الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

1529 12
الدرس الثاني عشر

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَمْ يَبْقَ إنْسِيٌّ وَلَا جِنِّيٌّ إلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وَاتِّبَاعِهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِرِسَالَتِهِ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ سَوَاءٌ كَانَ إنْسِيًّا أَوْ جِنِّيًّا.
وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مَبْعُوثٌ إلَى الثَّقَلَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ اسْتَمَعَتْ الْجِنُّ الْقُرْآنَ وَوَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الطَّائِفِ، وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾ أَيْ: السَّفِيهُ مِنَّا فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْإِنْسِ إذَا نَزَلَ بِالْوَادِي قَالَ: "أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ"، فَلَمَّا اسْتَغَاثَتْ الْإِنْسُ بِالْجِنِّ ازْدَادَتْ الْجِنُّ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبً﴾.
وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَرْمِي بِالشُّهُبِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ؛ لَكِنْ كَانُوا أَحْيَانًا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الشِّهَابُ إلَى أَحَدِهِمْ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مُلِئَتْ السَّمَاءُ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَصَارَتْ الشُّهُبُ مُرْصَدَةً لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعُوا، كَمَا قَالُوا: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدً﴾. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ قَالُوا: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا * وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدً﴾، أَيْ: عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى -كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ- مِنْهُمْ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالسُّنِّيُّ وَالْبِدْعِيُّ، ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبً﴾، أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَهُ، لَا إنْ أَقَامُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا إنْ هَرَبُوا مِنْهُ ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا * وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾، أَيْ: الظَّالِمُونَ يُقَالُ أَقْسَطَ إذَا عَدَلَ. وَقَسَطَ إذَا جَارَ وَظَلَمَ.
قال: ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا * وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا * وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدً﴾ أَيْ: مَلْجَأً وَمَعَاذًا. قال: ﴿إلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدً﴾.
ثُمَّ لَمَّا سَمِعَتْ الْجِنُّ الْقُرْآنَ أَتَوْا إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآمَنُوا بِهِ وَهُمْ جِنُّ نصيبين كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ وَكَانَ إذَا قَالَ: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ قَالُوا: "وَلَا بِشَيْءِ مِنْ آلَائِك رَبِّنَا نُكَذِّبُ فَلَك الْحَمْدُ".
 وَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ الزَّادَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ فَقَالَ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَجِدُونَهُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفًا لِدَوَابِّكُمْ». قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادٌ لِإِخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ»، وَهَذَا النَّهْيُ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: فَإِذَا مُنِعَ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا لِلْجِنِّ وَلِدَوَابِّهِمْ؛ فَمَا أُعِدَّ لِلْإِنْسِ وَلِدَوَابِّهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ أَوْلَى وَأَحْرَى)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فهذا هو الفصل الأخير من كتاب "الْفَرْقانُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ"، بيَّنَ فيه شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما يتعلق بالجن، وأنَّهم داخلون في عموم رسالة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إذ هو مُرسلٌ إلى جميع الثقلين -الإنس والجن- فلا يجوز لجنِّيٍّ ولا إنسيٍّ في أي مكانٍ بعدَ مبعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلَّا أن يُؤمن بالنبي، ويُصِّدق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويدخل في دينه، وإذا لم يفعل ذلك فهو كافر سواء كان إنسيًّا أو جنِّيًّا.
وسبب الحديث عن هذا الموضوع هو ما تقدَّم ذكره من ذكر أحوال الشياطين، وأنَّ بعض الشياطين تكون مع الكفار، وأنَّ بعض النَّاس قد يرى في بعض هؤلاء الكفار زُهدًا أو عبادةً أو تبتُّلًا فيُفتَنُ بهم، ويرى منهم خرقًا للعادة، وبعض الشياطين قد تخدم وتفعل أشياءً -كما تقدم- فيظن مَن لا خلاقَ عنده ومَن لا علم عنده أنَّ هذا ممَّا رخَّصَت فيه الشَّريعة، وهذا ليس بصحيح؛ بل يجب على جميع الإنس ويجب على جميع الجن أن يدخلوا في دين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وذكر الشيخ في هذا الأدلة على عموم البعثة، ومنها الآيات التي في آخر سورة الأحقاف: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾، فهؤلاء الجنِّ الذين استمعوا القرآن وولوا إلى قومهم مُنذرين سمعوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو يُصلي بأصحابه ببطن نخلة -وهو موضع بين مكة والطائف- وسيأتي في آخر النَّقل أنَّ الجن الذين سمعوا القرآن أتوا إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وآمنوا به، وهم جنُّ نصيبين، ونصيبين هي بلدة مَعروفة في العراق في الزيرة، تقع بين الشام والموصل، وتُسمَّى: "نصيبين" إلى الآن.
وهؤلاء الجن أسلموا وآمنوا، وذكر الله شأنهم، وجاء في صحيح مسلم عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: هلْ شَهِدَ أحَدٌ مِنكُم مع رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الجِنِّ؟ قالَ: لا، ولَكِنَّا كُنَّا مع رَسولِ اللهِ ذاتَ لَيْلَةٍ فَفقَدْناهُ فالْتَمَسْناهُ في الأوْدِيَةِ والشِّعابِ. فَقُلْنا: اسْتُطِيرَ أوِ اغْتِيلَ -أي: خافوا عليه-. قالَ: فَبِتْنا بشَرِّ لَيْلَةٍ باتَ بها قَوْمٌ فَلَمَّا أصْبَحْنا إذا هو جاءٍ مِن قِبَلَ حِراءٍ. قالَ: فَقُلْنا يا رَسولَ اللهِ، فقَدْناكَ فَطَلَبْناكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنا بشَرِّ لَيْلَةٍ باتَ بها قَوْمٌ. فقالَ: «أتانِي داعِي الجِنِّ فَذَهَبْتُ معهُ فَقَرَأْتُ عليهمُ القُرْآنَ». قالَ: فانْطَلَقَ بنا فأرانا آثارَهُمْ وآثارَ نِيرانِهِمْ وسَأَلُوهُ الزَّادَ فقالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عليه يَقَعُ في أيْدِيكُمْ أوْفَرَ ما يَكونُ لَحْمًا وكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوابِّكُمْ». فقالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: «فلا تَسْتَنْجُوا بهِما فإنَّهُما طَعامُ إخْوانِكُمْ».
والآيات التي في سورة الأحقاف وكذلك الآيات التي في سورة الجن تدلُّ على أنَّهم يجب عليهم طاعة الله ورسوله، والدخول في دين الإسلام، وشرح الشيخ بعض هذه الآيات وعلَّقَ عليها، ومنها قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطً﴾ أَيْ: السَّفِيهُ مِن الجن. وشططًا: أي: قولًا باطلًا.
وهذا يدل على أنَّهم أنواعٌ وفِرَقُ ومقامات كبيرة، منهم الكافر ومنهم المسلم.
وكذلك شرح الشيخ قوله: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾. قال الشيخ: (قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْإِنْسِ إذَا نَزَلَ بِالْوَادِي قَالَ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ فَلَمَّا اسْتَغَاثَتْ الْإِنْسُ بِالْجِنِّ ازْدَادَتْ الْجِنُّ طُغْيَانًا وَكُفْرً).
والقول الثاني: أنَّ الرَّهق هو الخوف والذُّعر، يعني أنَّ الإنس ازدادوا خوفًا وذُعرًا، وكلا المعنيين صحيح.
ثم ذكر الشيخ الآيات التي في سورة الجن وعلَّقَ عليها، وهذه الآيات كلها تدلُّ على أنَّهم داخلون في عموم البعثة، وأنَّهم مُخاطبون بالشَّريعة، أنَّه يجب عليهم طاعة الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وقوله: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾، تدل على أنَّ هذا من أعمال الشرك والكفر، وأبدلنا الله في الإسلام بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قالَ: أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شيءٌ، حتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلِهِ ذلكَ»[25].
والخلاصة: أنه يجب علينا أن نعتقد أنَّ الجن والإنس جميعهم مخاطبون برسالة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ونعتقد أنَّ الجن يجب عليهم التزام الشريعة الإسلاميَّة التي جاء بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولهم أحكام تخصُّهم في بعض الأمور، وقد علَّمهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إيَّاها، منها ما يتعلق بالعظم، وكذلك الرَّوث، ولهذا لا يجوز لنا أن نستنجيَ بهما؛ لأنَّ العظم زاد إخواننا من الجن، والرَّوث يكون علفًا لدوابهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذَا أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَوْنِ الْجِنِّ سُخِّرُوا لِسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِنَّهُمْ سُخِّرُوا لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ، وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرْسِلَ إلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَمَنْزِلَةُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ فَوْقَ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ الْمَلِكِ)}.
يعني: هذا الأمر خصَّ الله به نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو أعظم ممَّا خُصَّ به سليمان -عليه الصلام والسلام- فسليمان سخَّر الله له الجن، وأمَّا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإنَّ الجن كلهم داخلون في عموم رسالته وبعثته وهذا أكمل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكُفَّارُ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مُؤْمِنُوهُمْ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ مِنْ الْإِنْسِ، وَلَمْ يُبْعَثْ مِنْ الْجِنِّ رَسُولٌ، لَكِنْ مِنْهُمْ النَّذْرُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ)}.
كافرو الجن يدخلون النار بالنَّص والإجماع، قال تعالى: ﴿قَالَ النَّار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 128]، وكذلك في مواضع أخرى.
واختلف العلماء في دخول الجن الجنَّة، ولكن جمهور علماء المسلمين على أنَّ الجن المؤمنون يدخلون الجنة، وهذا هو الأقرب.
وكذلك ما يتعلق بالرُّسل، فلا يكون من الجن رسول ولكن يكون منهم نُذُر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ عَلَى أَحْوَالٍ:
- فَمَنْ كَانَ مِنْ الْإِنْسِ يَأْمُرُ الْجِنَّ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ وَيَأْمُرُ الْإِنْسَ بِذَلِكَ؛ فَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مِنْ خُلَفَاءِ الرَّسُولِ وَنُوَّابِهِ.
- وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ، فَهُوَ كَمَنْ اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ، وَهَذَا كَأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي مُبَاحَاتٍ لَهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمُومِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِثْلِ النَّبِيِّ الْمَلِكِ مَعَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ، كَسُلَيْمَانَ وَيُوسُفَ مَعَ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ)
.
لَمَّا ذكر أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- علَّمَ جنَّ نصيبين وقد بلَّغوا مَن وراءهم؛ فنستفيد من هذا أنَّ مَن كان بهذه المنزلة من الإنس مع الجن، يعني: تابعًا للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُعلِّم الناس ويُدرِّس الناس، ومن ضمن مَن يحضر ويسمع الجن؛ فإذا سمعوا العلم الشَّرعي وسمعوا الحقَّ؛ فهذا من خلفاء الرسول ونوَّاب الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وسائر على منهج الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ولكن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُوحَى إليه، وقد خصَّه الله بخصائص لا تكون لمن بعدَه، ومن ذلك أنَّه خلا بالجنِّ وعلمهم ما يحتاجونه، وهذا لا يكون إلَّا بوحي، وأمَّا مَن بعد الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فلا يحق له هذا، ولا يُشرَع له هذا، بل يكون حاله كحال الصحابة والتابعين، وهو أن يُعلم الناس ويُدرسهم ويوجِّه الجميع، فإذا سمعه الجن انتفعوا بهذا، وتعلموا ما يحتاجونه من كلام الله ومن كلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
النوع الثاني: بعض الناس يتعامل مع الجن بالأمور المباحة، فيأمر وينهى، وهذا لا يُتصوَّر إلَّا أن يقع اتِّفاقًا، ولكن الشيخ ذكر أمثلة فيما سبق أن بعض الناس يُخاطب بعض النباتات فتتكلم الشياطين، ويرى بعض الأشياء، وربما من الشياطين ومن الجن من يخدعه، فالشيخ هنا يتكلم عن ذلك من هذه النَّظرة، وهو أنَّه لا يجوز له أن يأمرهم إلَّا بالمباح، لو قُدِّرَ أنَّهم سمعوا كلامه وعملوا به، ولكن هذا لم يكن لأحدٍ إلَّا لنبي الله سليمان؛ لأنه قال: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ [ص: 35]، والله تعالى سخر له الجن، وهذا شيءٌ مُسخَّرٌ لسليمان فقط وليس لمن بعده، إلَّا أنَّ كفرة اليهود يزعمون أنَّ الجن سُخِّرَت لهم، وهذا من إفكهم وكذبهم، فالسَّحرة لم تُسخَّر لهم الجن، وإنَّما هم يستمتعون بهذا عندما يتقرَّبون إلى الجن ويُرضونهم ببعض الأعمال فتقوم بخدمتهم.
وهذا الأمر لا يُفتَح فيه الباب، فلا يُقال للإنسان: اؤمروا الجن، والجن تسمع لكم؛ فهذا بابٌ لا يُمكن فتحه، فهو بابٌ مغلقٌ، ولكن هذا لو وقع اتِّفاقًا لا قصدًا فلا حرج.
ولنفرض مثلًا أنَّ رجلًا يمشي في صحراء فأضاع الطريق، فإذا بهاتفٍ من هواتف جن المسلمين قال له: الطريق شرق، امشِ شرقًا وتجد ماء. فهذا يقع اتِّفاقًا، ولكن لا يجوز له أن يقول: يا جن أين الطريق ويستغيث بهم!
ففرقُ بينَ أن يستغيث بغير الله ويطلب من الغائبين، وبين أن يعرض له هذا اتِّفاقًا.
يقول الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- تعليقًا على هذا: "لا ينبغي فتح الباب للناس في أنَّ الإنس يستخدمون الجن؛ لأنَّ هناك مَن يدَّعي هذا"، فالأحسن أن يترك الإنسان الجن ولا يستخدمهم في شيء، يستعين بالله -عزَّ وجل- ويستعين بإخوانه من الإنس فيما أباحه الله.
وقصد الشيخ ابن تيمية: هو الرد على الذين يستخدمون الجن في السِّحر والكهانة ويدَّعونَ أنَّ هذه كرامة، وأنهم أولياء، والحقيقة أنهم أولياء الشيطان.
والشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله يقول: "الإنسي قد يعرض له الجني في أمر مُباح إذا كان هذا عارضًا ولا يكون ديدنًا له؛ فهذا لا يُقال فيه أمر منكَر، وأمَّا إذا كان هذا دائمًا وديدنًا له، أن يؤاخي الجن ويستخدمه؛ فهذا ليس بجائزٍ ولا بمشروعٍ؛ لأنَّه يُفضي إلى محرَّم، وهذا هو الاستمتاع الذي قال الله -عز وجل فيه: ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَ﴾ [الأنعام: 128]، فمن عرض له جني فاستفاد منه في أمر مُباح فلا يُقال إن هذا خارج عن الشَّريعة، ولكن مَن كان له جني يستخدمه دائمًا ويُعينه؛ فهذا لاشكَّ أنه محرَّم، ولم يأتِ عليه الدليل لا من كتابٍ ومن سنَّة، ولم يكن عليه فعل أهل العلم والسلف؛ بل كانوا يفعلون مع الجن كما كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم".
هذا ما يتعلق باستعمال الإنسي للجن، فهذا بابٌ مغلق، ولا يدَّعي أحدٌ أنَّه سُخِّرَت له الجن إلَّا وهو كاذب، أو أنه يفعل أشياء محرَّمَة، وعندنا ما يدل على بطلان هذا، وهو قول الله -عز وجل: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾ [الجن: 6].
ووجه الاستشهاد: أنَّ هؤلاء الإنس يعوذون برجال من الجن، يعني: يعوذون بعظيم الوادي من سفهاء قومه، عظيم الوادي هو رئيس الجن، فسفهاء الجن يروعون أو يخرجون أصواتًا أو يرمونه بحجارة أو يؤذونه في الطريق أو يُخوفونه أو يسرقون متاعه؛ فيستعيذ برئيسهم وكبيرهم، وكبير الجن يستطيع أن يمنع سفهاء قومه وفي قدرته هذا، وهذا معروف أن رئيس الجن يُكلم مَن تحته ويقول لهم: كفوا عن هذا!
فالله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكر أن هذا من أعمال المشركين، ولم يذكره من أعمال الموحدين، وهو استعاذة الإنسي برئيس الجن؛ فعلمنا أنَّه لو قال لنا قائل من الإنس الآن: أنا أستعملهم في أمور مُباحة، ويكفون شرهم عني، أو يكفون شرهم عن هذا المريض الذي أقرأ عليه، فانا أطلب منهم هذه الأشياء.
نقول له: هذا هو الذي كان يطلبه كفار قريش، ونبه الله عليه في سورة الجن تحذيرًا منه، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾.
وأيضًا لَمَّا قال تعالى: ﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه﴾ [الأنعام: 128]، علمنا أن هذا باب مغلق، ولا يجوز أن يُفتَح بأن يقول: أنا أستفيد من الجن فوائد، وأنا عندي قرين وأخاطبه وأناديه يا فلان يا فلان..!
بل إنَّ بعض الجن يعوِّده بعض الشيء أن يأتيه بحاجته أو يخبره بالغيب أو يخبره بالغائب أو بالضَّائع أو بالمسروق؛ ثم بعد فترة يتأخَّر عليه، حتَّى يبدأ الإنسي يُكثر دعاءه، وكل هذا من أعمال الكهَّان وأعمال السَّحرة وأعمال الشرك، وليست من أعمال الموحدين، فهذا فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
{أحسن الله إليكم شيخنا، بعضهم يقول: أنا معي جن مسلم يُعينني على الرقية وكذا. فما حكم ذلك؟}.
هذا ما نتحدَّث عنه، وهذا لا يُصدَّق ولا يجوز له أن يتَّخذ جنيِّنًا يستعين به في هذا، ولو ادَّعَى أنه مسلم، ولو ادَّعى أنَّه يفك السِّحر، ولو ادَّعى ما ادَّعى، فهذا بابٌ مُغلقٌ لا يجوز له مثل هذا، وهذا الذي نتكلم عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِيمَا يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، إمَّا فِي الشِّرْكِ وَإِمَّا فِي قَتْلِ مَعْصُومِ الدَّمِ، أَوْ فِي الْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، كَتَمْرِيضِهِ وَإِنْسَائِهِ الْعِلْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ، وَإِمَّا فِي فَاحِشَةٍ كَجَلْبِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ؛ فَهَذَا قَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، ثُمَّ إنْ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي فَهُوَ عَاصٍ، إمَّا فَاسِقٌ وَإِمَّا مُذْنِبٌ غَيْرُ فَاسِقٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامَّ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ فَاسْتَعَانَ بِهِمْ فِيمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى الْحَجِّ، أَوْ أَنْ يَطِيرُوا بِهِ عِنْدَ السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ، أَوْ أَنْ يَحْمِلُوهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَلَا يَحُجُّ الْحَجَّ الشَّرْعِيَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَحْمِلُوهُ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مَغْرُورٌ قَدْ مَكَرُوا بِهِ)}.
ولهذا قال الشيخ عبارة (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامَّ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ فَاسْتَعَانَ بِهِمْ فِيمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى الْحَجِّ، أَوْ أَنْ يَطِيرُوا بِهِ عِنْدَ السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ، أَوْ أَنْ يَحْمِلُوهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَلَا يَحُجُّ الْحَجَّ الشَّرْعِيَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَحْمِلُوهُ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مَغْرُورٌ قَدْ مَكَرُوا بِهِ)، لأنَّ تامَّ العلمِ بالشَّريعة يرفض أصلًا أن يستعين بهم، وتامُّ العلم بالشريعة يسلك مسلك الصَّحابة، فهل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة وأهل بدر وأهل أُحد والسابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار قالوا: نخاطب الجن؟ فهناك جن مسلم كثير، يطيرون بسرعة ويأتون بالأخبار بسرعة؛ ولكن ما فتحوا هذا الباب.
فتامُّ العلم بالشريعة لا يقبل مثل هذا، والشيخ يتحدّث عن أشياء تحدث لبعض الناس من المسلمين لجهلهم يظن أن هذا كرامة، ويظن أن الشياطين خدمته مجَّانًا، ولذلك قال الشيخ: (فَهَذَا مَغْرُورٌ قَدْ مَكَرُوا بِهِ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْجِنِّ؛ بَلْ قَدْ سَمِعَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَهُمْ كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ التَّلْبِيسَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَيَمْكُرُونَ بِهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ، فَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا يَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَوْثَانَ أَوْهَمُوهُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَيَكُونُ قَصْدُهُ الِاسْتِشْفَاعَ وَالتَّوَسُّلَ مِمَّنْ صَوَّرَ ذَلِكَ الصَّنَمَ عَلَى صُورَتِهِ مِنْ مَلِكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ شَيْخٍ صَالِحٍ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ صَالِحٌ وَتَكُونُ عِبَادَتُهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلشَّيْطَانِ)}.
فالجن ما فعلوا هذه الأشياء إلَّا للإيقاع بهؤلاء، فهم ما يأتون إلَّا للجاهل، وهذا الجاهل يظن أنَّ هذه كرامات، وأنَّ هذا يدل على أنه ولي، ولا يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولا يفرق بين الكرامات الرحمانية والخوارق الشيطانيَّة، فيقع في حبائل الجن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾)}.
صرَّح الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القرآن أنَّهم ظهروا للناس في صورة ملائكة، ولهذا قال الله للملائكة: ﴿أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾. فتقول الملائكة: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾.
إذن؛ الجن عرضوا لبعض هؤلاء المشركين أو غيرهم وقالوا: نحن ملائكة، فاصرفوا لنا العبادة وتعلَّقوا بنا، فقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ يَقْصِدُونَ السُّجُودَ لَهَا فَيُقَارِنُهَا الشَّيْطَانُ عِنْدَ سُجُودِهِمْ لِيَكُونَ سُجُودُهُمْ لَهُ؛ وَلِهَذَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَاسْتَغَاثَ بجرجس أَوْ غَيْرِهِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ جرجس، أَوْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِسْلَامِ وَاسْتَغَاثَ بِشَيْخِ يَحْسُنُ الظَّنُّ بِهِ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُشْرِكِي الْهِنْدِ جَاءَ فِي صُورَةِ مَنْ يُعَظِّمُهُ ذَلِكَ الْمُشْرِكُ.
ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ الْمُسْتَغَاثَ بِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالشَّرِيعَةِ لَمْ يُعَرِّفْهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ تَمَثَّلَ لِأَصْحَابِهِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ مِمَّنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِأَقْوَالِهِمْ نَقَلَ أَقْوَالَهُمْ لَهُ، فَيَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّ الشَّيْخَ سَمِعَ أَصْوَاتَهُمْ مِنْ الْبُعْدِ وَأَجَابَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَوَسُّطِ الشَّيْطَانِ)
}.
يعني: هذا من حِيَل الشياطين، ولهذا قال الشيخ: (وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ يَقْصِدُونَ السُّجُودَ لَهَا فَيُقَارِنُهَا الشَّيْطَانُ عِنْدَ سُجُودِهِمْ لِيَكُونَ سُجُودُهُمْ لَهُ)، فالشيطان خبيث، يستغل الجهلة، ويستغل المناسبات حتَّى تكون عبادتهم للجن والشياطين.
ويقول الشيخ: (وَلِهَذَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَاسْتَغَاثَ بجرجس أَوْ غَيْرِهِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ جرجس)، وجرجس هذا من المعظَّمين عند النًّصارى ويعبدونه من دون الله.

كذلك يتشكَّل لليهود في صورة عزير أو ممَّن يعبدونه من دون الله، وإذا جاء عند بعض المنتسبين للإسلام جعل نفسه كأنه من شيوخ المسلمين الذي يُعظَّمون، وإذا جاء عند مشركي الهند كذلك، وهكذا يتلاعب الشيطان بهؤلاء، المسمَّيات كثيرة، والخدع كثيرة، فإمَّا أن يقول له: إنه مَلَك، وإما أن يظهر عند الشمس، وإما أن يقول: إنه جرجس؛ والحقيقة أنَّهم كلهم يعبدون الشيطان.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [يس60، 61].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَخْبَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ الَّذِينَ كَانَ قَدْ جَرَى لَهُمْ مِثْلُ هَذَا بِصُورَةِ مُكَاشَفَةٍ وَمُخَاطَبَةٍ فَقَالَ: يَرَوْنَنِي الْجِنُّ شَيْئًا بَرَّاقًا مِثْلَ الْمَاءِ وَالزُّجَاجِ)}.
يعني: يُظهِرُونَ له شيء مثل التلفاز اليوم، فالجن كانوا يأتون بزجاجة برَّاقة ويُظهرون له فيها ما يطلب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُمَثِّلُونَ لَهُ فِيهِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِهِ. قَالَ: فَأَخْبَرَ النَّاسُ بِهِ، وَيُوصِلُونَ إلَيَّ كَلَامَ مَنْ اسْتَغَاثَ بِي مِنْ أَصْحَابِي، فَأُجِيبُهُ فَيُوصِلُونَ جَوَابِي إلَيْهِ)}.
هذا واحد يتكلم عنه ابن تيمية، فيقول هذا الرجل: إنَّ الجن جاءني بشيءٍ برَّاق كأنَّه مرآة، وهذا شيءٌ عجيب في هذا الوقت؛ لأنَّهم ما كانوا يعرفون هذه الأشياء.
فيقول الجن له: أيشٍ تبغي؟
فيقول: أخبروني عن مَن في مصر.
فيقول لهم قرينهم في مصر: كذا وكذا، ويُخبر بعضهم بعضًا، فيُرينه صورًا في هذا الزجاج البراق، ويُخبر الناس بما رآه.
وهؤلاء الشياطين يأتون لبعض السُّذَّج والجهلة والمغفَّلين وضعفاء الدين ويقولون له: استغثْ بالشيخ فلان.
ثم يأتون لفلان ويقولون له: فلان استغاث بك، ويبغي منك مالًا أو كذا وكذا.
يقول الرجل: الشياطين يُخبروني عبرَ هذا الشيء البرَّاق أنَّ فلان استغاث بي. فأقول له: أعطوا كذا، وسوُّوا به كذا، وافعلوا به كذا..، ثم يُخبرونه حتَّى تزداد الفتن بهذا الشيخ! وهذا من أعمال الشياطين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْخَوَارِقِ إذَا كَذَّبَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَقَالَ إنَّكُمْ تَفْعَلُونَ هَذَا بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ كَمَا يَدْخُلُ النَّارَ بِحَجْرِ الطَّلْقِ وَقُشُورِ النَّارِنْجِ وَدَهْنِ الضَّفَادِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِيَلِ الطَّبِيعِيَّةِ فَيَعْجَبُ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ وَاَللَّهِ لَا نَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ.
فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ الْخَبِيرُ إنَّكُمْ لَصَادِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ شَيْطَانِيَّةٌ أَقَرُّوا بِذَلِكَ وَتَابَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَرَأَوْا أَنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهَا تَحْصُلُ بِمِثْلِ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ فِي الشَّرْعِ وَعِنْدَ الْمَعَاصِي لِلَّهِ، فَلَا تَحْصُلُ عِنْدَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَعَلِمُوا أَنَّهَا حِينَئِذٍ مِنْ مخارق الشَّيْطَانِ لِأَوْلِيَائِهِ، لَا مِنْ كَرَامَاتِ الرَّحْمَنِ لِأَوْلِيَائِهِ.
وَاَللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ- وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَنْصَارِهِ وَأَشْيَاعِهِ وَخُلَفَائِهِ، صَلَاةً وَسَلَامًا نَسْتَوْجِبُ بِهِمَا شَفَاعَتَهُ. آمِينَ)
}.
هذا هو ختام الكتاب.
وهنا الشيخ يُنبِّه تنبيهًا لطيفًا جدًّا، فكثير من أهل الخير حتى بعض المنتسبين للعلم يقول: كل هذه حِيَل وخدع بصريَّة، مثل حجر الطَّلْقِ وَقُشُورِ النَّارِنْجِ، فحجر الطَّلق معدن يتكون من سليكات الماغنسيوم المهدرجة، وهو معدن مقاوم للحرارة والأحماض والكهرباء، يستخدمه أصحاب الحيل الشيطانيَّة بسحقه ودهن أجسادهم به، ثم يدخلون النار ولا يحترقون.
وجاء في المعجم الوسيط أنَّ الطَّلق: حجر برَّاق شفَّاف ذو أطباق، يتشظَّى ويتقسَّم إذا دُقَّ صفائح ويُطحَن فيكون مسحوقًا أبيضًا، يُذرُّ على الجسم، فيُكسبه بردًا ونعومة، فيضعونه على أجسامهم ثم يمشون في وسط النار.
وأما قشور النَّارِنْجِ: فيُستخرج من شجرة دائمة الخضرة، لها خصائص، من ضمن خصائصها أنَّ لها زيت يُستخدم كدهان للجسم، فيمنع من وصول الحرارة.
وأمَّا دهن الضَّفادع فهو أيضًا من الأشياء التي يستعملونها في الوقاية من النَّار.
فبعض الشيوخ يقول: كل هذه الأشياء التي يسوونها حِيَل!
وهذا الكلام يصلح في أشياء، أن يُقال فيها حيل، ولكن بعض الأشياء لا تكون حيلًا، ويقول بعض الناس: فلان نعرفه في أقصى المغرب، ثم جاء وقال لنا: أنا رأيتك وقلت كذا وكذا. وهذا وقع؛ فهذا لا يكون من الحيل.
فبعض هذه الأشياء يكون حيلًا، وبعضها يكون من الشياطين بأن توصِّل الأخبار لبعضها، فالشياطين تتشكَّل وتعمل أعمالًا، وتسعى في إفساد بني آدم.
ويقول الشيخ: (فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ الْخَبِيرُ إنَّكُمْ لَصَادِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ شَيْطَانِيَّةٌ)، يعني: غير حيل.
قال: (أَقَرُّوا بِذَلِكَ)، أي: لَمَّا عرفوا أنها أحوال شيطانيَّة غير حيل، خصوصًا أنَّهم عرفوا أسبابها، وأعظم هذه الأسباب أن يعرض عن ذكر الله وعن القرآن، فإذا ذكر الله قلَّت.
قال الشيخ: (وَتَابَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ)، تابوا على يد الشيخ وعلى يد أهل السنة.
والحقيقة أنَّ هذا الكتاب من كرامات الله لهذا العالم -رحمة الله عليه- ولهذا يخاف من هذا العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنَّة كلُّ خرافي عدو لسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»[26]، وأتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لهم نصيبٌ من ذلك.
ويُذكِّرني هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التي نصرت الحق وأبطلت الباطل وأزهقته بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لَمَّا أقبل على خيبر يغزوهم، قال: «اللَّهُ أكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذا نَزَلْنا بساحَةِ قَوْمٍ: ﴿فَساءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ﴾»[27]، وكان اليهود لَمَّا رأوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قالوا: "محمد والله، محمد والخميص"، يعني: الجيش.
وهذا هو شأن أعداء الله، وأهل الأهواء وأهل الضَّلالات إذا جاءهم أمر الله بطلَ باطلهم -ولله الحمد.
ثمَّ ختم الشيخ هذه الرسالة بالدَّعاء والصَّلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه، فأسأل الله أن يجعلنا من أتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ظاهرًا وباطنًا، ونسأل الله أن يغفر لشيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الكتاب العظيم.
 
ولو أردنا أن نتصفَّح بخلاصةٍ سريعة ما مرَّ معنا في هذا الكتاب؛ فهذا الكتاب -كما ترون- فيه عدَّة فصول، اشتملَ على أربعةَ عشر فصلًا، وبيَّن فيه الشيخ:
- مَن هم أولياء الرحمن ومَن هم أولياء الشيطان، وما علامة الولاية وما علامة الأولياء.
-وتكلَّم عن طبقات الأولياء، وتكلَّم عن طبقات الوحِّدين: الظَّالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.
- وتكلَّم عن شرط الولاية، وهو الإيمان والتَّقوى، وأنَّه ليس هناك علامات أخرى، كلُبْسَةٍ خاصَّةٍ أو مِشْيَةٍ خاصَّةٍ؛ إنَّما هو الإيمان والتَّقوى، فمن اتَّصفَ بهما فهو ولي، وأنَّ الولاية ليس من شرطها العصمَة -كما يزعم بعض الضلال.
- كذلك تكلَّم على ضلالات ابن عربي وهو من أئمة الملاحدة الصوفيَّة الذين يزعمون أنَّ الخالق والمخلوق شيء واحد، وأنَّ هؤلاء من أولياء الشيطان، وليسوا من أولياء الرحمن.
- ثمَّ بيَّن سبب ضلالهم باشتباه الحقائق الدينية بالحقائق الكونيَّة، وبيَّن الفرقان بينها.
- ثم ختم بكثيرٍ من الصور التي وقع فيها أولياء الشيطان.
{جزاكم الله خيرًا يا شيخنا.
لو حدثتمونا عن ابن عربي وضلالاته}.
الحقيقة أنَّ ابن عربي له ضلالات كثيرة، وسبق أنَّ الشيخ ابن تيمية نقل من كتبه ككتاب "الفتوحات المكيَّة" و"فصوص الحكم"، وبيــنَ يـــدي الآن كتــــاب جمعــه أحــد طلبــة العلـــم وهـــو الشيــخ الدكتــــور/ دغش ابن شبيب العجمي، وهذا الكتاب قدَّمَ فيه عقيدة ابن عربي وموقف علماء المسلمين منه من القرن السادس إلى القرن الثالث عشر، وقدَّم له سماحة الشيخ العلامة صالح بن محمد اللحيدان رئيس المجلس الأعلى للقضاء سابقًا، وعضو هيئة كبار العلماء.
وبالمناسبة؛ فإنَّ هذا الكتاب جمع كل ما قاله العلماء تقريبًا، أو أغلب ما قاله العلماء، وأقرأ عليكم كلام الشيخ صالح اللحيدان؛ لأنَّه عالمٌ معاصر، ومن علمائنا الذين نحبهم، ونسأل الله أن يحفظهم ويجزيهم عنَّا خير الجزاء.
يقول الشيخ: "أفيدك -أخي المسلم- أنَّني اطَّلعتُ على الكتاب، ولم يكن لي سابق معرفة بالدكتور دغش؛ ولكن لسابق معرفة لي بابن عربي وما قيلَ عنه من كفريَّات في "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكيَّة" وجدتني حريصًا على قراءة الكتاب" وهو مجلد كبير أكثر من ثمانمائة صفحة، عدا الفهارس وما يتعلق بها.
ثم قال: "وقد وجدتُّ مؤلف الكتاب أحسنَ واستوعبَ، وحرصَ على استقصاء أقوال عامَّة العلماء الذين تكلَّموا عن عمل ابن عربي في فصوصه وفتوحاته وكفَّروه، وذكروا عنه الفجور وعميق الكفر، ووُصف بالزَّندقة والإلحاد.
لذا؛ أنصح بالحرصِ على قراءة هذا الكتاب لمعرفة حال هذا الفاجر بتصوُّفه، ولمعرفة مَن هُم على شاكلته ممَّن سبقه أو لحق به، وقنطرة عامَّة أولئك بوَّابة التَّشيُّع، وذلك أوَّل بابٍ فُتِحَ لهدمِ الإسلام، ويلحق بذلك التَّصوُّف الآخذ من التَّشيُّع دعوى العصمة للإمام أو الولي.
إنَّني لا أحبُّ أن أذكرَ ما في الكتاب من مزايا، وما تضمَّنه من نقدٍ صادرٍ من علماء لهم مكانتهم في الأمَّة الإسلاميَّة، ومن أولئك الفقيه الشَّافعي العز بن عبد السَّلام الذي عاصر ابن عربي مدَّة تزيد على ثُلث قرنٍ، فإنَّ العزَّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مات ستمائة وستين، والزِّنديق ابن عربي مات عام ثمان وثلاثين وستمائة، وسوف ترى أقوال العز بن عبد السلام، وسترى علماء كبارًا في قورنٍ كثيرةٍ بعدَ موت الزِّنديق المذكور وهم أكثر من مائتي عالم، كما أنَّ الملوك المتَّقينَ نهجوا نهجَ العلماء.
أرى الاهتمام بقراءة الكتاب، فقد قرأته خلال عدَّة أيَّام، فما ازددتُّ إلَّا معرفة بالرَّجل الخبيث ابن عربي، وتعجُّبًا ممَّن يُحسن به الظَّن من علماء يراهم مخالطوهم من العقلاء، فكيف غفلوا عمَّا كان عليه الرَّجل.
إنَّ التَّصوُّف المنتشر في كثيرٍ من بلاد الإسلام بحاجة إلى أن تُكشَف مخازيه بتعميم مثل هذا الكتاب، وقراءة ما اشتمل عليه بشأن قطب الفساد والإلحاد وسابقيه أمثال الحلَّاج وابن سبعين وغيرهم، ويلحق بهم كل دعاة التَّصوُّف من تيجانيَّة أو شاذليَّة أو غيرهم.
وينبغي أن تُشاع مخازي التَّصوُّف؛ لأنَّ الدين ليس صوفيَّا؛ بل هو دينٌ قيِّمٌ، ملَّةَ إبراهيم -عليه السلام- ورسالة أكمل الرُّسل ذي الرِّسالةَ الخاتمة، الذي قال -عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام- قولته الحاسمة التي فيها أنَّ الدين ما شرعه وبيَّنه «مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي لفظ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
ولقد اطَّلعتُ على بعض الكتابات عن بعض المتصوفة أو ممَّن ردَّ عليهم تصوُّفهم وإنَّه فسادٌ في الدين.
فأرى أن يكون هذا الكتاب نافعًا، حافزًا للمسلمين على صدق الرجوع إلى السُّنَّة النبويَّة، وحسن المتابعة لمن بعثه الله رحمةً للعالمين".
فهذا هو كلام الشيخ صالح اللحيدان، أحببتُ قراءته لأنَّ هذا عالم كبير وقاض من كبار قضاة المسلمين؛ بل هو رئيس القضاة لأكثر من أربعين أو خمسين سنة في المملكة العربية السعوديَّة التي لاتزال -ولله الحمد- تحكمُ بشريعة الإسلام، فهذا رئيس القضاة في أعظم بلد إسلامي في العالم الإسلامي، ويُبيِّن حال هذا الضَّال ليُحذِّر منه.
وقد قرأنا في الفرقان في الدروس السابقة بعض المقولات الكفريَّة التي قالها ابن عربي، فإلى متى يستمر هذا التَّلاعب بدين المسلمين، والتغرير بعقائد المسلمين بالدَّعوى إلى مثل هذا الضَّال؟!
نسأل الله -جل وعلا- أن يكفيَ المسلمين شرَّه وشرَّ أمثاله، إنَّه سميعٌ مجيب الدُّعاء.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هل من كلمة يا شيخ؟}.
الحقيقة في نهاية الدروس التي تمَّ فيها القراءة من كتاب الفرقان؛ أوصي نفسي وإخواني بتقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ- والحرص على العلم النافع، والحرص على سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وتعلُّم ما يحتاجه المسلم من عقيدةٍ وعملٍ وخُلقٍ على هدي الكتاب والسُّنَّة بالاستضاءة بطريقة علماء الأمَّة، فندعوا لشيخ الإسلام ابن تيمية بالرَّحمة والمغفرة، ونسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يجزيه عنَّا خير الجزاء، كما ندعوا للقائمين على هذه الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة وعلى رأسهم معالي شيخنا الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ -حفظه الله تعالى- وجزاه الله خير الجزاء، وكذلك جميع القائمين على أداء هذه الأكاديمية وعلى إنجاح أعمالها العلميَّة التَّدريسيَّة، وكذلك الشُّكر موصول للطَّلبة الذين يحضرون وينتبهون ويواصلون الاستماع، ويدسون هذه المعلومات، نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصَّالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 


[1] صحيح البخاري (3453).
[2] رواه ابن ماجه (4250) والطبراني في " المعجم الكبير " (10281) وأبو نعيم في " حلية الأولياء " (4/210) والبيهقي في " السنن " (20561).
[3] أخرجه البخاريّ في «التّيمّم» باب التّيمّم (١/ ٧٨)، ومسلم في «المساجد ومواضع الصّلاة» (١/ ٢٣٦) رقم (٥٢١)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[4] أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734).
[5] صحيح البخاري (3191).
[6] أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632)
[7] صحيح مسلم (2113).
[8] أخرجه البخاري (3225)، ومسلم (2106)
[9] صحيح مسلم (172).
[10] صحيح مسلم (8).
[11] صحيح مسلم (23870)
[12] أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710)، وأبو داود (5046) واللفظ له.
[13] صحيح مسلم (2938).
[14] صحيح البخاري (3055)، صحيح مسلم (2930).
[15] مسلم (2699 ).
[16] سنن أبي داود (2042)، مسند أحمد (8790).
[17] البخاري (460)، ومسلم (956).
[18] أخرجه البخاري (3997)، والنسائي (4427)، وأحمد (11606).
[19] صحيح مسلم (975).
[20] السنن الكبرى للبيهقي (7043).
[21] صحيح مسلم (532).
[22] البخاري (1041) ومسلم (911).
[23] أخرجه اللالكائي (1/ 135).
[24] صحيح مسلم (804).
[25] صحيح مسلم (2708).
[26] أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
[27] أخرجه البخاري (4200)، ومسلم (1365).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك