الدرس الثامن عشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

12803 18
الدرس الثامن عشر

كتاب التوحيد 3

{بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيه متن (كتاب التوحيد) لإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب -رحمنا الله وإياه- يشرحه لنا فضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، نرحب وإياكم بفضيلة الشيخ. أهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا، ونسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين العمل النافع والعمل الصالح، على بركة الله نبدأ، تفضل يا شيخ.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةَ الْمُصْطَفَى حِمَى التَّوْحِيدِ وَسَدِّهِ طُرُقَ الشِّرْكِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقُلْنَا: أنت سَيِّدُنَا، فَقَالَ: السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلاً، وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً، فَقَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلاَ يَسَتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَا خَيْرَنَا، وَابْنَ خَيْرِنَا، وَسَيِّدَنَا، وَابْنَ سَيِّدِنَا. فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
يقول الشيخ الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد: (بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةَ الْمُصْطَفَى حِمَى التَّوْحِيدِ وَسَدِّهِ طُرُقَ الشِّرْكِ) .
ثم أورد في هذا الباب حديثين شريفين، وهذا الباب قد يتبادر إلى ذهن بعض الطلاب أنه مُشابهٌ ومُطابقٌ للباب الذي مرّ في وسط الكتاب، وهو قوله: (بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةَ الْمُصْطَفَى جناب التَّوْحِيدِ وَسَدِّهِ طريق يوصل إلى الشِّرْكِ) .
وبين البابين فرقٌ لطيف:
فقوله فيما تقدم (حِمَايَةَ الْمُصْطَفَى جناب التَّوْحِيدِ) ، الجناب هو الجزء من الشيء، يعني أنَّ النبي فيما يتعلق بتوحيد الله -سبحانه وتعالى- حَمى هذا الأمر حمايةً عظيمة، وكلماته وأفعاله ونصائحه وأحاديثه؛ كلها برهان على أنه حمى التوحيد، وجناب التوحيد يعني: التوحيد نفسه وأجزاؤه كلها فيما يتعلق بعبادة الله عز وجل، ومنع من كل أمور الشرك، كذلك في الربوبية والأسماء والصفات من باب أولى.
وهنا قال: (بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةَ الْمُصْطَفَى حِمَى التَّوْحِيدِ) ، الحمى في اللغة هو ما كان محيطًا بالشيء، خارجًا عنه وليس منه، يعني أن الأمور التي تُفضي وتقرب إلى الإخلال بالتوحيد منع منها النبي ؛ لأنَّ الحمى قال النبي : «أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ».
والحمى هو ما يحمى من الأرض حتى ترعى فيها البهائم التي خاصةٌ بالسلطان والملوك ونحوهم، فالحمى الشيء البعيد ولكنه محيط بالشيء، يعني: يقصد الشيخ محمد بهذا أنك وإذا تأملت في كلام النبي وتوجيهاته وجدت أنه ليس فقط حمى جناب التوحيد نفسه، بل حتى الأمور المحيطة به، أبعد كل ما يخل بالتوحيد، حماية عظيمة لهذا الجناب، وحماية للحمى، حماية النبي حمى التوحيد.
أيضًا الفرق اللطيف الآخر: أن ذلك الباب بيّن فيه أفعالا شركية، وأمَّا هنا فقد بيّن فيه أقوالا تُفضي إلى الشرك، هي ليست شركًا صريحًا ولا شركًا أصغر، ولكنها قد تفضي إلى الشرك بالتوسع، وهذا سيأتي شرحه.
ولهذا فالشرك نوعان: شركٌ أكبر، وشركٌ أصغر، والشرك الأصغر قيل فيه: هو كل وسيلةٍ وذريعةٍ توصل إلى الشرك الأكبر من الأقوال، والأعمال، والمقاصد، والإرادات، فحمى التوحيد خارجة عن التوحيد، لكنه قد يفضي إلى الإخلال بالتوحيد.
قال: (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) ، هذا صحابي، قال: «انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى النبي فَقُلْنَا أنت سَيِّدُنَا»، وهذه الكلمة هنا حق؛ لأنَّ النبي هو سيد ولد آدم، ولكن علمنا النبي أنَّ الكلمة هذه إذا قيلت في وجهك.
يعني لنفرض أن الرجل سلطان أو مثلًا وزير أو شيخ القبيلة، فقال له أتباعه وأحبابه ومن يحبونه: يا فلان أنت سيدنا في وجهه هكذا، فالسنة في هذا المقام التواضع؛ لأن الرسول قال: «السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، وهو لا شك أنه سيد ولد آدم لكن في هذا المقام يهضم النفس، ويتواضع لله عز وجل، هذا واحد.
الثاني: لئلا يقع في الغلو؛ لأنَّ دائمًا في مثل هذه المناسبات يتبادر الناس إلى إلقاء الكلمات، وكل واحد يريد أن تكون كلمته أحسن من غيره، وكل واحد منهم يريد أن يأتي بشيءٍ غريب، وبخطابٍ جديد، وبكلماتٍ جميلة؛ فيتسابقون إلى اختيار ألفاظ ثم ألفاظ ثم ألفاظ. فالنبي سدَّ هذا الباب وحَما حِمى التوحيد، وقال: «السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى».
وهذا فيه إثبات أنَّ "السيد" من أسماء الله تعالى، وهذا يدل على أنك إذا خُوطبت أيها الإنسان بهذا الخطاب هكذا، "أنت سيدنا"، فعليك أن تقول: «السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، ولكن إذا خُوطب الإنسان بخطابٍ غير هذا، أي لم بقال له: أنت سيدنا، فخطاب المواجهة بخلاف خطاب الغائب.
مثال ذلك: إلى سعادة المكرم السيد المحترم فلان، فما يلزم أن تقول: «السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، لماذا؟ إذا قلنا مثلا: اكتب خطابًا، فكتب: من فهد إلى المكرم السيد عمر -الذي هو أنت- يكتب خطابًا كهذا، فأنت كتبت "السيد" ولم تكتب: "أنت سيدنا"، فهذه اللفظة هكذا تختلف؛ لأنه ليس فيها ما يأتي في النفس من الإعجاب.
بينما من يقول لآخر عند مخاطبته: أنت سيدنا فيأتي في النفس شيء، ولهذا يقول: «السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» إتباعًا للنبي ، وتواضعًا لله عز وجل.
الآن الناس في هذا المقام يتباهون بالألقاب، فمثلًا يأتي باللقب الفلاني، ثم يأتي باللقب الفلاني. نقول: يا أخي لا تبالغ في هذا، ومهما كنت أنا فأنا بشر، ولذا لا تعطيني فوق منزلتي، ولذلك قلنا: ينبغي الحذر في هذا.
ولذلك بعض الناس إذا ضعفت عندهم الثقة، وصاروا يتباهون ويحبون المباهاة، تجد الإنسان قبل أن يكتب لقبه ماذا يكتب أمامه؟ أربعة أسطر أوصاف وكذا، وربما أكثر من هذا.
وحقيقة الأمر أنهم كلهم عباد لله -سبحانه وتعالى-، ويجب أن يتواضعوا لله، وأن يحذروا من الغرور، ومن رؤية النفس، والإعجاب، والفخر، والخيلاء، والتعاظم على الناس، والتكبر. هذه هي الجملة الأولى.
قال: «قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلاً، وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً»، هنا مدح آخر، لا شك أنه أعظمهم طولًا وأفضلهم فضلاً، ولكن هنا قال لهم: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلاَ يَسَتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ»، معنى هذا: أن النبي نصحهم ألا يستمروا في هذا المقام.
«وَلاَ يَسَتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ»، يعني: لا يجرنكم، أو «وَلاَ يَسَتَجْرِيَنَّكُمُ» يعني: لا يجعلكم الشيطان جريًا.
ما معنى لا يجعلكم الشيطان جريًا؟
يعني: لا يجعلكم الشيطان رسلًا إلى من ورائكم بالزيادات هذه، فأنتم تقولون هذه الأقوال الآن ثم تذهبون وتقولون: جلسنا وقلنا، فصرتم أنتم رسلا لمن وراءكم لَمَّا قلتم هذا، فالذين من ورائكم ما يقتنعون بهذا الكلام، وبالتالي يزيدون ألفاظًا أخرى، وربما يقعون في الغلو، ويقعون في البدعة أو في الشرك أو في وسائله.
«وَلاَ يَسَتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» لا يتخذنكم رسلًا إلى من ورائكم؛ حتى تجرهم إلى الغلو، تجرهم إلى المبالغات، فاتركوا هذا عنكم، «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ»؛ لأن هذا القول الذي قالوه هو حق، ولكن خشي النبي أن يقولوا -أو من ورائهم- أن يقولوا: أقوالا أخرى.
وهكذا الحديث الآخر حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَا خَيْرَنَا»، هل «يَا خَيْرَنَا» حق أم باطل؟ حق بالطبع.
وأمَّا قولهم: «وَابْنَ خَيْرِنَا» هذا محل نظر، لأنَّ النبي قال: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ».
الثاني قال: «وَسَيِّدَنَا» هذا حق، «وَابْنَ سَيِّدِنَا» هذا محل تأمل، إذا أراد السؤدد الذي هو في قريش فحق، وأمَّا إذا أراد السؤدد الديني فلا؛ لأنه ليس لعبد المطلب وليس لعبد الله السؤدد الديني؛ لأنَّ هذا الدين إنما جاء به محمد بن عبد الله ، وهو سيد ولد آدم.
فقال النبي : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.
يعني هذا أيضًا تأكيد على نفس الحديث: «وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» يعني يلقيكم في اتباع الهوى، وهذا من اتباع الهوى، تهوى كذا، تهوى كذا، ما لها ضابط، ولذلك ألفاظ الثناء وألفاظ المدح قد وقع الشعراء فيها بأشياء عجيبة، وأغلب المدائح النبوية من المتأخرين خاصةً المتصوفة وغيرهم، وقعوا في الشركيات، وفي غلو، وفي شرك أكبر حتى في الربوبية؛ كما تقدم في الدرس الماضي أن بعضهم يقول:

يَا أَكْرَمَ الخَلقِ مَا لي مَن أَلُوذُ به .... سِواكَ عند حُلولِ الحَادِثِ العَممِ
إنْ لَمْ تكُنْ يوم المَعَادِ آخِذًا بِيَدِي .... فَضْلًا وَإِلَّا فَقُلْ يَا زلَّةَ القَدمِ
فإنَّ مِن جُودِك الدُّنيا وضَرَّتهـا .... ومِن عُلومِك عِلمَ اللَّوحِ والقَلَمِ

نسأل الله العفو والسلامة، وهذا الآن يظن أنه يتقرب إلى الله بهذا المدح، ولكنه في الحقيقة واقعُ في مناقضة شرع الله -عز وجل-، والرسول إذا سمع مثل هذا يغضب، ولذا لَمَّا كانت جارية تغني في عهد النبي فقالت: "وفينا نَبِيٌّ يَعْلَمُ ما في غَدٍ"، أنكر عليها وقالَ: «دعي هذا وقُولي ما كُنْتِ تقولينَ» .
فمعنى قوله هنا: «وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ»، واضح أنَّ مثل هذه الألفاظ محل هوى، والشيطان يزينها في نفوسكم.
إذًا النبي سدَّ مداخل الشيطان، وقال: انتبه لأنَّ هذه المدائح، أو هذا الثناء، أو هذه الألقاب، لا تتخذ عليك بالألقاب الشرعية، يعني مثلًا تقول: محمد رسول الله، نبي الله، أمين الله على وحيه، الصادق والمصدوق، الصادق والأمين، المصطفى، السراج المنير، هكذا الأوصاف التي جاءت في الكتاب والسنة، فعليك أن تكتفي بها.
سبحان الله كثير من الناس لا يكتفي بهذا، يرى أن هذا نقص فيزيد من عنده، ويزيد من عنده، ويستهويه الشيطان فيقع في الغلو، ويقع فيما يضره وينقض دينه.
فالمقصود أن النبي سدَّ ذرائع الشرك، ولهذا كثير ممن عبدوا النبي كان سبب عبادتهم هو هذا أنهم يقولون مثل هذه الكلمات، يقول أحدهم:
أَجِبْ يَا ابْنَ الْعَوَاتِكِ صَوْتَ ... عَبْدٍ أَسِيرِ الذَّنْبِ فِيهِ لَكَ الْلوَاءُ
يقول هذا مخاطبًا النبي

تداركني بجاهكَ منْ ذنوبٍ ... وأوزارٍ يضيقُ بها الفضاءُ
وكنْ لي ملجا في كلِّ حالٍ ... فليسَ إلى سواكَ ليَ التجاءُ
فإنْ أكرمتنا دنيا وأخرى ... فليسَ البحرُ تنقصهُ الدلاءُ

يخاطب من؟ يخاطب النبي ، وهذا الشرك الأكبر.
والثاني يقول، كأنه يخاطب الله سبحانه وتعالى:

يا سيد الأنبياء والرسل أجمعهم ... يا من به زال عنا الهم والتعب
يدعوك مُسيكينك العبد الذي بطشت ... أيدي العباد به والقلب مكتئب

فجعل نفسه عبدًا للرسول .
ثم قال:

فاكشف له كربةً يا خير ... من كُشفت عنا به الكرب

أين الله؟ الله هو الكاشف الكروب. ثم قال:

وما دعوناك في تفريج شدتنا ... إلا لأنك في تفريجها سبب

والله العظيم هؤلاء استهواهم الشيطان، وضلوا وخرجوا عن دين الإسلام بهذه الأبيات، والعجب أنَّ هناك أناس يرددون مثل هذا الكلام الباطل، ومثل هذا الكلام الكفري الشركي المخرج من ملة الإسلام.
فيا أهل الإسلام، يا من تحبون النبي يا من تشهدون بالشهادتين، احذروا كما حذركم النبي : «وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» بمثل هذه الألفاظ، ولا بمثل هذه العبارات، إذا أردتم أن تمدحوا النبي وهو حق، ومدحه حق، فامدحوه بما مدحه الله به، وبما مدح به نفسه ، وإياكم أن تمدحوه بالغلو والشرك ودعائه من دون الله، فإنَّ هذا ناقضٌ للتوحيد، وناقضٌ للإسلام، وموجبٌ للخلود في النيران.
والله لا يرضى الرسول بهذا أبدًا، هو غضب على من قال بعض الكلمات التي ليس فيها شرك، كما سمعنا في هذا الأحاديث، فكيف بمن يقول الشرك ويستغيث به -عليه الصلاة والسلام-؟ هذا مناقض لما جاء به الرسول .
فالواجب على أهل الإيمان وأهل الإسلام أن لا يغتروا بهؤلاء ولا بكثرتهم لا كثرهم الله، ولا أبقى لهم شأنًا، وإنما على المسلمين أن يَلزموا غرز الكتاب والسنة، وأن يحذروا من ألسنتهم والتمادح والمدح بغير ما جاءت به الشريعة؛ حتى مع غير النبي .
أحد الخرافيين قبل فترة قريبة، جلس عند مغارة أو قبر يزعمون أنه لنبي الله هود، وهذا كذب؛ لأنه لا يُعرف قبر نبي من الأنبياء إلا نبينا محمد فقط، وأمَّا بقية القبور المنسوبة للأنبياء فكلها غير موثوق بها وغير صحيحة.
هذا الرجل جالس عند القبر وماذا يقول؟ يقول: إن سيده -الولي الفلاني- نزل داخل القبر عند النبي ورآه يبكي ويئن، يعني يبكي من الصياح، وقال: يا نبي الله هود لماذا تبكي؟ انظر كيف يكذبون على الأنبياء، قال: من كثرة الزائرين، وكثرة ذنوبهم التي إذا زاروني أتحملها عنهم وأمحها.
كيف هذا والله رب العالمين يقول: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران:135]؟ وأما هؤلاء فيجعلون زيارة هذا الضريح المزعوم المدعى والمنسوب إلى نبي الله هود أنه سوف يتحمل عنهم الذنوب، وهذا كما قال الكفار للمؤمنين: ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت12-13].
هذه فرية، يفترون على الله هؤلاء، فالحذار الحذار منهم أيها المسلمون، وبهذا نكون وصلنا إلى نهاية هذا الباب، نأخذ الباب الذي بعده.
وتأمل قوله قبل ما نختم: «مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»، هذا كلامه هو فكيف نأتي ونقول: لا، نريد أن نرفع منزلته، هذه أعلى منزلة لعبدٍ من عباد الله هي منزلة الرسول ، وهو يقول: «لا تَرْفَعُونِي»، وجاء بعضهم وقال:

دَعْ ما ادَّعَتهُ النّصارى في نبيِّهِمُ ... وقل ما شئتَ في مدحًا واحتَكِمِ

يعني لا تقول إنه ابن الله، وكل شيء يقوله لا، الكلام باطل، لا تقول إنه ابن الله ولا تقول الباطل أيًا كان، وقل ما قاله الله وقاله رسوله فقط.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَواتُ مَطْوِّيَاتٌ بِيَمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزُّمَرُ:67].
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، والثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزُّمَرُ:67]» الآية.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا اللهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ» أَخْرَجَاهُ.
وَلِمُسْلِمٍ عَن ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذْهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟».
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ».
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ».
وَقَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ»)
}.
نشرح هذا، ثم نكمل.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في خاتمة كتاب التوحيد: (بابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزُّمَرُ:67]).
هذه الآية الكريمة في سورة الزمر قرأها رسول الله في مجلسٍ بسبب ما حصل في الحديث الذي سيأتي ذكره، فهذا من تفسير النبي لهذه الآية، وفي هذه الآية بيان عظمة الله سبحانه وتعالى، وأن الكفار والمشركين وكفرة اليهود والنصارى ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزُّمَرُ:67]، ومثلهم من ينتسب إلى الإسلام، ثم يشابههم في أفعالهم.
فيترك الله ولا يدعوه، وينسى الله ولا يرجوه، ويذهب إلى غيره فيدعوه ويرجوه ويتوكل على الميت، يتوكل على من يسميه ولي ويزعم أنه يدبر، وأنه عنده تصرف... وأنه وأنه وأنه؛ وأنه كرماته، ينفع ويضر، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزُّمَرُ:67]، فهذا الباب حقيقةً ختم به المصنف كتاب التوحيد؛ ليبين عظمة الله سبحانه وتعالى، وأنه جلّ وعلا يجب أن يقدر حق قدره، ويعظم في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته.
وهذا الباب هو خاتمة حسنة لكتاب التوحيد من جهة من جهة أن الغاية من كتاب التوحيد إفراد الله بالعبادة، والسلامة من جميع صور الشرك، فمن أعظم موجبات إفراد الله عز وجل بالعبادة أن تقدر الله حق قدره.
أما من وقع في الشرك حقيقةً هو لم يقدر الله حق قدره، فمن قدر الله حق قدره، وآمن بعظمته، ومجده، وكماله، وربوبيته، وأنه الخالق الرازق المدبر، وآمن حقًا بأنه هو الذي له الأسماء الحسنى الكاملة، والصفات العليا، من آمن بذلك حقًا أوجب ذلك عليه وألزمه ذلك بأن يُفرده بالعبادة، والتوجه، والتعلق.
وأما إذا قال أقر بالخالق ثم نقص فأشرك مع الله سبحانه وتعالى، هذا يدل على أنه لم يقدر الله حق قدره، ولم يُعظم الله سبحانه وتعالى حق تعظيمه.
فهذه الآية الكريمة يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزُّمَرُ:67]، هذا عظمة الله سبحانه وتعالى، هذه الأرض الكبيرة التي يعرفها الناس ويمشون عليها عظيمة جدًا هذه ليست شيء أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك السموات المتسعة الواسعة الكبيرة، ﴿وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر:67]، وهذا فيه إثبات صفة اليدين لله سبحانه وتعالى، فذكر القبضة، وذكر الطي بيده اليمين سبحانه وتعالى.
فمن كان بهذه المثابة فحريٌ بماذا؟ حريٌ أن يُعبد وحده لا شريك له، ويطاع، ويتبع دينه، ويتمسك بشرعه، هذا الواجب على الجميع إذا علموا بعظمته، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَواتُ مَطْوِّيَاتٌ بِيَمِينِهِ سُبحَانَهُ﴾ [الزُّمَرُ:67] يعني تنزيهًا له، ﴿وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزُّمَرُ:67]، لا كفرة اليهود، ولا كفرة النصارى، ولا الوثنيون، سبحان الله وتعالى عما يشرك هؤلاء.
قال الشيخ -رحمه الله-: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ») ، الحَبر والحِبر بكسر الحاء أيضًا وفتحها هو العالم من علماء اليهود، («إِلَى رَسُولِ اللهِ ») يعني والرسول عنده بعض الصحابة كابن مسعود.
(«فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ») يعني في التوراة، والتوراة هي الكتاب المنزل على نبي الله موسى، كتبه الله -عز وجل- بيده ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:145].
(«وَالْمَاءَ وَالثَّرَى») ، جمع بين الماء والثرى على إصبع، يعني فذكرك خمسة، فهذا فيه إثبات خمسة من الأصابع.
قال: («فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ رسول الله : ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزُّمَرُ:67]».
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ»)
، يعني: لم يذكر الشجر فقط الرواية اللي في الصحيحين، ذكر الشجر، لم يذكر الجبال، هنا ذكر الجبال، يعني العدد خمسة حتى في رواية المسلم.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ») .
إذًا هذه المخلوقات العظيمة ليست بشيء أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، فهو يأخذها بيدهِ ويجعلها على أصابعه ويهزها.
والواجب على المؤمن إذا سمع صفات الله عز وجل:
أولًا: أن يؤمن بما أخبر الله وبما أخبر رسوله إيمانًا قاطعًا جازمًا، ولا يتشكك، ولا يتردد في إثبات ما قاله الله وقال رسوله، هذا أولًا.
ثانيًا: يجب عليه أن يؤمن إيمانًا جازمًا بأن الله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11]، وأن ما وصف الله بنفسه لا يماثل المخلوقين، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:4]، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11].
ثالثًا: يجب على المؤمن أن يقطع الأمل والطمع في التفكر والتخيل للصفات؛ لأن الله عز وقال: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:110]، وقال -جلّ وعلا-: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ [البقرة:255]، وقال: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:169].
إذًا ثلاثة أمور يرتاح بها المؤمن من دنس داءين خبيثين:
الأول: تمثيل الله بخلقه وهذا كفر، من مثل الله بخلقه وشبه الله بخلقه كفر.
الداء الثاني: تعطيل الله عما وصف به نفسه، وإنكار ما وصف الله به نفسه، وهذا كفر أيضًا، أنا لا أثبت لله ما قاله الله، من أنت؟ أنت أعلم من الله؟ نحن نقول هذه الثلاثة أمور تريح كل مؤمن موحد، وهي من كتاب الله:
الأول: الإيمان الجازم بكل ما أَخبر الله به عن نفسه أو أخبر به عنه رسوله ، هذا واحد.
ثانيًا: الإيمان الجازم القاطع بأن الله ليس كمثله شيء، وأن ما وصف الله به نفسهِ لا يماثل صفات المخلوقين.
ثالثًا: قطع النظر والطمع في معرفة الكيفية لصفات الله، فإن هذا لا يمكن للعباد ولا لعقولهم أن يدركوا ذلك.
قال: «أين الجبار، فيقول: أَنَا الْمَلِكُ»، في الرواية الثانية: «أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ»، هذا فيه إثبات صفة اليدين لله اليمنى والشمال، وفي اللفظ الآخر قال: «وكلتا يدي ربي يمينٌ مباركة»، يعني تسميتها بالشمال لا يعني نقصها، «وكلتا يدي ربي يمينٌ مباركة».
وقوله: «فَضَحِكَ النَّبِيُّ »، لو كان هذا الكلام مما هو نَقصٌ في حق الله، هل النبي يضحك؟ الجواب: لا، مر معنا عِدة حديث: سمع النبي كلامًا يتنافى مع عظمة الله، فماذا حدث من النبي ؟
الغضب حتى عُرف في وجهه، والتسبيح، والإنكار، والتكبير، وأما هنا فعلمنا أن ما ذُكر حق مما هو في التوراة، فأقره النبي ، والتوراة لم يحدث فيها تبديلٌ في كاملها من أولها إلى آخرها، ولكن حدث فيها تحريف وتغيير لبعض ما ورد، ولكن هذا مما هو من الوحي.
قال: «تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ»، الذي قال هذا الكلام هو عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
ثم قال: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- قَالَ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ») ، يعني أن الله سبحانه وتعالى عظيمُ وهو جلّ وعلا أعظم مما تتخيله العقول؛ حتى ضرب ذلك ابن عباس تقريبَا، هذا ليس تمثيل هذا تقريب لبيان قطع الطمع في إدراك عظمة الله.
الخردلة هي الشيء الذي يطير في الهواء وتراها في شعاع الشمس، إذا نظرت في شعاع الشمس وأنت في الغرفة أو في كذا ترى مثل الشيء الذي لا يكاد يعني يُقبض عليه من خفته ودقته، فيبين ابن عباس عظمة الله سبحانه وتعالى، وأن السماوات العظيمة والأرضين وأنها ليست بشيء أمام عظمة الله -عز وجل-، وفي هذا إثبات صفة الكف وهو مما ورد في يعني تابع لإثبات صفة اليدين لله سبحانه وتعالى.
وكذلك حديث زَيْدٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ»، وحديث أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ».
كل هذا يُبين عظمة الله -جلّ وعلا-، ولهذا يجب على الخلق أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يعظموه سبحانه وتعالى، وأن يستقيموا على شرعه والدينه.
{أحسن الله لكم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زَرٍّ بن حبيش عَنْ عَبْدِ اللهِ، وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: وَلَهُ طُرُقٌ.
وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ»، رواه أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ)
}.
هذه الأحاديث أو حديث ابن مسعود وجاء من عدة طرق وحديث العباس؛ كلها تدل على إثبات العلو لله سبحانه وتعالى، والنصوص الدالة على علو الله يعني كثيرة جدًا أكثر من ألفي دليل، كما قال: "ليست ألف بل ألفان" كما قال ابن القيم في النونية.
ولكن يعني هذه الأحاديث عن النبي يعني متنوعة، وكذلك النصوص القرآنية متنوعة حتى صارت أنواع لإثبات العلو، أنواع الأدلة، فكل نوع يدخل تحته مجموعة من الأدلة الدالة على علو الله على خلقه.
فهذا حديث ابن مسعود وفي سندهِ كلام، ولكن جوده جمع من أهل العلم، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن بازر -رحمه الله- حيث يرى أن الحديث ثابت، وقال: «بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وسماء خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»، وهذا حديثٌ عظيم، يُبين عظمة الله سبحانه وتعالى، فوقيته، وأنه محيطٌ بجميع خلقه.
(قالوا وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ»، أخرجه أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ) .
وهذا كله يُبين أن هذا الخلق الذي خلقه الله سبحانه وتعالى خلقُ عظيم جدًا جدًا، وأنه كلما ارتفع اتسع، وأنه واسع جدًا، ولا نركن نحن إلى أقوال الخلق والمخلوقين الذين قد يُصورون أو قد يذهبون أو كذا.. نحن عندنا كتاب الله وسنة النبي ونكتفي بهذا؛ لأن هذه أمور غيبية ما ندخل فيها بعقولنا.
ثانيًا: في هذا جاءت رواية أخرى أن المسافة ثلاثة وسبعين سنة أو إحدى وسبعين سنة أو بضع وسبعون سنة، والجمع قال العلماء هذا والله تعالى أعلم باختلاف طريقة السير، فالعرب تَحسب المسافات بطريقة السير على أوجه، فعندهم مثلًا السير بالأحمال وعلى الأقدام فيكون خمسمائة، والسير الذي يكون على البُرد السريعة والخيل السريعة يكون ثلاثة وسبعون سنة؛ لأن السدس مدة يكون أسرع، فباختلاف السير تكون اختلاف هذه المسافات، وهذا أقرب ما يكون من الجمع.
ولكن هذا يدل كله على عظمة الله، وعلى أنه فوق جميع الخلق، وفوق العرش، وأنه محيطٌ بخلقه يعلم أعمالهم ولا يخفى عليه شيءٌ من أحوالهم، وهو الذي يدبر شؤونهم؛ وكل هذا يجعلنا نتعلق بالله سبحانه وتعالى، ونلجأ إليه، ونعرف ضعفنا وفاقتنا وحاجتنا، وأننا لسنا بشيء أمام ملكوت الله سبحانه وتعالى.
فأيها الإنسان إذا عرفت حالك وعرفت ضعفك كيف لك أن تتكبر؟ كيف لك أن تستكبر؟ كيف لك أن ترى نفسك شيء وأنت لست بشيء أمام هذه المخلوقات العظيمة؟ وفوق ذلك عظمة الرب سبحانه وتعالى!
ولهذا هذه المعاني توجب لنا أننا نخص الله عز وجل بالعبادة، فلا نعبد غيره، الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- والملائكة والصالحون والأولياء؛ كلهم ليسوا بشيء أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، ليسوا بشيء، ليسوا بشيء أمام عظمة الله، فالذي يعظم، ويرجى، ويدعى، ويلتجئ إليه هو الله؛ أعظم ضلال وأعظم فسادٍ في الاعتقاد أنك تنسى الله سبحانه وتعالى العظيم، القدير، القوي، الجبار، تنساه وتذهب إلى غيره، وتلجأ إلى غيره، وتدعو غيره.
ولهذا من أجمل ما يكون أن الشيخ ختم بهذا الباب حتى نُعظم الله سبحانه وتعالى، وإذا جاء في قلوبنا تعظيم الله سبحانه وتعالى لجأنا إليه، وتوكلنا عليه، ووثقنا به، ورجونا فضله، نرجو رحمته، ونخشى عقابه، ونحبه جلّ وعلا؛ هذه هي أركان العبادة الحب والخوف والرجاء والتوكل على الله سبحانه وتعالى، والثقة به، وحسن الظن به، مع الاجتهاد في العمل.
وفي هذه الأحاديث كلها فيها إثبات الصفات خلافًا للجهمية المعطلة، وفي هذه الأحاديث أيضًا يعني إبطال الشرك كما تقدم.
إذًا الشرك يكون في الربوبية، ويكون الشرك في الأسماء والصفات، ويكون الشرك في العبادة والألوهية، فجاءت هذه الأحاديث في هذا الباب الأخير مبطلةً للشرك في الربوبية، ومبطلةً للشرك في الأسماء والصفات، ومبطلةً للشرك في عبادة الله سبحانه وتعالى.
هذا هو ختم هذا الكتاب المبارك، والشيخ قد أضاف إليه عددًا من المسائل، تسعة عشر مسألة، وختم الشيخ الكتاب بقوله: (وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّد) ، وهذا كعادة أهل العلم في ختمهم للأبواب بالصلاة على النبي .
فجزى الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب خير الجزاء، وغفر له، ولجميع علماء المسلمين، ونسأل الله -جلّ وعلا- أن يضمنا وإياكم والمستمعين والمشاهدين في سلِك هؤلاء الصالحين المصلحين، وأن يجعلنا وإياكم دعاةً للهدى، ودعاةً للحق، صابرين عليه، متمسكين به.
وأوصي كل إخواني الذين يستمعون لهذه الدروس الطيبة في (جادة المتعلم) أن يضبطوا العلم بحفظهِ، ومراجعته، والنظر، والتأمل في كلام الله وكلام الرسول وفعل الصحابة وطريقتهم؛ وكذلك الدعوة إلى الله عز جل، والعمل بهذا العلم، والصبر على الأذى.
وليكن الواحد في دعوته حكيمًا، ناصحًا، مشفقًا، رحيمًا، صبورًا على الأذى، وليسلك أحسن الطرق في نصح الناس، يسلك أحسن الطرق، وليصبر على أذاهم، اللهم اجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم اغفر لنا ولوالدين ولجميع المسلمين، اللهم اغفر لمشايخنا وعُلمائنا، واجزهم عنا خير الجزاء.
اللهم اغفر لولاة أمورنا ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، اللهم وفقهما لما تحب وترضى، اللهم أعنهما وسددهما وبارك في أعمارهما وأعمالهما، اللهم أصلح لهم البطانة وأعنهم على أداء الأمانة، وانصر بهم الدين يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين.
اللهم وأصلح جميع ولاة أمور المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين، اللهم اغفر لنا ولوالدين ولمشايخنا ولجميع أحبابنا في الله، ولجميع إخواننا المسلمين الأحياء منهم والميتين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{أحسن الله إليكم فضيلة شيخنا، وجزآكم الله عنا خير الجزاء، الحمد لله وصلي أبدًا على النبي وآله والسعداء، ممن حمى التوحيد في كل زمان، والحمد لله على كل المنن.
والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في شُروح أخر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك