعضهم إلى أتباع التابعين، فالمراد بالقرن هنا الجيل.
{شيخنا أحسن الله إليكم، من كان له ثلاثيات من المحدثين كالبخاري، هل يعتبر من تابعي التابعين؟}.
نعم يعتبر من تابعي التابعين المتقدمين، وهذا له ضوابط، ولكن هذا قليل، قالوا: هناك ثلاثيات لمحمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله-، ويعتبرون ذلك من الأسانيد العالية جدًا، وهم يفرحون بقلة العدد بينهم وبين النبي ، ولكنهم يشترطون فيهم الضبط، والإتقان، وعدم الانقطاع في السند، وذلك وفق ما يقرر في علم مصطلح الحديث والأسانيد.
وفي هذا أيضًا أنَّ القرون المفضلة الذي يأتي بعدهم، أنه يحدث فيهم النقص، فلا يستغرب وجود الانحرافات في الأجيال المتأخرة.
{جزآكم عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقةٍ أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (6623) واللفظ له، ومسلم (1649) .
[2] رواه البخاري (2441) ومسلم (2768) .
[3] رواه مسلم (106) .
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] أخرجه البخاري (6696) .
[6] أخرجه أبو داود (3313) واللفظ له، والطبراني (2/76) (1341) ، والبيهقي (20634) .
[7] أخرجه البخاري (2032) ، ومسلم (1656).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك