{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها متن (كتاب التوحيد) للإمام المجدد الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، أهلاً وسهلاً بك فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة المستمعين والمشاهدين، ونسأل الله -جل وعلا- للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{أحسن الله إليكم، وعلى بركة الله نبدأ}
نعم، تفضل إن شاء الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (باب قول الله تعالى ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ﴾ [فصلت:50].
قَالَ مُجَاهِدٌ: "هَذَا بِعَمَلِي وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ".
وَقَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: "يُرِيدُ مِنْ عِنْدِي".
وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ ، قَالَ قَتَادَةُ: "عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ"، وَقَالَ آخَرُونَ: "عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: "أُوتِيتُهُ عَلَى شَرَفٍ")}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أمَّا بعد، فيقول الإمام العالم المجدد، شيخ الإسلام/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد: (باب قول الله تعالى ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ﴾ )، ويبين -رحمه الله تعالى- أنَّ أغلب النفوس، وأنَّ أغلب الناس يكثر فيهم نسيان نعم الله تعالى، فيغفلون عن إضافتها إلى الله، وشكر الله -عز وجل- عليها، فهذا شأن الإنسان في الغالب، إلا المؤمن الموحد الذي وحد الله -سبحانه وتعالى- وتعلق قلبه بالله، فهذا الموحد هو الذي يشكر الله، ويعترف بنعمه، ويضيفها إليه، ويُثني على الله بها، ويتحدث بها في طاعة الله -عز وجل-، وهذا من مُقتضيات التوحيد، ومن مُقتضيات الإيمان والإسلام.
أمَّا الكفار والمشركون ومن شابههم، نسأل الله العافية والسلامة، فإنهم يكثر فيهم جحد النعم، وكفرانها، وعدم الاعتراف بها لله تعالى، وعدم الثناء على الله بها، بل يرون أنها من عند أنفسهم، ويمدحون أنفسهم، ويجتهدون في ذكر الأسباب، والتي هي بتيسير الله -عز وجل- وتدبيره، فينسون المسبب للأسباب سبحانه.
ولذلك عقد الشيخ -رحمه الله- هذا الباب للتحذير مما هذا شأنه، وهو أنَّ الإنسان يضيف النعم إلى علمه، أو إلى جده واجتهاده، أو إلى حذقه وفطنته، أو إلى حفظه وذاكرته، أو إلى عقله، أو إلى قبيلته، أو إلى غير ذلك! وكل هذا كذب؛ لأنَّ عقلك، أو علمك، أو مالك، أو اجتهادك، فكل هذه أسباب، ومسبب الأسباب وخالقها والذي يسر لك هذا هو الله -سبحانه وتعالى-.
وكثيرًا ما نسمع بعض الناس يقولون له: من أين لك هذه التجارة؟ فيقول: لقد عانيت كذا، وفعلت كذا، وهذا عرقي، وهذا جهدي، وينسى ذكر الله، وينسى إضافة النعم إلى المنعم سبحانه، فهذا من الجنس البائس الذي سيأتي فيه الوعيد الشديد، ويكفي في قبحه أنَّه من شأن الكافر، فقد قال الله -عز وجل- في شأنه: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ﴾ ، ثم قال الله: ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [فصلت:50]، فهذا شأن الكافر، فكيف بالمسلم أن يقول مثله؟ وكيف يتشبه به؟!
والواجب على المسلم أن يشكر الله على جميع النعم، وأن يُثني عليه -سبحانه-.
ثم نقل الشيخ هنا عدة أقوال في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ ، أو قوله: ﴿لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي﴾ ، وهذا من توفيق الله -سبحانه وتعالى- للشيخ محمد عبد الوهاب، وهو أنه حريص كل الحرص على تفسير قول الله -عز وجل- بكلام السلف، فعندنا هنا الآن آية كريمة، وهي قوله: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي﴾ ، ما معنى هذا لي؟
رجع الشيخ إلى كلام أئمة التفسير، ونقل كلامهم في هذا الكتاب، وهذا من بركة علم الشيخ وتوفيق الله له، فرحمه الله، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
لاحظ الآية الكريمة: ﴿مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ﴾ ما حال الإنسان -سواء الكافر أو المسلم- في حالة الضراء؟
الإنسان في حالة الضراء يلجأ إلى الله تعالى، ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت:65]، ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾ [الزمر:8].
إذًا في حال الضراء يعترف ويرجع ويسأل الله، حتى غير المسلمين بجميع ومختلف اللغات، لو تسأل أهل اللغات عما يحدث لهم أثناء الضرورة القصوى؟ تجدهم يقولون: نقول كذا وكذا بعباراتهم.
إذًا، هذا الإنسان الذي يقول هذه الكلمات في حال الشدة وحال الضراء، إذا جاء الرخاء ماذا يقول؟
يقول: هذا لي، (قَالَ مُجَاهِدٌ: "هَذَا بِعَمَلِي وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ")، ما معنى أنا محقوق به؟ يعني: أنا مستحق له، أنا أستأهل هذا الشيء، هذا حق من حقوقي، وإذا ما أعطيته فقد أُهدرت حقوقي، وهو بهذا الخطاب لا يقول: يا رب أعطني حقوقي، ولكنه يتعامل مع الله الخالق المدبر بهذا المنهج، أي وكأنه يقول: هو حق لي ولازم أن أحصل عليه.
(وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ)، أي: أنا أستأهل هذا الشيء، وهذا نوع ضلال أو نوع كفر في هذا المقام.
هو يقول: هذا بعملي وبذكائي ولم يقل: هو بفضل الله ثم عملي.
(وَقَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: "يُرِيدُ مِنْ عِنْدِي")، فهذا لي يعني: (من عندي).
إذًا هذا القول الثاني، يعني: كلا من عندي أنا، عقلي، قوتي، ذكائي، أصحابي، موظفيني، شركتي، إلى آخره، فكل هذا من عندي، فأنا كم فعل وفعل، فالنعم يضيفها لنفسه.
قال: (وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ ) هذه في أي سورة؟
سورة القصص، من القائل؟ القائل: قارون، وقد أعطاه الله -عز وجل- كنوزًا عظيمة جدًا، هذه الكنوز توضع في صناديق وأبواب، وتغلق بالمفاتيح من كثرتها، وهذه الخزائن والكنوز والأبواب والصناديق التي فيها الذهب والأموال الهائلة تجمع مفاتيحها، فيأتي العصبة من الرجال -أي: العدد الغفير من الرجال- يريدون حمل المفاتيح فيصابون بالتعب الشديد من حمل المفاتيح، وهذا يدل على أن المال بها عظيم جدا.
وأمَّا قارون فكان من قوم موسى ولكن بغى! من أين جاءه البغي؟
من المال، ومن العز، ومن الوظيفة، ومن المكانة. وقد كان من قبل رجلا عاديًا مثلهم، ولكن لَمَّا جاءه المال؛ فتن به، ولهذا قد يكون المال أحيانا وبالاً على صاحبه، ولذا فعلى المسلم دائما أن يسأل الله البركة والعافية.
ولَمَّا جاءه هذا المال قال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص:78-80]، فمن يصبر ويعرف ويفرق كان في موطن من مواطن الإيمان.
انظر لحال الناس اليوم، يتابعون أشخاصًا في وسائل التواصل، وإذا وجدوا أنهم أوتوا في الدنيا قالوا: هذا هو الحظ العظيم!
وهنا موضع إيمان كيف؟
قال المؤلف: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ انظر: ﴿لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ هذا هو الإيمان، أي: معرفة فضل الإيمان والعمل الصالح في هذه المقامات، ولذا كان الرسول ﷺ يقول: «اللَّهُمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ» . وكانت تتمة الآية: ﴿وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ .
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ . متى كان هذا الخسف؟
لا شك أنه مر عليه مدة طويلة، والله أعلم كم مرَّ على قارون وهو في عزه، وهو في زينته، وهو في هذه الكنوز! ولكن آل الأمر في النهاية إلى هذا، فهل نفعه ذلك المال والعز والجاه والناس والمدح والثناء؟
نقول: لا، للأسف لم ينفعه، وفي هذه عبرة لكل مؤمن أن لا يغتر بالمال، ولكل من أعطاه الله -عز وجل- المال أن لا يغتر.
﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ اسمعوا إلى الآية التالية: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ هذه الآيات قرأناها؛ لأنها متعلقة بموضوع الدرس، كيف؟
أول الأمر كان يقول: (﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ ) ما معنى علم عندي؟
(قَالَ قَتَادَةُ: "عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ")، كيف تكسب أنت في التجارة؟
كثير من الناس يدخل في التجارة فيشتري بضاعة، ويبيع ويشتري، ويبيع ويشتري، ثم تكون النتيجة والمحصلة: خسران، وآخرون يدخلون فيربحون بسرعة، ثم يصير تاجرًا كبيرًا جدا، وهذا بتقدير الله، فلا تغتر يا من اغتنيت، ولا تجزع ولا تيأس يا من افتقرت، فخذ بالأسباب ولكن لا تعتمد على الأسباب وتمدحها، وتنسى مسببها! هذا معنى (بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ)؛ لأنَّ المكاسب لها وجوه، أي طرق وأساليب ووسائل، وليس هناك مانع من دراستها، وهي أحينًا تدرس وأحيانا أخرى تؤخذ بالتجربة، وأحيانا الله -عز وجل- يلهم العبد هذه الأمور.
فكيف تنسى الذي ألهمك وعلمك ويسر لك؟!
قال: (وَقَالَ آخَرُونَ: "عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ"). هذا القول يختلف عن القول السابق، يعني قوله -جل وعلا-: (﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ ) لأنَّ أحد الأقوال أن يعرف وجوه المكاسب، والثاني: أني أهل له، وأصل له، فأنا أستحقه، وهذا يشبه ما مر معنا بالقول الأول: (هَذَا بِعَمَلِي وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ) أي: أني أنا أستحقه.
قال: (وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: أُوتِيتُهُ عَلَى شَرَفٍ) أي أنَّ الله -عز وجل- أعطاني هذا؛ لأني أنا محقوق به، أو لأني أهل له، ولما عندي من شرف. فصار عندنا كم قول؟
صار عند ثلاثة أقوال في هذه النصوص وما شابها.
الأول: أنَّ هذا بعملي وجدي واجتهادي ومعرفتي بوجوه المكاسب
الثاني: أني أستحق هذا الشيء.
الثالث: أني أهل له وأوتيته على شرف.
بهذه المناسبة: أحيانًا قد يأتي بعض الناس ويقولون: فلان صدمته سيارة، أو احترق بيته وذهب ماله، فيقول بعض الناس: فلان لا يستحق ما حدث له! هذا دارج عن ألسنة بعض الناس، وهو خطأ لا شك، ولذا لا تقل: فلان يستحق أو لا، ومن أنت حتى تحدد ذلك؟ الله قدر هذا الشيء ولعله خير له، فعليه أن يرضى وأن يسلم، وليس لك أن تقول هذه العبارة، فهي خطأ، ولذا علينا أن نحذر من هذه الألفاظ التي فيها إنكار النعم.
ونقرأ الآن هذا الحديث الطويل العظيم المليء بالفوائد.
{أحسن الله إليك.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنَّ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ". قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرَهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا. قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ أَوْ الْبَقَرُ (شَكَّ إِسْحَاقُ)، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، وَقَالَ: بَارِكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا".
قَالَ: "فَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ، فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا. فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ أَوْ الْإِبِلُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً، قَالَ: بَارِكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا.
فَأَتَى الْأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتَجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ".
قَالَ: "ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ، قَدْ اِنْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي؛ فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ؛ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي. فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ! أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمَالَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ".
قَالَ: "ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا؛ فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
قَالَ: "وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ قَدْ اِنْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي؛ فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؛ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي. فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ. فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» أَخْرِجَاهُ)}.
هذه القصة العظيمة العجيبة فيها فوائد عظيمة جدًا، وقد حكى النبي ﷺ هذه القصة للمسلمين، وهي مما يجب الإيمان به وتصديقه؛ لأنَّ من معنى شهادة أن محمدًا رسول الله ﷺ تصديقه فيما أخبر، وهو يخبر عن الأمم السابقة، ويخبر عمَّا سيأتي في آخر الزمان، ويخبر عن الله -عز وجل-، ويخبر عن اليوم الآخر، وكل هذا مما يجب الإيمان به وتصديقه.
وهذه القصة أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهناك أيضا قصص أخرى قصها النبي ﷺ على الصحابة وعلى المسلمين، مثل: قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، ومثل: قصة جريج العابد، ومثل: قصة أصحاب الأخدود، ومثل: قصص أخرى عظيمة، وكلها فيها فوائد كثيرة.
وإذا جاءت هذه القصص بخبر الله أو خبر رسوله ﷺ، فإنا نستفيد من الأحكام الشرعية؛ لأنَّ ذكر النبي ﷺ لها يكون له مثل بقية السنن والأحكام التي تُستنبط من الشريعة الإسلامية، وهذا بخلاف الإسرائيليات التي لم يذكرها النبي ﷺ؛ فإنها لا تؤخذ منها أحكام، وإنما تؤخذ الأحكام مما قاله الله، وقاله رسوله ﷺ، وهذه القصة من هذا الباب، ولذا يؤخذ منها الأحكام والفوائد والقواعد والعقائد.
وهذه القصة فيها خبر عن ابتلاء عظيم بأمراض، وابتلاء عظيم بفقر، ثم ابتلاء عظيم بزوال المرض، ثم الابتلاء العظيم بالمال. وأنت في هذه الدنيا قد يمر عليك فترات فقر، وقد يمر عليك فترات غنى. وبعض الناس قد يولد في بيت غني، فيجد أن أباه غني، ويظل هكذا إلى الموت، فهو في ابتلاء. وبعضهم يكون فقيرا إلى أن يموت، فهو في ابتلاء. وبعضهم يكون مريضا وهذا ابتلاء، وبعضهم يكون صحيحا، وبعضهم يكون صحيحا ثم يكون مريضًا، أو يكون مريضًا ثم يصير صحيحًا، فكل هذا ابتلاء من الله وامتحان.
ماذا تفعل في كل أحوالك؟
لفظ الحديث قال: «ورثت هذا المال عن كابر» سبحان الله، هذا كذب؛ لأنه يعلم أنه كان فقيرًا، وأنه ما كان يملك شيئا أبدًا، سواء الأقرع أو الأبرص أو الأعمى! ولكن الأعمى وفقه الله؛ فأثنى على الله وشكره، بينما الأقرع والأبرص قالا: ورثنا هذا المال كابرًا عن كابر! وهذه هي طبيعة النفس البشرية، وهذا موجود في كل إنسان.
ولهذا نقول: هذا اللفظ: كابرًا عن كابر، نضيفه إلى ما سبق، (وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ)، (أَنِّي لَهُ أَهْلٌ)، (أُوتِيتُهُ عَلَى شَرَفٍ)، (عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ)؛ لأنَّ هذا من عندي، من قوتي، من قدرتي!
أيضًا نضيف إليه هذا اللفظ، (جاءني كابرا عن كابر).
قال: («إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى») البرص معروف، وهو لون في الجلد، أي: يذهب اللون الطبيعي ويأتي لون فيه هذا المرض.
والأقرع: هو الذي سقط شعر رأسه، بينما الأعمى معروف، وهو من فقد البصر.
(«فَأَرَادَ اللَّهُ أَنَّ يَبْتَلِيَهُمْ») وهذا يدل على أن الله -عز وجل- يوصف بصفة الإرادة، وأنه -سبحانه- يبتلي العباد.
(فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا)، الملك جاءهم وهم يعلمون أنه ملكا.
(«فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ"»)، أي أنَّ الناس يصفونه بالبرص وهذا أمر يحزنه، وهذا يبين أن الإنسان يحزن بما يقوله الناس عنه، ولذا فقد أراد أن يزول عنه هذا الشيء، هل يلام على هذا؟
لا، لا يلام، لأنَّ الإنسان لو كان به ما يؤذيه فدعا ربه؛ فإنه لا يُلام على ذلك، فالله -عز وجل- ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس:82]، وهذا ما حصل لهؤلاء، ولكن لو دعا ربه ولم يستجب له فهو على خير؛ لأنه يُستجاب له ما لم يعجل.
قال: (فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرَهُ)، وهذا فيه أنَّ الله -عز وجل- أزال عنه المرض بسبب هذا الملك الذي أعطاه الله -جل وعلا- هذه القدرة، ولكن الرجل نفسه لم يدع الملك، ولم يستغث به، ولا يجوز لأحد أن يدعو الملك من دون الله، يقول: يا ملك امسحني حتى أُشفى؛ لأنَّ هذا من الشرك، فالذي يشفي هو الله -سبحانه وتعالى-، بل حتى عيسى ﷺ لَمَّا أعطاه الله الآيات، قال: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران:49]، ﴿وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي﴾ [المائدة: 110]، فالله -عز وجل- هو الذي قضى وقدر، وساق هذا العائق، وساق هذه العافية، وساق هذا الشفاء.
قَالَ: («فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرَهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا») يعني: زال عنه البرص.
قال: («فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟») الآن جاءت الدنيا. قال: («الْإِبِلُ أَوْ الْبَقَرُ، شَكَّ إِسْحَاقُ»)، أي أحد رواة الحديث، فالنبي ﷺ إمَّا أنه ذكر الإبل وإمَّا أنه ذكر البقر.
قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: («فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ») يعني: حاملا، وعلى وشك الولادة. فقال: («بَارِكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا»)، وهذا فيه فضل دعاء الملائكة، ولذلك نقول: هل تدعوا لك الملائكة؟ نعم، متى؟
- إذا بكرت إلى المسجد، وإذا جلست بين الأذان والإقامة تنتظر الصلاة، فإن الملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم صل عليه.
- إذا دعوت لأخيك المسلم بظهر الغيب، فيقول الملك: آمين ولك بالمثل.
- وقد ورد أيضا بعض النصوص التي تدل على أن الملائكة يؤمنون على دعاء المسلمين، مثل: آمين، «فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .
ولكن لا يجوز أن تقول: يا ملائكة الله ادعوا لي؛ لأنَّ هذا شرك بالله -عز وجل.
قَالَ: («فَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ، فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا. فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ أَوْ الْإِبِلُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً، قَالَ: بَارِكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا»)، وهذا يدل على أنه لا مانع من أن يحب الإنسان أنواع المال، وأنه لا يلام على هذا، إلا إذا حملته المحبة على تقديم المال على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ.
قال: («فَأَتَى الْأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتَجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا»)، البقر والإبل يقال: أُنتج، بينما الغنم يقال: ولد.
قال: («فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ») انظر إلى بركة دعاء الملك، انظر إلى فضل الله -سبحانه وتعالى-، والله -عز وجل- ذو الفضل العظيم.
قَالَ: («ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ») هنا جاء الاختبار والامتحان، والإنسان قد يُبتلى في يوم واحد. اللهم ثبتنا ولا تفتنا يا رب العالمين، وثبتنا على الدين.
هنا جاء الابتلاء للأبرص، جاءه نفس الملك ولكن في صورة رجل أبرص، وهيئة رجل أبرص في الفقر، في صورة في مرضه السابق، وفي صورة فقره السابق. لماذا؟
الجواب: حتى يُذكره بسالف حاله.
فقال له: («رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ، قَدْ اِنْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي») الحبال يعني الوسائل، ما عندي شيء أمشي به، ولا أملك طعامًا أو مالا، («فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ»)، وهذا دليل على التأدب في الألفاظ الشرعية، فلم يقل: "فلا بلاغ لي اليوم إلا بك"، أو "ما في نجاة اليوم إلا منك"، بل قال: («فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ»). من الذي أعطاه اللون الحسن؟ الله -عز وجل-، وكأنه قال له: "أسألك بالله". ما حكم السؤال بالله؟
السؤال بالله جائز، ولكن لا ينبغي أن لا يشدد المسلم على إخوانه، يسألهم بالله، فإن هذا فيه عنتا. ولكن هذا أراد اختباره.
قال: («أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ») الإبل هذه كلها، أسألك («بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي») فماذا قال الأبرص؟
(«الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ») أي كيف أعطيك بعيرًا من هذه وعندي حقوق كثيرة جدًا؟
فقال له الملك الذي هو في صورة رجل أبرص: («كَأَنِّي أَعْرِفُكَ! أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمَالَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ»)، هذا هو الاختبار، وقد سقط وفشل فيه؛ لأنه اغترَّ بنفسه، وظنَّ أن هذه الدنيا ستبقى. فقال الملك له: فَقَالَ: («إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا») وهو كاذب بالفعل؛ («فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ»)، فدعا عليه الملك بأن يصاب بالبرص مرة أخرى، وأن يُسلب عنه المال ويكون فقيرا.
والظاهر -والله أعلم- أنه استجيب له، وهذه عقوبة شديدة لهؤلاء.
(«ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ») وكذلك أتى الأقرع في صورته، أي أنَّ الملك جاء في صورة رجل فقير أقرع، («فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا»)، أي قال: الحقوق كثيرة، ولقد ورثت هذا المال كابرًا عن كابر. («فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا؛ فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ»).
قَالَ: («وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ») أي أتى صورة رجل أعمى فقير، («فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ قَدْ اِنْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي؛ فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؛ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي. فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي») انظر إلى هذا الاعتراف، وهذا الاعتراف في هذا المكان توحيد لله -عز وجل- في هذا المقام، وبعض الناس قد يتساهل في الألفاظ، لا بل هذا في هذا المقام توحيد عظيم، وكذلك الكلام السابق، "ورثت هذا المال كابرًا عن كابر"، هو كفر بنعمة الله، وإعراض عن التوحيد في ذلك المقام.
قال: («قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ»)، أي إذا كان أخذك لأجل الله فوالله لا أردك، فخذ ما تشاء، واترك ما تشاء، خذ واحدة أو اثنتان أو ثلاثة، خذ ما تشاء واترك ما تشاء، فكل هذا المال من الله -سبحانه وتعالى- فإذا كنت محتاجًا فأنا كنت مثلك محتاجًا، وكنت أعمى مثلك فردَّ الله عليَّ بصري وأغناني سبحانه، وهذا اعتراف بنعم الله.
فقال الملك: («أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ») انظر كيف كان المال سببًا في العقوبة، وسببًا في الرضا! نعم قد يكون المال سببا في الرضا، وقد يكون المال سببًا في العقوبة. لكن اثنين مقابل واحد، أي أنَّ الأكثر يسقط، فسل ربك العافية والسلامة، وسل ربك أن لا يكون المال وبالاً عليك، ولا فتنة لك، وألا تفتتن بالصحة والعافية، وعليك أن تعترف بنعم الله -سبحانه وتعالى- وأن تشكر الله، وأن تتأدب معه -سبحانه وتعالى- وأن تُثني عليه، وهكذا يكون المؤمن، فإذا جاءه المال كان حذرًا، وإذا كان فقيرًا كان حذرًا، أي أنه يحذر ويخاف من الله ويرجوه في كل أحواله.
وإذا جاء المال يكون شكورًا، فيشكر الله، ويثني عليه، ويعترف بحقه، ويُؤدي الفرائض والزكاة، ويصرف المال في مرضاته، ولا يصرفه في معاصيه، وينتفع بهذا المال، ويبارك له فيه.
نسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا شكر النعم، والاعتراف بها، قال الله -عز وجل: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى:11]. فهنا ابتلاء عظيم، ابتلى الله -عز وجل- به هؤلاء، نسأل الله -جل وعلا- أن لا يفتننا، وأن يجعلنا من الشاكرين، الذاكرين له، والمثنين على الله بنعمه.
من دعاء ابن مسعود، ويروى مرفوعًا: «اللهمَّ ألِّفْ بين قلوبِنا وأصلحْ ذاتَ بينِنا واهدِنا سُبُلَ السلامِ ونجِنا من الظُّلماتِ إلى النُّورِ وجنِّبْنا الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ وباركْ لنا في أسماعِنا وأبصارِنا وقلوبِنا وأزواجِنا وذرياتِنا وتبْ علينا إنك أنت التَّوابُ الرحيمُ واجعلْنا شاكرِينَ لنعمتِك مُثْنينَ بها قابلِيها وأَتمَّها علينا» ، دعاء عظيم، فأنت تعاون إخوانك المسلمين وتعينهم على أن تُذكرهم بالشكر، والثناء على الله، فإذا رأيت من يتكلم وقد نسي الثناء على الله، فذكره وقل له: يا فلان أين ثناؤك على الله؟ ذكره ولا تتركه، وفيما بينك وبين نفسك تدعو الله أن يوفق جميع المؤمنين في كل أقطار الدنيا إلى أن يشكروا الله على الله بنعمه.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابٌ قَوْلُ اَللَّهِ تَعَالَى ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ﴾ [الأعراف:190].
قَالَ اِبْنُ حَزْمٍ: "اِتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ اِسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيْرِ اَللَّهِ؛ كَعَبْدِ عَمْرِوٍ وَعَبْدِ الْكَعْبَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، حَاشَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ".
وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لِمَا تَغَشَّاهَا آدَمُ؛ حَمَلَتْ، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيْسُ، فَقَالَ إِنِّي صَاحِبُكُمَا اَلَّذِي أَخْرَجَكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ، لَتُطِيعَانِّنِي أَوْ لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَيْ إِيِّلٍ، فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِكَ، فَيَشُقُّهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ؛ يُخَوِّفُهُمَا، سَمِّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَأَبَيَا أَنْ يُطِيْعَاهُ فَخَرَجَ مَيِّتًا ثُمَّ حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا، فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الْوَلَدِ، فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾ رَوَاهُ اِبْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَلَهُ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ قَتَادَة َقَالَ شُرَكَاءُ فِي طَاعَتِهِ. وَلَمْ يَكُنْ فِي عِبَادَتِهِ
وَلَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ﴿لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا﴾ قَالَ أَشْفَقَا أَلَّا يَكُونَ إِنْسَانًا وَذَكَرَ مَعْنَاهُ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا)}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بَابٌ قَوْلُ اَللَّهِ تَعَالَى ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ﴾ [الأعراف:190]) هذه الآية الكريمة فيها الذم لمن نسب نعمة الولد لغير الله -عز وجل-، فسماه باسم فيه التعبيد لغير الله، فهذا محل ذم، ذمه الله -عز وجل- وذمَّ من فعله.
وهذه الآية الكريمة ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا﴾ يعني: ولدًا صالحًا، والصلاح هنا لا يراد به الاستقامة، وإنما الصلاح هنا: السليم، أي: السليم من الأمراض، وهو كامل الجسم ومعافى، يعني: له رأس وعينين وأنف ويدان ورجلان، فهو ذا جسم سليم صالح، ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا﴾ ؛ لأنهم من قبل كان يولد لهم الولد ناقصًا مريضًا وبالتالي يموت.
إذًا نعمة الولد التي تكثر في الناس، يولد لهم أولاد، ولكن بعض الناس لا يشكر الله -سبحانه وتعالى-، ولا يثني عليه -سبحانه وتعالى-، والبعض الآخر يسمي الولد باسم فيه شرك، وهذا شيء حرمه الله -سبحانه وتعالى-.
قال: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ إذًا الباب الذي قبل هذا فيه التحذير من إضافة النعم إلى غير الله مطلقًا، وهنا فيه تحذير من إضافة نعمة الولد إلى غير الله. نعمة الولد تضاف إلى من؟ تضاف إلى الله؛ لأنَّ الذي أنعم حقيقة هو الله، فالله -عز وجل- هو الذي رزقك بالولد، ورزقكِ أنتِ بالولد، فهي نعمة من الله -سبحانه وتعالى-.
ووجود الولد -ولو كان له أسباب- مثل: الرحم، والنطفة، وحصول الزواج، واجتماع أسباب كثيرة حتى يقع الولد وينعقد خلق الله لهذا الولد، ولكن هذه الأسباب لا تغني، ولا تنفع، ولا تستقل، فالذي أتى بالأسباب وقدرها وهيأها هو الله -سبحانه وتعالى-، ولذا عليك أن لا تنس نعمة الله، فتنسب هذه النعمة لك، أو تنسب هذه النعمة للمرأة التي حملت، وإنما الذي قدر ويسَّر وخلق وصوَّرَ، وأحسن كل شيء خلقه، هو الله -سبحانه وتعالى-.
ولذا كان من كفران النعم -وهذا الباب معقود لهذا- تسمية الولد بعبد كذا وكذا من غير أسماء الله تعالى، كما سيأتي.
﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ، ونستفيد من هذا الباب تحريم أمرين:
الأول: تحريم إضافة نعمة الولد إلى غير الله -عز وجل-، يقول هذا الولد بقدرتي أنا، أو لأني أنا فعلت، أو أنَّ زوجتي فعلت! لا، هذا حرام، وهذا الولد من فضل الله علينا، فالله هو الذي رزق، والله هو الذي يعطي، فكما جاء في سورة نوح: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [نوح:12]، من الذي يمد؟
الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يمدك بالمال ولو كان هناك أسباب للمال، وكذلك يمدك بالبنين، ولهذا ذكر الله -عز وجل- في سورة الشورى أن من الناس من يجعله عقيمًا، ومن الناس من يرزقه إناثا، ومن الناس من يرزقه ذكورًا، ومن الناس من يرزقه ذكورًا وإناثًا، وقال: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى:49] سبحانه وتعالى-.
وقال -سبحانه-: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا﴾ ، أي أنَّ الله هو الذي جعل، ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾ أي: وجعلت له بنين شهودا، فالله هو الذي جعل لك.
إذًا هذا الأمر الأول: يحرم أن تنسب هذه النعمة لغير الله.
الثاني: تحريم تعبيد اسم الولد لغير الله، والعلماء ذكروا في التفسير قولان:
القول الأول: منقول عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وعن عدد من السلف، أنَّ هذا زلة وقع فيها آدم وحواء، وأنَّ الآية في سياق آدم وحواء، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف:189]، فالسياق في آدم وحواء.
وقال بعض أهل العلم: إنَّ المراد جنس بني آدم الذين جاءوا بعد، من بني إسرائيل أو غيرهم ممن وقع في الشرك.
والقول الأول: أن هذه زلة، ومعلوم أن المعصية قد تقع من النبي، ولكنه لا يُقَر عليها بل يوفق للتوبة، ويكون حاله بعد التوبة أكمل من حاله قبل.
وعلي كل حال: ربما يكون سبب هذا أنهما لم يعلما التحريم، أو أنَّ هذا بسبب وسوسة إبليس، وأن هذا الشيء وقع معهم بالتدرج، وظن آدم وحواء أنَّ هذا جائزا ففعلاه. والله تعالى أعلم.
ولكن الحكم في شريعة الإسلام أنَّ هذا اسم محرم، أي: تسميته بعبد الحارث أو نحو ذلك، يعد حرامًا، والشرائع جاءت متفقة فيما يتعلق بأصول العقائد، ولكن فيما يتعلق بالفروع، وفي بعض التفاصيل، قد يحدث التفاوت.
وقد يكون هذا ليس من شريعة آدم أيضا، ولكنه خفي عليه، والله تعالى أعلم.
على كل حال، كان الحكم في الشريعة الإسلامية هو تحريم تعبيد الأسماء لغير الله -عز وجل-.
قال: (قَالَ اِبْنُ حَزْمٍ: "اِتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ اِسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيْرِ اَللَّهِ؛ كَعَبْدِ عَمْرِوٍ وَعَبْدِ الْكَعْبَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، حَاشَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ") يعني: أنَّ النبي محمد ﷺ اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. ما نقول هذا الاسم -عبد المطلب- يُغير؟ لماذا سمي عبد المطلب؟ الجواب هذا من أجداد النبي ﷺ؛ لأنه كان فيه سمرة، ولونه كان يميل إلى السواد، وكان يمشي مع أبيه، فظنوا أنه عبدًا له لسمرته، فسمي لأجل ذلك: عبد المطلب، والمطلب ليس شيئًا يُعبد من دون الله فسمي الرجل باسمه، ولكن لأجل أنهم لَمَّا رأوا من سمرته بسبب الشمس واستبدال اللون بسبب الشمس والتعب والسفر، فظنوه مولى له، فَأُقِرّ هذا الاسم -عبد المطلب-.
وأمَّا بقية الأسماء فينهى عنها، ويحرم التسمية بها مثل: عبد النبي، أو عبد عمر، أو عبد الحسين، أو عبد علي، أو عبد الزهرة، أو عبد الكعبة. وكل هذا من المحرمات في الشريعة الإسلامية باتفاق العلماء.
وساق الشيخ هنا كلام ابن حزم في كتابه فيما نقل من إجماع العلماء على تحريم تسمية "عبد" لغير الله -عز وجل- إلا اسم عبد المطلب، ولهذا يوجد في الصحابة من كان اسمه عبد المطلب، ولم يغيره النبي ﷺ، مثل: عبد المطلب بن ربيعة.
إذًا هذا يُستثنى فقط، وأمَّا بقية الأسماء فإنها تغير.
قال: (وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لِمَا تَغَشَّاهَا آدَمُ حَمَلَتْ، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيْسُ فَقَالَ: إِنِّي صَاحِبُكُمَا اَلَّذِي أَخْرَجَكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ، لَتُطِيعَانِّنِي أَوْ لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَيْ إِيِّلٍ)، الإيل هو الغزال، يعني: يشق بطنك، أي: إذا كبرت قرونه يشق بطنك، فخوف آدم وخوف زوجته حواء.
(فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِكَ فَيَشُقُّهُ) يعني: إذا كبر الطفل في بطنك، وكبر القرن، وجاءت الولادة، انشق بطنك فتموتين.
(وَلَأَفْعَلَنَّ؛ يُخَوِّفُهُمَا، سَمِّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَأَبَيَا أَنْ يُطِيْعَاهُ فَخَرَجَ مَيِّتًا ثُمَّ حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا، فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الْوَلَدِ) هذا ذم، (فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾ رَوَاهُ اِبْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، والبعض يضعف هذه القصة ويشدد في ذلك، ولكن هذا منقول عن بعض السلف.
قال: (وَلَهُ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَنْ قَتَادَة َقَالَ شُرَكَاءُ فِي طَاعَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عِبَادَتِهِ)، يعني: أنهم أطاعوه في الاسم فقط، أي من غير علم، ومن غير تنبه، فجاءهما التنبيه بعد، وعلما ووفقا للتوبة بعد، فلما انتبه رجع عن ذلك، وترك هذه التسمية، ولهذا قال: (شُرَكَاءُ فِي طَاعَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عِبَادَتِهِ) يعني: لم يعبدا الشيطان، فآدم نبي، وزوجته على الإسلام، وآدم وذريته كلهم على التوحيد والإسلام عشرة قرون، فلم يكن هناك شرك، ولكن في طاعته في التسمية فقط.
وهذا يبين لنا الحذر من الشيطان، ومن وسوسته وتزيينه لبعض الألفاظ المحرمة في الشريعة، والتي تتضمن الشرك أو ما يؤدي إليه، سواء قيل: إن هذا من آدم أو زوجته حواء، أو قيل: إنه ممن وقع بعده من ذريته، فالله -عز وجل- في القرآن العظيم بَيَّنَ لنا هذا، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ ، وهذه منة من الله؛ ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ أي الزوجية، ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾ بالجماع ﴿حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا﴾ وكل بني آدم هكذا، يقع لهم هذا الشيء، ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ يعني: تجاوزت، ﴿فَلَمَّا أَثْقَلَت﴾ أي: ثقل الحمل وقربت الولادة، ﴿دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا﴾ يعني: سليما معافى، ﴿لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا﴾ من آتَاهُمَا هنا؟
قال بعض العلماء: ممن جاء بعد، وممن وقع فيهم الشرك، والقول الأول: إنه آدم وحواء، ﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾ . الشركاء في ماذا؟ في التسمية.
وقال بعضهم كلمة قتادة: (فِي طَاعَتِهِ) أي بهذه التسمية (وَلَمْ يَكُنْ فِي عِبَادَتِهِ) أي لم يكن في عبادة الشيطان، ولذلك حرم الله -عز وجل- فقال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ . فلا يجوز الشرك، ولا فعله، ولا التسمية بهذه الأسماء المحرمة، ولا نسبة هذه النعمة لغير الله -عز وجل- حفاظا على التوحيد، وعلى الإسلام، وعلى الإيمان، واعترافًا بنعمة الله -سبحانه وتعالى- نعمة الولد وغيره.
وهذا يبين لك أن هذه الشريعة -ولله الحمد- كاملة كافية، فيها جميع ما يحتاجه البشر في جميع الأزمنة والأمكنة، في جميع أحوالهم وما يمر بهم في حياتهم، سواء كان في أولاد، أو في أموال، أو في أرزاق، أو في صحة، أو في غير ذلك، فكل النعم تُضاف إلى الله -سبحانه وتعالى-.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في المسائل فيه: (الْأُولَى: تَحْرِيمُ كُلِّ اِسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيْرِ اَللَّهِ)، تفسير الآية.
(اَلثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا اَلشِّرْكَ فِي مُجَرَّدِ تَسْمِيَةٍ لَمْ تُقْصَدْ حَقِيقَتُها).
(اَلرَّابِعَةُ: أَنَّ هِبَةَ اَللَّهِ لِلرَّجُلِ الْبِنْتَ اَلسَّوِيَّةَ مِنْ اَلنِّعَمِ) النعمة في الولد واضحة، وهنا الشيخ ذكر البنت ليؤكد على ذلك.
(الْخَامِسَةُ: ذَكَرَ اَلسَّلَفُ الْفَرْقَ بَيْنَ اَلشِّرْكِ فِي اَلطَّاعَةِ وَالشِّرْكِ فِي الْعِبَادَة) من أين أخذنا هذا؟
من كلام قتادة -رحمه الله.
قال: (وَلَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا﴾ قَالَ: أَشْفَقَا أَلَّا يَكُونَ إِنْسَانًا، وَذُكَرَ مَعْنَاهُ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا).
إذًا صار هذا القول منقولا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعن قتادة، وعن مجاهد، وعن الحسن، وعن سعيد بن جبير، وغيرهم.
إذًا خمسة أو ستة من السلف نقلوا هذا، وبالتالي نعرف أنَّ هذه المسألة مشهورة عندهم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وجزاكم الله عنا خير الجزاء.
والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.