الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

1556 12
الدرس الثالث

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول شيخ الإسلام ابن تيمية-رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ، لَكِنْ يُخَيَّلُ لَهُمْ أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَظُنُّونَهَا فِي الْخَارِجِ، وَأَشْيَاءَ يَرَوْنَهَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ لَكِنْ يَظُنُّونَهَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ، وَتَكُونُ مِنْ تَلْبِيسَاتِ الشَّيَاطِينِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد؛ فلا زال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- يُبيِّن حال هؤلاء الحلوليَّة وأهل وحدة الوجود والاتِّحاديَّة، وذكر أنَّ طائفةً من هؤلاء الضَّالينقد لا يتعمَّدون الكذب، وهذا يعني أنَّ هناك أناس يتعمَّدون الكذب، ويتعمَّدون الافتراء ليخدعوا الناس، ومنهم من لا يتعمَّد الكذب، ولكن تُخيَّل إليه الأشياءويرى أشياءً بسبب هذه الأفعال المنكرة، أو الخلوات المحرَّمة شرعًا، أو الرياضات التي فيها تشديد على النفس، فيتخيَّل خيالات فيظن أنها حقيقة، وهي ليست بشيء، فهذا قد ينفع معه النَّصيحة والبيان، وأمَّا مُتَعَمِّد الكذب، والمتعمِّد لإغواء الناس أشد وأنكى، نسأل الله العافية والسَّلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْوَحْدَةِ قَدْ يُقَدِّمُونَ الْأَوْلِيَاءَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَمْ تَنْقَطِعْ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِ، وَيَجْعَلُونَ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةً يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَشْهَدُ أَوَّلًا طَاعَةً ومَعْصِيَةً، ثُمَّ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ، ثُمَّ لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ)}.
قوله: (وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْوَحْدَةِ)، يعني: وحدة الوجود، أنَّ الخالق والمخلوق شيء واحد، ولا شكَّ أنَّ هذا من أعظم الأقوال كفرًا.
قوله: (قَدْ يُقَدِّمُونَ)، وفي نسخة (يُقدِّمون) بدون "قد"، وقد مرَّ معنا ذكر ابن عربي، وأنَّه يُقدِّم الأولياء على الأنبياء والرُّسل، والذي قال: "مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي".
وهنا يذكر المؤلف شخصًا آخر غير ابن عربي، وهو ابن سبعين، قال: (وَيَذْكُرُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَمْ تَنْقَطِعْ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِ)، ابن سبعين من الصُّوفيَّة الغلاة، واسمه عبد الحق بن إبراهيم الرَّاقوطي، نسبة إلى راقوطة، وهي بلدة قريبة من مرسيليا، اشتغل بعلم الفلسفة وتولَّد له إلحادٌ، وكان يقول عنه المؤرخون: إنَّه يذهب إلى غار حراء ينتظر الوحي -نسأل الله العافية والسلامة- وكل هذا من عقيدته الفاسدة؛ لأنَّه يظن أنَّ النبوة مكتسبة، فهؤلاء يذكرون أنَّ النبوة لم تنقطع.
وأجمع المسلمون على كفر من يقول بهذا القول، لكن هناك ضلالة أخرى، أنَّهم يقولون: إنَّ مراتب الناس ثلاثة:
·       أولًا: أن يعرف العبد أنَّ هناك طاعة وهناك معصية.
·       ثانيًا: طاعة بدون معصية.
·       ثالثًا: لا طاعة ولا معصية.
وهم يُريدون بذلك مراتب الحلول ووحدة الوجود، وسيأتي شرح هذه المراتب عند هؤلاء الصُّوفيَّة. قال المؤلف: (وَيَجْعَلُونَ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةً يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَشْهَدُ أَوَّلًا طَاعَةً ومَعْصِيَةً، ثُمَّ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ، ثُمَّ لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالشُّهُودُ الْأَوَّلُ: هُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي)}.
يعني هذا هو الحق، أنَّ المؤمن يُفرِّق بينَ ما أحل الله وبين ما حرَّم، وبينَ الطَّاعة وبينَ المعصية، فإذا علم العبد أنَّ الصلاة طاعة وأنَّ شُربَ الخمر معصية ومشى على طريق أنَّه يُؤمن بما أخبر الله به من الطاعات ويعمل بها، ويعرف المحرمات فيجتنبها؛ فهذا هو الطريق الصَّحيح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا الشُّهُودُ الثَّانِي: فَيُرِيدُونَ بِهِ شُهُودَ الْقَدَرِ كَمَا أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ يَقُولُ: "أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى" وَهَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُخَالَفَةُ الْإِرَادَةِ الَّتِي هِيَ الْمَشِيئَةُ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ حُكْمِ الْمَشِيئَةِ وَيَقُولُ شَاعِرُهُمْ:
أَصْبَحَتْ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ** مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ؛ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبَهَا الذَّمُّ وَالْعِقَابُ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ اشْتَبَهَتْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ، فَبَيَّنَهَا الجنيد -رَحِمَهُ اللهُ-لَهُمْ، فمَنْ اتَّبَعَ الجنيد فِيهَا كَانَ عَلَى السَّدَادِ، وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ، لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَفِي شُهُودِ هَذَا التَّوْحِيدِ، وَهَذَا يُسَمُّونَهُ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ الجنيد أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شُهُودِ الْفَرْقِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ شُهُودِ كَوْنِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مُشْتَرَكَةً فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَبَيْنَ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى:﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى:﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى:﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾.
وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ ولَا رَبَّ غَيْرُهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَمَرَ بِالطَّاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا؛ بَلْ يُبْغِضُهَا وَيَذُمُّ أَهْلَهَا وَيُعَاقِبُهُمْ)
}.
هذه هي المرتبة الثانية -أو الشُّهود الثَّاني- الذي قال فيه هؤلاء الضَّلاَّل: الطاعة بلا معصية.
تقدَّم أن المرتبة الأولى: أن يشهد الطَّاعة والمعصية؛ وهم يقولون: إنَّ هذه مرتبة العامة -يعني أنقص المراتب- أنه يُفرِّق بين الطاعات والمعاصي.
وعندهم المرتبة الأحسن: أن يرى الأشياء كلها طاعة بلامعصية، فيرون أن هذه منزلة عليا، وهي أنَّهم يُريدون شهود القدر، فكل ما قُدر فهو مرضيٌّ لله بزعمهم، ولهذا يقول بعضهم: "أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى"، نستغفر الله ونتوب إليه!
ومعنى كلام هذا الضَّال: أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- لا يُمكن أن يُعصَى، وكل ما يقع في الكون من معاصي ليست معاصي، فإذا رأيتها أنت معاصٍ؛فهذا الصُّوفي الضَّال يراها ليست معاصٍ.
ولهذا يقول: لو أثبتَّ أنَّها معاصي فمعناه أنَّ الرَّبَّ يُعصى، وهو كافر بربِّ يُعصَى؛ فيقول: نرى كل شيء في الكون طاعة، وكل ما يقع في الكون مرادٌ لله شرعًا، فلا يُفرِّق بين الإرادة الشرعيَّة والإرادة الكونيَّة.
حتى يقول قائلهم:
أَصْبَحَتْ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ** مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ
يعني حتى -والعياذ بالله- لو زنا أو سرق وشرب الخمر وقتل؛ يرى أن هذا كله وقع بالقدر، إذن هي مُرضيَّة لله وكلها طاعة لله، فلا يرى معصيةً إطلاقًا.
ومعلوم أنَّ هذا خلاف ما جاءت به الرُّسل كلهم، فالرسل -عليهم الصلاة والسلام- أرسلهم الله -جَلَّ وَعَلَا- وأنزل عليهم الكتب مبشرين ومنذرين، فيبشرون مَن أطاعهم بالجنة، ويُنذرون مَن عصاهم بالنَّار.
وهؤلاء يقولون: لا يوجد معصية! والله يقول: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.
إذن؛ هناك من يُطيعه وهناك مَن يعصي، ولكن هؤلاء لجهلهم ظنُّوا أنَّ هذا الشيء وقع بقدر الله ومراده الكوني؛ إذن هو محبوب لله ومرضيٌّ لله، ويعتبرُ طاعة لله!
وهذا كلام باطل؛ فهم اشتبه عليه عدم التفريق بين المراد الكوني والمراد الشَّرعي.
ما هو المراد الكوني والمراد الشَّرعي؟
نقول: فرعون وجميع المخلوقات كلها مخلوقة لله -عز وجل-، والكفر الذي وقع من فرعون وقع بقدر الله، أي: أراده الله كونًا.
الصُّوفي الضَّال وأمثاله من الجبريَّة يقولون: ما دام أنَّه وقع كونًا فهو محبوبٌ لله شرعًا!
الشَّرع وضَّحه الله، وأرسل إليه موسى وأنذره وحذَّره من هذا التَّكذيب وهذا الكفر ومن هذا الضَّلال، فالله لا يضى كفر فرعون ولا يرضى كفر الكافرين.
ففرقٌ بينَ المراد الكوني والمراد الشَّرعي.
يقول الشيخ: (هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ اشْتَبَهَتْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ، فَبَيَّنَهَا الجنيد -رَحِمَهُ اللهُ-لَهُمْ)، فرَّق الجنيد وبيَّن الحق.
يقول الشيخ: (فمَنْ اتَّبَعَ الجنيد)، والصَّواب أنَّ مَن اتَّبعَ الكتاب والسَّنة، ولكن الشيخ هنا ذكر الجنيد؛ لأنَّ غالب المخاطَبين بهذا يُعظِّمون الجنيد، وهو رجل صالح ولم تصدر منه شطحات كثيرة ولا غلطات، فهو من العُبَّاد الزُّهَّاد وله كلمات طيِّبة -رَحِمَهُ اللهُ- فأراد-رَحِمَهُ اللهُ- أن يحتجَّ عليهم بمَن يُعظِّمونه.
وهؤلاء يسمُّونَ جهلهم بالتَّفريق بين المراد الشَّرعي والكوني وظنِّهم أنَّ كل الأمور التي تحدث إنَّما هي طاعات؛ فيسمونه "الجمع الأول"، فكان يقول لهم: لابدَّ أن تعرفوا الفرق الثاني: وهو أن ما حرَّمه الله ونهى عنه لا يجوز لنا أن نفعله، ولا يجوز لنا أن نقول إنه طاعة؛ لأنَّ هذا معصية.
وربَّنا -جَلَّ وَعَلَا- فرَّق في القرآن، فقال:﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى:﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾، فعند هؤلاء الضُّلَّال الصُّوفيَّة يقولون هم سواء، فيُعاندون الله ويُخالفون خبره.
ثم ذكر الآيات: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى:﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾.
ولهذا قرَّرَ الشَّيخ أنَّ مذهب سلف الأمَّة وأئمتهم: أنَّ الله خالق كل شيء، فهذا إقرار بالقدر، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومع إقرارنا بالقدر نُقرُّ بالأمرِ والنَّهي، فما أمرَ الله به فهو طاعة، وما نهى عنه فهو معصية، قال: (وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ...) إلى آخره.
بقي معنا المرتبة الأخيرة، وهي مرتبة وحدة الوجود والقول بالحلول، وهذه يعتبرونها هي المقام الأعلى، لظنِّهم أنَّها أكمل من المرتبة التي سبقت، وهي أن يشهد طاعة بلا معصية، والآن سيقول: (لَا يَشْهَدَ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّاالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَشْهَدَ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً - فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْوِلَايَةُ لِلَّهِ؛ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ غَايَةُ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَغَايَةُ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ، فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَشْهَدِ يَتَّخِذُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ، فَيَخْرُجُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ وَقَالَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ:﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى:﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾)}.
هذه هي المرتبة الثالثة عند غلاة الصُّوفيَّة وهي القول بوحدة الوجود: (أَنْ لَا يَشْهَدَ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً)، فيرى كل الأشياء هي الله، وأنَّ كل المخلوقات هي الله، وأنَّ الوجود شيء واحد، ويقولون: إنَّ هذا هو غاية التَّحقيق، والشيخ يقول:(وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ غَايَةُ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَغَايَةُ الْعَدَاوَةِ لِلَّه).
ثم قال الشيخ: (فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَشْهَدِ يَتَّخِذُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ)، وهذا وُجد في هؤلاء في زمن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- فوقفوا مع التَّتار ضد المسلمين، ورأوا أن اليهود والنصارى أهلُ حقٍّ وأهلُ طريقٍ صحيح، وأنَّهم يدخلون الجنَّة، وأنَّهم يصلون إلى الله، ومَن سلكَ منهجهم يصل إلى الله، وصرَّحوا بذلك، وهذه مسألة خطيرة جدًّا؛ لأنَّه تكذيب لما أخبر الله به من عدواة اليهود والنَّصارى ومن كفرهم.
ثم قال الشيخ: (وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ)، يعني أنَّ صاحب هذه العقيدة الفاسدة الذي يرى أن الوجود شيء واحد؛ يرى أن الشرك والأوثان مثل التَّوحيد، ولهذا قال الشيخ (فَيَخْرُجُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ)، فمن اعتقد هذه العقيدة خرج عن ملَّةِ إبراهيم؛ لأنَّ الله وضَّحَ لنا ملَّةَ إبراهيم، وهي ملَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي في قوله تعالى:﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ الذين معه: أي الرسل الذين على منهجه وطريقته.
قال تعالى: ﴿إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، فكيف تقول أن الوجود شيء واحد، وكلها حق، ولا يتبرَّأ من الشِّرك، والله -جَلَّ وَعَلَا- جعل أفضل عباده يتبرَّؤون من هذا الشرك، وجعلهم قدوةً لنا.
قال تعالى: ﴿إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ﴾، إذن نتبرَّأ من نفس الكفَّار، من اليهود والنصارى وسائر الكفار.
قال: ﴿وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، يعني معبوداتكم الباطلة.
ثم قال: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾، يعني نُصرِّح بكفركم، وأنَّ الحق هو الإسلام فقط وما جاء به الرسول-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدً﴾، العداوة في الظَّاهر، والبغضاء في القلب وتظهر آثارها؛ فهذه هي ملَّة إبراهيم.
قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، فالمؤمن الحق يُعادي أعداء الله ويتبرَّأ من معبوداتهم الباطلة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَؤُلَاءِ قَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كُتُبًا وَقَصَائِدَ عَلَى مَذْهَبِهِ مِثْلِ قَصِيدَةِ ابْنِ الْفَارِضِ الْمُسَمَّاةِ بِـ "نَظْمِ السُّلُوكِ" يَقُولُ فِيهَا:
لَهَا صَلَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا** وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ
كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى **حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ
وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَائِي وَلَمْ تَكُنْ** صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أدا كُلِّ رَكْعَةِ
إلَى أَنْ قَالَ
وَمَا زِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ **وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ
إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا **وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ
فَإِنْ دُعِيت كُنْت الْمُجِيبَ وَإِنْ ** أَكُنْمُنَادًى أَجَابَتْ مَنْ دَعَانِي وَلَبَّتْ
إلَى أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقَائِلُ عِنْدَ الْمَوْتِ يَنْشُدُ وَيَقُولُ:
إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ** مَا قَدْ لَقِيت فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي
أُمْنِيَةً ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا** وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامِ
 
فَإِنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ، فَلَمَّا حَضَرَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ لِقَبْضِ رُوحِهِ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا كَانَ يَظُنُّهُ)
}.
يقول الشيخ: (وَهَؤُلَاءِ قَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كُتُبًا وَقَصَائِدَ عَلَى مَذْهَبِهِ)، مرَّ معنا بعض الكتب مثل: كتب ابن عربي "الفتوحات المكيَّة، وفصوص الحكم"؛ كلها مشتملة على مذهب وحدة الوجود وأنَّ الكون شيء واحد، وأنَّ الخالق والمخلوقات شيء واحد، وتقدَّم بيان هذا.
ومن القصائد: قَصِيدَةُ ابْنِ الْفَارِضِ الْمُسَمَّاةِ بِـ "نَظْمِ السُّلُوكِ"، وابن الفارض هو: عمر بن علي بن الفارض، أبو صاحب الفرائض، يقضي عند السلطان ويقسم الفرائض والمواريث للناس، فسمي "ابن الفارض"، وكان في مصر، وُلد بها وتُوفِّيَ بها، وهو شاعرٌ مُجِيدٌ، ولكنَّه نظمَ قصائده كلها فاسدة وضالَّة، منها أنَّه يعتقد عن نفسه أنَّه هو الله -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- فكان يقول عن نفسه:
لَهَا صَلَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا **وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ
يعني: أنَّ نفسه صلَّت له هو.
يقول:
كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى** حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ
وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَائِي وَلَمْ تَكُنْ** صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أدا كُلِّ رَكْعَةِ
أنا أسأل كل مسلم ومسلمة: هل يرضى كل مسلم أن يقول إنَّه صلَّى لنفسه، أو أنه يعبد نفسه، ونفسه تعبده!فهذا لا يقوله إلا كافر ضال -نسأل الله العافية والسلامة.
وهذا الجاهل الضَّال يقول:
وَمَا زِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ** وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ
إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا** وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ
صار له آيات، وصار رسول مرسل إليه!
يقول:
فَإِنْ دَعَيت كُنْت الْمُجِيبَ وَإِنْ ** أَكُنْمُنَادًى أَجَابَتْ مَنْ دَعَانِي وَلَبَّتْ
يقول: إن دعوتني أنت كنت أنا المجيبُ، وإن يكن هو المنادي أجابت نفسه؛ فكان يظن عن نفسه أنَّها هي الله -تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا.
هذه القصيدة إلى الآن تُطبَع -مع الأسف- فهناك مَن يُروِّج هذه المذاهب الخبيثة، ويُدافع عنأصحابها وأربابها.
يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى المجلد الرابع صفحة (73) عن هذه القصيدة: "وقد نظم فيها الاتِّحاد نظمًا رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينيَّة من ذهب"، فصينية الذَّهب جميلة ومنظرها عجيب، لكن عليها لحم خنزير -نسأل الله العافية والسلامة.
فالجرس الشِّعري للقصيدة جرس جميل، فهو إنسان مجيد في الشِّعر، ولكن مع الأسف لم يستخدم هذا الشِّعر في الحق، ولكن استخدمه في الباطل.
يقول الشيخ: "فهو أخبث من لحم خنزير في صينيَّة من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك"، وليست "نظم السلوك" كما يزعم.
وفي المجلد الرابع صفحة (74) يقول: "هذه القصيدة نفقت كثيرًا، بالغ أهل العصر في تحسينها، والاعتداد بما فيها من الإلحاد".
فانظروا إخوتي الكرام؛ الشيخ يُعاني من ذلك الوقت ويقول: إنَّ أهل عصره من الوزراء والمسؤولين والتَّجار انتشرت فيهم هذه القصيدة، وأحبوها وصاروا يروِّجونها ويكتبون فيها ويمدحونها ويحفظونها.
قال: "وبالغ أهل العصر في تحسينها"، مع ما فيها من الإلحاد!
وهذا يدلنا -إخواني الكرام- على أنَّ الباطل وإن راج وظهر أمره فهو مثل الدُّخان، تأتي ريح الحق لا يبقى منه شيء، فلا تحزن ولا تقلق وتوكل على الله، وتمسَّك بدينك.
لما حضرت الوفاة ابن الفارض، حضر بعض الناس المعروفين وفاته، وزمنه قريب من زمن ابن تيمية، فابن الفارض هلك سنة (632)، وابن تيمية وُلد سنة (661)، يعني بينهما واحد وثلاثين سنة، أضف إليها عشرين عامًا عندما كان ابن تيمية شابًّا، يعني في حود خمسين سنة، يقول ابن تيمية: "وَحَدَّثَنِي لشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ بْنُ الْمُعَلِّمِ عَنْ الشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ الجعبري: أَنَّهُ حَضَرَ ابْنَ الْفَارِضِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ يُنْشِدُ:
إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ... مَا قَدْ لَقِيت فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي
أُمْنِيَّةٌ ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا"
يعني كنت أمنِّي نفسي وأظن أنِّي أنا الله.
قال: "....................... وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ".
فلمَّا رأى سكرات الموت وملائكة الموت تكلَّم بهذا الشِّعر.
قال الشيخ: (فَإِنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ، فَلَمَّا حَضَرَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ لِقَبْضِ رُوحِهِ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا كَانَ يَظُنُّهُ)
وهكذا كل الكفار يرون الحقائق عند الموت، ولكن لا تنفعهم التوبة، ففرعون قال:﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[يونس: 90]، وكل ضال زنديق إذا جاءته سكرة الموت عرف الحق، ولكن هيهات! نسأل الله العافية والسلامة.
فهذا تحذير لكل مسلم من سلوك مسلك هؤلاء الضَّالِّين، وفيه دعوة لمن وقع في أركاس وأنجاس هؤلاء الفَسَدة وعقائدهم الباطلة أن يتوب إلى الله قبل أن ينزل به الموت، فهذه عبرة قد وقعت في الزمن الماضي، فلا يتكرر الخطأ، نسأل الله الهداية لجميع إخواننا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ، فَلَمَّا حَضَرَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ لِقَبْضِ رُوحِهِ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا كَانَ يَظُنُّهُ
 وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ؛ لَيْسَ هُوَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾)
}.
يعني أنَّ الله فرَّق بين المخلوقات وبينه -سبحانه وتعالى- وأن المخلوقات تسبح الله وتنزِّه الله وليست هي الله، فقوله ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ يعني كل المخلوقات تسبح الله، وهذا ردٌّ على هؤلاء الزَّنادقة غلاة الصُّوفيَّة.
وقد ألَّف أحد علماء المسلمين وهو البقاعي-رَحِمَهُ اللهُ- كتابًا اسمه "تنبيه الغبي على كفر ابن عربي" وحققه الشيخ عبد الرحمن الوكيل -رَحِمَهُ اللهُ- وألَّف غيره في الرد على ابن عربي عدَّة رسائل، وكذلك ابن الفارض وكل مَن سار على هذه الشَّاكلة السَّيئة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ:«اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنَنِي مِنْ الْفَقْرِ»)}.
وهذا يدلُّ على الفرق بين الخالق والمخلوق؛ لأنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ»، وأما المخلوقات كلها فلها أول ولها آخر، كل مخلوق مسبوق بعدم يلحقه موتٌ وزوالٌ وفناء، قال تعالى:﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾[الرحمن: 26]،وكذلك المخلوقات محصورة في خلقٍ مخلوقٍ، في الأرض وفي السماوات ونحوها، وأمَّا الله -عز وجل- فهو فوق كل شيء، وهو العلي الأعلى.
قال: «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ» يعني لا يفوتك شيء سبحانك! فهو لا يفوته شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السَّماء.
وقوله «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ» فرَّقَ بين الخالق وبين المخلوقات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ قَالَ:﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فَذَكَرَ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ - وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ - ﴿وَمَا بَيْنَهُمَ﴾ مَخْلُوقٌ مُسَبِّحٌ لَهُ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ)}.
الأدلَّة في هذا كثيرة جدًّا، لكن هذه أمثلة يريد الشيخ تنبيه القارئ الكريم عليها فقط، وإلَّا فإنَّ الأدلَّة كثيرة جدًّا في الفرق بين الخالق والمخلوق، وهذا أمرٌ بدهي يُعرف بدلالة العقل والفطرة، فضلا عن دلالة الكتاب والسُّنَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ فَلَفْظُ "مَعَ" لَا تَقْتَضِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُخْتَلِطًا بِالْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾)}.
قد يُشكل على بعض الناس قوله تعالى:﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، فبيَّن الشَّيخُ أنَّ معنى المعيَّة أنَّها لا تقتضي الاختلاط والامتزاج، فليس معنى قوله:﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ أنَّ الخالق حالٌّ في المخلوقات وممتزج بها ومتَّحدٌ بها، لا والله! فكلمة "مع" في اللغة العربية لا تقتضي الاختلاط والامتزاج، وإن كان قد يوجد أحد المعاني هذا لكن لها موارد، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، فإذا علمتَ أنَّ الصَّادقين سواء كانوا في مكَّة أو في المدينة أو في الشَّام أو في مصر؛ فكـــن معهم، وكنْ صادقًا، وليس المعنى أنَّ: تمتزج معهم كالشيء الواحد، لأن هذا لا يُمكن.
ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، الذين معه هم الصَّحابة، فمنهم من كان مصاحبًا للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كثيرًا كأبي بكر وعمر، ومنهم من كان يرى النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصَّلوات الخمس، ومنهم من كان يرى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل جمعة، ومنهم من لم يرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا في موضع أو موضعين وهو صحابي، فقوله ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ لا يقتضي الامتزاج والاختلاط.
وذكر الآية التي بعدها: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾، فلفظ "مع" لا يقتضي الاختلاط والامتزاج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَفْظُ (مَعَ)جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، فَالْعَامَّةُفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ الْمُجَادَلَةِ:﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهُ بِالْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ.
وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُفَفِي قَوْله تَعَالَى ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ وقَوْله تَعَالَى لِمُوسَى:﴿إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ وَقَالَ تَعَالَى:﴿إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَ﴾يَعْنِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
}.
لمَّا عرفنا أنَّ المعيَّة لا تقتضي الاختلاط والممازجة؛ نعرف أنَّ المعيَّة الواردة في القرآن الكريم تكون عامَّة وتكون خاصَّة:
فالعامة: مثل الآية التي في سورة الحديد التي سبق قراءتها وهي:﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الحديد: 4]، والآية التي في سورة المجادلة: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
يقول الشيخ: (فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهُ بِالْعِلْمِ) وهذا في قوله:﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ فوصف الله بأنَّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، إلى آخره، ثم ختم الآية بالعلم فقال: ﴿إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛ فعلمنا أن المراد من قوله -سبحانه وتعالى: ﴿إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُو﴾، أي: معهم بعلمه، وأيضًا بسمعه وبصره، فهو يراهم ويسمع كلامهم ويُحيط بهم، وهو قادرٌ عليهم ولا يفوته أحد منهم؛ فهذه تسمى المعيَّة العامَّة.
وهناك معيَّة خاصَّة تدلُّ على هذا المعنى وتزيد معنًى آخر، وهو حفظ الله وكلاءته ونصرته وتوفيقه لعبده الذي هو معه، مثل قوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، فخصَّصهم، فقال في الخلق كلهم:﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ و﴿إلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾، وهنا قال: ﴿مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْ﴾؛ إذن خصَّص المحسنين بمعيَّة.
مثال آخر: قَوْله تَعَالَى لِمُوسَى:﴿إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾، أي: مع موسى وهارون.
وَقَالَ تَعَالَى:﴿إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَ﴾، صاحبه أبو بكر، فهذه معيَّة خاصَّة تقتضي الحفظ والنُّصرة والتأييد والحماية من الأعداء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهُوَ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ دُونَ فِرْعَوْنَ، وَمَعَ مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ دُونَ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَمَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ دُونَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ.
فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِأَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَنَاقَضَ الْخَبَرُ الْخَاصُّ وَالْخَبَرُ الْعَامُّ؛ بَلْ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ هَؤُلَاءِ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ دُونَ أُولَئِكَ)
}.
إذن قوله:﴿إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾، فيه معيَّة خاصَّة مع موسى وهارون دون فرعون، وقوله:﴿لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَ﴾ هذه المعيَّة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولصاحبه أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دون أبي جهل وكفار قريش، فهؤلاء أعداء، والله ليس معهم بهذا المعنى، وقوله: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، دون الظالمين الكافرين الفاجرين، فالله ليس معهم بهذا المعنى.
إذن؛ معنى المعية الخاصَّة غير معنى المعيَّة العامَّة؛ لأنَّ الله أثبت المعيَّة الخاصة لهؤلاء.
قال الشيخ: (فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِأَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ) كما يزعم غلاة الصوفيَّة وأشباههم.
قال: (تَنَاقَضَ الْخَبَرُ الْخَاصُّ وَالْخَبَرُ الْعَامُّ)، يعني: ما صار هناك معيَّة خاصَّة، صار معنى أنَّه معهم في كل مكانٍ وأنَّه حالٌّ في كل مكان حتى مع فرعون؛ وهذا لا يُمكن أن يقوله مسلم، فقوله:﴿إنَّنِي مَعَكُمَ﴾ يعني: موسى وهارون، وليس مع فرعون، وهذا يدل على بطلان قول الحلوليَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقَوْله تَعَالَى ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ﴾ أَيْ هُوَ إلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، وَكَذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ كَمَا فَسَّرَهُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)}.
هاتان الآيتان يحتجُّ بها بعض ضُلَّال الصُّوفيَّة ويظنون أنَّهما يدلان على القول بأنَّ الخالق حالٌّ في المخلوقات وأنَّه مختلط بالمخلوقات وممتزج بها؛ وهذا فهمٌ فاسدٌ، وكامٌ باطلٌ.
الآية الأولى: قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ﴾، هذه الآية الكريمة لا تدل على أنَّ الله -عز وجل- مختلط بالمخلوقات وحالٌّ فيها؛ لا، بل إنَّ معنى قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ﴾ أي: معبودٌ يُعبَد، فهو إله مَن في السَّماوات، يألهونه ويعبدونه، وكذلك مَن في الأرض يعبدون الله -عز وجل- وهذا هو الواجب عليهم، فهو المألوه الحق الذي يجب أن يعبده أهل السَّماء، ويجب أن يعبده أهل الأرض، إله مَن في السماء وإله مَن في الأرض اللهُ وحده لا شريك له.
الآية الأخرى: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، المثل الأعلى: أي الوصف الأكمل والأتم، فالله له الأسماء الحسنى والصفات العلى، فله من كل كمالٍ أعظمه، جلَّ جلاله وتقدَّسَت أسماؤه.
قوله تعالى:﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾[الأنعام: 3]، وليس معنى قوله ﴿وَفِي الْأَرْضِ﴾ أنَّه حالٌّ في الأرض، أو حالٌّ في وسط السَّماء، ولكن معناها كما قال الإمام أحمد وأئمة العلم: "أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ صِفَاتِ النَّقْصِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الصَّمَدُ: الْعَلِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، الْعَظِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، الْقَدِيرُ الْكَامِلُ فِي قُدْرَتِهِ، الْحَكِيمُ الْكَامِلُ فِي حِكْمَتِهِ، السَّيِّدُ الْكَامِلُ فِي سُؤْدُدِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: "هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ".
وَالْأَحَدُ: الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ.
فَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ، وَاسْمُهُ الْأَحَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)
}.
يقول -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ)، كلمة "بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ" احتاج السلف أن ينصُّوا عليها بعدما اشتهرت مقالة هؤلاء الحلوليَّة، فصرَّح السَّلف ووضَّحوا ما دلَّ عليه الكتاب والسَّنة من الآيات الكثيرة جدًا والأحاديث الكثيرة جدًّا الدَّالَّة على الفرق بين الخالق والمخلوق، وأنَّ الله فوق عرشه-سبحانه وتعالى- وليس مختلطًا بالمخلوقات كما يقول هؤلاء الحلوليَّة.
قال: (وَأَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فنصف الله بما جاء في القرآن والسُّنَّة
قال: (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ)، هذه هي المحذورات الأربع، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يُثبت ما جاء في القرآن وما جاء في السُّنَّة الصَّحيحة عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حقِّ الله، فما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله يجب الإيمان به، ويجب أن نحذر من أربعة محاذير:
·       التحريف.
·       التعطيل.
·       التكييف.
·       التمثيل.
فالتَّحريف: هو التَّغيير، تغيير اللفظ أو تغيير المعنى، ولا يستطيع أعداء الله أن يُغيِّروا لفظ القرآن، لأنهم ينفضحون، وإلَّا فقد حاولوا ولكن فضحهم الله، لأن الله حفظ كتابه من التغيير، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: 9].
وأمَّا التغيير في المعنى فيتجرَّؤون عليه، يقولون مثلًا في قوله:﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه: 5] لا نثبت الاستواء، وإنما المراد: استولى!
فهذا تحريف، وهكذا تفسيراتهم الباطلة لبقية النصوص؛ فهذا التَّحريف محرَّم.
وأمَّا التَّمثيل: أن يقول إن الله استوى كاستواء المخلوق، فهذا كفرٌ، لأن الله تعالى يقول:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 11]، وليس له كفوءًا أحد.
والتكييف: هو أن يتخيَّل كيفيَّة لصفات الله وإن لم تكن موجودة في الواقع، فنقول: هذا لا يجوز، وهذا باطل، والله تعالى يقول:﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمً﴾[طه: 110]، وقال:﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾[الأنعام: 103]، وقال في المحرَّمات:﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف]، فهذا قولٌ على الله بغير علمٍ.
والتعطيل: هو إنكار الصِّفات ونفيها.
ثم قال-رَحِمَهُ اللهُ: (يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ صِفَاتِ النَّقْصِ)، فله المثل الأعلى -سبحانه وتعالى- فلا يوصف بصفات النقص، فهو منزَّهٌ عن العيب والنَّقائص، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ)، يعني: ليس مثل الله لا في ذاته ولا في صفاته شيءٌ من المخلوقات، فلا يُماثل الله أحد.
ثم قال: (كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الصَّمَدُ: الْعَلِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، الْعَظِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، الْقَدِيرُ الْكَامِلُ فِي قُدْرَتِهِ، الْحَكِيمُ الْكَامِلُ فِي حِكْمَتِهِ، السَّيِّدُ الْكَامِلُ فِي سُؤْدُدِهِ)، فهو الكامل في كل شيءٍ -سبحانه وتعالى.
وجاء من تفاسير السلف قول ابْن مَسْعُودٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ. وَالْأَحَدُ: الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ".
وجاء أيضًا في تفسير الصَّمد: أنَّه الذي تصمد إليه الخلائق في حاجاتها، أي: تضطر إليه وتحتاج إليه وتلجأ إليه -سبحانه وتعالى.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ، وَاسْمُهُ الْأَحَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ).
إذن؛ اشتملت هذه الآيات في سورة الإخلاص على نقض طريقة الاتِّحادية والحلوليَّة.
قال الشيخ: (وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)، للشيخ كتاب مشهور اسمه "جواب أهل العلم والإيمان في أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن"، وهو كتاب نفيسٌ ردَّ فيه على كثيرٍ من الضَّالِّين، وهم هؤلاء الاتِّحاديَّة.
نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن ينفعنا وإيَّاكم بالعلم النافع والعمل الصَّالح.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الله بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك