الدرس الثالث

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

12804 18
الدرس الثالث

كتاب التوحيد 3

{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها متن (كتاب التوحيد) لإمام الدعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، أهلاً وسهلاً بك فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة المستمعين والمشاهدين، ونسأل الله -جل وعلا- للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{أستأذنكم فضيلة الشيخ في إكمال المتن}.
نعم، تفضل.
{قال المؤلف -رحمنا الله تعالى وإياه-: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:59]، وقَولُهُ: ﴿قَال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر:56].
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُول اللَّهِ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ، فقال: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ».
وَعَن ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد، فنستكمل القراءة في هذا الكتاب المفيد النافع (كتاب التوحيد حق الله على العبيد) للشيخ الإمام المجدد العلامة/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى وغفر له- ووصلنا إلى (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:59]). وقد تقدم قبل أبواب قريبة ذكر بعض أعمال القلوب الواجبة، كمحبة الله -سبحانه وتعالى- المحبة العبادة، وكذلك من أعمال القلوب الخوف من الله -سبحانه وتعالى- خوف العبادة، وكذلك رجاؤه -جل وعلا-.
وهنا يذكر المؤلف -رحمه الله- ما ورد في الكتاب والسنة مما حرمه الله -عز وجل- مما يكون في القلوب، أي أنَّ هناك أعمالا يجب أن نتركها، وأن نحذر منها، وأن لا تقع في قلوبنا، فهذه جاء فيها وعيد وتحريم وعقوبة شديدة لمن وقع فيها، نسأل الله العافية والسلامة.
وقد حذر الله -عز وجل- من الأمن من مكر الله، وكذلك في السنة المطهرة، وكذلك اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله -جل وعلا-، كل هذه أعمال تكون في القلوب وقد حرمتها الشريعة، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يتقيها، وذلك بمعرفة معناها، ومعرفة الدليل الدال على تحريمها، والبعد عن أسباب الوقوع فيها.
قال -رحمه الله-: (قَوْلِ اللَّهِ تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ )، وهذا يبين التحريم من جهتين.
الأول: استنكار الله -عز وجل- على هؤلاء؛ لأنهم آمِنُوا مكر الله، فالذي لا يأمن الله، ولا يخاف من عقوبة الله، يكون مذمومًا، وهو أيضا من الخاسرين، قال تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ فإذا كان العبد مسلمًا، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، فالواجب عليه أن يخاف من الله، وأن يخشى عقوبة الله عند وجود الذنوب أو عند ارتكاب المعاصي والموبقات، أو عند التقصير في الواجبات.
وأمَّا إذا وقع في المعاصي، أو ترك الواجبات، ولم يبال بأمر الله، ولم يخف من عقوبة الله، فهو داخل في هذا الذم، ولهذا يجب على المؤمن ألا يكون في قلبه هذا الأمن من مكر الله، وألا يبالي بعقوبة الله؛ لأنَّ هذا دليل على ضعف الإيمان، ودليل على أن هذا العمل القلبي محرم، وهو الأمن من مكر الله، أي أن يأمن ويقول: أنا في سلامة أبدًا، ولا يمكن أن يُصيبني عقوبة من الله، وتراه مُقيم على معاصيه وتارك لفرائضه، وهذا من كبائر الذنوب كما سيأتي.
قال: (وقَولُهُ: ﴿قَال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر:56])، القنوط من رحمة الله ضد الأمن من مكر الله، والقنوط هو شدة الخوف حتى يبلغ به اليأس، فييأس ويقنط ويظن أنَّ الله -عز وجل- لن يغفر له ولن يرحمه، حتى لو تاب، وحتى لو استقام على الشريعة، حتى لو ترك الذنوب، بل تراه يقول: لن يغفر الله لي. هذا أيضًا وقع في كبيرة من كبائر الذنوب، والقنوط واليأس من أعمال القلوب، والقنوط واليأس الذي يكون في القلب من مغفرة الله، فيقول: لن يغفر الله لي، لن يرحمني الله -عز وجل، هذا أيضًا من كبائر الذنوب، وهو من أعمال القلوب المحرمة، ولذا لا يجوز للمؤمن أن يقنط من رحمة الله.
قال: (وقوله: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ ) ما هو المكر في اللغة العربية؟ المكر هو إيصال العقوبة بطريق خفي، أو بطريق لا يعلمه من وقعت عليه العقوبة، وأمّا في اللغو فالمكر يُطلق على أمرٍ مذمومٍ ويطلق على أمر محمود.
فالأمر المذموم من هذا هو أن يوقع العقوبة على من لا يستحقها بالكذب أو بالخداع، وهذا مذموم ويقع من بعض البشر، ولكن الله -عز وجل- منزه عن ذلك، فالله -سبحانه وتعالى- له المثل الأعلى، وله الكمال المطلق، وله الأسماء الحسنى العلا، وقد وصف الله -عز وجل- نفسه بهذا المكر مُقيدًا وليس مُطلقًا. فقال: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]، وهذا وصف مُقيد، يعني أنَّ الله -عز وجل- يمكر بمن يمكر به، ويكيد من كاده، وهذا ليس وصفًا مُطلقًا، ولذا لا يجوز أن يوصف الله -عز وجل- بأنه الماكر أو أن نقول: إن الله -عز وجل- يمكر، بل لا بد من أن نقيد ذلك كما قيده القرآن، وكما جاء في النصوص الشرعية.
إذُا الإيقاع بالخصم أو إنزال العذاب أو العقوبة بالخصم من حيث لا يعلم ومن حيث لا يشعر يطلق في اللغة على المكر، فإذا كان هذا الخصم أو هذا الذي أوقعت عليه يستحق هذا، وهو مستوجب لهذه العقوبة، وليس في ذلك خداع أو كذب أو باطل، فإنَّ المكر يكون محمودًا، ولذلك نقول: إنَّ الله -عز وجل- يجب أن يوصف بما وصف به نفسه في كتابه، أو في سنة رسوله ، وقد وصف الله -عز وجل- نفسه بذلك، فنلتزم ما جاء في كتاب ربنا وفي سنة نبينا ، مع التقييد بما قيدت به هذه الصفات في النصوص الشرعية.
كذلك هذا المكر هو صفة فعلية متعلقة بمشيئته -جل وعلا- واختياره، فهو يفعل ذلك متى شاء لمن يستحق ذلك.
ومن ذلك أنَّ الله -عز وجل- يمكر بأعداء الرسل ويكيدهم، ومن هذا ما ورد في الدعاء عن النبي أنه قال: «ربِّ أعني ولا تُعنْ عَليَّ، وانْصرنِي ولا تَنصرْ عليّ، وامْكرْ لِي، ولا تَمكرْ عليّ، واهْدنِي ويَسرِ الهُدى لِي، وانصرنِي على من بغَى عليّ» ، فالذي يحتاجه العبد هو أن الله -عز وجل- ينصره على من عاداه، وهناك أعداء للرسل، وأعداء لأتباع الرسل، وأعداء للإسلام يمكرون ويكيدون، ونحن بحاجة إلى ربنا -جل وعلا- أن ينصرنا عليهم، وأن يكفينا شر مكرهم، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، وأن يجعل تدبيرهم ومكرهم عائدًا عليهم، فلا غنى لنا عن الله -عز وجل-، والله -عز وجل- يستدرجهم ويوقعهم في شر أعمالهم، كما ورد في القرآن أنهم يجمعون الأموال، ويكيدون للدين والشريعة، ثم يجعل الله -عز وجل- أموالهم وبالاً عليهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال:36]، فأي مكر أعظم من هذا المكر؟
فصارت هذه الأموال التي جمعوها، وهذه الجهود التي بذلوها للصد عن الإسلام، وللكيد للإسلام وأهله، صارت وبالا عليهم وحسرة عليهم. نسأل الله العافية والسلامة.
كذلك من صور المكر: المكر بالعصاة، وأهل الظلم، وأهل الجبروت، وأهل الكبائر، الذين لا يُبالون بأوامر الله، ولا ينتهون عمَّا نهي الله -عز وجل- فإنّ الله -عز وجل- يستدرجهم بالنعم، ويملي لهم، كما جاء في الحديث «إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، وهذا مذكور أيضًا في مواضع من كتاب الله -عز وجل-.
إذًا المؤمن يخاف إن وقع في الذنوب أو قصَّر في التوبة أو قصَّر في بعض الواجبات، فلا يأمن مكر الله، فيتهم نفسه، ويخاف من ذنوبه، ويسارع إلى التوبة، ولا يؤذي عباد الله، ولا يتسلط على أحد من خلق الله، بظلم أو عدوان أو زور أو غير ذلك من أنواع العدوان، فإنَّه إن انتصر في ظاهر الأمر، أو أخذ حقه في المحكمة بالكذب والظلم ومكر بخصمه بالباطل، فسوف تعود الأمور وبالاً عليهم، وسوف يعاقبه من هو على شيء قدير.
فالمؤمن يخاف من هذا، ولا يؤذي عباد الله، ولا يظلمهم أو يكذب عليهم.
وفي الآية الثانية فيها تحذير من القنوط، والقنوط هو اليأس، يقول: لن يُغفر لي، لن تغفر ذنوبي، أنا ذنوبي هذه لا يمكن أن يغفرها الله لي. فمن قال هذا فقد وقع في كبيرة من كبائر الذنوب، وقع في كبيرة حتى لو قال: أنا أعظم الله، ومن شدة تعظيمي لله حصل مني هذا القول، هذه كبيرة من كبائر الذنوب، فأنت الآن مرتكب لجرم عظيم وقع في قلبك، ويجب عليك أن تتوب منه، وأن تعلم أن الله -عز وجل- يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب وأناب ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53].
وقارن بين الحالين:
الحال الأول: آَمِنَ مكر الله، ولا يبالي بأمر الله، ولا يخاف من الله، ولا يقيم له وزنًا، نسأل الله العافية السلامة، ولا يقيم لأوامره وزنًا، ولا يبالي بالنواهي فيرتكبها.
والحال الثاني: خاف من الله -عز وجل- وخاف من ذنوبه، وصار يقول: لن يغفر لي، فاعترف أن عنده ذنوب، واعترف بالتقصير والإجرام، ولكن وقع في جريمة أخرى وهي أنَّه ظن بالله ظن السوء، وقال: لن تغفر لي ذنوبي، لأنها كثيرة جدًا جدًا، وهذا ضد الأول، فكلاهما على ضلال، وكِلا طرفَيْ قصدِ الأمور ذميمُ.
والواجب على كل مسلم ومسلمة أن يجمع بين الخوف والرجاء، وهما للمؤمن كالجناحين للطائر، فإذا استويا تم الطيران، وإذا ضعف أحد الجناحين ضعف الطيران وربما سقط الطائر، وإذا زال أحد الجناحين هلك الإنسان، فالمؤمن يجمع بين الخوف والرجاء، فهو يخاف من الله ويرجوه، يرجو أن الله يغفر له، ويرجو أن الله يرحمه، ولكن هذا الرجاء لا بد معه من عمل، وإلا صار أمنية، فالرجاء دون عمل يسمى: أمنية، وإذا تمنى على الله الأماني لا تنفعه الأماني، فيقول: أنا أتمنى أني كذا، وأتمنى أني كذا، وإذا أذن المؤذن لا يقوم للصلاة، وإذا جاء حاجة لبر الوالدين لا يبر والديه، وإذا جاء محرم ارتكبه، فهذا لا يكون رجاء، بل هو رجاء كاذب، والرجاء الصادق يتبعه عمل.
وكذلك الخوف، والخوف ليس مجرد أمور في القلب لا يتبعها عمل، بل الخوف السليم والصحيح هو الذي يحمل صاحبه على فعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله، فإذا كان هذا الخوف موجودًا في القلب، فإذا جاء وقت الصلاة، وقال اليوم لا نصلي، فتذكر أن الله سيعاقبه على ترك الصلاة، فقال: أنا أخاف من عقوبة الله، وقام توضأ وصلى، فحمله الخوف على فعل ما أوجب الله، وإذا دعاه داع للزنا أو للخمر أو غيره من المعاصي، وزين له الشيطان هذه الأمور؛ تذكر النار، وتذكر عقوبته، وتذكر غضب الله؛ فخاف فهذا الخوف محمود؛ لأنه حجبه وحجزه عن المعاصي وعن ترك ما حرم الله -عز وجل.
إذًا الواجب على المؤمن أن يجمع بين الخوف والرجاء، وألا يُغلب جانبًا على جانب، ولكن بعض العلماء فصل في هذا وقال: عند المرض يغلب جانب الرجاء، وعند قرب الأجل إذا أحس بذلك يغلب جانب الرجاء، وقال بعضهم أيضًا: عند الفراغ من الطاعة يغلب جانب الرجاء.
وفي جانب الخوف قالوا: عند ارتكابه المعصية، أو إن همت نفسه إلى المعصية فيغلب جانب الخوف، والواقع أنَّ النصوص دلت على أن يكون الخوف والرجاء مستويان، ولكن يغلب حسن الظن عند المرض وعند قرب الأجل، قال النبي : «لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، وهذا واجب على المؤمن أن يحسن الظن بربه، وأن يعلم أنه يقدم على رب رحيم كريم غفور تواب، يغفر الذنوب ولا يبالي -سبحانه وتعالى، فتعظم ثقته بالله، ويستبشر بلقاء الله، وهذا من الأشياء التي ينبغي أن ينتبه لها المؤمن.
أما بقية الأمور فيجمع بين الخوف والرجاء، كما هو ظاهر النصوص الشرعية، ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء:57]، وقال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبادِي أنِّي أنا الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الحجر:49]، وهكذا كثير من النصوص، ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة:16] فيجمع بين الخوف والطمع، والطمع هو الرجاء، فيجمعون بين الخوف والرجاء، ﴿أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون:61]، وفي سورة الأنبياء مدح الله -عز وجل- فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90]، فمدحهم الله على الجمع بين الخوف والرجاء، والرغب هو الرجاء، والرهب هو الخوف، وهذا كثير في القرآن.
ومن هنا يعلم بُطلان ما عليه بعض طوائف الصوفية الذين يقولون: إنَّ الرجاء مقام بارد، أو مقام ضعيف لا قيمة له، أو يقول بعضهم: إنَّ الخوف هو مقام العبيد وليس مقام الكمَّل من الناس، فيذمون الخوف من الله ويذمون الرجاء، ويقولون: المقام المحمود هو الحب، حتى قال بعضهم: إنني ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا رجاءً لجنتك، فتلك عبادة العبيد أو تلك عبادة التجار، وإنما عبدتك حبًا في ذاتك"، فهؤلاء زنادقة، وكما قال أهل العلم: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو خارجي حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق، فالمؤمن يجمع بين هذه المقامات، ولازم قول هؤلاء المبتدعة من الصوفية وغيرهم، لازم قولهم لزومًا لا محيد لهم عنه، هو أنهم يذمون الرسل، ويذمون الأنبياء، ويذمون من مدحهم الله -عز وجل-، فالله مدح الرسل والأنبياء، ومدح عباده المؤمنين بأنهم يجمعون بين الخوف والرجاء، فكيف يقال: إنَّ هذه ناقصة أو مقامات باردة؟! هذا من الكلام الفاسد الذي يجب تركه، وهو موجود في كتب المتصوفة، فيجب على أهل الإسلام الحذر من هذه البدع التي ليست من دين الله في شيء، وألا يغتر الإنسان بفلان أو علان أو أن هذا من الأولياء أو هذا كذا، فهذه الألقاب لا تغنيهم من الله شيئًا، وإنما المعول عليه هو ما جاء في كتاب الله، وفي سنة رسوله ، وما كان عليه الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فهم القدوة والأسوة، وأمَّا من جاء بعدهم فلا يُستبعد أن يقع في الغلط، هذا إذا أُحسِنَ بهم الظن.
وبعضهم لا يكون وقع في الغلط، وإنما وقع في البدعة، وبعضهم يكون أشد من هذا، وقد يكون قد وقع في الشرك، فيسمونه وليًا وهو تارك للصلاة، ويفعل الفواحش، وهذا موجود في القرون المتأخرة، حيث صاروا يطلقون هذه الألقاب على هؤلاء، ويسمونهم أولياء، ولا شك أنهم أولياء لكنهم أولياء للشيطان وليسوا أولياء للرحمن، فالذي يترك الصلاة، ويمشي عاريا، أو يتعامل بالسحر، أو يقتل، أو يرتكب الفواحش، أو يشرب الخمور، أو يباشر النساء اللاتي لسن له قريبات له وليس هو بمحرم لهن، هؤلاء جميعًا فساق فجار ضلال، يجب هجرهم، وتجب معرفة أنهم أضل خلق الله.
إذًا هذا استطراد ساقنا إليه موضوع أن بعض المبتدعة يذم مقام الخوف، أو يذم مقام الرجاء، ونرجع مرة أخرى ونقول: إنَّ المؤمن يجمع بين الخوف والرجاء.
ومن ناحية القنوط من رحمة الله فقد تقدم معنا أنه من أعظم المحرمات، وليعلم أيضًا أنَّ القنوط قد يكون في أمور تتعلق بالشفاء من المرض مثلا، أو الرزق أو نحو ذلك، فلا يقنط المؤمن، فلو كان مريضًا مرضًا صعبًا، أو كان فقيرًا فقرًا شديدًا لا يقنط من رحمة الله، ويقول: لا يمكن أن الله يشفيني، أو يقول: لا يمكن أن الله يرزقني. لا يا أخي الكريم لا تقل هذا، لأنَّ هذا قنوط وهو حرام عليك، وليس القنوط فقط في مسألة غفران الذنوب، أو دخول الجنة، والنجاة من النار، أو قبول التوبة. حتى لو قال: أنا لا يمكن أن أُشْفَى، يا أخي الأمور كلها بيد الله، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس:82]، وكذلك قال الله -عز وجل-: ﴿فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء:87-88]، فيجب على المؤمن أن يبتعد عن هذا المسلك الوخيم وهو القنوط، وأن يُحسن الظن بربه -جل وعلا-، وأن يتذكر عظمته وقدرته، وأن الله على كل شيء قدير، ولكن عليه أن يأخذ بالأسباب، وليس معنى هذا أنه يتواكل أو يترك العلاج أو يترك الأشياء النافعة، لا. وإنما يستعين بالله -جل وعلا- ويأخذ بالأسباب.
قال الشيخ- رحمه الله-: (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُول اللَّهِ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ، فقال: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ» )، وهذا الحديث يروى مرفوعًا إلى النبي كما هنا، ويروى موقوفًا على ابن عباس -رضي الله عنهما- ولا شك أنَّ الموقوف على ابن عباس له حكم المرفوع؛ لأنَّ ابن عباس لَمَّا يحدث بهذا يُعلم أنَّه قد أخذه عن النبي ، أو استنباطًا من الآيات والأدلة الشرعية، وهذا فيه نفس ما جاء في القرآن، وهو أنَّ الشرك بالله هو أكبر الكبائر، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء:48].
وأمَّا اليأس من روح الله فهو المذكور في قوله: ﴿قَال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر:56]، وكذلك في سورة يوسف، ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف:87]، فالمؤمن لا ييأس من روح الله، والروح هنا تعني: النصر، والفرج، وتيسير الأمور، وتفريج الكربات، فلا ييأس المؤمن من روح الله أبدًا، بل يظن بالله الخير، حتى ولو طال الوقت، قال النبي : «يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ»، قالوا وما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: «يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» ، فتراه يترك الدعاء، وهذا خطأ منه، وعليه أن يدعو وأن يدعو وأن ستمر على الدعاء حتى يفرج الله عنه، وحتى يلقى ربه وهو على الدعاء؛ لأنَّ هذا خير لك.
قال: «وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ»، هذا هو القنوط، «وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ»، قد تقدم في الآية التي في سورة الأعراف.
وهنا هو (سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ)، وهذا يدل على أنَّ الذنوب فيها كبائر وفيها صغائر، وقد دلَّ القرآن على هذا، ودلت عليه السنة، ودلَّ عليه إجماع العلماء، فالذنوب ليست ذنبًا واحدًا أو نوعًا واحدًا أو على درجة واحدة، بل منها ما هو كبير، ومنها ما هو أكبر، ومنها ما هو صغير، وهذا الحديث (سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ)، والكبائر جمع كبيرة، وفي القرآن يقول الله -عز وجل-: ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء:31]، وفي سورة النجم ذكرت الكبائر ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ [النجم:32]، وهذا يبين لك أنَّ هناك كبائر، وأن هناك ما دونها، فما هي الكبائر؟
جاء في القرآن والسنة الإشارة إليها، وقول النبي : «اجتَنِبوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ. قيل: يا رَسولَ اللهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقَتْلُ النَّفسِ التي حرَّم اللهُ إلَّا بالحَقِّ، وأكْلُ الرِّبا، وأكْلُ مالِ اليَتيمِ، والتوَلِّي يومَ الزَّحفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤمِناتِ» ، هل هي سبع؟ قال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، وهذا يعني أنها كثيرة، لكن هذه من أكبرها، ولهذا كان أعظمها الشرك بالله، انظر لهذا الحديث، ستجده أنه جعل الشرك مقدمًا على ما بعده، وكذلك حديث: «اجتَنِبوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ»، وكذلك في الآيات الكريمة التي جاء النهي فيها عن الذنوب، بدأت بالشرك وتحريمه، وهذا مما يدل على أنه أكبر الكبائر، وأنه مخرج من الملة.
وتقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر هو ما عليه أهل السنة والجماعة، وأمَّا من قال: لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، لا يقصد بذلك إلغاء التقسيم بين الكبائر والصغائر، ولكنه يقصد بذلك أن يذكرك بعد عصيانك لله حتى في الذنب الصغير، لا تعص الله -عز وجل- حتى في الذنب الصغير. هذا ما يتعلق بقوله: (سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ).
والكبيرة اختلف فيها العلماء، ولكن من أشهر التعريفات وأقربها هو كل ما رتب عليه وعيد خاص، وبعضهم قال: ما ختم بلعنة أو غضب أو وعيد بالنار أو براءة من صاحبه، أو رتب عليه الحد في الدنيا، هذا يكون من الكبائر ولا شك، لكن من باب التسهيل على الطالب أو على الناظر في النصوص الشرعية، كل ترتب عليه وعيد خاص هو كبيرة، وله شأن وخطر عظيم وعليك أن تحذر منه، وهذا يجعلك تحذر من الذنوب كلها، وتحذر من الكبائر على وجه الخصوص، وقد ألفت الرسائل والكتب وجمع أهل العلم من خلالها ما ورد في الكتاب والسنة، ككتاب الكبائر للذهبي وغيره.
{قال: (وَعَن ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ)}.
نفس الحديث السابق لكنه موقوف على ابن مسعود، وفيه أنه ذكر القنوط من رحمة الله -جل وعلا-، وهذا يبين لنا خطر هذه الذنوب، وأن القلوب يجب أن تسلم من هذه الكبائر.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بَابُ مِنَ الْإِيمَانِ باللَّهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدارِ اللَّهِ، وَقَوْلُ اللَّه تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ .
قال عَلْقَمَةُ: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ."
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ": عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُول اللَّهِ قال: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ».
وَلَهُمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- مَرْفُوعاً: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدَودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».
وَعَن أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ؛ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا. وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ؛ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافَيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَقال النَّبِيُّ : «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظمَ ِالْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ تعالى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَي، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيّ)
}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بَابُ مِنَ الْإِيمَانِ باللَّهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدارِ اللَّهِ).
الصبر فرض وواجب على المؤمن، وهو من أعمال القلوب، ومن أعمال اللسان والجوارح أيضًا، فهو عمل قلبي، ولذلك فالشيخ لا يزال يتكلم عن أعمال القلوب، ويذكر ما يناسب أعمال القلوب.
والصبر في اللغة هو الحبس والكف، وفي الاصطلاح الشرعي: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس كل ما يقع في القلب من الظنون الفاسدة والتخيلات الضارة، فيحبس قلبه عن ذلك، ويحبس اللسان عن الشكوى لغير الله، وعن النياحة ورفع الأصوات بالصراخ، هذا الثاني، وحبس الجوارح عمَّا حرم الله من أمور الجاهلية، كلطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، هذا هو معنى الصبر.
والصبر منزلته في الإسلام عظيمة، ومنزلته من الدين كمنزلة الرأس من الجسد، والدين بلا صبر كجسد بلا رأس، ولذا لا بد من الصبر على أنواعه الثلاثة:
الأول: صبر على أوامر الله فيفعلها.
والثاني: صبر عما حرم الله فيتركها.
والثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يجزع ولا يتسخط ولا يتشكل ولا يفعل ما حرم الله، هذه هي أنواع الصبر الثلاثة، والمؤمن بحاجة إلى أن يتعلم ما ورد في كتاب الله، وفي سنة رسوله في شأن الصبر، وقد مدح الله -عز وجل- الصابرين والصابرات، وأمر بتبشير الصابرين فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:155]، وأثنى على الصبر وعلى أهله في مواضع، وأخبر أنهم هم أهل السلامة والفلاح فقال: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:1-3]، والشيخ هنا ذكر نوعًا من الأنواع الثلاثة التي ذكرناها، وهو على أقدار الله المؤلمة، وهي الأقدار التي تجري في الكون مثل: الموت، والغنى، والفقر، والدين، وفقد الأحباب والأقارب بالموت، أو الجرح أو يكون أيضًا على القريب وعلى البلد وعلى القبيلة أو حتى بلدك كامل. قد يحدث له نقص في المعيشة أو يحدث له أمرًا من الأمور والمصائب الكبيرة، كالزلازل والبراكين وغيرها مما يجري، فما الذي نفعله على أقدار الله المؤلمة؟
هنا يأتي الصبر، وحبس ثلاثة أشياء: حبس النفس، والقلب، واللسان، والجوارح، وهذا هو الواجب على أهل الإيمان، وهو واجب وفرض على المؤمنين ﴿وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46]، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10]، وقال النبي : «ومَن يَتَصبَّرْ يُصَبِّرْه اللهُ» .
قال: (بَابُ مِنَ الْإِيمَانِ باللَّهِ) يعني: إذا أنت آمنت بالله، وهذا من الإيمان بالله على أقدار الله، والصبر على أقدار الله وعدم الجزع، ثم أورد هذه الآية الكريمة في سورة التغابن ويقول الله -عز وجل-: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن:11]، وهذا فيه بيان حال المؤمن عند ورود المصيبة، ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ يعني: بقدره الكوني، فالله -عز وجل- قدر كل شيء، وكل ما يجري هو بقدره، فهذه المصيبة التي أصيب بها هذا، أو تلك القبيلة، أو المجموعة، أو البلد فهي -بإذن الله عز وجل-، وهي بقدر الله.
ثم قال: (وَقَوْلُ اللَّه تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ )
قال في أول الباب: (مِنَ الْإِيمَانِ باللَّهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدارِ اللَّهِ)، وهنا قال في الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ الهداية عند ورود المصيبة، ما هي هذه الهداية؟ إذا كان مؤمنا بالله -عز وجل- يهدي الله -عز وجل- قلبه فيصبر، ولهذا أتى الشيخ بتفسير عظيم جدا لعلقمة بن قيس النخعي، وهو -رحمه الله- أحد كبار التابعين، وهو من مجالسي عبد الله بن مسعود، أي استفاد من مدرسة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه.
قال: (قال عَلْقَمَةُ: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ)، يعني أن الله -عز وجل- قدر هذه المصيبة فتصيبه في نفسه، أو في ماله، أو في ولده، أو في بيته، أو في مركبته، أو في تجارته، فيعلم أنها من عند الله، فيقول: هذا بقدر الله، ويرضى القلب ويسلم، ولا يعترض ولا يجزع ولا يتشكى، ولا يقول ليه يا كذا، بل يحبس نفسه، وهذه هداية، وكل الناس يتكلمون عن الصبر، ولكن إذا نزلت بهم المصيبة تظهر الحقائق، وعند نزول المصيبة يكون العبد بحاجة إلى هداية الله في هذا الوقت، والصبر مسألة عملية أكثر منها نظرية، فهو يؤمن ويصدق، ولكن إذا جاء العمل والتطبيق تباينت الأحوال والقلوب، فالمؤمن لا يجزع، ويتصبر، ويتحمل، ويسأل ربه العافية، ويدعو الله -عز وجل- بالفرج، ويدعو الله -عز وجل- بالعاقبة الحميدة والخلف، كما حصل في حديث أم سلمة، لَمَّا مات زوجها، قالت: قلت ما أمرني به الرسول : ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، قالت -رضي الله عنها-، وقالت في نفسها: من خير من أبي سلمة؟! ما في أحد خير من أبي سلم! لأنها ترى فيه الزوج الصالح الطيب وقد مات، ففقد الزوجة لزوجها مصيبة عظيمة، فاذا برسول الله يخطبها بعدما فرغت من عدتها، فهو خير البشر.
انظر كيف كان عاقبة الصبر! كانت عاقبته حميدة على أم سلمة. رضي الله عنها.
قال: (وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُول اللَّهِ قال: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»).
قوله : «اثْنَتَانِ» يعني: خصلتان أو شعبتان هما بهم كفر، يعني هاتان الشعبتان من شعب الكفر، يعني: الخصلة الواحدة «هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ» يعني: الواحدة منها شعبة كفر، والثانية كفر، «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ» يعني: بالناس، «كُفْرٌ» يعني: إذا وقعوا في شعبة من شعب الكفر.
لكن هل هذا الكفر مخرج من الملة؟
لا، هذا كفر دون كفر، وليس من الكفر الأكبر.
الخصلة الأولى: «الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ» يعني: يطعن في الأنساب، ويقول: هؤلاء ليسوا بشيء، وهو يتفاخر بنسبه.
النوع الثاني: «وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»، النياحة هي رفع الصوت بالصياح والصراخ، وهذه النياحة كأن يقول مثلا: فلان كان يطعمنا، وفلان كان يأتينا، يعني: يذكرون اسم الميت، وربما استعانوا بامرأة من خارج الأسرة حتى تنوح لهم، وتسمى هذه النائحة، وأما اللائحة الثكلى فهي التي من البيت نفسه متأثرة فتبدأ وترفع صوتها وتصرخ، فماذا يحدث للحاضرين؟ ستهيجون على البكاء ويزداد نحيبهم، ويزداد بكاؤهم وصراخهم، ويفعلون الأفعال المنكرة، وهذا من كبائر الذنوب، وهذا من خصال الكفر، وقد حذر منها النبي ، إنما المؤمن عند نزول المصيبة يبكي، ولا بأس أن يبكي بدمع عينه، ولا بأس أن يتأثر، فهذا أمر طبيعي لا يلام عليه العبد، بل إن النبي لَمَّا مات ابنه إبراهيم بكى ودمعت عينه، وقال: «إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» ، فدمعت عينه وحزن قلبه ، ولم يزد على هذا؛ لأنَّ هذا مرخص فيه.
وأمَّا رفع الصوت بالصراخ وذكر المآثر أو جمع الناس على الطعام، فهذه وليمة لفلان الميت، تعالوا عندنا نأكل ونتجمع ونتضاحك، كل هذه من أمور الجاهلية، ومن أمور النياحة وهكذا.
{قال -رحمه الله-: (وَلَهُمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- مَرْفُوعاً: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدَودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»)}.
«لَيْسَ مِنَّا» هذا تبرأ كما سبق معنا أن كبائر الذنوب الكبيرة تعرفها بما رتب عليها الوعيد الخاص، وهنا وعيد، فنعرف أن هذا العمل كبيرة من كبائر الذنوب.
«وَشَقَّ الْجُيُوبَ» الجيب يدخل منه الرأس، هذا الجزء يشق هكذا الثوب أو الفانيلا أو القميص، شقه هكذا ستتمزق، هذا شق الجيوب، وكذلك «ضَرَبَ الْخُدَودَ» يضرب خده، يلطم خده، يضرب جسمه حزنًا على هذا.
وقوله: «لَيْسَ مِنَّا» أي: تبرأ منه الرسول .
«وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» دعوى الجاهلية كأن يرفع صوته بذكر مآثر الميت، فيقول: انقطع الظهر لَمَّا مات فلان، أنا حصل لي كذا، سيذهب عني كل شيء، أنا أتعس في الحياة، أنا كذا وكذا، ويصرخ فهذه دعوة الجاهلية وقد حرمتها الشريعة الإسلامية وأبطلتها، ولا يزال بعض الناس يفعلها، نسأل الله العافية، ولهذا حذر النبي من هذا، وقال: «أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والنِّياحَةُ»، وقالَ: «النَّائِحَةُ إذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها، تُقامُ يَومَ القِيامَةِ وعليها سِرْبالٌ مِن قَطِرانٍ، ودِرْعٌ مِن جَرَبٍ» نسأل الله العافية، فهي ستعذب بهذا اللباس، والمؤمن لا يرضى ولا يأتي بأحد ينوح، ولا يرضى بالنياحة لا لنفسه ولا لغيره، وهكذا المؤمنة، ولا يأتون بنائحه ولا يستأجرون، ولا يجلسون للعزاء في سرادقات وخيام، ويجمعون الأطعمة والأشربة، وإنما يعزى المؤمن، يؤتونه فيعزونه، المؤمن يعزى والمؤمنة تعزى، يصبر كل منها، فيذكر لهم الأذكار الطيبة.
وأمَّا الاجتماع على الطعام، والاجتماع على الولائم، فهذا غير مشروع، وإنما الذي يشرع أن يطعم أهل الميت بما يكفيهم. هذا ما يتعلق بهذا الحديث.
(وَعَن أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ؛ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا. وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ؛ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافَيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»). هذا الحديث كله تحذير من أن يغتر ويأمن مكر الله، إذا جاءته العقوبة لم يصبر، أو جاءه البلاء لم يصبر، فإذا جاءك ابتلاء في نفسك أو في أهلك أو في هذا يكون كفارة لك إذا صبرت واحتسبت، وهذا من جزاء الصبر، ومن ثواب الصابرين أن الله -عز وجل- يكفر عنهم ذنوبهم، ولهذا قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ؛ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا» يعني: يصير هذه المصائب التي تنزل بهم خيرًا، وأما إذا لم ينزل به مصيبة أبدًا فالإنسان يخاف ويقول: أنا ما نزلت بي مصيبة، ولا نزل بي بلاء أبدا ولهذا في الحديث «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونَهم» . هذا ما يتعلق بهذا الحديث عن أنس.
قال: (وَقال النَّبِيُّ : «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظمَ ِالْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ تعالى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَي، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيّ) يعني إذا عظم عليك البلاء، فاعلم أن الله -عز وجل- سيعظم لك الثواب والجزاء، وإذا رضيت بالبلوى وصبرت على قدر الله -عز وجل-، فهذا خير لك، ولكن ليس معنى هذا أنك لا تدفع أسباب الشر، وأسباب البلاء تدفع بالدعاء وبالأسباب المباحة، وإنما إذا جاءك الأمر ولا محيص لك عنه، كحال إذا مات فلان من أقاربك، ما في مجال الآن انتهى الأمر، فترضى وتسلم لأمر الله، وتقول: رضيت بما قدر الله -عز وجل-، فهذا يعني أن يكون أجرك عظيمًا عند الله -سبحانه وتعالى-، فالمؤمن إذا ابتلي يدخل في هذا الحديث، «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ، ثم الذين يلونَهم ، ثم الذين يلونَهم» يبتلى المرأ على قدر دينه، فإذا أصيب بهذا فعليه أن يرضى، وأن يتذكر العاقبة الحميدة.
يقول العلماء: إن المقامات عند نزول البلايا أربعة:
مقام محرم، وقد سبق ذكره، وهو: الجزع والسخط، وهذا محرم ومن كبائر الذنوب.
ومقام واجب، وهو الصبر وقد تقدم ذكره بحبس النفس واللسان والجوارح عما حرم الله.
ومقام أعلى من الصبر، صبرًا وزيادة. ما هي الزيادة؟ قالوا: الرضا؛ لأنَّ الصبر فيه حرارة، والصبر هو إمساك للنفس مع وجود ألم.
وأمَّا الدرجة التي أعلى منها، فهو شعور الراحة والطمأنينة، فهو صبر وحصل له مقام أعلى وهو أنه حصل له الرضا، ولهذا في الحديث: «فمن رَضِيَ فله الرِّضَى»، ومنه: رضيت بالله.
والمقام الرابع، قالوا: هو مقام الشكر، وهو أن يتذكر أنَّ الله -عز وجل- بهذه المصيبة التي أصابه بها، يتذكر أنه سيعقبه حسنات لا يحلم بها، ولهذا جاء في بعض الآثار أن أهل الدنيا إذا رأوا الناس ما لهم من الدرجات العلى في الجنة، تمنى الناس يوم القيامة أن لو قرضوا بالمقاريض من شدة ما يرون لهم من الأجور، فيحدث في نفس الإنسان مع الصبر والرضا أنه يشكر الله -سبحانه وتعالى- على ما قدر وقضى عليه، وهذا حال عظيم ولا شك أنه يرثه الأجر والثواب عند الله -سبحانه وتعالى-.
إذًا علينا أن نعرف هذا الأمر، وأن نعامل هذه المصائب بما يحبه الله -عز وجل- من الصبر والرضا، وأن نشكره -سبحانه وتعالى-؛ لأنه سيكفر عنا السيئات بهذه المصائب والبلايا؛ فتكون كفارات للذنوب.
نسأل الله أن يغفر لنا ولجميع المسلمين، وأن يرزقنا الصبر، وأن يرزقنا العافية، فإنه ليس شيئا أحسن من العافية، نسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، وجزاكم الله عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك