الدرس الثامن

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

12803 18
الدرس الثامن

كتاب التوحيد 3

{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها متن (كتاب التوحيد) للإمام المجدد الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، أهلاً وسهلاً بك فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة المستمعين والمشاهدين، ونسأل الله -جل وعلا- للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{أحسن الله إليكم، وعلى بركة الله نبدأ}
نعم، تفضل إن شاء الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال: «لَا تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ، مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا يزال الشيخ العالم العلامة المجدد/ محمد بن عبد الوهاب في (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) يذكر أبوابًا فيها ما يُنافي كمال التوحيد الواجب، ويحذر من الألفاظ التي تُخِلُّ بالتوحيد، وهي من الشرك الأصغر.
وهنا عقد هذا الباب (بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ)؛ لأنَّ بعض الناس لا يقتنع بالحلف بالله، فيلجأ خصمه إلى أيمان غير شرعية، أو إلى أيمان شركية، وهذا من المحرمات، ولهذا يجب على من كان عليه اليمين أن يبذل اليمين بالصدق، ولا يكذب فيه، وإذا اصطلحا أو تنازل هو أو تنازل أخوه فهذا حسن، فالصلح خير، ولكن إذا اضطروا إلى اليمين لقوله : «البيِّنةِ على المُدَّعِي واليمينِ مَنْ أَنْكَرْ» ، فإذا توجهت إليه باليمين فحينئذ يحلف بالله -عز وجل- ولا يحلف بغيره، ولا يجوز إلجاؤه إلى الحلف بالطلاق، أو الحلف بالعتق -عتق العبيد- أو يحلف بأن كل أمواله خرجت صدقة في سبيل الله، وليس له منها شيء، أو يدعو على نفسه بالهلاك، أو الموت، أو أن يصعق، أو يقال له: حَرِّم زوجتك على نفسك تحريمًا، من غير الطلاق، إلى آخره.
وهنا نوع أخبث من ذلك وأشد، وهو أن يضطره إلى الحلف بالشرك، أي: بالمعبودات التي تعبد من دون الله، وهذا كله من المحرمات، والواجب أن نقنع بالحلف بالله.
إذًا الحكم الشرعي في المحكمة عند القاضي، إذا اتجهت مسار القضية إلى بذل اليمين؛ فإنه يجب الرضا باليمين، ويكون اليمين بالحلف بالله فقط، لئلا يقع في الشرك أبدًا، وألا يُضطر إلى غير ذلك من الأيمان غير المشروعة، كاليمين بالطلاق، كأن يقال له:
احلف أنك ستطلق زوجاتك، أو احلف أن زوجتك ستكون حرامًا عليك، أو احلف أنك بريء من الإسلام، أو احلف أنك كذا وكذا، وكل هذا باطل، والواجب القناعة بالحكم الشرعي حتى وإن علمت أنه كاذب في حلفه بالله، فلا تقع فيما حرَّم الله، وتقول: الحلف بالله لا يكفي!
هذا هو الحكم الشرعي، وقد رتب الأمور بهذا الترتيب، فقال: «ولكنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فتكون اليمين بالله، ولا يضطر إلى يمين فاجرة، أو يمين فيها حلف غير مشروع، بل يرضى بالحكم، ويقنع بحكم الله -عز وجل-، وإن كان يعلم أنه مستحق لهذا الحق، وأنَّ ذلك الحالف كاذب؛ لأنَّ هذا هو الحكم الشرعي، فيرضى به.
كما أنَّ هذا يعد من الابتلاء والمصيبة التي لحقت به، أن يسلب منه حقه وليس عنده بينة، فسلبه ذلك السالب باليمين، فيقنع بذلك.
وإذا حكم القاضي بذلك فليس له إلا الظاهر، كما قال النبي : «إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» ؛ ولذا كان الواجب على المسلم عند التحاكم إلى القاضي أن يصدق، فإذا كذب المتحاكم للقاضي، وحلف على يمين وهو كاذب فيها، فلا شك أنه يلقى الله -عز وجل- وهو عليه غضبان، وهذا يُسمى: بـ "اليمين الغموس"؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم تغمسه في النار -نسأل الله العافية والسلامة- وهي من كبائر الذنوب.
وقوله : «لَا تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ»؛ لأنَّ الحلف بالآباء كان مشهورًا في الجاهلية، وكان الناس يحلفون بآبائهم، وكان هذا مُعتادًا، فنهاهم النبي عن الحلف بغير الله -عز وجل-، وبين لهم أنه من المحرمات، وأنه شرك بالله، ولذا لَمَّا سمع النبي عمر -رضي الله عنه- يحلف بأبيه، قال له: «ألَا إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبَائِكُمْ، فمَن كانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ، وإلَّا فَلْيَصْمُتْ» ، وقال: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فليحلِفْ باللهِ أو ليصمُتْ» ، وقال: «مَنْ حلَفَ بشيءٍ دونَ اللهِ فقدْ أشرَكَ» ، وهذا كله ليُبين أنَّ الحلف بغير الله من الشرك الأصغر.
وأمَّا ما ورد في بعض الأحاديث أنه قال: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ» ، فهذا محمول على أنه كان قبل النهي -والله تعالى أعلم- ثم جاء النَّهي بعد ذلك.
وأيضًا من الأوجه في الجواب عن قوله: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ» أنَّ هذا اللفظ غير ثابت، وأنَّ المحفوظ هو: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»، والله تعالى أعلم.
قال: «وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ»، أي: يرضى ويقنع بالحكم الشرعي، فلو قدر أنه يقول: أنا أعلم أن هذا الذي سلب مني هو حق لي أخذه ذلك السالب، فكيف أرضى بظلم وقع علي؟! نقول: الرضا هنا ليس بالظلم، وإنما الرضا يكون بقبولك لحكم الله، وسبب هذا الحكم هو عدم وجود بينة معك، فإن كان معك بينة فستأخذ حقك كاملا، وإلا فالرضا يكون بحكم الله الذي شرع هذه الأحكام، فشرع وجود بينة من المدعي، فإذا لم توجد البينة فشرع للمدعى عليه اليمين، فيحلف بالله -عز وجل-، واشترط عليه أن يصدق في حلفه بالله، فقال : «مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ»، فاشْتُرطَ على الحالف أن يصدق في حلفه، واشتُرِطَ على المحلوف له أن يرضى بالله، وأن يرضى بما صدر من حكم شرعي؛ لأنه فَرَّطَ، كيف؟ لنفرض مثلا أن شخصًا يملك مالاً، لنفرض أنه يملك ألف ريال مثلا، وهذه الألف وضعها على جزع أو وضعها على طاولة وغفل عنها، فإذا بشخص أخذها، ولم يكن ثم هناك شهود، فجاءا يختصمان عند القاضي.
فقال الأول (المدعي): الألف أخذها فلان مني، فقال الثاني (المدعة عليه): بل هذا مالي أنا، ولم آخذ منه شيئًا. فيقول القاضي للأول: هل عندك بينة على أنَّ هذا المال لك؟ فإذا لم يكن عنده بينة على أنَّ المال له، هل يعد هذا من باب التفريط أو لا؟
نقول: بالطبع فيه تفريط، ولذلك جاء الحكم الشرعي في مثل هذا الحال أنَّ «الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، حتى وإن كنت تعلم أنه فاجر في يمينه، وأنَّه سيأخذ المال بغير حق، إلا أنَّك ترضى بالحكم الشرعي، حتى وإن كنت غاضبًا على السارق، وعالِمًا كذبه في يمينه؛ لأنَّ هذا معنى قوله: «وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ».
واعلم أنَّ الحق إذا لم يثبت ويعود في الدنيا؛ فلتثق أنه سيعود لصاحبه يوم القيامة، ولن تضيع الحقوق أبدًا، وسالب الحق لن يوفق، حتى وإن كذب في هذه الدنيا.
وكم سمعنا من أحوال جرت على من فجروا في أيمانهم في المحاكم وخارجها، بل بعضهم لا يغادر قاعة المحكمة إلا وقد نزل به من البلاء ما الله به عليم، وهذا بسبب فجوره في يمينه -نسأل الله العافية والسلامة- ولكن قد يُستدرج بعضهم، ولا يُعاجل بالعقوبة، وليس في هذا دليل على ذكائه أو شطارته وقدرته على الاحتيال على الناس، بل كل هذا سيعود عليه بالوبال. نسأل الله العافية والسلامة.
قال: «وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ» وهذا وعيد شديد، وفيه وجوب الرضا باليمين، فإذا هو قد نكل عن اليمين فالحمد لله، وحينها يحكم لك، وإذا لم ينكل عن يمينه وحلف، فأنت تغضب عليه لا شك؛ لأنه كاذب في يمينه، ولكن عليك أن ترضى، وأن تُسَلِّمَ لحكم الله، فتقول: ها أنا ذا راض بهذا الحكم، والحمد لله.
وأمَّا إذا ما ظهرت لك بينة، فعليك أن تعترض، ولا بأس أن تنقض الحكم أو تعترض عليه، وتستأنف الحكم، فتقول: عندي بينة، جاءتني بينة، وتتبع في ذلك الإجراءات المتبعة في المحاكم. هذا معنى الحديث.
إذًا الحديث فيه النهي عن الحلف بالآباء، وفيه وجوب الرضا بحكم الله -عز وجل، وفيه القناعة بالحلف بالله، وعدم الاضطرار إلى الأيمان المحرمة، ومقصود المؤلف أنَّ المراد بالرضا بالحلف بالله هنا في الدعاوى، وفي المحاكمات، وعند رفع الأمور إلى القضاة، فيجب أن يرضى بالحكم الشرعي؛ لأنَّه حكم الله -عز وجل-، وهذا هو المقصود، والله تعالى أعلم.
{إذا كان مثلا التحاكم بين رجل من المؤمنين ورجل من الكافرين أو من الطوائف البدعية التي قد تعظم الحلف بغير الله أشد من الحلف بالله}.
نعم، هذا قد يوجد، ولكن لا يجوز أن يُحَلَّفون بغير الله -عز وجل- وإنما الحلف يكون بالله، بل إنَّ النصارى واليهود والوثنيون يحلفون بالله -عز وجل- كما هو معمول به في محاكم المسلمين من قديم الزمان وحتى يومنا هذا، ولهذا نذكر دائمًا هذه المسألة أنَّ أغلب أهل الأرض يُقرون بالخالق، ولكن لم ينفعهم هذا الإقرار؛ لأنهم لم يوحدوا الله -عز وجل- في عبادته، ولم يتبعوا دينه الذي أرسل به رسوله .
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ قول مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ
عَنْ قُتِيلَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ يَهُودِياً أَتَى النَّبِيَّ ، فَقال: إِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ؛ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ.
فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئتَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَلَهُ أَيْضاً: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلاً قال لِلنَّبِيِّ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقال: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِداً؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ».
وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنِ الطُّفَيـل -رضي الله عنه- وكان أخًا لعَائِشَةَ -رضي الله عنها- لِأُمِّهَـا- قال: "رَأَيْتُ كَأَنَّي أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْيَهُوَدِ، فقلت: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. قالوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدُ.
ثُمَّ مَرَرْتُ بِنَفَرٍ مِنَ النَّصَارَى فقلت: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. قالوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدُ.
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ بِهَا مَنْ أَخْبَرْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ، فَأَخْبَرْتُهُ؛ فَقال: «هَلْ أَخْبَرْتَ بهَا أَحَداً؟» قلت: نَعَمْ.
قال: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: «أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ طُفَيْلاً رَأَى رُؤْيَا، أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ قلتمْ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا أَنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْهَا؛ فَلَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدُ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ»)
}.
قال الشيخ العالم الإمام المجدد/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد: (بَابُ قول مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ) وهذه كلمة تقال لأصحاب الشأن والمنصب، مثل: السلطان، أو العالم الكبير، أو القاضي، ومثل الذين لهم شأن، فيأتي بعض الناس ويعرض عليهم أمورًا، ثم يقول له: الأمر عندك، ولكنهم يعبرون بهذا التعبير: (مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ) وهذا شرك، وهو كما يقول: ننتظر توجيهكم، أو الأمر تحت نظركم، أو الأمر تحت تدبيركم، أو تحت تصرفكم، وهذه كلها عبارات تطلق في مثل هذه المقامات، فيأتون عند النبي ، فيقول بعض الصحابة: (مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ)؛ فينكر عليهم النبي ذلك.
وحديث قتيلة، وحديث ابن عباس، وأحاديث الطفيل، هذه ثلاثة أحاديث كلها تدل على تحريم هذه الألفاظ، وأنها من كبائر الذنوب، وأنها من الشرك، ولكن سيأتي أنها لم تكن محرمة في أول الإسلام، ثم حرمت -كما قيل في مسألة الحلف بالآباء في الدرس الماضي-، ففي أول الإسلام لم يكن ثَمَّ نَهي عنه، ثم جاء النهي حماية للتوحيد.
قال: (عَنْ قُتِيلَةَ) صحابية جليلة -رضي الله عنها- (أَنَّ يَهُودِياً أَتَى النَّبِيَّ ، فَقال: إِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ؛ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ) من نظر إلى اليهود وجد طوامًّا عندهم، منها قولهم: "عزير ابن الله"، ويعبدونه من دون الله، ويقولون: هو ابن الله، وهم قتلة الأنبياء، ويتفاخرون بذلك، ولا يزالون إلى يومنا هذا -من أولهم إلى آخرهم- يشتمون عيسى ابن مريم -عليه السلام-، ويزعمون أنه ابن زنا، فهؤلاء اليهود عندهم هذه الطوام كلها، ولكنهم ينتقدون على المسلمين كلمات يسيرة جدًا، ولا شك أنها كلمات منهي عنها، وهذا يدلك على أنه إذا كان هناك ثم هوى، فإنَّ الهوى يُعمي صاحبه، فينظر إلى عيب غيره، ولا ينظر إلى عيوب نفسه، وإن كانت أعظم وأشد.
فلما سمع النبي ذلك لم يقل: هذا يهودي لا يُؤخذ بكلامه، لكون اليهود فيهم كذا وكذا، وإنما قبل الحق منهم، والنبي ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم:4]، ولذا نقول: إذا جاءك الحق، حتى وإن كان من عدو، ولكن علامات الحق من الكتاب والسنة واضحة عليه، فعليك أن تأخذ به.
ونقول: كثير من الكفار، وكثير من المجرمين، وكثير من أهل الأهواء والضلال، يكون لهم هوى، ويكون لهم بدع وضلالات وكفريات وشركيات، فربما يقولون كلامًا حسنًا، أو ينتقدون انتقادًا حسنًا، فما الموقف حينئذ؟
ما قالوه من حسن وعرفنا أنه صواب فيؤخذ به، ليس لأجلهم، وإنما لأجل أنه صواب، ولا نرد عليهم ونقول: كل كلام تقولونه هو باطل حتى وإن كان صوابًا، لأنَّ هذا خطأ، والمقصود أنَّ هذا من الإنصاف، ومن كمال العقل، ومما جاءت به الشريعة الإسلامية.
فإذا صادف الإنسان من أهل البدع، أو من عباد القبور، أو أهل الأهواء، أو اليهود، وقالوا مثل هذه الانتقادات على بعض المسلمين، مثل: أنتم أيها المسلمون تفعلون كذا وكذا، فإذا كان انتقادهم صحيحًا؛ فلنأخذ بصواب ما قالوا، ولنصحح ما عندنا من غلط، ولا نقول: لن نأخذ به ما دام أنه جاء من اليهود، ولذلك جاء في الحديث الآخر: «صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ» .
قوله: (فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئتَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ).
هناك من الناس من يدعي أنَّه من أهل العلم، وتراهم يقولون: "يا كعبة الله، يا كعبة الله"، أي: يستغيثون بالكعبة! وآخرون يستغيثون بالأموات! فنقول لهم: لقد نهى النبي الصحابة عن مجرد الحلف بهم، والحلف هو التعظيم؛ لأنَّ الحلف هو ذِكرُ معظمٍ لتأكيد الكلام فقط، وليس فيه توجه بعبادة مستقلة للمحلوف به أثناء الحلف، ولكن هي عبادة التعظيم لهم، والكعبة -لا شك- أنها معظمة عند المسلمين التعظيم اللائق بها، من جهة تطهير البيت، وحفظه، وصيانته، وتهيئته للصلاة، وكونها قبلة. وهذا التعظيم لا يقتضي أنها هي المعبودة بذاتها، وإنما المعبود هو الله -سبحانه وتعالى-.
فإذا كان هذا النَّهي عن الحلف بالكعبة، تبين لنا النهي عمَّا هو أشد من الحلف، كالدعاء لغير الله -عز وجل-، ونحو ذلك من العبادات.
قوله: «وَأَنْ يَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئتَ» فيه دليلٌ على التفريق بين حرف "الواو" وحرف "ثم". ما الفرق؟ إذا قلت: دخل الطالب فلان والطالب فلان. هنا متساويان في الدخول.
وإذا قلت: "دخل الطالب فلان ثم دخل الطالب فلان"، هنا عرفت أنَّ الثاني دخل متأخرًا عن الأول. فكلمة "ثم" تدل على أنَّ ما بعدها مُتأخر في الرتبة.
ولهذا نقول: إذا قلت: «مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئت» فالسامع ومن قيل له هذا الكلام، يفهم أن رُتبة ما بعد "ثُمَّ" أقل من رتبة ما قبلها، فما بعدها مخلوق، وما قبلها خالق للخلق -سبحانه وتعالى- وله التعظيم الكامل، وبالتالي لا يستويان في التعظيم.
ولهذا كان الواجب صيانة اللسان والألفاظ عن مثل هذه العبارات.
قال: (وَلَهُ أَيْضاً) أي: للنسائي، (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلاً قال لِلنَّبِيِّ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقال: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِداً؟ قُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ»)، وهذا دليل على أنَّ هذا القول يعد من الشرك؛ لأنَّه قال: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِداً؟» وهذا حكم من النبي بأن هذا القول تنديد مع الله -سبحانه وتعالى-.
طيب لماذا لم يكفر؟
لأنَّ هذا في اللفظ فقط، ودون اعتقاد أنه مثل الله -عز وجل- أو أنه يَصْرِفْ له العبادة من دون الله، فَلَو صَرَفَ له العبادة من دون الله، أو اعتقد أنه مساو لله؛ لصار شركًا أكبر، وغضب النبي على كلمة من الشرك الأصغر، يدل على أنَّ غضبه على الكلمة الفعل الذي هو من الشرك الأكبر أعظم وأعظم.
ونستفيد أيضا من هذا، أنه لا يجوز أن يجعل النبي ندًا لله، ولهذا ننبه إخواننا المسلمين أنه في بعض الأحيان توضع شعارات، مثل: أن يكتب في بعض المساجد كلمة "الله" ثم يكتب بجوارها كلمة "محمد"، وهذا فيه مخالفات:
أولاً: الكتابات في المساجد غير مشروعة؛ لأنَّ المساجد ما تُزين أو زخرفة أو كتابات تشغل المصلين، والمشروع أن تُبنى على أحسن وجه، لكي تحفظ الناس من المطر، ومما يضرهم، وتكون في مقام نظيف ومناسب، ولكن بدون زخارف أو كتابات تشغل المصلين.
ثانيًا: كلمة "محمد" وحدها ليست ذكرًا، يعني: لو أنَّ رجلا قال الآن: "الله" ثم سكت، فهذا لم يرد في الكتاب والسنة أنه ذكر محمود، وإنما لو قال: "الله أكبر" فهذا ذكر، ولو قال: "سبحان الله" فهذا ذكر، ولو قال: "الحمد لله، لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله" فهذا ذكر، وأمَّا كلمة "الله" ما جاء في الكتاب والسنة أن يقول المسلم الله ثم يسكت، وأما في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام:91] يعني الله -عز وجل- هو الذي أنزل؛ لأن بداية الآية قوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ وهو عبارة عن سؤال! يسأل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى؟ ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ﴾ [الأنعام:91]، يعني: الله -عز وجل- هو الذي أنزل، وهذا كما يقال في النحو: حذف ما يُعلم جائز؛ لأنَّ الجواب لسؤال من أنزل كذا؟ فقال: قل الله، وهذا ليس من باب الذكر، وإنَّما هو جواب لسؤال.
إذًا نقول: كلمة "محمد" فقط لا تعد من باب الذكر، ولكن "اللهم صل على محمد" يعد من الذكر؛ وكذلك: "صلى الله على محمد وسلم تسليمًا كثيرًا"، هو ذكر.
الثالثة: وهي الأخطر، العجم الذين دخلوا في الإسلام حديثًا أو حتى غير العجم من العرب، والذين لا يُدركون في الإسلام شيئًا كثيرًا، فإذا رأى كلمة: "الله" ثم رأى كلمة: "محمد" متساويتين، فقد يهجم على باله أنَّ منزلة محمد بمنزلة الله -عز وجل-، ولهذا نحن لا نحتاج إلى هذه الأشياء، ولكن إذا وجدت هذه الأمور نصححها ونُزيلها؛ لأنها غير مشروعة، أي ليس من فعل الرسول ولا الصحابة أنهم يضعون مثل هذه الأشياء.
والسؤال: هل نحن خير من الصحابة؟
فهم كانوا يكتبون، وعندهم من يكتب المصحف، وكان باستطاعتهم كتابة مثل تلك الألفاظ، ولكنهم لم يفعلوا، فعلم أنها غير لائقة، وقد تشبه قوله: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِداً؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ».
قال: (وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنِ الطُّفَيـل -رضي الله عنه- وكان أخًا لعَائِشَةَ -رضي الله عنها- لِأُمِّهَـا) هو: الصحابي الطفيل بن سخبرة -رضي الله عنه-.
قال: (رَأَيْتُ كَأَنَّي أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْيَهُوَدِ، فقلت: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. قالوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدُ.
ثُمَّ مَرَرْتُ بِنَفَرٍ مِنَ النَّصَارَى فقلت: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. قالوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدُ.
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ بِهَا مَنْ أَخْبَرْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ، فَأَخْبَرْتُهُ؛ فَقال: «هَلْ أَخْبَرْتَ بهَا أَحَداً؟» قلت: نَعَمْ. قال: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ)
.
أي أنَّ النبي اهتم لهذا الأمر العظيم، وقام خطيبًا ليقرر توحيد الله.
ثُمَّ قال: «أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ طُفَيْلاً رَأَى رُؤْيَا، أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ قلتمْ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا أَنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْهَا» وجاء في الرواية الأخرى: كان يمنعني الحياء، أي: قبل أن ينزل الوحي بالنهي عن هذه الكلمة، كان النبي غير مرتاح لها، وهي قولهم للنبي : «مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدُ»، فكانوا يُقابلونه بمثل هذا، فيستحي ، وكان أشد الناس حياءً، فيستحيي أن يردهم وأن ينهاهم عن هذا الكلام؛ لأنَّ الوحي لم ينزل عليه بذلك، فلما جاءت هذه الرؤيا، ونزل الوحي عليه بإقرارها؛ خطب الناس وبين، وقال : «فَلَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدُ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ».
وهذا مثل الرؤيا في الأذان، فإنه أول ما جاء المدينة لم يكن ثم هناك أذان للصلاة، بل كانوا يتحينون الأوقات ويجتمعون، ولربما سبق بعضهم ولربما تأخر آخرون، وبعد مدة رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وعمر -رضي الله عنهما- رؤيا عظيمة، وكان فيها الأذان، فقال النبي لعبد الله بن زيد: «ألقها على بلال» ، وصارت وحيًا من الله -سبحانه وتعالى- وهكذا الرؤى.
وكان الصحابة يرون الرؤى، فيقرها النبي ، وتكون وحيًا بإقراره ، وبما أنزل الله على نبيه .
فجاءت هذه الرؤيا، وصارت سببًا في منع قول: «مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدُ»، واستبدلت بقول: «وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ».
إذًا صار عندنا «مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» هذا هو الكمال، و "ما شاء الله، ثم شاء محمد" هذا الجواز، وأمَّا "ما شاء الله وشاء محمد" فهذا شرك.
وبالتالي صار لدينا ثلاثة أمور:
الأول: "ما شاء الله وشاء محمد"، وهذا من باب الشرك الأصغر، ولذا ينبغي النهي عنه، والحذر منه، والتوبة منه.
الثاني: "ما شاء الله ثم شاء محمد"، وهذا جائز.
الثالث: "ما شاء الله وحده"، وهذا هو الكمال، وهذا يُبين لنا حرص النبي على التوحيد، وأنه كان حريصًا على أمته.
وأمَّا قول: "ما شاء الله وحده" ففيه أنَّ الأمر كله تحت تدبير الله، وبِقَدَرِه -جل وعلا- وبهذا نعرف حديث الأقرع والأعمى، كل واحد منهم يقول له الملك: "لا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك"، وهذا جائز، يعني: لو انقطع بك السبيل في بلد، وجئت لشخص مسؤول كأميرها، وقلت له: سيارتي تعطلت، ولا قدرة لي إلا بالله ثم بك. ما حكم ذلك؟
نقول: جائز؛ لأنه يملك قدرة، فهو لديه مال، وجنود، وأتباع، يمكنهم مساعدتك.
ولكن لا ينبغي أن تقول: لا بلاغ لي إلا بالله وبك، أو لا بلاغ لي إلا بك؛ لأنَّ هذا من الشرك، بل إن شئت فقل: "لا بلاغ لي إلا بالله ثم بك"، وهذا سيأتي في حديث الأقرع والأبرص الأعمى -إن شاء الله تعالى-.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسائل هذا الباب:
(الْأُولَى: مَعْرِفَةُ الْيَهُودِ بِالشِّرْكِ الْأَصْغَرِ)، اليهود يختلفون عن النصارى، واليهود عندهم هوى وعناد، وأعظم كفر اليهود الآن سببه العناد، ولذلك هم يعلمون أنَّ المسلمين على حق، وأن الرسول صادق، وأنه على الحق، ولكن يمنعهم من ذلك الحسد، وهذا إلى يومنا هذا.
وحتى اليهود الموجودون اليوم عندهم حسد، وعناد، وحقد، وحتى الشرك الأصغر عرفوه من متابعتهم للمسلمين، بل حتى الآن يتابعوننا، ماذا نقول، وماذا نفعل؟ ولا علينا أن نلتفت إليهم، بل نتوكل على الله، وسيهزمهم الله ويذلهم، ولكننا نتعامل معهم بمقتضى ما يوجه به ولاة الأمر من ناحية العلاقات ونحو ذلك.
وأمّا من ناحية الأحكام الشرعية، فلا نأبه بهم إذا عابوا ديننا أو تكلموا علينا، كما يصنعون الآن، ولكن إذا جاء منهم كلمة فيها فائدة لنا فلا نردها، كما في هذا الحديث.
قال: (الثَّانِيَةُ: فَهْمُ الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ لَهُ هَوًى)، سبحان الله العظيم، تجد بعض المشركين يتظاهرون بالجهل وكذا، ثم إذا صار له هوى؛ فهم أدق المسائل التي تعرفها، إذًا لماذا لم تفهم أكبر المسائل وأعظمها وهي: عبادة الله -عز وجل-، واتباع رسوله ؟ وكيف تعرض عن هذا؟
قال: (الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟!» فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَ: يَا أَكْرَمَ الْخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِوَاكَ..، وَالْبَيْتَيْنِ بَعْدَهُ؟)
يقصد الشيخ قصيدة البردة للبوصيري، وفيها أبيات شركية، حيث يقول فيها:

يَا اكْرمَ الْخلْقِ مَا لِيْ مَنْ الُــــــــــــــوْذ بهِ ... سِوَاكَ عِنْد حلُوْلِ الْحادث الْعَمِمِ
إِنْ لَم تَكُنْ آخِذًا يَوْمَ الْمَعَاِد يَدِي ... عَفْوًا وَإِلَّا فَقُل: يَا زَلَّةَ الْقَــــــــــــــــــــدَمِ
فَانَّ مِنْ جوْدكَ الدنْيَا وَضَرتهَـــــــــــــــــا ... وَمِنْ عُلُوْمِكَ عِلْمَ اللَّوْح وَالْقَلَــــــــــــمِ

ونقول: ماذا بقي لله إذا كان هذا لرسول الله ؟
ولهذا إذا تأملنا هذا الحديث جيدًا بدون تأثير أهل البدع وشبهاتهم، فنجد أنَّ النبي أنكر أشد على من قال: «مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ»، فهذه بمشيئة الله وبمشيئتك، "بحرف الواو"، وهذا -أي صاحب القصيدة- لم يجعل لله شيئًا أبدًا، فهو يقول: ما في أحد ألوذ به يوم القيامة إلا أنت يا محمد وفقط! طيب وأين الله -عز وجل-؟
قال -عز وجل- في سورة الانفطار: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ﴾ [الانفطار:19]، وفي سورة الفاتحة يقول تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]، بينما البوصيري يقول: "مَا لِيْ مَنْ الُوْذ بهِ ... سِوَاكَ"، وهذا لا شك أنه أشد ضلالا من قول القائل: «مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ»، أو ما شاء الله وشاء محمد.
وقول البوصيري: "فَانَّ مِنْ جوْدكَ الدنْيَا وَضَرتهَا"، الضرة هي الزوجة الثانية، فقوله: وضرتها يقصد الآخرة، أي: من جودك يا محمد الدنيا من أول ما خلقت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتفنى الدنيا بكل ما فيها من أموال، وبشر، ومخلوقات، وسماوات، وأرضين، وبحار، وكنوز، ورزق، وعافية، وصحة، وغير ذلك، وكل ذلك من بعض جود محمد .
"فَانَّ مِنْ جوْدكَ الدنْيَا وَضَرتهَا"، أي أنَّ من جودك الدنيا كلها، ومن جودك الآخرة، وأنَّ الجنة من جودك، والنار كذلك، وكل ما يقع في الآخرة هو من جودك، وهذا أعظم الغلو، وأعظم الباطل، ولهذا يجب التحذير من كل هذه الأقوال الشركية.
ثم يقول: "وَمِنْ عُلُوْمِكَ"، أي: من بعض علومك وليس كلها؛ لأنَّ "من" للتبعيض.
"وَمِنْ عُلُوْمِكَ عِلْمَ اللَّوْح وَالْقَلَمِ" يعني: اللوح المحفوظ، والقلم الذي كتبت به المقادير، هذا بعض علومك يا محمد!
سبحان الله العظيم، سيقال للنبي له يوم القيامة: «إنَّكَ لا تَدْرِي ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» ، وهذا يزعم أنَّه يعلم الغيب، ويعلم كل ما في اللوح المحفوظ!
وانظر إلى اليوم الذي فقدت فيه عائشة عقدًا لها، وظل المسلمون يبحثون عنه، حتى جاء وقت الظهيرة، ثم نزلت آيات التيمم، ولَمَّا صلوا بالتيمم وانصرفوا، فإذا بالعقد أسفل البعير.، فكيف يعلم الغيب؟
قالت الجارية يومًا: "وفينا نَبِيٌّ يَعْلَمُ ما في غَدٍ"، فقالَ النَّبيُّ : «لا تَقُولِي هَكَذا» . وثبت عنه أنَّه قال: «خَمْسٌ لا يعلَمُها إلَّا اللهُ، لا يعلَمُ ما تغيضُ الأرحامَ أحَدٌ إلَّا اللهُ ولا ما في غَدٍ إلَّا اللهُ ولا يعلَمُ متى يأتي المطَرُ إلَّا اللهُ ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ ولا يعلَمُ متى تقومُ السَّاعةُ أحَدٌ إلَّا اللهُ» ، كيف تقول إنه يعلم الغيب، والله -عز وجل- في سورة الأعراف يقول: ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف:188].
قال الشيخ: (الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟!» فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَ: يَا أَكْرَمَ الْخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِوَاكَ.. ، وَالْبَيْتَيْنِ بَعْدَهُ؟)
وهذا -كما بينا- أشد ضلالاً، وشركًا، وانحرافًا، وتنديدًا لله -عز وجل-، فهو قد جعل النبي ندًا، بل قال بعض العلماء: هو لم يجعل بذلك لله شيئًا؛ لأنَّه جعل كل الدنيا، وكل الآخرة، وكل علم اللوح، وكل علم القلم، عند النبي ، وليست عند الله -عز وجل-، وهذا أعظم مما أنكره النبي بمراحل.
قوله: (الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ؛ لِقَوْلِهِ: يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا).
يعني: لو جاء رجل وقال: "ما شاء الله وشاء فلان"، فيعد قوله من الشرك الأصغر، وليس من الأكبر، يقول الشيخ: لماذا؟ قال: (لِقَوْلِهِ: يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا)، فلو كان من الشرك الأكبر لنهى عنه، فعلم أنَّ هذا من شرك الألفاظ.
قال: (الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ)، وأنها قد تكون سببًا لشرع بعض الأحكام، أي: في زمن الوحي، وأما بعد وفاة النبي فقد انقطع الوحي، ولا يمكن أن تكون الرؤيا مصدرًا من مصادر التشريع، وإنما هي سبب لشرع بعض الأحكام في وقت النبي ، مثل: الأذان كما تقدم، ومثل: النهي عن هذا القول.
نأخذ الباب الذي بعده.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ؛ فَقَدْ آذَى اللَّهَ
وَقَوْلُ اللَّه: ﴿وَقالوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ ، وفي الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ قال: «قال اللَّهُ تعالى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»)
}.
قال الشيخ -رحمه الله تعالى-: (بَابُ مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ؛ فَقَدْ آذَى اللَّهَ) هذا الباب فيه بيان المنع من سب الدهر، وسيأتي أيضًا المنع من سب الريح، وكذلك أيضًا المنع من بعض الألفاظ، مثل: "عبدي، وأمتي"، وسيأتي الكلام عنها -إن شاء الله-
إذًا لا يزال الشيخ ينبه المسلمين بإيراد النصوص الشرعية في بعض الألفاظ التي تصدر من الناس.
وقوله: (بَابُ مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ) وسب الدهر كما أن يقول الرجل: لعن الله هذا الوقت، أو لعن الله اليوم الذي عرفتك فيه، لعن الله الساعة التي اشتريت فيها هذه البضاعة، فالدهر هو ما يقع في هذا الكون من أقدار الله -عز وجل-، وبدلا من أن يقول: الحمد لله على كل حال، أو إنا لله وإنا إليه راجعون، أو اللهم اكفنا شر هذه المصيبة، أو نحو ذلك، فتراه يترك اللجوء إلى الله، وينتقل إلى السَّبِّ، فيسب ماذا؟ يسب ما قدره الله -عز وجل- وقضاه، فقد قدَّر الله -عز وجل- أن يخسر تلك الصفقة، أو قدر الله -عز وجل- أنه يلتق بشخص يؤذيه، ويفسد عليه سيارته وأغراضه، فهذا قدر قدره الله وساقه، والواجب أن تدفع القدر بالأسباب الشرعية والأسباب المباحة، فيترك هذا وينتقل إلى السب والشتم، فيسب الذي قدر المقادير، وذلك بمثل قوله: قاتل الله هذا الزمان، أو قاتل الله هذا العصر، أو قاتل الله هذه الساعة، أو لا بارك الله في هذا السنة، أو هذه السنة مشؤومة، أو هذه السنة ملعونة، أو هذه السنة كذا وكذا.
وكل هذا يسمى سبًا، ولكن هناك فرق بين السَّبِّ وبين وصف الشدة، كأن يأتي على الناس وقت شديد وعصيب، مثل: مرض ينتشر بينهم، أو فقرًا شديدًا، فإذا قال وقتها: لقد مرت بنا سنة شديدة، افتقر فيها الناس وجاعوا. ما حكم هذا؟
هذا خبر وليس بسب، فهو يخبر عن شدة مرت بالناس، وكذلك في يوم عسر، فهو يخبر أيضًا عن صعوبات في هذا اليوم، وليس هذا من قبيل السب.
وإنما السب هو الشتم بسبب مصيبة نزلت، أو بسبب كراهية لشيء، أو نحو ذلك، فيعود سب الدهر على سبِّ الله -عز وجل-، ولهذا جاء فيه هذا الوعيد الشديد.
قال: (فَقَدْ آذَى اللَّهَ)، وقد جاء في سورة الأحزاب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ [الأحزاب:57]، فقد يوجد من بعض العباد من المنافقين أو العصاة، من يتصرف بتصرف يتأذى الله -عز وجل- منه، «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ»، وقوله : «لا أحَدَ أصْبَرُ علَى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ» .
إذًا إثبات أنَّ الأذى يقع ليس معناه تنقص لمقام الربِّ -جل جلاله- وليس فيه وقع الضرر أو زوال القوة عن الله -عزو جل-، بل الله هو: القوي، العظيم، القدير، الجبار، القهار، الذي يقول للشيء كن فيكون، ولكن -كما في حديث أبي ذر-: «إِنَّكم لن تبلغوا ضُري فتَضُرُّوني»، فلن يبلغ العباد -مهما اتفقوا واجتمعوا- على أن يضروا الله بشيء، بل إنما يضرون أنفسهم، ولكن الله لكماله وعظمته إنما يتأذى من بعض العباد لأفعالهم، فيؤذيه بعض العباد، وهذا الأذى لا يقتضي نقصا في كماله المقدس -جل وعلا- بل يقتضي أن نؤمن بذلك، ويقتضي أيضًا أن نعلم كراهية الله -سبحانه وتعالى- لهذه الأفعال، وتحريمها التحريم الشديد.
وإذا كان الله -سبحانه وتعالى- يقول: "يؤذيني كذا وكذا"، أو يؤذيني هؤلاء" أو "آذوا الله ورسوله"، فهذا معناه انهم وقعوا في جرم عظيم. هذا معنى: (مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ؛ فَقَدْ آذَى اللَّهَ).
قال: (وَقَوْلُ اللَّه: ﴿وَقالوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ ) هذا من كلام بعض الكفار، الدهريين، وهؤلاء يجعلون الإحياء والإماتة والإهلاك من قبل الدهر، أي: من قبل الطبيعة، أي أنَّ هذا الكون هو الذي يهلك، وهو الذي يحيي ويميت، وهؤلاء يقال لهم: الدهرية؛ لأنهم نسبوا الأفعال للدهر، والمراد بالدهر هنا: الكون والمخلوقات، وهذه المخلوقات في حقيقة أمرها مدبرة ومخلوقة، وهي موجودة بعد أن كانت عدمًا، فَكَفَرَ هؤلاء الْكَفَرةَ ونسبوا إليها وتركوا خالقها.
وقولهم: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا﴾ هذا نوع من السب، وقولهم: ﴿إِلَّا الدَّهْرُ﴾ فيه إضافة التصرف والتدبير للدهر، مع أنَّ الدهر هو الطبيعة، وهو مخلوق، فليس من شأنه أن يُحدث أو يتصرف، وإنما هو مخلوق مُدبر.
إذًا من سبَّ الدهر من المسلمين، فقد شارك وشابه المشركين، وشابه الفلاسفة الدهريين الكفرة، الذين يسبون الدهر، ويجعلونه مهلكهم، مع أن الذي أهلكهم وأحياهم وأماتهم هو الله، فعاد سبهم إلى الله -عز وجل-، ومعلوم أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قدر المقادير، وخلق المخلوقات، ولا يظلم أحدًا سبحانه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس:44]، وبالتالي فكل ما يقع في هذا الكون هو بقدر الله، فالمؤمن يرضى ويدافع القدر بالقدر، وبما شرع الله -عز وجل-.
وأَّما أن يقال: إن الدهر هو الطبيعة نفسها! لا، ليس الطبيعة، ولَمَّا قال الملحد ما هي الطبيعة؟ قال: الطبيعة هي: السماء، والأرض، والبحار، والهواء، والأنهار، والأشجار.
وهذه كلها مخلوقات لا تتصرف وحدها؛ لأنها مخلوقة مدبرة، لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا. إذًا هذا هو المراد من الاستدلال بهذه الآية.
قال: (وفي الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ قال: «قال اللَّهُ تعالى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»).
وقوله -جل وعلا- في الحديث القدسي: «وَأَنَا الدَّهْرُ» هل معناه أنَّ الدهر من أسماء الله تعالى؟ نقول: لا، وإنما عاد السبُّ إلى من قدر هذه المقادير. يعني لماذا سبَّ ابن آدم الدهر؟!
مثال: رجل احترق بيته –نسأل الله السلامة- فلجهله يقول: لعن الله هذا اليوم! فنسأل: لماذا سبَّ اليوم؟ فتأتي الإجابة: لأجل الحريق الذي حدث في بيته.
فنسأل، من الذي قدر هذا الحادث؟ وقدر هذا الحريق؟
الله -سبحانه وتعالى- هو الذي قدر المقادير كلها، وبالتالي فقد عاد سبه لليوم أو الليلة إلى مقدر المقادير، وهو الله -عز وجل-، «يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» فالتدبير عند الله -سبحانه وتعالى-، وإذا سبَّ اليوم، أو الليلة، أو الزمان، أو الساعة، أو الشهر، أو السنة، لأجل ما حدث له من مقادير؛ عاد سبه لله، ولهذا قال: «وَأَنَا الْدَّهر»، لماذا «وَأَنَا الْدَّهر»؟ لأنه كما قال: أقلب الليل والنهار، فالمقادير كلها بقدر الله، فهو الذي يقدر جميع ما يقع في الكون.
قال: (وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»).
ما معنى «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»؟ مثل ما تقدم، أنَّ الله -عز وجل- هو خالق الدهر، فالله هو الذي قدر المقادير، وهو الذي يصرف، ويدبر، ويحيي، ويميت، ويرفع، ويخفض، ويعز، يذل، ولذا وجب علينا أن نتقي سب الدهر وشتمه، وأن نصون ألسنتنا عن هذا.
للأسف نجد بعض الناس، كبعض الشعراء أو الكتاب، أو غيرهم لا يملك لسانه عن هذا، والواجب علينا أن نحذر من هذا، وألا نسب الدهر، وألا نسب الزمان، وألا نسب الليل والنهار، لِمَا في هذا من نقص في التوحيد؛ لأنَّ هذا السَّبُّ يعود على من قَدَّر هذه المقادير، ولذا لا يجوز للإنسان أن يطلق لسانه فيما يغضب الله -سبحانه-، وإذا ما وقع شيء من هذا؛ فعلى المسلم أن يستغفر الله، وأن يتوب إليه، وأن يترك سَبَّ الدهر، أو سب الزمان.
بل إنّ النبي كان يسير في سفر فسمع امرأة تلعن بعيرها فقال: «لا تصحبنا دابة ملعونة»، فلا تقل: لعن الله هذه السيارة! لماذا تلعنها؟ لا يجوز لك لعنها، وهكذا في كل شيء.
ولذلك أخي الله صن لسانك واحفظه، فلا تلعن به، ولا تسب لا تشتم؛ لأنَّ من علامات كمال التوحيد أن تحفظ لسانك، وألا تتكلم إلا بطيب الكلام، مثل: اللهم أعنا على هذه السيارة، اللهم أصلحها لنا، اللهم اطرح لنا فيها البركة، اللهم بارك لنا في أمتعتنا، وهكذا فتدعوا بالبركة والتيسير والتسخير، فتقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقترنين.
قال الشيخ في المسألة الرابعة من مسائله: (الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَابًّا، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِقَلْبِهِ)، أي أنَّ السبَّ يعود على الله -عز وجل- وإن لم يقصد ذلك، فإذا قال الرجل: لعن الله هذا اليوم، أو لعن الله هذه الساعة؛ لأنَّ الحريق وقع فيها، والحديث حكم بقوله: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ» يعني: صار سابًا لله وهو لم يقصد بقلبه، ولو سبَّ المسلم الله -عز وجل- أو رسوله لكفر بالإجماع، وليس في هذا شك، ولكن لَمَّا سب الدهر هنا، لا يحكم عليه بالكفر، وإنما نقول: لقد وقع في معصية وكبيرة.
لِماذا وقع في كبيرة؟ لأنَّ سَبَّه يعود في المآل إلى إيذاء وسب الله -عز وجل-، ولهذا كان من كبائر الذنوب.
نسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين العافية، ونسأل الله أن يحفظ ألسنتنا عن كل ما يغضبه ويسخطه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك