الدرس الرابع

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2406 12
الدرس الرابع

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب "الفُرقَانُ بينَ أولياءِ الرَّحمنِ وأوليَاءِ الشَّيطَانِ": (فَصْلٌ: وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ الْحَقَائِقُ الْأَمْرِيَّةُ الدِّينِيَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ بِالْحَقَائِقِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَكَلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ، أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ، وَنَهَى عَنْ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ، فَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ التَّوْحِيدُ، وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ الشِّرْكُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك» قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك» قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك».
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً﴾)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
هذا الفصل يؤكِّد فيه ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- ما تقدَّم من معانٍ في الفَرقِ بينَ أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان، وتقدم في الحلقات القريبة الماضية ذكر حالَ غُلاةِ الصُّوفيَّة الذين زعموا أنَّ الوجود شيءٌ واحدٌ، واشتبهت عليهم الحقائق الشَّرعيَّة بالحقائق الكونيَّة، وذكر ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- أنهم يرون المراتب ثلاثة:
Ø   طاعة ومعصية.
Ø   طاعة بلا معصية، وهذه أعلى -بزعمهم.
Ø   لا طاعة ولا معصية، وهي الدرجة الثالثة وأشدها خبثًا، ويرون أنهم أفضل، وأنها الغاية في التَّحقيق.
يقول الشَّيخ: إنَّ من أسباب الضَّلال عند هؤلاء هو اشتباه الحقائق الكونيَّة بالحقائق الشَّرعيَّة، واشتباه الحقائق القدريَّة بالحقائق الأمريَّة، فقال: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ الْحَقَائِقُ الْأَمْرِيَّةُ الدِّينِيَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ بِالْحَقَائِقِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ)، فيرى أنَّ المخلوقات كلها مُرادة لله وأنها دينٌ، وأنَّ ما يقع من جميع المخلوقات محبوبٌ لله وشرعٌ لله، وليس الأمر هكذا؛ بل فيه فرق بينَ الشَّرع وبينَ القدر، وفيه فرق بين الخلقِ وبين الأمرِ، وفيه فرقٌ بين ما هو دينٌ وبين ما هو كونٌ، فما يكون في الكون لا يقتضي بالضَّرورة أنَّه دين الله ومرضيٌّ عنه، فالكون يقع فيه الخيرُ والشَّرُّ، وتقع فيه الطَّاعة والمعصية، ويقع فيه الكفر والإيمان، فليسَ هذا كلُّه محبوب لله؛ بل المحبوب لله هو الإيمان والطَّاعة وما أمر الله به، والمنهيَّات كلها مبغوضة لله، فإذا اشتبهت الأمور على هؤلاء جعلوا الأمر شيئًا واحدًا، ثم تطوَّرَ الأمر بهم حتى رأوا أنَّ الخالق مع المخلوقات شيئًا واحدًا، فيُبيِّن الشَّيخ في هذا الفصل سبب الضَّلال ويرد عليهم.
قال: (فَإِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾)، فقوله ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، فالعطف هنا يدلُّ على المغايرة.
فالخلق: المخلوقات كلها.
والأمر: هو الشرع، وما أمر الله به رسله، وهو أمره ونهيه، وما جاء في كتبه المنزَّلة.
فالأمر ليس مثل الخلق، فما أمر الله به فهو محبوب، وما نهى الله عنه فهو مبغوض، أما ما خلقه الله في الكون فقد يكون فيه هذا وهذا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَكَلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ، أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ، وَنَهَى عَنْ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ، فَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ التَّوْحِيدُ، وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ الشِّرْكُ)، وهذا يدلُّك على أنَّه ليس فقط الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب الذي قال هذا؛ بل حتى أئمة السنَّة وأئمة العلم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب له كلمة مشهورة في الأصول الثلاثة، قال: (وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ).
وهنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ التَّوْحِيدُ، وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ الشِّرْكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك» قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك» قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك»)
، فبدأ بالشِّركِ، ثم تأتي الكبائر بعد الشرك.
ثم يستمر الشَّيخ في إيرادِ النُّصوصِ الدَّالة على الفرقِ بينَ ما أُمر به شرعًا أو نهي عنه شرعًا وبين ما خلقه وقدَّره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَنَهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ، وَهُوَ يَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهً﴾.
قَدْ نَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَمَرَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى الْحُقُوقَ، وَنَهَى عَنْ التَّبْذِيرِ وَعَنْ التَّقْتِيرِ، وَأَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِهِ، وَأَنْ يَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَعَنْ الزِّنَا، وَعَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ إلَى أَنْ قَالَ ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهً﴾ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ.
وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ». وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ؛ يَقُولُ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» مِائَةَ مَرَّةٍ" أَوْ قَالَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ ")
}.
وهذا يدلُّ على وجوب العمل الصَّالح، ووجوب التَّوبة، وجوب الاستغفار، ولو كان لا طاعة ولا معصية لَمَا أُمر العبدُ بالاستغفار، فهذا أفضل خلق الله وهو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمرنا بالتَّوبة كما أمرنا الله بالتَّوبة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»، وهذا يدلُّ على ما تقدَّم ذكره، وهو وجود التَّقصير مِن الخلق مهما كانوا، فأعظم النَّاس عبادةً لله واعظم الناس منزلةً عند الله هو رسوله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومع ذلك لعظيم قدر الله -جَلَّ وَعَلَا- ولعظيم شانه -جَلَّ وَعَلَا- فإنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوب إلى الله ويستغفره، إدراكًا لعظمة الرب -سبحانه وتعالى- ولأنَّ العبد مهما كان فإنه لا ينفك عن تقصيرٍ، وإلَّا فالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد بلغَ الكمال في عبوديَّته لله وفي منزلته عند الله، وهو يستغفر الله ويتوب إليه؛ فما بالك بنا نحن!
وهذا فيه ردٌّ على هؤلاء الزَّنادقة الحلوليَّة الذين يقولون لا توجد طاعة ولا توجد معصية، أو توجد طاعة بدون معصية؛ فلا يشهدون إلَّا الكون، فهذا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أفضل خلق الله أمرَ بالاستغفار وبالتَّوبة، وهذا يدلُّ على أنَّ الذُّنوب يجب أن يُتابَ منها، فلا يقول أنا ولي لا أُذنِبَ، أو أنَّ المعاصي تصير بالنِّسبةِ لي طاعات؛ فكل هذا من الانحراف الشديد عن الإسلام وعن منهج الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ؛ يَقُولُ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» مِائَةَ مَرَّةٍ" أَوْ قَالَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ".
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنْ يَخْتِمُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ- مِنْ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ﴾ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِاللَّيْلِ وَيَسْتَغْفِرُوا بِالْأَسْحَارِ.
وَكَذَلِكَ خَتَمَ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ -وَهِيَ سُورَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ- بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَجِّ في سورة البقرة: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ بَلْ أَنْزَلَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا غَزَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾. وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْله تَعَالَى ﴿إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابً﴾، فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتِمَ عَمَلَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- "أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» - يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ"
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي" قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت" فَقَالَ «قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ. قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك».
فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ دَائِمً)
}.
الله -جَلَّ وَعَلَا- أمرَ العبادَ أن يختموا الأعمالَ الصَّالحة بالاستغفارِ، وسبقَ أنَّ التَّوبة واجبة من جميع الذُّنوب، وهنا ملحظٌ عظيمٌ جدًّا دلَّت عليه الشَّريعة، وهو أنَّه حتى مع قيامك بالأعمال الصَّالحة تختمها بالاستغفار، ووجه ذلك: أنَّ العملَ الصَّالح من توفيقِ الله لك، فأنتَ تستغفر الله من تقصيرك في شكر نعمه، وتستغفر الله ممَّا يحصل في هذا العملِ من خطأ أو نسيان، لأنَّه هذا العمل قد يُخرَق بأشياء من الغفلةِ أو أشياء تكون في القلوب.
فإذا قيل: ما الدَّليل على أنَّ الأعمال الصَّالحة يُشرَع أن تُختَم بالاستغفار؟
ذكر الشَّيخ هنا مجموعة كبيرة من الأدلَّة تدلُّ على حسنِ الاستنباطِ، أولها: حديثُ ثوبان: فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ- مِنْ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»، فكانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدَمايفرغ من الصَّلاة يستغفر.
وانظر إلى قوله تعالى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ﴾، يُصلُّون بالليل ثم إذا جاء السَّحرُ يستغفرون.
وفي سورة المزمَّل ويقول عنها الشيخ: (وَهِيَ سُورَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ)، ختمها الله تعالى بقوله: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
قال الشيخ: (وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَجِّ في سورة البقرة: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ فأمر بالاستغفار بعدَ عرفة والمزدلفة.)
قال -رَحِمَهُ اللهُ-: (لَمَّا غَزَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ...﴾)، فبعد كل هذه الأعمال العظيمة مِن بدء الوحي بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والجهر بالدَّعوة إلى الله، وما لاقوه من الصِّعاب؛ ثم في آخر الأمر في غزوة تبوك يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ...﴾، ذكر التَّوبة.
يقول الشيخ: (وَقَدْ قِيلَ: إنَّ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْله تَعَالَى ﴿إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابً﴾، فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتِمَ عَمَلَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ)، وهو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فكل هذا دلائل على أنَّ الأعمال يُشرَع أن تُختَم بالاستغفار.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- "أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» - يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ")، يتأوَّل القرآن: يعني يمتثل القرآن.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي»)، والذي قول هذا هو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معلمًا الأمَّة.
وكذلك يُرشد أبا بكر وهو أفضل هذه الأمَّة، وهو أفضل صدِّيقٍ وأفضل ولي لله، يقول للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي" قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ».
وهذا الصِّديق الأكبر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سأل النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وروى عنه حديثًا آخر، فقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت" فَقَالَ «قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ. قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك»، يعني: ختام اليوم تستغفر الله بهذا الذِّكر.
إذن؛ يُشرع للمؤمن أن يستغفر، وهذا شيء مؤكَّد للمؤمن والمؤمنة، فأمامك الآن أبا بكر وقبله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فبعضُ هؤلاء الذين يتحدَّث عنهم ابن تيمية زعموا أنَّه لا يوجد معصية، فما دام أن الله خلقها فكلها طاعات، وزعموا أنَّ الكون شيء واحد؛ فكل هؤلاء مخالفون للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومجانبون للإسلام، ومحادُّون لله ولرسوله، ومخالفون لهذه النصوص الشَّرعيَّة.
يقول الشَّيخ صالح آل الشيخ في شرحه لهذا الكتاب: "الذين ادَّعوا ولاية الله ممَّن ضلوا، قال طائفةٌ منهم: إذا حصل لي حالٌ -يعني شعور معنوي إيماني بزعمه- أو حصل علي شيء، فإنَّ هذا نفوذ أمر الله في، فاستسلامي لذلك ورضائي به هو حقيقةُ التوحيد والاستسلام لله، وهذا باطل؛ لأن الله أوجب على العبد أن يفرح بالطاعة وأن يُبغض المعصية، وإذا غفل أو قصَّر أن يتوب ويستغفر"، فهؤلاء ينظرون للأمر الكوني، ويغفلون عن الأمر الشَّرعي، وهذا من أعظم أسباب الضَّلال.
ويُشبه هؤلاء من ناحية أخرى كثيرٌ من النَّاس، يبحث عن رضى مَن فوقه من مرؤوسٍ، فإذا كان رئيسه أو وزيره أو سلطانه قد أقرَّ أمرًا باطلًا فإذا به ينقلب ويقول ما دامَ أنَّ فلانًا أقرَّه انتهى الأمر ونحنُ معه، فيستسلم بزعم أنَّ هذا الشَّيء قُدِّر وحصل؛ لا، بل اُثبُت على الشَّرع حتى لو حادَ عنه الأكثرون، فاثبُت على شرع الله واستقم، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قل آمنتُ بالله ثم استقم»، أمَّا لو بحثت عن هواك أنت أو هوى السُّلطان أو هوى المسؤول؛ فهؤلاء قد يُخطئون وقد يضلُّونَ وقد ينحرفون، فأنت لا تكون مع المخطئ والمنحرف والضَّال مهما كان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ دَائِمً))}.
هذه هي النَّتيجة، فكل أحد محتاج إلى التوبة والاستغفار بدلالة النُّصوص السَّابقة، فلما يقول بعضهم أنَّه لا توجد معصية وأنَّ كلَّ الكون طاعات؛ فهذا خالف الشَّرع ولا شك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً﴾ فَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ، وَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ التَّوْبَةُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِتَوْبَةِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ)}.
اللهم اغفر لنا وارحمنا.
قوله: (وَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، يعني طِلبتهم وهدفهم والشَّيء الذي يقصدونه هو التَّوبة، أنَّ الله يتوب عليهم، وهذا كل مؤمن يتمنَّاه، وأمَّا الجُهَّال الملاحدة الصُّوفيَّة الذي يقول لا توجد معاصي وكل الكون طاعات، ولا يفكِّرون حتَّى بالتَّوبة؛ فهذا يلتحق بالمنافقين أو بالمشركين، فالله -جَلَّ وَعَلَا- وصف المؤمنين ووصف المشركين في سورة الأحزاب، فقال: ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً﴾، أمَّا أن يقول ليست هناك توبة ولا حاجة لي بالتوبة؛ فهذا من الضَّالِّينَ -نسأل الله العافية والسَّلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ»، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ فَإِنَّ الرَّسُولَ نَفَى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَادَلَةِ، وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ بَاءَ السَّبَبِ)}.
هذا هو الجمع بين النُّصوص الشَّرعيَّة، فإذا قيل لك: كيف يقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ»، وبين قَوْلَهُ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾، فكيف أثبتَ الله الباء، ونفاها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في السنَّة؟
فالجواب: أنَّ المثبَت غير المنفي، يقول الشيخ: (فَإِنَّ الرَّسُولَ نَفَى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَادَلَةِ)، النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ»، يعني عملك -أيُّها الإنسان- من الصَّلاة والتَّوحيد والصَّوم والزَّكاة وكل أعمالك؛ ومهما فعلتَ فلا تساوي ولا تقابل ولا تعادل الجنَّة، الأعمال قليلة جدًّا في مقابل سَعَة الجنَّة وفضلها ورحمة الله لك بالجنَّة، فالجنَّة أعظم بكثير جدًّا جدًّا مِن أعمالك، مهما عملتَ فلا تساوي أعمال ثواب الله لك بالجنَّة، فهذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ»، يعني ليس عملكم مقابل للجنَّة.
لما أنت تشتري هذا الكأس، تقول: هذا الكأسُ بكم؟ بريالين أو بخمسة، فهذا معقول، أمَّا لو قال لك واحد: هذا الكأس بخمسة آلاف! تقول: هذا لا يُقابل الخمسة آلاف!.
فأنت لمَّا تأتي بأعمالك أمام هذه الجنة العظيمة بما فيها من النَّعيم العظيم والكرامة العظيمة للمؤمنين؛ فليست أعمالك شيء في مقابل هذا، وهذه الباء تسمى باء العوض، أو باء المقابلة والمعادلة.
أمَّا الباء المثبتة هي باء السببيَّة، فالقرآن أثبت السَّببيَّة، يعني: دخولك الجنَّة لم يكنْ بلا سببٍ، بل أنت لمَّا هداكَ الله وقمتَ بالأعمال الصَّالحة؛ كان هذا سببًا في دخولك الجنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ.
مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّ مَنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ بَلْ مَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
}.
هذا القول يتناقله بعضُ النَّاس عن بعض المتقدِّمين من السَّلف، وهو قول: "إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ"، فيقول الشَّيخ: لو ثبت هذا النَّص فمعناه أن الله يُوفِّق العبدَ للتوبَة، وليس معناه أن لا تضره الذنوب، فهذا هو معنى الأثر.
وعلى النَّظر فإنَّ هذا الكلام بإطلاقه بهذا الشَّكل بدون تقييد هو كلام المُرجئة وليس كلام أهل السُّنَّة والجماعة، فالقول بأنَّ الله إذا أحبَّ العبد لا تضرُّه الذنوب مطلقًا؛ هذا قولٌ غيرُ صحيحٍ، فإن الله -جَلَّ وَعَلَا- لا يُحب مَن يفعل الذُّنوب، بل تنقص محبَّته عند الله بمقدار ذنوبه، ولا شك أن التَّوحيد يُنجي، ولكن إذا كثُرَت الذُّنوب فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، وإن عذَّبه فلا يُخلَّد في النار، ولهذا أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن كثير جدًّا من أهل الذنوب من الموحِّدين رآهم في النَّار، ثم يشفع فيهم فيخرجون كأنهم انتُحِشوا وصاروا فحمًا، ومعهم التَّوحيد!
فهذا كلام المرجئة وفيه نظر، ولو أردنا حمل الكلام على المحمل الصَّحيح فكما قال ابن تيمية أنَّ المراد: (إذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ)، فلم تضره لأنَّه سوف يتوب منها، أما إذا عملها بدون توبة فلا يُمكن أن يُحبه الله.
ومن هذا قول بكر المزني -عفا الله عنه ورحمه: "ما سبقهم أبو بكر بكثير صلاةٍ ولا صيام، ولكن بشيءٍ وقر في قلبه".
ولو تأمَّلت تجد أنَّ أبا بكر الصِّديق سبقهم بالأعمال، فعمر لما جاء يتصدَّق بنصف ماله وجد أبا بكر قد تصدَّق بماله كله، وفي الجهاد وجدوا أبا بكر أقدر الناس وأقدمهم وأشجعهم، وهو الذي حمى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مكَّة، وكان معه في كل المواقف، فهو سبقهم بالأعمال الصَّالحة، ولو أردنا أن نُعدِّد أعماله العظيمة التي قام بها؛ لكن لا شكَّ أن القلوب تؤثِّر، لكن بعض النَّاس يفهم هذا على أنَّ عمل القلب يكفي ولا ينظر للأعمال، بل إنَّ الأعمال حقيقةً تغرف مما في القلب، واللسان يغرف ممَّا في القلب، فإذا صلُحَ القلب صلُح الجسد، فينهما تلازمٌ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّمَا عِبَادُهُ الْمَمْدُوحُونَ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْقَدَرَ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِأَحَدِ لَمْ يُعَذِّبْ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ، وَلَا يَحْتَجُّ أَحَدٌ بِالْقَدَرِ إلَّا إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ)
}.
يقول الشيخ: (وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْقَدَرَ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ)، الإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستَّة، وأركانه:
Ø   أن نؤمن بأنَّ الله علم الأشياء قبل أن توجَد بعلمه القديم.
Ø   أن نؤمن بأن الله كتبها في اللوح المحفوظ.
Ø   وأنَّ مشيئة الله تعالى نافذة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّه لا يقع شيء إلا بمشيئته.
Ø   أن نؤمن بأن الله خالقُ كلِّ شيء.
وهذا لا يعني إهمال الأمر والنَّهي، فما أمر الله به يجب العمل به، وما نهى الله عنه يجب تركه، وهناك فرقٌ بين الطَّائع والعاصي، والمؤمن والكافر، فالله يحب المؤمنين ويُبغض الكافرين، والأفعال تُضاف إلى مَن قام بها، كما أضافها الله إليهم في القرآن.
أما الضَّلال في القدر فهو فريقان:
Ø   فريق أنكر القدر بقولهم: لا قدر، فغلاة القدريَّة أنكروا علم الله وكتابته وخلقه ومشيئته، والمتوسطون من القدريَّة أنكروا المشيئة والخلق، وكلُّهم ضُلَّال.
Ø   وفي المقابل الجبريَّة، ضلوا في القدر وغلوا فيه، أثبتوا قدر الله وأنَّ الله قدَّرَ الأشياء وكتبها وشاءها وخلقها، ولكن زعموا أنَّ العباد مجبورون، وأنَّ كل ما يقع يُضاف إلى الله وبرضى الله، ومن هذه الضَّلالات أنهم احتجوا بالقدر لأهل الذُّنوب، فإذا فعل المذنب معصيةً قالوا هذا بقدر ولا ننكر عليه، وهذا حجَّةٌ له عند الله!
يقول الشَّيخ: (وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْقَدَرَ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ)، يكون من جنس المشركين لأنَّ الله حكَى عن المشركين هذه المقولة: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَ﴾ فاحتجوا بمشيئة الله على بقائهم على الشِّرك، فمن احتجَّ بمشيئة الله وقدره على ما يفعل من الذنوب والمعاصي والكفر فهو مثل المشركين، ويقول الشيخ في الرد عليهم: (وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِأَحَدِ لَمْ يُعَذِّبْ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ)، لأنَّ كفرهم وقع بقدر، ولكن الله عذبهم وأهلكهم؛ فهذا دليل على أنَّ القدر ليس حجَّة لهم، ولو كان القدر حجَّة لم يأمر الله -جَلَّ وَعَلَا- بإقامة الحدود على المعتدين وأصحاب الحدود، كالسَّارق ونحوه، قال الشيخ: (وَلَا يَحْتَجُّ أَحَدٌ بِالْقَدَرِ إلَّا إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِأَحَدِ لَمْ يُعَذِّبْ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ، وَلَا يَحْتَجُّ أَحَدٌ بِالْقَدَرِ إلَّا إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ.
وَمَنْ رَأَى الْقَدَرَ حُجَّةً لِأَهْلِ الذُّنُوبِ يَرْفَعُ عَنْهُمْ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَذُمَّ أَحَدًا وَلَا يُعَاقِبَهُ إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ؛ بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ اللَّذَّةَ وَمَا يُوجِبُ الْأَلَمَ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُ خَيْرًا وَبَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُ شَرًّا، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ طَبْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعً)
}.
هذا الذي يحتج بالقدر؛ فعلى مذهبه أنَّه حتى في نفسه لا يذمُّ أحدًا ولا يلوم أحدًا، حتى لو وُجدت لذَّة أو ألم، فإذا جاءت اللَّذة فلا يمدح أحدًا، وإذا جاء الألم لا يذمُّ أحدًا، فلو صفعه أحد وضربه وبصق في وجهه؛ فعلى مذهبه القدري الباطل لا يلومه، لأنَّه فعل شيء مقدر، وهذا المذهب ممتنع وتنفر منه الطباع عقلًا وشرعًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾، أَيْ: مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى قَالَ مُوسَى: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ فَبِكَمْ وَجَدْت مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾؟ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى»، أَيْ: غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَلَّتْ فِيهِ طَائِفَتَانِ:
- طَائِفَةٌ كَذَّبَتْ بِهِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَمَّنْ عَصَى اللَّهَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ.
- وَطَائِفَةٌ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ حُجَّةً وَقَدْ يَقُولُونَ: الْقَدَرُ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ شَهِدُوهُ، أَوْ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنَّ لَهُمْ فِعْلًا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّمَا حَجَّ آدَمَ مُوسَى لِأَنَّهُ أَبُوهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَابَ، أَوْ لِأَنَّ الذَّنْبَ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ وَاللَّوْمَ فِي أُخْرَى، أَوْ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْأُخْرَى.
وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ؛ وَلَكِنَّ وَجْهَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَلُمْ أَبَاهُ إلَّا لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَلُمْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَتَابَ مِنْهُ، فَإِنَّ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ لَا يُلَامُ، وَهُوَ قَدْ تَابَ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَوْ كَانَ آدَمَ يَعْتَقِدُ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَقُلْ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾)
}.
قصَّة احتجاج آدم وموسَى في الصَّحيحين، وهي قصَّة ثابتة وصحيحة، وبعض النَّاس لا يفهمها على الفهم الصَّحيح:
فالطَّائفة الأولى قالت: إنَّ هذا الحديث كذب -نستغفر الله ونتوب إليه- كذَّبوا بالحديث لأنَّهم ظنُّوا أنه حجَّة لأهل المعاصي، وأن العصاة سوف يحتجُّون بهذا، وظنُّوا أنَّ هذا يؤيِّد مذهب العصاة، وهذا يدلُّ على فهمهم الخاطئ للحديث، فلجؤوا إلى تكذيبه، وهذا منهجٌ باطل.
والطَّائفة الثانية شرٌّ من هؤلاء، فقالوا هو حجَّة للعصاة، فيقولن إنَّ القدر حجَّة لأهل الحقيقة، ويقصدون غلاة الصُّوفيَّة وأمثالهم ممن يدعون الولاية ويدَّعون أنَّهم أهل الحقيقة، وقالوا: نفعل المعاصي ولا تضرُّنا.
وبعض النَّاس قالوا أقوالًا فاسدة وباطلة، قال الشَّيخ: (إنَّمَا حَجَّ آدَمَ مُوسَى لِأَنَّهُ أَبُوهُ)، والأب يغلب ولدَه! وهذا كلام لا قيمة له.
وبعضهم يقول: حجَّ آدم موسَى لأنَّه تابَ.
وبعضهم يقول: الذنب كان في شريعة واللوم كان في شريعة أخرى.
وبعضهم يقول: هذا في الدنيا دون الآخرة.
قال الشيخ: (وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ؛ وَلَكِنَّ وَجْهَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَلُمْ أَبَاهُ إلَّا لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَلُمْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبً)، يعني لم يقل له: لماذا أكلتَ من الشَّجرة؟ بل قال له (لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟)، فتكلم معه عن المصيبة، فبيَّنَ له آدم -عليه الصلاة والسلام- أن هذه المصيبة مقدَّرة، وإلَّا فإنَّ موسى لا يلوم أباه ولا يلوم غيره على ذنبٍ قد تاب منه، فالحديث «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ»[2].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَنْ يَصْبِرَ وَيُسَلِّمَ، وَعِنْدَ الذُّنُوبِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ المعائب.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ"، فَالْمُؤْمِنُونَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ مِثْلُ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ صَبَرُوا لِحُكْمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذَنْبِ غَيْرِهِمْ كَمَنْ أَنْفَقَ أَبُوهُ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي فَافْتَقَرَ أَوْلَادُهُ؛ لِذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا لِمَا أَصَابَهُمْ، وَإِذَا لَامُوا الْأَبَ لِحُظُوظِهِمْ ذَكَرَ لَهُمْ الْقَدَرَ)
}.
هذا مثال: أبٌ أنفقَ ماله في المعاصي، فذهبت أمواله فافتقر الأولاد، فإذا لاموا أباهم يُذَكَّرون بالقدر أن يصبروا، فهذا أشبه ما يكون بقصَّة آدم وموسى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَالرِّضَا قَدْ قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِمَا يَرَى مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهَا، حَيْثُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ، وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَابَتِهِ وَتَضَرُّعِهِ إلَيْهِ، وَإِخْلَاصِهِ لَهُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَرَجَائِهِ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ)}.
إذن مقام الصبر، ثم مقام الرضا، ثم مقام الشُّكر، وفيه مقام رابعه محرَّم وهو مقام التَّسخُّط والجزع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ وَالضَّلَالِ فَتَجِدُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ إذَا أَذْنَبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَيُضِيفُونَ الْحَسَنَاتِ إلَى أَنْفُسِهِمْ إذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ "أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ")}.
وهذا حال كثير من النَّاس، يبحث عن هوى نفسه فقط، فإذا وافقته معصية قال هذا شيء مقدَّر وصار جبريًّا، وإذا قيل له قم بالأمر واترك النَّهي يمتنع؛ وصارَ قدريًّا -نسأل الله العافية والسلامة- فيحتج بالقدر عند المعاصي إذا فعلها، ويحتج بأن هذا الشيء ليس بمناسب له إذا جاءت الأوامر والنواهي، وهذا حال كثير من الناس، فاللهم اهدنا فيمن هديت.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ إذَا فَعَلُوا حَسَنَةً شَهِدُوا إنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَجَعَلَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَأَلْهَمَهُمْ التَّقْوَى وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ، فَزَالَ عَنْهُمْ بِشُهُودِ الْقَدَرِ الْعَجَبُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى، وَإِذَا فَعَلُوا سَيِّئَةً اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَتَابُوا إلَيْهِ مِنْهَ)}.
معنى قوله "أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ"، أي: ينسب الطَّاعة لنفسه، فيقول هذا بجهدي وبعقلي وباجتهادي، فيضيف الطَّاعت إلى نفسه إذا فعلها، وإذا ارتكب المعاصي صار جبريًّا؛ فهؤلاء أهل الأهواء وما أكثرهم! وكثير من النُّفوس تسلك هذا المسلك تهرُّبًا من شرع الله -جَلَّ وَعَلَا- نسأل الله الهداية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت، أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي ; فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ إذَا غُمِسَ فِيهِ الْمِخْيَطُ غمسة وَاحِدَةً. يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ»)
}.
هذا هو حالُ المؤمنين، يحمدون الله -جَلَّ وَعَلَا- ويضيفون النِّعَم إلى الله -سبحانه وتعالى- وهذا ما دلَّ عليه حديث سيد الاستغفار، بخلاف ما يقول الضُّلال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ وَأَنَّهُ إذَا وَجَدَ شَرًّا فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ.
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ مُوَافِقًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِوَجْدِهِ وَذَوْقِهِ غَيْرَ مُعْتَبِرٍ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)
}.
الواجب على المؤمن عندَ الطَّاعة أن يحمد الله عليها، وأن يُضيف النِّعمَة إلى الله، وعند المعصية أن يستغفر الله منها ويُضيفها إلى نفسه، وعند الابتلاء بالمرض أو الفقر ونحوه أن يصبر ويحتسب، ومع الصبرِ الرِّضا، وأعلى منه الشُّكر، فهذه مقامات عظيمة، ولهذا قيل: "عُنُوانُ السَّعَادَةِ: إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَذَنَبَ اسْتَغْفَرَ"، وبهذا نعرف العكس؛ فعنوان الشَّقاوة: إذا أُعطيَ العبدُ بطرَ واستكبرَ وأَشِرَ وفَرِحَ، وإذا أذنب قال هذا ليس بذنب، وهذه أمور لا تضرني، أو يقول أنا ولي ولي مقام عند الله، فلا يستغفر الله، ولا يرى الذنوب شيئًا؛ نسأل الله العافية
ومن علامات الشَّقاوة: إذا ابتُليَ يجزع ويتسخَّط ويشكو الخالق إلى المخلوق -نسأل الله العافية والسلامة.
فهذه مقامات عظيمة يجب أن ننتبه لها، وهذا الكلام الذي سيقَ في الردِّ على مَن يدَّعي الولاية وهو يُخالف هذه النُّصوص الشَّرعيَّة، وبالتَّالي نعرف أنَّهم ليسوا أولياء للرَّحمن، وأنَّ هؤلاء الذين يقولون هذه المقالات إنَّما هم أولياء الشَّيطان، وهم ضالُّون ومخالفون لهذه النُّصوص الشَّرعيَّة، فيكون المؤمن مع أولياء الرحمن، ويبتعد عن أولياء الشَّيطان.
نسألُ الله أن يهدينا وجميع إخواننا المسلمين لما يُحبه ويرضاه، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك