{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من شرح (كتاب التوحيد) لإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، يشرحه لنا فضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان فهيد، نرحب وإياكم بفضيلة الشيخ، أهلًا وسهلا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا، يسر الله لنا ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، والتوفيق لِمَا يحبه الله ويرضاه، على بركة الله نبدأ تفضل.
{بسم الله، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين، قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابٌ مَا جَاءَ فِي مُنْكِرِي الْقَدَرِ.
وقالَ ابنُ عُمرَ: "والَّذي نفسُ ابنِ عُمَرَ بيدِهِ، لوْ كانَ لأَحَدِهِم مثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ، حتَّى يُؤمِنَ بالقَدَرِ، ثمَّ استَدلَّ بقوْلِ النّبيِّ ﷺ: «الإيمان أنْ تُؤْمِنَ باللهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ»" رواهُ مسلمٌ.
وعَنْ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ أنه قالَ لابنِهِ: "يا بُنيّ إنَكَ لَنْ تجِدَ طعمَ الإيمان حتَّى تعلَمَ أنّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخطِئَكَ، وما أخْطأَكَ لَمْ يكُنْ لِيُصيبَكَ، سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «إنّ أوّلَ ما خلَقَ اللهُ القَلَم فقال لَهُ: اكتُبْ، فقالَ: ربِّ وماذا أكْتُبُ؟
قال: اكتُبْ مقادِيرَ كلِّ شيءٍ حتَّى تقومَ السَّاعَةُ»، يا بُنَيَّ سمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «مَنْ ماتَ عَلَى غيْرِ هذا فَلَيْسَ مِنِّي»
وفي روايَةٍ لأحْمَدَ: «إنَّ أَوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ تعالَى القَلَم فقالَ لَهُ: اكتُبْ فَجَرَى في تِلَكَ السَّاعةِ بِما هُوَ كائِنٌ إلى يومِ القِيامَةِ».
وفي رِوايَةٍ لابنِ وهْبٍ قالَ رسولُ اللهُ ﷺ: «فَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ بالقَدَرِ خَيرِهِ وشرِّهِ أحْرَقَهُ اللهُ بالنَّارِ»".
وفي الْمُسندِ والسّننِ عنِ ابنِ الدّيلمِيِّ قال: "أتَيْتُ أُبيَّ بنَ كعْبٍ فقلتُ: في نَفْسي شَيْءٌ مِنَ القَدَرِ، فَحدِّثني بشيءٍ لعلَّ اللهُ يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبي. فقال: لوْ أنفَقتَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما قبِلهُ اللهُ مِنكَ حتَّى تُؤمِنَ بالقَدَرِ، وتعلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخطِئكَ، وما أخْطـأَكَ لَمْ يَكُـنْ لِيُصيبكَ، وَلوْ مِتَّ علَى غيرِ هذا لكنتَ مِنْ أهلِ النَّارِ.
قالَ: فأتيتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ، وحُذَيفةَ بنَ اليمانِ، وزيدَ بنَ ثابتٍ؛ فكُلُّهُم حدَّثني بمثلِ ذلِكَ عنِ النّبيِّ ﷺ" حَدِيثٌ صَحيحٌ رَواهُ الحاكِمُ في صَحيِحه)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أمَّا بعد، فيقول الشيخ الإمام المجدد/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، قال: (بَابٌ مَا جَاءَ فِي مُنْكِرِي الْقَدَرِ) ، يعني: الذي ورد من النصوص في منكري القدر، يعني: في حكم منكري القدر، ما الحكم الذي يقع عليهم إذا أنكروا القدر؟
المنكر هو الجاحد، والمكذب، الذي يقول: أنا لا أؤمن بالقدر، والقدر هو كل ما قدره الله -عز وجل- وقضاه، والتقدير، قَدَّرَ، يُقَدِّرُ، تقديرًا، يتضمن أنه -سبحانه وتعالى- يعلم، ويتضمن أنه -سبحانه وتعالى- كتب ذلك، ويتضمن أنه -سبحانه وتعالى- شاء ذلك، فلا يقع إلا بمشيئته، ويتضمن أيضًا أنه خالق كل شيء، فهذه أربعة أمور يتضمنها القدر بعلم الله -سبحانه وتعالى- الشامل والمحيط بجميع الأشياء.
ثانيها: الإيمان بأن الله -عز وجل- كتب مقادير جميع الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فكل ما يجري فهو مكتوب في اللوح المحفوظ، فإنَّ الله -عز وجل- «أَوَّلَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ. فَقَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اُكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ اَلسَّاعَةُ» .
والإيمان بأن كل ما يقع في الكون فهو بمشيئة الله، لا يقع شيء من الخلق أجمعين بغير مشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
والمسألة الرابعة من القدر: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، فما من شيء في الأرض ولا في السماء إلا الله -جل وعلا- خالقه، لا خالق غيره، ولا ربَّ سواه.
فمن آمن بهذه الأمور فقد آمن بالقدر، ومن أنكر هذه الأمور الأربعة، أو واحدًا منها، صار منكرًا للقدر.
ما حكم منكري القدر؟
الشيخ -رحمه الله- ذكر عن الصحابة -رضي الله عنهم- أمورًا عملية، مع استدلال الصحابة بالأحاديث الواردة عن النبي ﷺ، وأيضًا جاء في القرآن، وتحديدًا في سورة القمر قوله -عز وجل-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، وقبلها بآيات، ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:47-49].
قال العلماء من الصحابة ومن بعدهم عن المجرمين في قوله: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ﴾ ، قال: هم المكذبون بالقدر، أخذوها من هذه الآية الكريمة، والإيمان بالقدر جاء في القرآن في مواضع، من هذه المواضع، قول الله -عز وجل-: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:2]، ومثل: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، وكذلك ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات:23].
وكذلك المراتب الأربع التي ذكرناها: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، ففي العلم قال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب:40]، وكذلك قول الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج:70]، والآيات في إثبات علم الله -عز وجل-، كثيرة جدًا.
مثل قوله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:12]، واسمه من أسماء الله الحسنى (العليم) ، ومن صفاته العلم، أنزله بعلمه ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ [البقرة:255].
أيضًا الكتابة في اللوح المحفوظ، قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج:70]، وقال تعالى في سورة الحديد: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:22]، أي: من قبل أن نبرأ الأرض أو الأنفس أو المصيبة، وكلها يدل على سبق علم الله -سبحانه وتعالى-، وأنه كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
والمرتبة الثالثة: المشيئة، ما الدليل عليها؟
الدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان:30]، وكذلك قوله -جل وعلا-: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة:253]، وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ [يونس:99] وهكذا، هذه المشيئة.
بقي معنا المرتبة الرابعة، ما هي؟ الخلق. أعطنا الدليل على أنَّ الله خالق كل شيء؟
قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:96]، ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [الزمر:6]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى﴾ [الحجرات:13]، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [الروم:40].
وهذا يشمل خلق الله للعباد، الإنس والجن، ويشمل ماذا؟ أنا أسير وفق درجات حتى أصل إلى الرد على المبتدعة، ولكني أريد من الطالب أو المستمع أن يتصور الأمر.
فلما قال: "خلقناكم، وخلقنا، خالق كل شيء، يشمل إيجادنا للعدم، هذا معروف وواضح وليس فيه نزاع.
ثانيا: صفاتنا الآن هذا أسمر، وهذا أسود، وهذا أبيض، وهذا أحمر، وهذا طويل، وهذا قصير، وهذا صحيح، وهذا مريض، وهذا ذكر، وهذه أنثى، هذا التنوع في الصفات، من الذي خلقه؟
الله -سبحانه وتعالى-.
طيب ننتقل للفقرة التي بعدها، من جملة هذا، ومما يدخل فيه، أن هذا يتكلم، وهذا يضحك، وهذا يبكي، وهذا يمشي، وهذا يركض، وهذا ينام، وهذا يقوم، وهذا يزرع، وهذا يحصد، وكل هذه تسمى أفعال العباد.
هذه الأفعال، فكما خلق الله صفاتهم خلق أفعالهم، وهذه ينكرها المبتدعة، فالله خالق العباد وخالق أفعالهم، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:96]، وهذا يعتبر هو الإيمان بالقدر.
هناك من أنكر القدر، طيب متى حدث هذا الإنكار؟
هذه مسألة مهمة، والنقاش في مسألة القدر -كما نرى في هذه الآثار- كان موجودًا في زمن الصحابة، أي: في آخر عهدهم، وبالتقريب كان ذلك في أواخر الستين وقبل السبعين بعد الهجرة، حتى إن الذين أنكروا عليهم من كبار الصحابة معروفة أسماؤهم، فأنكروا على القدرية، مثل: عبد الله بن عمر، عبد الله بن عباس.
{عبد الله بن مسعود؟}
لا، ما كان موجودًا هذا في زمنه، وجيد أنك ذكرته، لأنَّ ابن مسعود توفي -رضي الله عنه- سنة اثنين وثلاثين من الهجرة، ولم يكن هناك من يظهر هذه البدعة، فهذه البدعة لم تكن موجودة في زمنه.
ولكن عبد الله بن عمر توفي سنة سبعين، إمَّا في الحج -آخر شهر ذي الحجة، أو أول محرم سنة سبعين-، وابن عباس توفي ثمانية وستين، وكان قد عَمِيَ، ما عاد يبصر، ولَمَّا سمع بهذا قال: "أروني رجلًا يقول هذا حتى أدق عنقه"، ابن عباس يقول هذا الكلام.
وممن أدرك هذا واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه-، وكذلك جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، ويمكن أن نقول: بدأت هذه البدعة سنة ست وستين أو سبع وستين من الهجرة، وقبل ذلك لم تكن موجودة.
وهذا يدعونا إلى أن نذكر الإخوة الكرام بتاريخ نشوء البدع، وهذا مهم جدًا، فأول بدعة نشأت في الإسلام، ما هي يا شيخ عمر؟
{أول بدعة يا شيخ هي: الخوارج}
أحسنت، ومعها مباشرة بدعة الشيعة، فخرج الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، والشيعة ظهروا في زمن علي -رضي الله عنه-، قد أدركهم، وهم ثلاث أصناف، الغالية منهم حرقهم بالنار، لأنهم ادعوا أنه إله، يقول:
لَمّا رَأَيتُ الأَمرَ أَمرًا مُنكَرًا ... أَجَّجتُ ناري وَدَعَوتُ قَنبَرا
حرقهم بالنار، واتفق الصحابة كلهم على تصويب علي في قتلهم -رضي الله عنه- إلا أن بعض الصحابة قال: لو قتلهم بالسيف؛ لأنه «لا يُعذبُ بالنارِ إلا ربُّ النارِ»، وإلا فهم متفقون على قتلهم.
الثانية: عموم الشيعة، وهم الذين يفضلونه -رضي الله عنه- على الشيخين، أبي بكر وعمر، وكان يقول على المنبر: من يفضلني على أبي بكر وعمر جلدته جلد المفتري، يعني: بافتراء.
الثالثة من الشيعة: الذين يعرفون فضل الشيخين، ولكن يُقدمون عليًا -رضي الله عنه- ويجعلونه هو الأولى، ويتكلمون بكلام مُفاده التنقص من بعض الصحابة.
{والذين كانوا يقدمونه على عثمان}
كان أناس من أهل السنة يقدمونه على عثمان في ذاك الوقت، وليسوا مبتدعة؛ لأنَّ الخلاف في الأفضلية، هذا جرى قديمًا، ولكن استقر أهل السنة والجماعة على تقديم عثمان على عليٍّ في الأفضلية، وأمَّا في الخلافة فالأمة متفقة على أنَّ الخليفة بعد النبي ﷺ هو: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ولم يتكلم في هذا أحد من أهل السنة والجماعة، ولكن في التفضيل بين علي وعثمان جرى خلاف، والصواب أن عثمان -رضي الله تعالى عنه- أفضل.
وأمَّا التفضيل بين علي ومعاوية فلا شك أنَّ عليًا أفضل من معاوية، ومعاوية صحابي جليل، بينما علي خليفة راشد، ولذلك كان عليًا -بلا شك- أفضل من معاوية، ولكننا لا نسب معاوية، كما يفعلها أهل البدع، فمن سبَّ معاوية أو سبَّ واحدًا من الصحابة فهو مبتدع.
إذًا أول بدعتين هما: بدعة الخوارج، ثم بدعة الشيعة، ما الذي حدث بعدهما؟
القدرية، وهذه البدعة الثالثة في الترتيب، والذي حدث بعد القدرية الإرجاء، وذلك بعد القول بالقدر بنحو عشر أو خمسة عشر أو عشرين سنة، وهي: إخراج العمل، أو كما يسمونها: تأخير العمل، وبعد ذلك بحدود عشرين سنة أو أقل أو أكثر، حدثت بدعة الجهمية، نفاة الأسماء والصفات، الجهم بن صفوان، وشيخه الجعد بن درهم. هذا ترتيب البدع الكبرى.
ولا شك أنها خطيرة جدا، فإذا عرفت مبادئها عرفت بُطلانها، والدين قبلها، ولذا فهي ليست من الدين.
ثانيا: لابد أن تعرف أنَّ هذه البدع موروثة وموجودة الآن، ولها من ينصرها، وإن تغيرت الأسماء والأشكال. هذا ما يتعلق بمسألة القدر، وباقي معنا نقرأ باقي الحديث.
قال: (وقالَ ابنُ عُمرَ: "والَّذي نفسُ ابنِ عُمَرَ بيدِهِ، لوْ كانَ لأَحَدِهِم مثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ، حتَّى يُؤمِنَ بالقَدَرِ، ثمَّ استَدلَّ بقوْلِ النّبيِّ ﷺ: «الإيمان أنْ تُؤْمِنَ باللهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ»" رواهُ مسلمٌ) .
هذا أول حديث في صحيح مسلم، وقصته ذكرها الإمام مسلم بالسند، وهو أنَّ رجلين أتيا عبد الله بن عمر، وأخبراه أنه خرج في العراق قوم يبحثون عن العلم، يقرأون القرآن، وإنهم يقولون: لا قدر، والأمر أُنف! ما معنى: لا قدر والأمر أُنف؟ يعني: أنَّ الله -عز وجل- ما قدر المقادير، والأمر أنف، يعني: إذا وَقَعَتْ عَلِمَهَا الله، يعني: اليوم وقع الغلاء، فالله علمه اليوم فقط، وأما قبل هذا فلا يعلم الله ماذا سيقع.
وهذا من أخطر العقائد الفاسدة، وقد دخل عليهم الشيطان من شبهة أنه كيف يُقَدِّرُ الله -عز وجل- المعاصي ثم يعاقب عليها؟
نقول: هذا جهل منهم، كيف يعاقب الله الكافر وهو يعلم أنه سيكفر؟! هذا جهل منهم وضلال عظيم، وقد التبست عليهم الأمور، فأهل الحق، وأهل السنة والجماعة، وأهل الإسلام يؤمنون بأن الله -عز وجل- يعلم ما كان، وما يكون، وما سيكون، يعلمون ذلك، ويؤمنون بأنه لا يقع في ملكه إلا ما قَدَّرَه وقضاه، وحتى وجود العاصي، وتقدير وقوع المعاصي منه، ووجود الكافر وتقدير وقوع الكفر منه، كل هذا لحكمة بالغة، والله هو الحكيم العليم، والله -عز وجل- لا يظلم أحدًا، ولم يجبره الله -سبحانه وتعالى-، ولم يُكرهه الله على فعل هذه الأمور، وإنما هذا اختيار من العبد، وهذا من عظيم قدرة الله.
فالقَدَرُ قُدرة الرحمن، وهو -سبحانه وتعالى- الذي جعل هذه النفوس على هذا النحو، وعلم ما يقع منها، فكونه -جلَّ وعلا- يعلم ذلك وقدر ذلك، ليس فيه ظلم للعبد، بل كل واحد من يعلم من نفسه أنه ليس بمجبور، فالآن أنت وأنا وكل البشر الموجودين، لو قيل لك: افعل كذا أو لا تفعل كذا، فأنت تختار، وهذا الأمر يعلمه الله قبل، ويعلم الله ما سنختاره، سواء أنا أو أنت أو الثاني أو الثالث وهكذا، والله -عز وجل- قدر هذا كله، وكتبه في اللوح المحفوظ، وليس بهذا حجة للعباد.
ولذلك لو قال: هذا دليل أو حجة لي أني أفعل المعاصي، أو أفعل الكفر، نقول له: هل أنت تعلم ذلك الجواب؟ الجواب: لا يعلم ذلك.
الآن لو قلت لك -أخي عمر-: ماذا سيقع بعد ساعة لي ولك؟ الله أعلم ما ندري، وكل الخلائق لا يعلمون، ولو قال هذا الذي يريد السرقة أو يريد العقوق أو يريد القتل، يقول: القتل الذي سأفعله بعد ساعة هو مقدر علي. ماذا نقول له؟
هل أنت تعلم ماذا سيجري بعد ساعة؟
كيف تقول: أنا مقدر علي، وأنت تقول: ﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام:148]، بل حقيقة هذا هو التكذيب، يعني: لَمَّا واحد الآن نقول له: أسلم، وحافظ على الصلاة، فيقول: أنا لن أسلم، ولن أحافظ على الصلاة، لماذا؟ قال: هذا شيء مقدر علي، هل أنت تعلم ماذا سيقع بعد قليل؟ هل هو يعلم؟ لا يعلم، إذًا هو يحتج بالقدر على شيء ليس معه فيه علم، ولهذا فهذا يعد تكذيبًا للرسول ﷺ.
لَمَّا نقول له: أسلم وحافظ على الصلاة، وحافظ على الدين، قال: لن أسلم ولن أحافظ؛ لأن هذا مقدرٌ عليَّ، نقول: ما يدريك أنه مقدر عليك؟
ولهذا رب العالمين قال: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [يونس:39]، ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام:148]، وقال -عز وجل-: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [يونس:39]، هذا كذاب، هذا مكذب للرسول ﷺ، ثم قال الله -عز وجل-: ﴿حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا﴾ [الأنعام:148]، يعني: هذا سيذوق بأس الله -عز وجل-، الذي كذب سينال عقوبة الله -سبحانه وتعالى-.
وأيضًا جاء في نفس الآية: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام:148]، فإذا جاء المبتدعة القدرية وقالوا: نحن كيف يقدر المعاصي ويعاقب عليه؟ كيف يقدر الكفر ويعاقب عليه؟
إذًا المخرج أن نقول: لا يعلم المعاصي، ولا يعلم الكفر، لا يعلم ما سيفعله العباد، ماذا حدث منهم؟ نسبوا الله إلى الجهل، جعلوا الله -عز وجل- جاهلًا، جعلوا الله -عز وجل- لا يعلم الأمور، وهذا أعظم الجرائم، وأعظم الإجرام، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر:47-49].
إذًا الذي يقول: إن الله لا يعلم، ولم يُقدر المقادير، فحقيقة قوله أنه يطعن في الله -عز وجل- غاية الطعن، وأنه ينتقص الله غاية التنقص، وأنه أساء الظن بالله -عز وجل- غاية الإساءة، وأنه كذَّب بما أخبر الله -عز وجل- به من الآيات والأحاديث. وهذا حقيقة قول القدرية.
ولهذا قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- المتوفى سنة مئتين وأربعة، وولد سنة مئة وخمسين، قال: "ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا"، ناظروهم بالعلم، كيف؟ تقول للقدري: هل الله -عز وجل-يعلم أو يجهل؟ فإذا قال: إن الله يعلم خصم، وأقام على نفسه الحجة، إذًا الله يعلم كل شيء، حتى ما سيكون.
وإذا قال: لا يعلم، أي: يجهل فقد كفر.
قال: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، ولهذا ذهب جمع غفير إلى تكفير القدرية؛ لأجل هذا الأمر، لأنهم كذبوا بعلم الله -عز وجل- وبقدره، وأنكروا أن الله يعلم، فالسلف ومنهم الصحابة لَمَّا سمعوا بالقدرية قالوا: لو أنفق مثل أحد ذهبًا، لأنَّ الغالب على القدرية هذه شيء مهم، الغالب على القدرية العبادة، لا تظن في القدرية أنهم أناس فجار، وأنهم زناة وسراق! لا، بل هم الحين يريدون أنهم بزعمهم يعظمون الله، وأنهم ينزهون الله عن أنه يُقدر؛ لأنه قد ضاقت عقولهم عن معرفة حكم الله، والغايات الحميدة التي لأجلها قدَّر الله -سبحانه وتعالى-، وضاقت عقولهم، وضاقت أوطانهم عن هذا، فذهبوا إلى التكذيب.
فلذلك قال الصحابة فيهم كلامًا عظيمًا، قالوا: لو أنفقوا لا تغرك عبادتهم، لا يغرك نفقاتهم، لو مثل أحد ذهبًا، وأحد جبل عظيم، تمشي بالسيارة سبعة كيلو، وارتفاع شاهق، لو تحولت هذه الحجارة والجبال إلى ذهب صاف غال جدًا، ثم كسرت هذا الذهب وأنفقته في سبيل الله، ما تركت بابا في الخير إلا أنفقته، لا يقبله الله منك.
من الذي حكم بهذا الحكم؟ الصحابة أعلم الناس بدين الله.
(حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئ، ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وهذا معناه تؤمن بالقدر خيره، وشره) ، لماذا خيره وشره؟
يعني الأمور التي فيها حسن الرزق، الغنى، الولد، المال، الزوجة، البيت المراكب الطيبة، الأموال الطيبة، هذا خير، والشر مثل: المرض، الجوع، الفقر، الذل، السجن، التفرق، فقد القريب إلى آخره، كل هذه الأمور التي قدرها الله -عز وجل- من خير أو من شر، كلها بقدر الله سبحانه وتعالى، كما مر معنا.
قال في الحديث: (وعَنْ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ أنه قالَ لابنِهِ: "يا بُنيّ إنَكَ لَنْ تجِدَ طعمَ الإيمان حتَّى تعلَمَ أنّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخطِئَكَ، وما أخْطأَكَ لَمْ يكُنْ لِيُصيبَكَ، سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ) ، وهذا يسمى مصدر التلقي عند الصحابة، فمصدر التلقي هو الكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة، هذا مصدر التلقي.
ما هو مصدر التلقي عندهم؟ يقول: عقلي، أنا جالس أفكر بعقلي.
ولقد رأيت كثيرًا من الروايات والأفكار الرائجة في بعض الصحف، والأفكار الرائجة عند بعض الكتاب -مع الأسف والله العظيم ضلوا ضلالًا مبينًا-؛ لأنهم ما رجعوا للمصدر الصافي، فالمصدر الصافي هو الكتاب والسنة، وما عليه السلف الصالح، وهو ما عليه الصحابة -رضي الله عنهم-.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: («إنَّ أولَ ما خلق اللهُ القلمُ») هنا بعض أهل الحديث نظروا في هذه الجملة، وجاءت فيها الرواية على وجهين:
«إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ» بالضم، أي: إن أول المخلوقات القلم، يعني: القلم هو أول المخلوقات.
وجاء في بعضها كما جاء هنا: («إنَّ أولَ ما خلق اللهُ القلم») ، يعني: عند أولية خلق الله للقلم، وليس هو أول المخلوقات.
وهذا هو الذي يُرجحه كثير من المحققين، بمعنى أنَّ هناك مخلوقات قبل القلم، ومنها ما جاء في الحديث الآخر، قال: «وعَرْشُهُ علَى الماءِ» لَمَّا أمره أن يكتب، قال: وما اكتب؟ قال: كذا، قال: يعني حديث عبد الله بن عمرو العاص، قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء»، معناها أنَّ العرش مخلوق قبل القلم، وهذا يُبين أنَّ الله -عز وجل- يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.
ولكن ما من مخلوق إلا ومسبوق بعدم ويلحقه زوال، يعني لا يوجد مخلوق من المخلوقات ليس له أول. الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وجميع المخلوقات إنما كانت عدمًا ثم وجدت، فليس هناك مخلوق لا أول له.
قال: يا ربي وما أكتب، قال: أكتب مقادير، يعني هذا القلم ما صفته؟ ما كيفيته؟ يقول الله أعلم، لا أحد يعلم كيفيته لكنه قلم عظيم، كتب به المقادير، وهذا يبين أن الله -سبحانه وتعالى- يخلق ما يشاء، وأنَّ مخلوقات الله عظيمة، وأنَّ هذا القلم له إدراك وفهم، يفهم مراد الله –سبحانه وتعالى-، وأنَّ الله –عز وجل- جعله يكتب جميع المقادير، فنحن نؤمن بذلك ولا نخوض في الكيفيات.
قال: (يا بُنَيَّ سمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «مَنْ ماتَ عَلَى غيْرِ هذا فَلَيْسَ مِنِّي»، وفي روايَةٍ لأحْمَدَ: «إنَّ أَوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ تعالَى القَلَم») ، هل لاحظت الفرق؟ الأول: القلمَ، وهذه الرواية الثانية، ولذلك كان التحقيق أنَّ الرواية الأولى أصح، والله تعالى أعلم.
والمراد عند أولية خلق الله -عز وجل- للقلم أمره بهذا، فالخبر ليس عن الأول على الإطلاق، وإنما الخبر عن أولية خلق الله للقلم، أنه جاءه هذا الأمر من الله -سبحانه وتعالى.
قال: (وفي رِوايَةٍ لابنِ وهْبٍ، قالَ رسولُ اللهُ ﷺ: «فَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ بالقَدَرِ خَيرِهِ وشرِّهِ أحْرَقَهُ اللهُ بالنَّارِ»، فقوله: «ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك») ، هذا نوع من أنواع الإيمان بالقدر، أي أنَّ الإيمان بالقدر يتضمن: الإيمان بكل ما يجري في الكون، ولكن الذي يخصك أنت يا إنسان، ما أصابك لم يكن ليخطئك، يعني مثلًا: واحد أصابه حادث، فيأتي ويقول: لو لم أخرج من بيتي لما أصابني. لا، ما أصابك لم يكن ليخطئك؛ لأن هذا مقدر، وما أخطأك يعني: ما فاتك، مثال: ذهب إلى السوق متأخرًا لساعة، وباع الناس واشتروا، فيقول: فاتتني الصفقة، أخطأتك، ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وهذا بقدر الله -سبحانه وتعالى-.
وهذا من باب المثال، أو من باب ذكر الشيء ببعضه، أي: ببعض معناه، وفي هذا فائدة عظيمة للمؤمن وهي: راحة القلب والنعيم والسرور، وعدم الحزن ﴿لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد:23]، فيرضى المؤمن، يقول: الحمد لله، ويعيش في راحة بالقدر، ويأخذ بالأسباب، وحتى الأسباب المشروعة يجتهد فيها.
ولذلك قال بعض الصحابة: "فما كنا بأشد اجتهادًا منا بعد ذلك"، يعني لَمَّا علموا أنَّ كل شيء بسبب ومقدر، صاروا يقومون بالأسباب أتم قيام، ويتوكلون على الله، وأسباب الدنيوية كذلك، يعني: الأسباب الشرعية مثل: الصلاة، والتوبة، والأعمال الصالحة، والقرآن، والأسباب المباحة في الدنيا أيضًا، فهذا الذي في الجامعة يدرس جيدًا، وهذا الذي في الزراعة يجتهد في ضبط زراعته، ويأخذ بالأسباب، ولا يقول: أنا أَجْدَعُ الحَبَّ ومع السلامة، لا، بل يراقب ويتابع ويراقب الأملاح والحشرات حتى تنجح زراعته، يأخذ بالأسباب، لأنَّ هذا كله من الإيمان بالقدر، فالإيمان بالقدر لا يجعلك متواكلاً.
قال: (وفي الْمُسندِ والسّننِ عنِ ابنِ الدّيلمِيِّ) عبد الله بن فيروز الديلمي، هذا من التابعين، ومن توفيق الله له، أنه لَمَّا جاءته الشبهة قال: (في نَفْسي شَيْءٌ مِنَ القَدَرِ) ، لمن ذهب؟
ذهب للعلماء الراسخين في العلم، وهكذا نقول لكل الشباب والشابات وكل المسلمين: إذا جاءتك الشبهة فلا تذهب لأهل الشبه، ولا تذهب لأهل البدع، ولا تذهب لأهل الضلالات، ولا تذهب للجماعات المنحرفة. بل إذا جاءتك الشبهة اذهب إلى أهل العلم الراسخين، وإذا لم تجدهم اصبر حتى تلقاهم، سل وابحث عنهم، حتى لو سافرت لهم، فافعل حتى تجدهم وتزيل الشبه، وهذا ليس بكثير؛ لأنَّ هذا دين.
قال: (أتَيْتُ أُبيَّ بنَ كعْبٍ فقلتُ: في نَفْسي شَيْءٌ مِنَ القَدَرِ، فَحدِّثني بشيءٍ لعلَّ اللهُ يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبي. فقال: لوْ أنفَقتَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا) يؤكد الصحابة على هذا، لأنَّ من أنكر القدر أو مراتب القدر كفر؛ لأنه لا ترد الأعمال إلا على الكافر، فالذي لا تقبل نفقاته هو الكافر، قال: (وتعلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخطِئكَ، وما أخْطـأَكَ لَمْ يَكُـنْ لِيُصيبكَ، وَلوْ مِتَّ علَى غيرِ هذا لكنتَ مِنْ أهلِ النَّارِ.
قالَ: فأتيتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ، وحُذَيفةَ بنَ اليمانِ، وزيدَ بنَ ثابتٍ) .
ذهب لِكَمْ؟ أربعة، ذهب لأبي بن كعب، ولعبد الله بن مسعود، ولحذيفة بن اليمان، ولزيد بن ثابت، طبعًا هذا يدل على أن مسألة القدر موجودة في النفوس، ولكن بدعة القول بالقدر ما خرجت بعد، وهذا إشكال جيد، والجواب: أن بدعة القدر ظهرت في الستينات، ولكن هذا التساؤل كان موجودًا قبل الإسلام، وتكلموا به أحيانًا، والدليل عليه أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ما فرحت بمجلس كان فيه رسول الله ﷺ ولم أحضره إلا بمجلس واحد، وهو أنَّ بعضًا من الصحابة كانوا يتدارؤنَ في القدر، هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية، فخرج عليهم رسول الله ﷺ كأنما فُقِئ في وجهه حب الرمان من الغضب، وقال: «أبهذا أمرتم؟ وإنَّما نزَلَ كتابُ اللهِ -عزَّ وجَلَّ- يُصدِّقُ بعضُه بعضًا، فلا تُكذِّبوا بعضَه ببعضٍ، فما علِمتُم منه فقولوه، وما جهِلتُم فكِلُوه إلى عالِمِه»، وهذا الحديث في السنن، وهو حديث ثابت حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، فهذا يبين أن مثل هذه الأمور تجري في النفوس، ويتكلم فيها بعض الناس، وما كان يجرؤ أحد منهم أن يقول: أنا أُنْكِرُ العلم، أو أنكر أن الله يعلم الأمور، أو ما كانت هذه الآية تدل على كذا، وهذه الآية تدل على كذا، فكان يتدارؤن يعني: يدرأ بعضهم بعضًا، والدرء هو: الدفع.
وبالجملة كفرة النصارى، يوجد عندهم من ينكر القدر، ويوجد عندهم من يقول بإنكار القدر، ومن يغلو في القدر الجبرية ومن ينكر القدر، كذلك كفرة اليهود يوجد عندهم هذا وهذا، وكذلك الجاهليون المشركون يوجد عندهم إثبات القدر، ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ [الأنعام:148]، ولكنهم يحتجون به على تكذيب الرسل، ويصفهم ابن تيمية في التدميرية فيقول: المشركية يقولون بهذا، فيحتجون به على تكذيب الرسل.
قال الشيخ في المسائل:
(فِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: بَيَانُ فَرْضِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ
اَلثَّانِيَةُ: بَيَانُ كَيْفَيَّة الْإِيمَانِ.
اَلثَّالِثَةُ: إِحْبَاطُ عَمَلِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ.
اَلرَّابِعَةُ: الْإِخْبَارُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَجِدُ طَعْمَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ.
الْخَامِسَةُ: ذِكْرُ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اَللَّهُ.
اَلسَّادِسَةُ: أَنَّهُ جَرَى بِالْمَقَادِيرِ فِي تِلْكَ اَلسَّاعَةِ إِلَى قِيَامِ اَلسَّاعَةِ.
اَلسَّابِعَةُ: بَرَاءَتُهُ ﷺ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ.
اَلثَّامِنَةُ: عَادَةُ اَلسَّلَفِ فِي إِزَالَةِ اَلشُّبْهَةِ بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ) .
فالشيخ جعلها مسألة؛ لينتبه لها طالب العلم، وتعني: سؤال أهل العلم الراسخين حتى تُزيل الشبهة، ولكن ننصحك أن تبحث عن الشبهة، ولا تقرأ في كتب أهل البدع والشبهات، «مَن سَمِعَ مِن الدَّجَّالِ فلينأ مِنهُ» ، نعم، وحتى سماع المناظرات لا ينبغي، لأن أمرها خطير، وحتى دخول مواقع ولا البحث عن المواقع التي فيها الشبهات.
قال:
قال: (اَلتَّاسِعَةُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجَابُوهُ بِمَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَسَبُوا الْكَلَامَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ ﷺ فَقَطْ) ، كيف؟ يعني: إذا سمعت قال الله، قال رسوله ﷺ، فلا تقل: لم أقتنع! انتبه، إذا سمعت قال الله، قال الرسول ﷺ فيعتبر هذا إزالة للشبهة، وعليك أن تسلم، حتى لو لم يسع عقلك ذلك، والقناعة العقلية اتركها بعيدًا حاليًا، فأحيانًا يضيق العقل عن بعض الأمور، فإذًا العيب في عقلك، وانظر إلى الصحابة ترى أن كلا منهم يقول: قال الرسول ﷺ، سمعت الرسول ﷺ، وهذا عبادة ينصح ابنه فيقول: يا بني كذا وكذا، ثم يقول: سمعت رسول الله ﷺ، وابن عمر لماء جاءه رجل وقال: قوم في العراق يقولون كذا، قال: إني سمعت أبي يحدث عن رسول الله ويقول: («الإيمان أنْ تُؤْمِنَ باللهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ») .
إذًا العلماء أجابوه بما يزيل عنه الشبه، فنسبوا الكلام إلى الرسول ﷺ، وهذا يكفي.
إذا سمعت قال الله، قال الرسول ﷺ فسلم، والقناعة العقلية إذا جاءت فالحمد لله، وإن لم تأت فلا تتعدَّ على مقام الرسول ﷺ، ولا ترد خبره، ولا الخبر عن الله -عز وجل-.
{أحسن الله إليكم يا شيخ، في ملاحظة عند الصحابة الأربعة عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، أقصد في مسألة ذكر الصدقة، أنهم جميعًا قالوا: «لوْ كانَ لأَحَدِهِم مثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ، حتَّى يُؤمِنَ بالقَدَرِ»}
لأن هذا يبين أن القائلين بنفي القدر يظهرون العبادة والتصدق، فيقول: لا يغرنك هذا الشيء، يعني: غالب البدع ما جاءت صريحة، الخوارج كانوا متعبدين، والشيعة كانوا يظهرون محبة علي -رضي الله عنه-، والقدرية يظهرون محبة الدين، وتنزيه الله -عز وجل- أن يخلق المعاصي ويعذب عليها، فهذا كله ناتج عن تدين زائف، وغلو في الدين، وحتى الجهمية هؤلاء، أنه لهم نوع متمسك، أي: عندهم شبهة، ولهذا ضلوا ضلالًا مبينًا، وصاروا مجوس هذه الأمة، ولكن الجهمية ما عندهم أي شيء يتمسكوا به من النصوص، في نفي الأسماء والصفات.
{لماذا لم يذكر أحد نهم الصلاة أو الصيام؟ أو لماذا ذكروا الصدقة بالتحديد؟}
يظهر لي -والله أعلم- أنَّ الشيء الذي يتميز به الإنسان، ويظهر أنه يتقرب به إلى الله بشيء عظيم، هي الصدقة، فالصلاة كلهم يصلي، وكلهم يتشابهون في الصلاة، حتى في قيام الليل يتشابهون، ولكن يمكن أن لا يتميز هذا إلا بالصدقة العظيمة، ولعل هذا هو السبب والله أعلم.
وأيضًا السلف قد يذكرون أمثلة، ولا يقصدون الحصر، فربما هذا من باب المثال فقط.
{علمنا يا شيخ حديث التسبيح عقب الصلاة الذي قيل فيه لرسول الله ﷺ سبقنا أهل الدثور بالأجور}.
ضرب مثال بماذا؟
{بالصدقة}.
الشيخ: نعم.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابٌ مَا جَاءَ فِي الْمُصَوِّرِينَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلِيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً» أَخْرَجَاهُ.
وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللهِ».
وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ».
وَلَهُمَا عَنْهُ مَرْفُوعًا: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ».
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟ «أَنْ لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ») }.
قال الشيخ -رحمه الله تعالى-: (بَابٌ مَا جَاءَ فِي الْمُصَوِّرِينَ) ، ورد في الشرع المطهر وعيد شديد في حكم المصورين، فما هو التصوير؟ ولماذا ورد هذا الوعيد الشديد فيه؟
معلوم أنَّه قبل الإسلام كانت الوثنية والشركيات في عبادة الأصنام، وصور الصالحين، وصور من يغلون فيهم، مثل: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، من قوم نوح إلى قريش وإلى العرب، وكانت لهم صور وتماثيل، ينسخونها وينشرونها ويعبدونها.
لماذا جاء الإسلام بالتحذير من هذا؟
إذا علمنا ما كانت عليه الجاهلية من أوثان، وانظر الآن إلى من يعبد الأصنام في هذه الدنيا، حيث إن هناك أقوام لا زالوا يعبدون التماثيل والأصنام، وهناك من يعبد بوذا، وهناك من يعبد المسيح ابن مريم، ويضعون التصاوير له، ويضعون صورة لمريم، ويضعون صورة لروح القدس، وهناك من يعبد غيرهم، فيضعون لهم التماثيل والصور.
فالتصوير لا يزال فتنة عظيمة في الأرض، وهو التخليق والتكوين والتشكيل للصورة، والله -عز وجل- من أسمائه الحسنى المصور، والله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى.
فماذا يحدث في بعض النفوس البشرية؟ يحدث أن هناك من يكون في نفسه كِبرٌ وغرورٌ، فتراه يقول: أنا أفعل مثلما يفعل الله، وأخلق وأصور كما يخلق الله ويصور. فإذا وجد هذا عرفنا لماذا جاء الوعيد الشديد في التصوير.
ثانيا: هناك من ضلَّ بسبب هذه الصور، والناس عقولهم متفاوتة، بل العقل الواحد والشخص الواحد في يوم من الأيام قد يقول: أنا مقتنع وأنا كذا، وفي مدة مديدة يروح ويتعلق بالصور ويقدسها وربما يسجد لها، ووقع هذا ممن ينتسب للإسلام أيضًا، من المتصوفة والخرافيين وعباد الأضرحة، وقع منهم هذا الشيء، إذًا هذه العلة الثانية.
الثالثة: أنَّ الملائكة وهم خلق عظيم من خلق الله -عز وجل- ينزلون بالرحمات والخيرات، فيمتنعون من دخول بيت فيه صورة، كما أخبر الرسول ﷺ.
إذًا الله -عز وجل- هو المصور، وهو الذي يصورنا في الأرحام كيف يشاء، ومن جاء ينازع الله -عز وجل- في هذا بعمله، فيكون حينئذ من أظلم الناس؛ لتعديه على الخالق سبحانه، ومنازعته له، وادعائه أنه يصنع مثلما يصنع الله، ويصور كما يصور الله.
أيضًا فيه أمر رابع وهو: المضاهاة، المضاهاة كما جاء في الحديث: «يُضَاهُونَ بخَلْقِ اللَّهِ» ، فهذه أيضًا علة أخرى تدل على تحريم التصوير.
إذًا قد يكون المصور في نفسه هذا المعنى قام، وهو يقول: أنا أفعل مثلما يفعل الله، أنا أستطيع أو أقدر أن أفعل أحسن مما خلق الله، كذا يظن بعض الناس.
ولهذا انظر لهذا الحديث، قال: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلِيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً») هل يقدرون؟ ما يقدرون، وهذا يُبين لك أنَّ هذا الشيء من كبائر الذنوب، يعني: لا أحد أظلم من هذا.
الذرة الواحدة من النمل الصغير، النمل الصغير هذا لا يستطيعون أن يخلقوا مثله، ولا ذبابة، هذا الذرة فيها الشم، وفيها المشي، وعندها عقل معين تدرك به مصالحها، هل يستطيع هؤلاء أن يفعلوا ذلك؟
الجواب لا، ولهذا جاء الوعيد الشديد لمن زعم مثل هذا الزعم، وظن مثل هذا الظن، وعائشة -رضي الله عنها-، قال ﷺ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللهِ» ، وفي لفظ أنهم يعذبون، «يقال لهم أحيوا ما خلقتم»، إذًا هم جاءهم هذا الوعيد الشديد؛ لأنهم نووا وقصدوا المضاهاة، وقام في قلوبهم هذا المعنى.
ولهذا في الحديث الثالث قال: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ» ، وهذا وعيد شديد، وكلام الرسول ﷺ: «يُجعلُ له بكلِّ صورةٍ صوَّرها نفسٌ يُعذَّبُ بها في جهنمَ»، فهذا يبين لك أن التصوير من كبائر الذنوب، وأن أهل الكفر والشرك يفعلون ذلك مُضاهاة لخلق الله، وزعمًا منهم أنهم يخلقون مثلما يخلق الله -عز وجل-.
ولذلك أجمع علماء الإسلام على تحريم التصوير عملاً بقول النبي ﷺ الصريح، ولكن اختلفوا في المراد بالتصوير؟ هل تدخل فيه الصور الفوتوغرافية؟ هل يدخل فيه التصوير الآن للجوالات والتصوير بالكاميرات، وهذه تنقل الصورة كما هي.
هذا فيه خلاف بين أهل العلم، ولكن بالإجماع أنه إذا كان هناك حاجة له وضرورة ومصلحة عامة، مثل: تصوير المجرمين حتى يعرفوا، وتصوير البطاقات الشخصية للهوية، وتصوير الرخص والجوازات حتى يعرف الأشخاص ولا يحدث الإجرام، وقد قال الله -عز وجل-: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام:119].
ولكن يبقى أننا نعرف أنَّ هذا لا يزال من وسائل التعظيم والغلو، ولهذا قال عليٌّ لأبي الهياج الأسدي: «أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ أَلَّا تَدَعَ صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا؛ إِلَّا سَوَّيْتَهُ»، ولعلك تلحظ الجمع بين الأمرين، وهو يدل على أنَّ هذه وسيلة من وسائل الشرك.
إذًا وضع الصور -خصوصًا صور الصالحين، والمعظمين، والعلماء، والعباد-، ما الذي يفضي إليه تعليقها؟ تعظيمهم ولو بعد مدة، كما في قوم نوح عبدوهم، أي: الجيل الثاني، فلا تظن أن هذا الجيل قد يأتي بعد مئة سنة أو خمسين سنة فيعبدونهم، فهذه مسؤوليتك أنت، إنك لا تجعل هذه الصور وتعظمهم هذا التعظيم؛ لأن الشيطان يتوصل إلى القلوب عن طريق هؤلاء.
أيضًا هي تمنع دخول الملائكة، قال ﷺ: «لا تدخُلُ الملائِكَةُ بيتًا فيهِ كلبٌ ولا صورَةُ» ، ولكن يُستثنى الشيء الممتهن، كما جاء في الحديث: «إلا رقمًا في ثوب» ، أي ما كان ممتهنا، قالت عائشة: "فجعلته وسادتين".
أيضًا لعب الأطفال، العهن، ولكن بشرط أن لا تكون مثلما يكون الإنسان، فهذه ترخص فيها، وكذلك ما احتاج المؤمن إليه، وما احتاج المسلمون إليه، وما كان من مصلحة البلد، من حفظ صور البطاقات حتى يعرفوا، وحتى لا يصير فيه دخول للمجرمين، وحتى لا يصير في تسلل لأعداء الإسلام، فهذه كلها مصالح شرعية.
وكذلك ما يتعلق وما يكون فيه تعليم لبعض الأمور في الطب ونحوه، وكذلك ما يحتاجه أهل الجيش، يحتاجون إلى معرفة أعدائهم، وهكذا في كل ما في مصلحة، وليس مقصودًا منه ما جاء في هذا الحديث، فهذا لا يضر -بإذن الله تعالى-.
نسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
قال الشيخ: (فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: التَّغْلِيظُ الشَّدِيدُ فِي المُصَوِّرِينَ.
الثَّانِيَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى العِلَّةِ وَهُوَ تَرْكُ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ ﷺ: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي».
الثَّالِثَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَعَجْزِهِمْ لِقَوْلِهِ ﷺ: «فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ شَعِيرَةً».
الرَّابِعَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا.
الخَامِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ بِعَدَدِ كِلِّ صُورَةٍ نَفْسًا يُعَذَّبُ بِهَا المُصَوِّرُ فِي جَهَنَّمَ.
السَّادِسَةُ: أَنَّهُ يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرَّوحَ.
السَّابِعَةُ: الأَمْرُ بِطَمْسِهَا إِذَا وُجِدَتْ) .
وهذا يدل على أنَّ ما ليس فيه روح لا يدخل في هذا الوعيد، مثل: الجبل، والشمس، والماء، والأنهار، فهذا لا يدخل فيه الوعيد.
{الرأس يا شيخ}
الرسم باليد يشدد فيه، وكذلك ما كان له ظل أشد، ولذلك النووي -رحمه الله- حكى الإجماع في هذا، فعلى كل واحد أن يتقي هذه الأمور إلا للمصلحة الراجحة، أو المصلحة المحققة، التي فيها مصلحة وضرورة للبلد، فلا بأس به إن شاء الله.
نسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله عنا خير الجزاء.
والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.