{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلًا وسهلاً بكم طلبة العلم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) ، نشرح فيه متن كتاب (التوحيد) لإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضية الشيخ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، نرحب وإياكم بفضية الشيخ}.
أهلاً وسهلًا بك فضية الشيخ.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم وإياهم العلم النافع والعمل الصالح.
وقفنا عند قوله -رحمه الله-: {(بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ) }.
تفضل، بارك الله فيك.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ: عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ، فَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ الْقَائِلَ رَجُلٌ عَابِدٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ") }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أمَّا بعد؛ فحياكم الله أيها الإخوة جميعًا، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لذِكره وشكرهِ وحسن عبادته، وأن يستعملنا في طاعته ومرضاته.
هذا الباب الذي نحن الآن نقرأه (بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ) ، وهذا الباب من كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد للشيخ الإمام المجدد العلامة شيخ الإسلام/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله وغفر له-.
هذا الباب جاء في سياق أبوابٍ في تعظيم الله -سبحانه وتعالى-، وبها ختم المصنف كتابه، فالأبواب الأخيرة، منها الباب الذي قبله (باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه) ، وهذا الباب، وكذلك (بابٌ لا يستشفع بالله على خلقه) ، ثم الباب الذي يليه، وهو أيضًا في حماية النبي ﷺ حمى التوحيد، ثم في قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر:67]، وبذلك ختم الشيخ كتاب التوحيد.
فالمتأمل يجد أنَّ الشيخ رَتَّبَ هذا الكتاب ترتيبًا فائقًا حسنًا جميلًا، فالقارئ لهذا يعرف عظمة الله -سبحانه وتعالى-، ويعرف أنه في أمرٍ عظيم إذا ما قام بالتوحيد، وأنه إذا أخلَّ بالتوحيد فهو على خطرٍ عظيم.
قال: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ) ، يعني حُكم (الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ) والتحذير منه؛ لأنَّ مقصود الشيخ هنا: هو ما يكثر من بعض الناس من الإساءة في هذا المقام، والجرأة على الله -سبحانه وتعالى-، وهذا نقصٌ في التوحيد، ونقصُ في الإيمان، وجرأةٌ على الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنَّ الإقسام هو الحلف واليمين، والحالف إذا حلف يحلف بالله، ولكن ليس هذا المراد، وإنما المراد أنه يحلف على الله، أنَّ الله يفعل كذا، أو لا يفعل كذا، وهذا فيه جرأة على أفعال الرب -سبحانه وتعالى-.
فمن أنت أيها المخلوق كي تُلزم الخالق بعقلك وتحلف وتقول: الله سيفعل كذا، أو الله لن يفعل كذا، وتحلف على هذا؟! هذا فيه جرأة، وهذا فيه خطورة عظيمة على التوحيد، ولذلك جاء في هذا الوعيد الشديد، وهذا له صور سيأتي شرحها.
إذًا معنى الإقسام: هو القسم المعروف، أو اليمين المعروف، أو الحلف.
(عَلَى اللهِ) يعني: أنَّ الله يفعل أو لا يفعل، يعني المقسم من البشر يَجزم بأن الله سيفعل كذا أو لا يفعل كذا، كما سيأتي في الحديث، فالإقسام على الله فيه جرأة، وفيه خطورة عظيمة.
ولهذا فالذي عظّم الله -سبحانه وتعالى- وخاف منه ورجاه، وعظمه كما يليق بجلاله، لا يمكن أن يفعل هذا الفعل، فالذي يعظم الله -سبحانه وتعالى-، ويخافه، ويجله، ويهابه، فما يمكن أن يتجرأ على هذه الكلمة أصلًا، ولهذا أورد الشيخ هذا الباب في كتاب التوحيد.
قال: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ: عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البجلي –رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ رَجُلٌ») ، هذا -والله أعلم- فيمن كان قبلنا من الأمم السالفة، وهذا أمرٌ وقع، وهذا خبر من النبي ﷺ عن هذين الرجلين، الآن واحد منهما في النار، والثاني في الجنة بسبب هذه الكلمة، أي بسبب: "الإقسام على الله".
(«قَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ»، وفي بعض الروايات: «ولا يدخله الجنة»، «فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لفلان وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ الْقَائِلَ رَجُلٌ عَابِدٌ) ، الذي حلف هذا الحلف رجلٌ عابد، ما نفعته عبادته، ولا شفعت له عبادته، بسبب هذه الجرأة على الله -سبحانه وتعالى-.
فالشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: احذر يا مسلم، احذري أيتها المسلمة، أن تقعي أو أن يقع المسلم في هذا، فامسك لسانك، واضبط غيرتك، واضبط عاطفتك الدينية، ولا تحملنك الجرأة أو الثقة بالنفس أو الغرور أو الكِبر على مثل هذه الكلمات البشعة.
«قَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ» في بعض روايات هذا الحديث أنَّ رجلين من بني إسرائيل كانا متآخين، وكان أحدهما عابدًا، وكان الآخر يقيم على المعاصي، فكلما أراد نصحه، ردَّ العاصي، وقال: أبعثت عليّ رقيبًا؟، دعني بيني وبين ربي، يعني اتركني ولا تنكر علي، وهذا خطأ منه لا شك، فغضب العابد، وقال: «وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لك»، أو قال: «والله لا يدخلك الله الجنة».
إذًا هذا فيه بيان سبب هذه اليمين الخطيرة التي أوبقت دنياه وآخرته، السبب هو المغاضبة والمجادلة، وأنه ما صبر على دعوته، وهذا فيه تنبيه لنا ولجميع المسلمين، عندما تدعو إلى سبيل الله -عز وجل- قيد دعوتك، وقيد ألفاظك، وقيد أمرك ونهيك، وقيد ما يصدر منك بالشرع المطهر، فلا تزد ولا تنقص، لا تزد كما زاد هذا العابد، فتفتري على الله وتتألى عليه، ولا تنقص فتترك الأمر والنهي، وتترك النصيحة.
قال: «وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ» انتهى الأمر هنا، ومات الرجلان، ولقيا الله -عز وجل-، وأخبر النبي ﷺ وهو الصادق المصدوق بما جرى لهما عند الله -سبحانه وتعالى-.
فالله -عز وجل- غضب على هذا العابد غضبًا شديدًا، ولهذا قال: «مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ» يعني هذا ارتكب جرمًا كبيرًا، ويتألى يعني: يُقسم ويحلف، وفي اللغة العربية الألية هي اليمين، والذي يتألى يعني: يحلف ويُقسم.
«مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ» يعني: يُقسم علي، يعني يُلزمني بما يراه هو وهو مخلوق، يلزم الخالق ويقسم، يعني: جمع بين أمرين:
• أولًا: يُلزم الخالق بهواه وعقله وما يراه هو، وهو مخلوق لا يحيط بالأمور، ولا يعلم الخفايا، ولا يعلم ما في القلوب، فيلزم الله -عز وجل- بشيء.
• ثانيًا: يُقسم على ذلك، ولا شك أنَّ هذا جرمٌ عظيم، وكبيرة من كبائر الذنوب.
«مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟» يعني: هذا فعل الرب ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران:135]، كيف تقول أنت الله لا يغفر أو يغفر على حسب هواك؟!
طبعًا هنا يأتي سؤال: لو قلت أنت أيها المسلم: أقسم بالله أنَّ من أشرك بالله، فإن الله لا يغفر له، فهذا حق، وليس تأليًا على الله، لأنَّ هذا خبر عمَّا قاله الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:48].
كذلك لو أقسم المسلم فقال: والله إنَّ الكافرين ملعونون، وإنَّ الكافرين في نار جهنم، ما حكم هذا القسم؟
الجواب: هذا قسمٌ حق، أقسم بقسمٍ حق، لماذا؟ لأنه لا يريد إلزام الله -سبحانه وتعالى- بما في نفسه، ولكنه يخبر عن عقيدته، وعمَّا يُؤمن به من كلام ربه -جلّ وعلا-، ومن كتاب الله، ومن سنة رسوله ﷺ.
لو قال المؤمن في قسمه: والله إن النبي ﷺ هو أول من يستفتح باب الجنة، فيُقسم عليه، أو والله إن النبي ﷺ هو الشافع المشفع في المحشر، أو والله إنَّ حوض النبي ﷺ يوم القيامة كذا وكذا، مما جاء في الأخبار الصحيحة، هذا حق، أو يقول: والله لن يرد الحوض من بدل وأحدث في الدين، هذا حق، وليس فيه شيئًا محظورا.
إنما المحظور: أن تأتي لشخص حي وموجود قد يتوب الله عليه، فتقول له: والله لن ترد أنت حوض النبي ﷺ، وتجزم على ذلك جزمًا. من يدريك لعله يندم ويتوب!
فالدعوة إلى الله ليست هكذا، وهداية الناس ليست هكذا، والنصيحة أيضًا ليست هكذا.
فالنصيحة لا تكون بمثل هذه الطريقة، أن تأتي لرجل وتقول له: والله -أنت أيها الإنسان- ستكون في نار جهنم، ما يدريك أنه لن يتوب، قد يتوب ويغفر الله له.
أو يقول مثلًا: والله هذا الرجل لن يوفقه الله، أو لن يهديه الله، كيف تُقسم على الله بهذا، وهذا الأمور هي من أفعال الرب، فهو الذي يهدي ويضل، وهو الذي يوفق ويخذل، وهو الذي يفتح أبواب الرزق لمن يشاء، وهو الذي يغفر الذنوب لمن يشاء، وهو الذي يرفع ويخفض.
فما تأتي أنت أيها الإنسان وتُقسم على الله أنَّ فلانًا سيحصل له كذا، والله سيحصل كذا، فهذا من باب التعيين، وهو أمر.
فهذا الرجل العابد قال له هذا الرجل: «والله لا يغفر الله لك» أو «لا يدخلك الله الجنة»، فعينه وحدده.
لو قال قائل: أليس الكفار في النار؟ وهذا مثلًا إذا كان كافرًا كان من أهل النار!
إذا قلنا: فلان في النار، نقول: هذا فيمن مات على الكفر، أو فيمن علمنا يقينًا أنه قد مات على الكفر، فلا بأس، ولكن من خفي علينا أمره، فنقول: الكفار في النار ونسكت.
كذلك نقول فمن حكم الله -عز وجل- عليهم بالنار، مثل: فرعون، أو أبو جهل، أو صناديد الكفر الذين قُتلوا في بدر، وهكذا في كل مشرك مات على الشرك، وكل كافر مات على الكفر فهو في النار لا شك في ذلك ولا ريب.
لكن مادام أنَّ الرجل حي، فنقول: إن مِتَّ على الكفر فأنت في النار، أو نقول مثلًا: كل كافرٍ في النار، فلا تموتن على الكفر، وأما أن نقول: أنت يا فلان في النار، فهذا شيء غيبي؛ لأنه قد يتوب، وكم تاب من صناديد الكفر، وصاروا من أقوى الناس إيمانًا؟
ألا يعلم من يفعل ذلك أنَّ من أشد الناس على الصحابة في أيام مكة قبل الهجرة كان هو عمر بن الخطاب، حيث كان شديدًا في شركه، فدعا له الرسول ﷺ بالهداية، فصار مسلمًا، وصار من أحسن الناس إسلامًا وإيمانًا -رضي الله عنه وأرضاه-.
فلا تستبعد رحمة الله على أحد، ولست أنت من يوزع الرحمة أو يوزع الهداية، ولكن أنت قد يغلب على ظنك أن هذا الرجل كذا، فإن غلب على ظنك فلا تتكلم بالكلام الذي يظهر فيه التألي على الله، والقطع على الله، والجرأة على الله؛ لأن هذا من الأمور الخطيرة جدًا.
«مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟»، طبعًا إذا مات فلان من الناس مثلًا على الشرك، فإن الله أخبر -سبحانه تعالى- أنه لا يغفر لمن أشرك، ولكن نحن الآن نتكلم عن المعاصي التي دون الشرك، ونتكلم عمن كان حيًا وقد يتوب من شركه، أو قد يتوب من كفره، أو قد يتوب من تركه للصلاة، وهكذا.
قال: «فإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لفلان»، هذا يُبين لك أنَّ فضل الله لا يرده أحد، وأن الله -سبحانه تعالى- ذو الفضل العظيم.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب جعل هذه المسألة في المسائل، فقال: الخامسة، قال: (أنَّ الرَّجُلَ قدْ يُغفَرُ لَهُ بسببٍ هوَ مِنْ أكرَهِ الأمورِ إليهِ) .
انظر هذا الرجل: لو نفكر الآن قليلًا، ونتخيل أن الرجلين أمامنا: واحد عابد والآخر عاصٍ، العابد يقول للعاصي: أنت كذا ووالله لا يغفر الله لك! ماذا تتوقع في قلب العاصي؟
انكسار، وتحسر، وضعف أورثه هذا الشيء، يعني في الظاهر أنه صار ذليلا أمام هذا المتكبر، ولو كان هذا عابد، صار يرى نفسه هذا الشيء.
فصار هذا منكسرًا متواضعًا، فأورثه ذلك رجوعاً إلى الله، فصار هذا من أسباب توبته وعفو الله عنه وغفران الله له، شيء كريه له إن واحد يتسلط عليه خاصة إذا كان هذا عابد، يتسلط عليه بهذا الكلمات الشنيعة الشديدة، فحصل له انكسار، وحصل له ضعف، فأوجب له ذلك الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى فغفر الله له، «فإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ».
فهذا فيه فائدة لنا: أن النار والجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، انظر كيف صارت الجنة قريبة من هذا العاصي بذلك الانكسار، والرجوع إلى الله، والتوبة، والندم، وإصلاح الحال.
وكيف صارت النار قريبة إلى العابد مع كثرة عبادته؛ حتى جاء في بعض الروايات: أن كان يعبد الله -عز وجل- ستين سنة، ومع ذلك صارت النار أقرب له، يجمع بين الخوف والرجاء، فالمؤمن يجمع بين الخوف والرجاء، ما ييأس من رحمة الله، ولا يقنط منها، ولا أيضًا يأمن مكر الله عز وجل، ويسرف على نفسه في رؤية النفس والغرور... ونحو ذلك.
كذلك مما يدخل في هذا: أن بعض الناس قد يقول: فلان لا يمكن أن يهديه الله أبدًا، فلان لا يمكن أن يهديه الله، هذا خطير أيضًا، ويُلحق بما سبق؛ لأن الهداية بيد الله ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير28-29]، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾ [الزمر:22]، هو الذي يشرح صدره من شاء، ويقذف في قلبه الهداية ونور الإيمان.
أيضًا بعض الناس يقول: فلان ما يستحق، ما يستاهل الذي جاءه، والله فلان يا أخي تراه طيبًا وكذا وهو ما يستاهل إنه يصير فيه كذا وكذا.
نقول: لا يا أخي، هذا كلمات خطيرة فانتبه، ولكن نحن بحثنا في هذا الباب -في الإقسام على الله- وهذا أخطر، يعني فيه كلمات كثيرة تدرج على ألسنة الناس، يجب عليهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يضبطوا ألسنتهم، وأن لا يتحكموا على الله -سبحانه وتعالى-، وألا يتحجروا عليه، وألا يرجموا بالغيب.
كم واحد من النصارى أسلم؟ كثير، كم واحد من اليهود أسلم؟ وإن كان قليل، لكن يوجد من يسلم. بل المبتدعة نص العلماء بناءً على الأحاديث الواردة، قال النبي ﷺ في الخوارج: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ» أي يدخلونه ويمرقون منه، «كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، السهم يجي ويصيد الرمية ويطلع، السهم نفسه يطلع، فهم يدخلون في الإسلام، ثم يمرقون من الإسلام.
اختلف العلماء هل هم كفار ولا لا؟
على قولين:
• الجمهور: ليسوا بكفار.
• بعض أهل العلم وأهل الحديث يقولون: إنهم كفار.
الشاهد قال: «ثُمَّ لا يَعُودُونَ إليه آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ»، هذا في الصحيح الحديث عن النبي ﷺ، فاستنبط أهل العلم أن التوبة محجوبة عن أصحاب البدع، ومعنى قوله: محجوبة، ليس معناها أنه لا يمكن أن يتوب، ولكن معناها أنها عقوبة لهم لا يوفقون للتوبة، كما قال الإمام أحمد: لا يوفقون للتوبة.
هل معنى هذا أننا نأتي نقول لصاحب البدعة ونقول: والله لا يوفقك الله للتوبة؟
إذا قلنا هذا فقد دخلنا في المحظور، (بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ) وكما قال هذا الرجل العابد لذلك العاصي.
لكن نقول: نخشى عليك ألا توفق للتوبة؟ لماذا نخشى عليك؟ لأن الرسول ﷺ قال: «ثُمَّ لا يَعُودُونَ إليه آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ»، فهذا لا حرج فيه، وهذا هو أغلب أهل البدع على هذا.
لكن هل هناك من أهل البدع من تاب؟
نعم، تاب الكثير منهم، أناس على بدع الرافضة تابوا، وأناس على بدع الصوفية تابوا، وأناس على بدع الجهمية تابوا، قديمًا وحديثًا، فباب التوبة مفتوح والحمد لله رب العالمين.
الواجب على الإنسان: أن يحذر من التألي على الله، والإقسام على الله -سبحانه وتعالى.
وفي الحديث: «إنَّ الرَّجُل ليتَكلَّم بالكلمة من سخط الله ما يَتبيَّن ما فيها»، يعني ما يتثبت، «يكْتُبُ اللَّه لَهُ بهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يلْقَاهُ».
فكل مسلم، وكل طالب علم، وكل داع إلى الله، وكل آمر بالمعروف، وكل ناهٍ عن المنكر، وكل ناصح، وكل أب وأم؛ على الجميع أن يُقيدوا غيرتهم بالشرع المطهر، وأن يتكلموا ببصيرة، ويعملوا ببصيرة، ولا يغلطوا هذه الأغلاط الشنيعة، هذا يعني ما يتعلق بهذا.
لكن بقي معنا الإقسام على الله الجائز.
هنا صورة ذكرها العلماء، ومن باب الفائدة نذكرها؛ لأنها وردت في الأحاديث، فعن أنس بن مالك بن النضر -رضي الله عنه- وكان صحابيا واستشهد في سبيل الله، قال: «والله لا تُكسر ثَنيَّةُ الرُّبَيِّعِ»، الرُّبَيِّعِ امرأة من الأنصار أو من الصحابيات، حصل بينها وبين أخرى مشاجرة فكسرت الرُّبَيِّعِ ثنية امرأة، فجاء أهل تلك المرأة يطالبون بالقصاص، فطلب منهم النبي ﷺ الدية والصلح، فأبوا إلا أن تُكسر ثنية الرُّبَيِّعِ، فقال أنس: "والله لا تُكسر ثَنيَّةُ الرُّبَيِّعِ، فقال: «يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» السنُ بالسن، «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ»، فقال: والله لا تُكسر ثَنيَّةُ الرُّبَيِّعِ".
في هذه الأثناء ألقى الله -عز وجل- في قلوب أهل الحق العفو والرحمة، فتنازلوا إلى الدية أو تنازلوا عن حقهم، فقال النبي ﷺ عند ذلك: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ الله عز وجل»، وهذا دليل على حسن الظن بالله، والثقة بوعده وفضله، فكأنه يدعو ربه -عز وجل- حبًا لعمتهِ أو قريبتهِ، حبًا لها حتى لا يقع معها هذا الشيء، ولا يحصل لها كسر الثنية، فوثق بالله، فدعا الله -عز وجل-، وبيّن ما في قلبه من هذه الثقة وحسن الظن.
وأيضًا جاء في الحديث الآخر: «رُبَّ أشعثَ أغبر ذي طمرين، مدفوعٍ بالأبوابِ لو أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّه الله عز وجل»، وهذا أيضًا من باب حُسن الظن بالله والثقة بفضِله.
ومن هذا أنَّ أحد الصحابة أيضًا لما أرادوا فتح "تُستر" وكان من فارس، فأقسم وقال: "والله لتفتحن"، صحابي جليل، ثم قاتل واستشهد في سبيل الله، فهذا الإقسام الذي أقسمه ليس هو من باب التحجر على الله، وليس هو فرض الرأي على الله، أو فرض الأمر.. لا، ولكن خو حسن ظنٍ بفضل الله، ورجاء الله.
ولهذا ليس كل أحد يقدر على هذا، ليس كل أحد يتأتى من هذا، ولهذا الشيخ جعل هذه المسألة مما يُحذر منها؛ لأنه ليس لكل أحد يقول: والله أنا كذا وأنا كذا، لأن هذا مقام عظيم، وليس لكل أحد أن يصل إليه، مقام كمال، مقام حسن الظن، ومقام قوة الطمع في فضل الله -عز وجل- واليقين، هذا يكون في القلوب شيء غيبي، لكن سبحان الله العظيم يثق بالله عز وجل ثقة عظيمة، ما يتأتى.
ولذلك ينبغي الحذر والتحرز عمومًا في هذه الألفاظ، هذا ما يتعلق بمعنى: «إنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ مَن لو أقْسَمَ علَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ، وهذا من كرم الله عليه، ولا ليس لأحدٍ على الله أن يوجب عليه شيء، هذا ما يتعلق بهذا الباب.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بابُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى خَلْقِهِ.
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نُهِكَتِ الأَنْفُسُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ، فَاسْتَسْقِ لَنَا رَبَّكَ، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ، وَبِكَ عَلَى اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ!!» فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى أَحَدٍ من خلقه» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) }.
ثم قال الشيخ –رحمه الله تعالى-: (بابُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى خَلْقِهِ) ، هذا كما تقدم في نفس النَسق، وهو ضبط الألفاظ تعظيمًا لجناب الله -عز وجل-، والحذر من الألفاظ التي فيها إخلال في عظمة الله -عز وجل-، والألفاظ هذه التي فيها إخلال يجب الحذر منها، ويجب أن نتفطن لها، وألا نتساهل في هذا الأمر.
قال: (بابُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى خَلْقِهِ) هنا بعض الناس قد لا يفهم معنى (بابُ لاَ يُسْتَشْفَعُ) ، ما معنى لا يستشفع؟ الآن سنحاول أن نسهل المعنى، نقول:
أنت مثلًا يا شيخ عمر تحتاج إلى أن تدخل ولدك أو قريبك للجامعة أو تحتاج حاجة معينة من حاجات الدنيا، ثم المسؤول عن هذه الحاجة لا يعرفك جيدًا ولا يتأكد من حاجتك، فقدمت الأمر وما انتبهوا لك، فجاء شخص وجيه معروف عندهم، مثلًا نقول: شخص ذو مكانة اجتماعية أو ذو مكانة وظيفية، ويعرفك هذا الرجل، فكلمته وقلت: أنا قدمت لولدي أو أخي في الجامعة أو للعلاج في المستشفى ولكن لا أحد يعرفني، فماذا فعلت أنت الآن؟
أنت الآن قد استشفعت بهذا الرجل على صاحب الجامعة أو المستشفى، استشفعت به، ما معنى استشفعت به؟ أي: طلبت شفاعته، إذًا هو شافع، فأنت طالبٌ للحاجة وهو مساعدٌ لك في طلب الحاجة.
مدير الجامعة أو مدير المستشفى هو المسؤول، هو المطلوب منه، فأيهم صاحب القرار النهائي؟ نقول: مدير المستشفى أو مدير الجامعة هو صاحب القرار النهائي.
إذاً هذا كله جائز، ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ [النساء:85]، قال النبي ﷺ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ»، أنا أريد فقط تسهيل وتقريب المعنى؛ حتى إذا أردنا أن ننتقل إلى معنى الحديث ونتصوره جيدًا.
لَمَّا نقول: نحن نستشفع بالنبي ﷺ، يعني: في حياة النبي ﷺ، نستشفع بالنبي ﷺ يعني بدعاء النبي على الله، ما معنى أن نقول استشفع لنا يا رسول الله؟
إذا كان حيًا حاضرًا، نقول: يا رسول الله ادع الله أن يغيث المسلمين بالمطر؟ هذا الذي فعله الصحابة ذاك الوقت.
فالنبي ﷺ حي حاضر، ماذا يفعل؟ يدعو الله والصحابة يؤمنون.
من المطلوب منه؟ الله -عز وجل- هو الذي طُلب منه المطر، وليس النبي ﷺ.
إذًا النبي ﷺ شافع، والرجل الأعرابي طالبٌ للحاجة، والناس كذلك!
النبي ﷺ لَمَّا شفع كان أيضًا طالبًا للحاجة، من المطلوب منه؟ الله. هذه الصورة جائزة، فإنا نستشفع بك على الله، هذا جائز.
الصورة الثانية ما هي؟
قال الأعرابي وهذه غلطة شنيعة جدًا، قال: «ونَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ»، يا الله قول خطير وكلمة عظيمة، يعني: نطلب من الله أن يشفع لنا عندك حتى توافق أنت، فصار الخالق -جلّ جلاله- هو الطالب والشافع، وصار النبي ﷺ وهو المخلوق مطلوب منه، يعني: صارت منزلة النبي عند هذه الكلمة وبسبب هذه الكلمة، وكأنه أعلى من الله عز وجل.
ولهذا غضب النبي ﷺ غضبًا شديدًا في هذه الكلمة، والشيخ قال: (بابُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى خَلْقِهِ) ؛ لأنَّ هذه كلمة تُنقص التوحيد حقيقة، أو تخل بتوحيد الله، كيف؟
لأنَّ شأن الله أعظم، فكيف تجعل الله -عز وجل- كأنه هو الذي يطلب الحاجة؟ هل الله يطلب شيئًا؟
الله غني عن الخلق أجمعين، الله فوق الخلق أجمعين، الله سبحانه وتعالى هو العظيم الذي لا أحد أعظم منه.
ولهذا لا يصح أن أقول: اللهم إني أستشفع بك على فلان من الملوك أو كذا؛ لأنَّ كل الملوك، وكل الخلائق، وكل الملائكة، وكل الأنبياء، وكل الرسل؛ كلهم مُفتقرون إلى الله، والله غني عن العالمين، الله الذي يقول للشيء كن فيكون، أمَّا المخلوق فلا يملك شيئًا، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر:30]؛ حتى إنه لا يعلم الغيب، ولا يملك الضر والنفع، ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [هود:31].
فكيف تجعل الله -عز وجل- كأنه يطلب من النبي ﷺ؟ هذه معنى كلمة الأعرابي.
قال: (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نُهِكَتِ الأَنْفُسُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ»)، كم حاجة؟ ثلاث حاجات.
«نُهِكَتِ الأَنْفُسُ»: يعني: قَلَّتْ الموارد مثل: الأطعمة، قل الماء، وصار في أجسام الناس ضعف، يا الله يجدون الوجبة، وإذا وجدوا الوجبة وجدوها ناقصة.
قال: «وَجَاعَ الْعِيَالُ»، أغلى ما عند الإنسان عياله، ومع ذلك ما يقدر على إطعام نفسه أو إطعام عياله.
«وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ»، أي: الغنم والإبل ماتت من العطش، ولا لم هناك ما نشرب منه ولم يعد هناك مرعى.
«فَاسْتَسْقِ لَنَا رَبَّكَ»، هذا حكمه جائز في حال حياة النبي ﷺ، وهكذا كان الصحابة أحيانًا يفعلون هذا، كما في حديث أنس أنَّ النبي ﷺ كان يخطب الجمعة، فجاء رجلٌ فقال: يا رسول الله استسق لنا، فدعا النبي ﷺ واستسقى، قال: «يا رسول الله ادعو الله أن يُغيثنا، فدعا النبي وقال: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»، ورفع الصحابة أيديهم وهم يقولون: آمين، آمين، آمين، يقول أنس: «والله ما في السماء لا سحاب ولا شيء ولا قَزَعَةٍ»، ولا قطعة سحاب، يقول: ثم خرجت من وراء سلع جبل سحابةٌ مثل الترس حتى توسطت السماء، ثم انتشرت، ثم برقت، ثم رعدت، فما نزل النبي ﷺ من المنبر إلا والمطر يتحادر من الحيط، والله ما رأينا الشمس سبتًا، يعني: أسبوعًا.
وهذا مما يدل على جواز طلب الدعاء من الحي الحاضر الصالح، والنبي ﷺ أصلح أهل الأرض، وكان حيًا، ولم يُعرف أبدًا هذا بعد وفاته ﷺ، فلم يذكر أنَّ أبا بكر أو عمر، أو عثمان، أو عليًا، أو أعرابيًا، أو غير أعرابي، قد جاء إلى قبر النبي ﷺ وقال: يا رسول الله ادع الله لنا! فعلمنا أنَّ الطلب من النبي ﷺ بعد موته يعد من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، وليس من أهل الإسلام من أصحاب النبي ﷺ من فعل ذلك.
قال هذا الرجل: «فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ»؛ هذه الكلمة الشنيعة، وأما فاستسقي لنا ربك يعني: اطلب السقيا، والسقيا هي؟ الغيث والمطر.
«فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ»، هذه أغضبت النبي ﷺ وحُق له أن يغضب -عليه الصلاة والسلام- ويجب على كل موحد أن يغضب من هذه الكلمة، ويعرف شناعتها.
«وَبِكَ عَلَى اللهِ»، هذا لا بأس، يعني دعائك، بك يعني: بدعائك، يعني هو اللي يدعو، ليس المراد بذاتك، وليس المراد بجاهك، وليس المراد نُقسم على الله بك، وإنما المراد بدعائك.
«فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ!!»، فما زال يُكررها، «فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ»، هذا دليل على أننا إذا سمعنا كلامًا يتنافى مع عظمة الله -سبحانه وتعالى- ماذا نفعل؟
نسبح الله، هذا واحد.
ثانيًا: قولنا: سبحان الله، يعني تنزيهًا لله، يعني ننزه الله عن ذلك، ما معنى تنزيه الله عن ذلك؟ أي أنَّ الله -عز وجل- أرفع من ذلك، ولا يمكن أن يكون كذلك، والله -عز وجل- لا يوصف بذلك، فقول: سبحان الله، يعني -كما يقول العلماء-: تنزيهًا لله.
طيب، ما معنى تنزيهًا لله؟ يعني أن الله -عز وجل- ليس على هذا الوصف، لأن الله أكمل، والله أعظم، والله أكبر، ولا يمكن أن يكون الله -عز وجل- على هذا الوصف أبدًا، فأنا أُعَظِّمُ الله، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ [الصافات:180] يعني: تنزيهًا لك، وقوله: ﴿رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ يعني: صاحب العزة، وقوله: ﴿عَمَّا يَصِفُون﴾ ، أي ينزه الله عن كل وصف باطل وصف به.
إذًا هذا وصف باطل؛ لأنه جعل الله يَسأل النبي، فجعل الله واسطة؛ فكأن النبي ﷺ يأمر بالشيء بسبب وساطة الله! وهذا باطل لأن النبي ﷺ وهو أفضل الخلق يطلب من الله، قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال:9]، فالمدعو هو الله، والمرجو هو الله، والمسؤول هو الله، والملتجأ إليه هو الله، والذي يخاف ويرجى هو الله، وليس الرسول ﷺ. فنسأل الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته ونعظمه.
بعد وفاة النبي ﷺ هل يجوز لنا أن نقول: يا رسول الله اسْتسِقِ لنا؟ قول القائل الآن بعد وفاة النبي ﷺ يا رسول الله افعل كذا، أطلب كذا، هذا دعاء، هذا دعاء لمن؟
دعاء لميت، وهو رسول الله ﷺ.
ما حكم الطلب من الرسول ﷺ بعد وفاته؟
حكمه شركٌ أكبر.
ماذا نقول الآن بعد وفاة النبي ﷺ؟ نقول: يا الله اسقِنا.
هل يجوز أن نطلب من رجل صالح حي حاضر أن يدعو؟ نقول: نعم، وهذه سنة المسلمين، في صلاة الاستسقاء، ولهذا شُرعت صلاة الاستسقاء، فيأمر ولي الأمر بخروج المسلمين فيخرج أهل الخير وأهل الصلاة وأهل الصلاح ويسألون الله -عز جل- أن يسقيهم ويأمرونا الخطيب، فيقوم الخطيب فيخطب فيهم، ثم يصلي فيهم ثم يخطب، ثم يدعو ربه والمسلمون يأمنون آمين آمين، ثم كل واحد منهم يدعو ربه، هذا هو المشروع.
فلو جئت عند رجل صالح وقلت: أدعو الله للمسلمين أن الله يصلح حالهم، يصلح ولاتهم، يصلح قلوبهم، يصلح شبابهم، يصلح شيبهم، هذا طيب حي حاضر تطلب منه، أما ميت! لا، هذا من الشرك الأكبر الطلب من الأموات.
{شيخ أحسن الله إليك، أيضًا يا شيخ لو تبين أيضًا مسألة قد يستدل بها بعض المبتدعة، وهي مسألة أنَّ الصحابة كرروا الاستغاثة بالعباس}
أينعم؛ حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين، يقول: "اللهم" لما خرج يستسقي بالناس، أخرج العباس وهو أفضل وأكبر أهل بيت النبي ﷺ؛ لأن أهل بيت النبي ﷺ منهم علي بن أبي طالب ولا يخفى فضله، ولكن هذا العباس عم النبي ﷺ، وعم علي بن أبي طالب، فله مكانة من أهل بيت النبي ﷺ، وشيخٌ كبير وصالح وصحابي جليل.
فقال: «قُم يا عَباس فادعُ الله عز وجل»، فدعا العباس وصار المسلمون يقولون: آمين آمين، هذا معنى: «إنَّا كُنَّا إذا أجْدَبنا توَسَّلُنا بنبيِّنا»، ما معنى «توَسَّلُنا بنبيِّنا»؟ يعني بدعاء نبينا، «وإنَّا نتوَسَّلُ بعَمِّ نبيِّنا» يعني بدعائه؛ لأنه حي حاضر، «قم يا عباس فادعوا الله لنا».
لو كان المراد مجرد التوسل بالنبي ﷺ حتى لو بعد موته، كيف يترك النبي ويُذهب للعباس؟ فعلمنا أنَّ المراد هو التوسل بدعاء الحي الحاضر، هذا ما يتعلق بهذا السؤال.
المقصود: أن التسبيح هنا هذا تعظيم لله سبحانه وتعالى، وكذلك التكبير؛ لأن في الحديث لما قال الصحابة: «اجعَلْ لنا ذاتَ أَنْواطٍ»، تذكر الحديث مرّ معنا في كتاب التوحيد، «كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ»، فهل قال النبي ﷺ سبحان الله؟ لا، بل قال: «الله أكبر، إنها السُّنَنُ! قلتم والذي نفسي بيده».
فالتكبير والتسبيح في مثل هذا المقامات مشروع، لو سمعنا كلامًا يتعلق في التنقص من حق الله عز وجل، أو كلامًا فيه نوع شرك أو فيه ضلال بدعة، فنقول هذا الكلام اقتداءً بالنبي ﷺ.
شيخنا أحسن الله إليكم ورد عندنا لفظ «نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ»، وذكرت يا شيح أحسن الله إليك «اجعَلْ لنا ذاتَ أَنْواطٍ»، هل شيخ فيه ألفاظ مشابهة لهذه الألفاظ؟
نعم هناك ألفاظ نصت الشريعة المطهرة الكتاب والسنة على تحريمها، وهناك ألفاظ مشابهة لها، وهذا بحرٌ لا ساحل له، وهناك من يقول مثل هذه الكلمات بل أشد من هذه الكلمات، وأنا أذكر لك أمثلة:
فهناك من يقول أثناء ما يسمونه: الاحتفال بالمولد النبوي، ولا شك أنَّ هذا بدعةٌ منكرة، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يُشرع للمسلمين هذه الاحتفالات، ولا ينبغي لهم أن يوافقوا أهلها، ولا أن يشاركوا في باطلهم، ولكن مما عم وطم عندهم أنهم يقرءون قصيدة اسمها قصيدة البُردة، وفي ظلها قول الشاعر البوصيري:
يَا أَكْرَمَ الخَلقِ مَا لي مَن أَلُوذُ به ... سِوَاكَ عِنْد حلُوْلِ الْحادث الْعَمِمِ
إنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعَادي آخذًا بيَدي ... فَضْلا وَالا فَقُلْ يَا زلَّةَ الْقَدمِ
فَإنَّ مِنْ جوْدكَ الدنْيَا وَضَرتهَا ... وَمِنْ عُلُوْمِكَ عِلْمَ اللَّوْح وَالْقَلَمِ
يعني هذا الكلام لو قيل أمام النبي ﷺ لكان استنكاره ورده من النبي ﷺ أشد من قول هذا الأعرابي، والله تعالى أعلم، لماذا؟ لأن هذا الرجل الشاعر جعل الدنيا كلها والآخرة ضعف جهد النبي ﷺ، وجعل النبي ﷺ يعلم علم اللوح والقلم، وهذا من الشناعة بمكان، فنحن نقول: سبحان الله، تعالى الله، الله أكبر عما يقول هؤلاء، تعالى الله عما يقول هؤلاء علوًا كبيرًا.
قال بعض علماؤنا: ماذا أبقى لله -عز وجل؟ فقد جعل علم الغيب للنبي ﷺ، وجعل الدنيا والآخرة للنبي ﷺ، وجعل الأمر يوم القيامة كله بيد النبي ﷺ، وكل هذا من المنكرات العظيمة، وبعضهم أشد من ذلك وأطم حقيقةً، وكلمات بلغت من الكفر أعظم مما عليه أهل الجاهلية الأولى.
وعندي في هذا قصص عن هؤلاء الطواغيت، عباد الأضرحة والقبور، عندي قصص كثيرة سمعتها منهم، وقرأتها عنهم، حتى إن أحدهم قال: إذا نزلت بك نازلة يا مريد، يا متبع، يا تلميذ فاستغث بي وأنا أنجيك، وأني كذا، قال كيف؟ قال: أنا أدبر الأرض كلها.
وأحدهم يقول: أنا ما تدخل ذرة البلد الفلاني ولا تخرج إلا بإذني، والثالث يقول: أنا أدير سبعة بلدان، وهو ميت، والرابع يقول: فاستغث بفلان، قال: فوسوس له إبليس قال: قول يا الله، صار إبليس يقول يا الله، هذا طواغيت.
ولهذا نقول مثل هذه الكلمات الكفرية، نقول: سبحان الله، سبحان الله عما يقول هؤلاء، ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات180-182].
فالمشركون وأوليائهم مازالوا موجودين، حتى لو تسموا باسم الإسلام، حتى لو نطقوا بالشهادتين، ما ينفعه أن ينطق بالشهادتين وهو يستغيث بالشياطين، ويستغيث بأوليائه ويعبدهم من دون الله.
وبعضهم يترك الصلوات، حتى قال أحدهم: حضرنا مولد الولي الفلاني، قال زحمة ما في مكان، جمعٌ غفير، ما فيه مثل ها الجمع إلا يوم عرفة، يوم عرفة أكثر شوية، قال: بس أنا لكت عليهم شيء واحد، قال شو لكت عليهم؟ قالوا ما ركعوا ولا ركعة ثلاث أيام بلياليها، لا صلاة ولا.. واختلاط، فقال هذا يتحمل عنهم الولي.
فنقول إذًا: سبحان الله، الله أكبر تكبيرًا، تعالى الله عما يقول الظالمون والمشركون علوًا كبيرًا، افتروا على الله وعلى دينه، هؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء، هؤلاء عليهم أن يتعلموا الإسلام ويدخلوا في دين الإسلام، هؤلاء ليسوا من أهل الإسلام بهذه الكلمات الكفرية والضلالات العظيمة، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإسلام والسنة.
قال: «فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ»، رضي الله عن الصحابة، الصحابة إذا رأوا النبي ﷺ تأثر يتأثرون، الصحابة أطيب خلق الله بعد الأنبياء، فإذا رأوا النبي ﷺ انزعج من شيء يعني تعرف هذا في وجوههم، اللهم اجمعنا بهم في الجنة مع النبي ﷺ، فالصحابة تأثروا لتأثر النبي ﷺ، والنبي ﷺ تأثر تأثرًا شديدًا من هذه الكلمة.
فالآن بعض الناس يمر على كلمات شركية، ويمر على خرفات، ولا كأن هناك شيء، والنبي ﷺ كان في هذه الأمور يسبح الله -عز وجل-، وينهى عن هذا الباطل.
ثم قال: «وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى أَحَدٍ»؛ لأن أمر الله أعظم، هو الذي يُطلب سبحانه، وهو الذي يرجى، وهو الذي يُسأل سبحانه وتعالى.
وبهذا نكون وصلنا إلى نهاية شرح هذا الحديث، وهذا الباب كله في تعظيم لله -عز وجل، وحفظ اللسان من هذه الألفاظ المخلة لعظمة الله -عز وجل-، نسأل الله -جلّ وعلا- لنا وللمسلمين تحقيق التوحيد لله رب العالمين، وتحقيق الاتباع لنبيه الكريم –صلوات الله وسلامه عليه- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
{اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد، أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، وجزاكم عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين على أمل اللقاء بكم في حلقةٍ أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.