الدرس السادس
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن
وأولياء الشيطان": (وَأَمَّا " الْقَضَاءُ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ:
﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿إذَا قَضَى
أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ﴾ أَيْ
أَمَرَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ قَدَّرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ عَبَدَ غَيْرَهُ
كَمَا أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ وَقَوْلُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ:
﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ
* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا
قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا
عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِينِ﴾ وَهَذِهِ كَلِمَةٌ تَقْتَضِي بَرَاءَتَهُ مِنْ دِينِهِمْ وَلَا تَقْتَضِي
رِضَاهُ بِذَلِكَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَإِنْ
كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا
أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ .
وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ هَذَا رِضَا مِنْهُ بِدِينِ الْكُفَّارِ
فَهُوَ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وَأَكْفَرِهِمْ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ
﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ بِمَعْنَى قَدَّرَ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا قَضَى
بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ وَجَعَلَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ
; فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالْكُتُبِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدَى
بهداه.
أمَّا بعدُ؛ فهذه المواضع تتمَّةٌ للفصل الذي ذكره ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في
كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، وذكر الفرق بينَ الإرادة،
والأمر، والقضاء، والإذن، والتَّحريم، والبعث، والجَعْل، والإرسال، والكلمات، وأنَّ
هذه تنقسم إلى شرعيَّة وكونيَّة، وقد تقدَّم ذكر الإرادة، والأمر، كذلك القضاء،
والإذن.
ونقرأ هنا القضاء مرَّة أخرى للحاجة إلى التَّعليق على آخر موضع، قال: (وَأَمَّا
"الْقَضَاءُ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ﴾ وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ﴾)، هذا قضاء كوني؛ لأنَّه أمرٌ يتعلَّق بالكونِ ويتعلَّق بمشيئة
الله، ويتعلَّق بما هو واقعٌ متحقِّق.
وقال في الدِّيني: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ﴾، قال ابن
عباس وغيره من علماء السَّلف: "قضى ربك: أي أمر ووصَّى"، وهكذا قال المفسرون من أهل
السنَّة والجماعة، وعامَّة المفسرين على هذا، يعني: أمر الله عباده أن لا يعبدوا
إلَّا الله.
وليس معنى القضاء هنا القضاء الكوني، فالقضاء هنا هو القضاء الشَّرعي الدِّيني،
بمعنى: أمر ووصَّى.
والشَّيخ فصَّلَ في هذه الآية قليلًا ردًّا على أحد الملحدين، ولم يظهر لي مَن هو
هذا المُلحد، ولكن واضح أنَّه أراد تفسير القرآن بالباطل، ويظهر أنَّه من ملاحدة
الاتِّحاديَّة الصُّوفيَّة، فقال هذا المُلحد: "أمر ربُّك، أي أن هذا أمرٌ مُقدَّر،
فالكون كله لا يعبد إلا الله"، وجميع الكائنات وجميع المخلوقات، وجميع الإنس وجميع
الجنِّ كلهم لا يعبدون إلا الله، وزعم أنَّ ﴿وَقَضَى﴾ هنا بمعنى القضاء الكوني،
وزعم أنَّ هذا يقتضى الرِّضا بدين الكفار، وهذا من أكذب الناس وأكفرهم.
فنقول لهذا الضَّال وغيره: إن القضاء في قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إلَّا إيَّاهُ﴾، أي: أمرَ ووصَّى، والقضاء هنا هو القضاء الدِّيني، فلابدَّ من
التفريق بين القضاء الشَّرعي والقضاء الكوني.
القضاء الشَّرعي الديني: أن الله طلب من عباده وأوجب عليهم وشرع لهم.
أما القضاء الكوني: فهو كون هذا الأمر متحتِّم، ومنه نقول: القضاء والقدر، ومنه
قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾، فهذا القضاء هو الذي
يقع على العباد كلهم.
قال: (وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ قَدَّرَ ذَلِكَ)، يعني وتمَّ ذلك ووقع ذلك.
والدليل قوله: (فَإِنَّهُ قَدْ عَبَدَ غَيْرَهُ)، فهذه حقيقة معلومة شرعًا وواقعًا،
فإننَّا نعلم أنَّ هناك من الكفار سائر الأصناف، كاليهود والنصارى والمجوس
والمشركين؛ كلهم يعبدون غير الله، ثم إن الله -جَلَّ وَعَلَا- أخبر في القرآن أنَّه
قد عُبِدَ غيره، وبيَّن إنكاره وإبطاله لهذا، قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾، فأثبتَ أنَّهم عبدوا من دون الله -عزَّ وَجلَّ- وهذا
واضح.
إذن؛ علمنا أن قول: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ﴾ ليس معناه
أنَّ العباد لم يعبدوا إلَّا الله، فهناك مَن عبدَ الله، وهناك مَن أشرك. فــ
﴿وَقَضَى﴾ هنا بمعنى: أمرَ ووصَّى، وليس بمعنى القضاء الكوني الذي وقع على العباد.
قال: (وَقَوْلُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾)، هذا يدلُّ على أنَّ قوم إبراهيم عبدوا
غير الله.
قال: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾)، هذه المسألة يسمعها بعض الناس فيقول: نحتاج أن
نقرر هذه المسألة.
فهذه المسألة معلومة، فنحن نرى هؤلاء المشركين قد ملؤوا الأرض قديمًا وحديثًا، فكيف
تريد أن تقنعنا أنَّ هناك مَن يعبد غير الله!
نقول: هذا واضح لكل مسلم مُوحِّد على الفطرة، لكن مَن انتكسَت فطرتهم من ملاحدة
الصُّوفيَّة صاروا يظنُّون أنَّ الوجود كله محبوبٌ لله بما فيه من شركٍ وكفر، وأنَّ
الله راضٍ عن هذا، وأنَّ هذه العبادات هي حقيقة لله!
كل هذا الكلام الباطل الذي يقوله هؤلاء نردّ عليه بمثل هذه النُّصوص، وبمثل ما
يعرفه كل موحِّد.
ومما يدل على هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ﴾، فالله يأمر نبيه محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُخاطب
الكفار، فيقول لهم: أنا لا أعبد ما تعبدون، فأنتم تعبدون غير الله، وأنا أعبد الله.
ثم قال: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾، يعني: أنا أعبدُ الله -سبحانه
وتعالى- لستم بعابدينه حتى لو زعمتم أنَّكم تعرفونه، وحتى لو تقربتم إليه ببعض
العبادات، فما دمتم مُشركين فلا أعبد ما تعبدون.
قال: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ﴾، هذا تكرار للتَّأكيد ولتأسيس معنى
جديد، ففيه معنى الاستمرار، فلا يُمكن أن يقع منِّي هذا.
قال: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾، فأنتم معاشر الكفار والمشركين لا
تعبدون الله -عزَّ وَجلَّ.
ثم قال: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، يعني: أنا بريءٌ منكم ومن عباداتكم،
فدينكم سوف تُحاسَبونَ عليه، وتُجازونَ على هذا الكفر بالجزاء العظيم والعقوبة
الأليمة، فهذه الكلمة تقتضي البراءة من دينهم وممَّا هم عليه، وليس معناه الرِّضا
بذلك، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ
عَمَلُكُمْ﴾، فهذا ليس إقرار لعملهم.
ثم قال: ﴿أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ﴾، وقال في صدر الآية: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾، فعملهم تكذيب، وعقيدتهم
تكذيب، ولهذا تبرَّأ منهم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمره الله أن
يتبرَّأ منهم، وهكذا واجب على كل مُوحِّد وكل مُسلم أن يتبرَّأ من الكفار، ويعتقد
أن طريقتهم وعبادتهم لا تقربهم إلى الله، وأنهم على شرك، وأنهم لا يعبدون الله
حقًّا.
ثم أتى إلى نقض هذا المُلحد الذي يظهر لي -والله أعلم- أنه من حلوليَّة الصوفيَّة،
قال: (وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ هَذَا رِضَا مِنْهُ بِدِينِ
الْكُفَّارِ فَهُوَ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وَأَكْفَرِهِمْ، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ
قَوْلَهُ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ بِمَعْنَى قَدَّرَ)، رجع للتَّفسير الفاسد الأول،
وإنَّما الصَّحيح أن ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ بمعنى: أمرَ ووصَّى.
قال: (كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ بِمَعْنَى قَدَّرَ وَأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا قَضَى بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ)، كلمة (مَا قَضَى بِشَيْءِ
إلَّا وَقَعَ) إن كان المراد بها القضاء القدري فهذه الكلمة صادقة، فالله -عزَّ
وَجلَّ- هو الذي يقضي ويُقدِّر، فما يقضي الله قضاء إلَّا ويقع، بمعنى القضاء
الكوني الذي هو بمعنى المشيئة.
أمَّا القضاء بمعنى شرعَ وأمر؛ فلا يلزم أن يقع؛ لأنَّ من العباد مَن استجاب وعمل
بما أمر الله، ومن العباد مَن لم يستجب.
والشيخ يسوق كلام هذا الملحد وقوله (وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا قَضَى
بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ)، وأن معنى قوله ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ أنَّه وقع من العابد
وسيقع أنَّهم لم يعبدوا إلا الله، فجعل كل العباد على التوحيد، حتى عبَّاد الأصنام
والأوثان جعلهم ما يعبدون إلا الله!
قال: (وَجَعَلَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ)، فنقول مثلما
قال الشيخ: (فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالْكُتُبِ كلِّهَ)،
فمن يقول بهذا القول ليس كافرًا بالقرآن فحسب؛ فهو الآن يدَّعي أنَّه يُفسِّر
القرآن، ويدَّعي أنَّه يُوضِّح معنى القرآن؛ فقنلو: هذا كافرٌ بالقرآن، لأنَّه كذب
آيات الله الواضحة البيِّن التي سبق ذكرها في بيانِ أنَّ كثيرًا من البشر عبد غير
الله، فهو كذَّبَ بها وكفر بها، ولم يكفر بالقرآن فحسب؛ بل كفر بجميع الكتب، لأنَّ
هناك من الأمم السابقة مَن عبدَ غير الله، فجعلهم هذا الضَّال المُلحد عبدوا الله،
حتى قال إنَّ عُبَّاد الأصنام لم يعبدوا إلَّا الله؛ وهذا لا شكَّ أنَّه من الكفر
العظيم، نسأل الله العافية والسلامة.
فلابدَّ من الفرقان بين الحق والباطل، فهؤلاء الذين يقولون هذا الكلام أنَّ كل
الخلائق وكل البشر عبدوا الله ووحَّدوا الله، وكلهم مرضيُّون لله، كافرهم ومسلمهم؛
فهذا القول من أقوال أهل الكفر، وليس من أقوال أهل الإيمان، وهذا القول من أقوال
أولياء الشيطان وليس من أقوال أولياء الرحمن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا لَفْظُ الْبَعْثِ فَقَالَ تَعَالَى فِي الْبَعْثِ
الْكَوْنِيِّ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا
لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا
مَفْعُولً﴾.
وَقَالَ فِي الْبَعْثِ الدِّينِيِّ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾)}.
نقول في البعث مثلما تقدَّمَ، أن البعث يأتي بمعنى البعث الكوني القدري، ويأتي
بمعنى بعث شرعي.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا
لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾، هؤلاء بنو إسرائيل سلَّطَ الله عليهم مَلكًا كافرًا
فبعثه عليهم، فهنا البعث كوني وليس بعثًا شرعيًّا، فذلك الكافر الذي تسلَّط عليهم
وجاس في ديارهم هو وجُنده هذا أمرٌ مقدَّرٌ، فلهذا صار البعث بعثًا كونيًّا.
أما قوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولً﴾ وقوله: ﴿وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولً﴾، فهذا بعث شرعي ديني.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا لَفْظُ "الْإِرْسَالِ" فَقَالَ فِي الْإِرْسَالِ
الْكَوْنِيِّ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ
تَؤُزُّهُمْ أَزًّ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ
بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾، وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ ﴿إنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرً﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا
إلَى قَوْمِهِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا
عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولً﴾، وَقَالَ تَعَالَى:
﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾)}.
لفظ الإرسال ينقسم إلى:
- إرسال كوني، مثل: إرسال الشياطين على الكافرين، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا
أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّ﴾، فالله -عزَّ
وَجلَّ- يسلط الشَّياطين على الكفار تؤزُّهم أزَّا، وهذا إرسالٌ كونيٌّ وليس
إرسالًا شرعيًّا، فإنَّ الله لا يرضى عن الشَّياطين، ولا يرضى عن أعمال الكفَّار
التي يفعلونها بسبب الشَّياطين، ولكن هذا من تسليط الله، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾
[الزخرف: 36] .
وكذلك إرسال الرِّياح فهو إرسالٌ كونيٌّ، ولذلك الرياح تأتي على المسلمين والكفَّار
وجميع البشر.
- وأمَّا الإرسال الدِّيني، مثل: إرسال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وإرسال الرُّسل، فهذا إرسال شرعيٌّ دينيٌّ يُحبه الله -سبحانه وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا لَفْظُ "الْجُعْلِ" فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ:
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ﴾، وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ:
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا
جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ﴾)}.
هنا الجعل في قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ﴾، أي:
فرعون وقارون وهامان، ومَن كان على شاكلتهم، فهؤلاء صاروا أئمَّة يدعون إلى النار،
ومن اتَّبعهم دخل النار، ومَن سار على منهاجهم من الملوك الكفرة أو الوزراء أو
التُّجار، فإنَّ فرعون كان مالكًا كافرًا ادَّعى أنه ربُّ العالمين وقال: ﴿مَا
عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]، فهذا من الطُّغيان الذي يُصيب
الإنسان، وهو إمام وله أتباع، فمَن يُقلِّده ويسلك هذا المنهج فهو من أتباعه، فكلُّ
ملكٍ طاغيةٍ كافرٍ يدَّعي الرُّبوبيَّة ففرعون إمامه، وكل وزيرٍ ضالٍّ كافر طاغٍ
مستكبر عن آيات الله وشرعه فله إمام وهو هامان، وكل تاجرٍ كافرٍ خبيثٍ عدوٍّ لدين
الله ولرسله فإمامه قارون، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ [القصص: 41-
42]، فالجعل هنا في قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ هو
جعل كوني، وليس شرعيًّا دينيًّا، فهو كوني بمعنى المشيئة، يعني: قدَّرنا أنَّ هؤلاء
أئمة لمن ياتي بعدهم من الكفَّار، فإنَّ الكفار يقتدون بهؤلاء.
وقال في الجعل الديني: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً﴾، فالله
جعل للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شريعة الإسلام، وجعل لكل رسول قبله
شريعة ومنهاج.
وكذلك في إنكار الله -عزَّ وَجلَّ- على كفار قريش في تحريم بعض بهيمة النعام قال:
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ
وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾، فقوله: ﴿مَا
جَعَلَ﴾، يعني: ما شرع الله أن تُبحَّر البحيرة، أو تُسيَّبَ السَّائبَة، ولا
تُوصَل الوصيلة والحام؛ فهذا كله من ابتداعات الكفار وتحريمهم ما أحل الله -عزَّ
وَجلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا لَفْظُ "التَّحْرِيمِ" فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ:
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، وَقَالَ فِي
الدِّينِيِّ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ الْآيَةَ)}.
الفرق بين التَّحريم الكوني والتَّحريم الشَّرعي:
فالتَّحريم الكوني، مثل قوله: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾،
وليس معناه أنَّ موسَى لما كان رضيعًا يحرم على أي امراة في زمنه أن ترضعه تحريمًا
شرعيًّا، بل إنَّ المراد: منعنا وقدَّرنا أن لا يُمكن أن يرتضع من غير أمِّه.
كذلك قوله: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي
الْأَرْضِ﴾، هذا تحريم كوني، وليس تحريمًا شرعيًّا، وهذا التّيه في الأرض سبب ذنبهم
.
وأمَّا التَّحريم الشَّرعي فهو ما يقول عنه الفقهاء أنَّه ما يُسمَّى حرامًا في
الشَّريعة، فالخمر تحريمها تحريمًا شرعيًّا، وكذلك حُرِّمَت علينا الميتة والدَّم
ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وحُرِّمَ علينا نكاح الأمهات والبنات والأخوات
والعمَّات، والخالات، وبنات الأخِ وبنات الأخت، إلى آخره من المحرَّمات؛ فهذا
التحريم يعتبرُ تحريمًا شرعيًّا دينيًّا، وليس تحريمًا كونيًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا لَفْظُ "الْكَلِمَاتِ" فَقَالَ فِي الْكَلِمَاتِ
الْكَوْنِيَّةِ: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾، وَثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ كُلِّهَا مِنْ شَرِّ مَا
خَلَقَ، وَمِنْ غَضَبِهِ، وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ
الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ»، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ
شَرِّ مَا خَلَقَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ
ذَلِكَ»، وَكَانَ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا
يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ
شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ
شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ، إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ».
وَ«كَلِمَاتُ اللَّهِ التَّامَّاتُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا
فَاجِرٌ»، هِيَ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ، فَلَا يَخْرُجُ بَرٌّ وَلَا
فَاجِرٌ عَنْ تَكْوِينِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَأَمَّا "كَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّةُ" وَهِيَ كُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ وَمَا فِيهَا
مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَأَطَاعَهَا الْأَبْرَارُ وَعَصَاهَا الْفُجَّارُ)}.
لفظ "الكلمات" من الألفاظ التي جاءت على وجهين في الشَّريعة، فقال تعالى في الكمات
الكونية: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾، فإنَّ الله -عزَّ وَجلَّ-
قدَّر وقضَى أنَّها تحمل من غير زوجٍ، فصدَّقَت بهذا القضاء والقدر، فهذا من
الكلمات الكونيَّة.
ومن الكلمات الكونيَّة: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:- فيما كان يُعوِّذ
به نفسه أو كان يُعوِّذ به الحسن والحسين، فكان يقول: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ
التَّامَّةِ كُلِّهَا مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ غَضَبِهِ، وَعِقَابِهِ،
وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ»، وقال
للحسن والحسين بقوله: « أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ
شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ»[5]، وقال في حديث خولة: «مَنْ
نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ
مَا خَلَقَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»،
وهذا في صحيح مسلم، وكان يقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ
بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ
مِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ
شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ، إلَّا طَارِقًا
يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ».
وينبغي للمؤمن أن يحفظ هذه الأذكار، وأن يقولها في الصَّباح والمساء، ويُعوِّذ بها
المريض، ويقرأها في رقية المريض.
ومعنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَاتُ اللَّهِ التَّامَّاتُ
الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ»، يعني: تشمل البر وتشمل الفاجر،
فإذا قدَّر الله -عزَّ وَجلَّ- وقال كن فيكون؛ فيكون هذا على جميع الخلق دون تمييز
أو تفصيل.
والشَّاهد من هذا قول الشيخ: (وَ«كَلِمَاتُ اللَّهِ التَّامَّاتُ الَّتِي لَا
يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ»، هِيَ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ)،
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، فهذه كلمات كونيَّة قدريَّة بمعنى المشيئة، ولا نقول إنَّها
كلمات شرعيَّة دينيَّة بمعنى المحبة والأوامر.
قال: (وَأَمَّا " كَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّةُ" وَهِيَ كُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ)،
التَّوراة، والإنجيل، وصُحف إبراهيم، والزَّبور، والقرآن العظيم.
قال: (وَمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَأَطَاعَهَا الْأَبْرَارُ
وَعَصَاهَا الْفُجَّارُ)، أي: ما في هذه الكتب.
إذن؛ هذه الكلمات الدينية لم يُؤمن بها كل الخلق، بل هناك من آمن بالقرآن والكتب
المنزَّلة، وهناك مَن كفر بالقرآن؛ فعلمنا أنَّ هذه الكلمات كلمات دينيَّة شرعيَّة
بمعنى الأوامر الشَّرعيَّة والنَّواهي الشَّرعيَّة، فليست قضاءً على الجميع وكونًا
على الجميع وتقع من الجميع، أمَّا الكلمات الكونيَّة التي سبق ذكرها التي لا
يُجاوزها برٌّ ولا فاجر وهي التي قال الله فيها: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فهذا شامل لجميع الخلق، وهذه كلمات
كونيَّة.
قال: (وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُطِيعُونَ لِكَلِمَاتِهِ
الدِّينِيَّةِ، وَجَعْلِهِ الدِّينِيِّ، وَإِذْنِهِ الدِّينِيّ،ِ وَإِرَادَتِهِ
الدِّينِيَّةِ)، فهذا هو الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان، فما جاء في
كتب الله ودين الله وما جاء في السُّنَّة المطهَّرة، فهذا يعتبر أمر أو نهي ديني
شرعي، فالمؤمنون يعملون بالأوامر ويتركون النَّواهي، وهذا هو الواجب عليهم، وأمَّا
الكفَّار والمشركون والفجَّار عصوا ذلك وخالفوه، فهذا هو موقف الناس من الكلمات
الدينية والأوامر الدينية، والإذن الديني، والجَعْل الديني، والإرادة الدينية، ونحو
ذلك.
قال: (وَأَمَّا كَلِمَاتُهُ الْكَوْنِيَّةُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا
فَاجِرٌ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَهَا جَمِيعُ الْخَلْقِ حَتَّى إبْلِيسَ
وَجُنُودَهُ، وَجَمِيعَ الْكُفَّارِ وَسَائِرَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، فَالْخَلْقُ
وَإِنْ اجْتَمَعُوا فِي شُمُولِ الْخَلْقِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ
وَالْقَدَرِ لَهُمْ؛ فَقَدْ افْتَرَقُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَحَبَّةِ
وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ).
الخلق كلهم، إبليس وجنده والشياطين، والكفار، والمشركين، وحتى المسلمين، وجميع
المسلمين؛ كل هؤلاء الخلائق لا يخرجون عن مشيئة الله، ولا يخرجون عن قدرة الله
تعالى، ولا يخرجون عن خلق الله تعالى، فكلهم خلق من خلق الله الكوني.
وأما الذي افترقوا فيه وانقسموا إلى أهل جنة وأهل نار، وأهل إيمان وأهل كفر، وأهل
طاعة وأهل معصية؛ هو الأمر الشرعي الديني، والنَّهي، والمحبَّةن والرِّضا، والغضب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الَّذِينَ
فَعَلُوا الْمَأْمُورَ، وَتَرَكُوا الْمَحْظُورَ، وَصَبَرُوا عَلَى الْمَقْدُورِ،
فَأَحَبَّهُمْ وَأَحَبُّوهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ .
وَأَعْدَاؤُهُ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ، وَإِنْ كَانُوا تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَهُوَ
يُبْغِضُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ وَيَلْعَنُهُمْ وَيُعَادِيهِمْ .
وَبَسْطُ هَذِهِ الْجُمَلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا كَتَبْت هُنَا
تَنْبِيهًا عَلَى مَجَامِعِ "الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ
وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ")}.
الجملة الأخيرة جملة مُهمَّة في هذا الفصل الذي نحن فيه، فأولياء الله المتقون هم
(فَعَلُوا الْمَأْمُورَ، وَتَرَكُوا الْمَحْظُورَ، وَصَبَرُوا عَلَى الْمَقْدُورِ،
فَأَحَبَّهُمْ وَأَحَبُّوهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعْدَاؤُهُ
أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ، وَإِنْ كَانُوا تَحْتَ قُدْرَتِهِ)، أي: من جملة
مخلوقاته، (فَهُوَ يُبْغِضُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ وَيَلْعَنُهُمْ
وَيُعَادِيهِمْ)، وهذا هو الْفَرْقان بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ
الشَّيْطَانِ. فنسأل الله أن يجعلنا من أولياء الله المتَّقين، وأن يُعيذنا من
طريقِ أعداء الله أولياء الشَّياطين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجَمْعُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارُهُمْ
بِمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُ هُوَ
الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ السُّعَدَاءِ
وَأَعْدَائِهِ الْأَشْقِيَاءِ، وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وَأَعْدَائِهِ أَهْلِ النَّارِ، وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْهُدَى
وَالرَّشَادِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ أَهْلِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَالْفَسَادِ،
وَأَعْدَائِهِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ)}.
قوله: (وَجَمْعُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَ)، وفي نسخة (وَجِمَاعُ)، والمعنى: الفرق بين
أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان، أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
قال: (اعْتِبَارُهُمْ)، يعني: سَبرهم والنَّظر في حالهم
قال: (بِمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فمن كان
مُوافقًا للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُؤتمرًا بأمره ومنتهيًا عن
نهيه؛ فهو من أولياء الله، ومَن لا فهو من أولياء الشيطان.
قال: (فَإِنَّهُ)، يعني الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (هُوَ الَّذِي
فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ السُّعَدَاءِ وَأَعْدَائِهِ
الْأَشْقِيَاءِ، وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَعْدَائِهِ أَهْلِ
النَّارِ، وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَبَيْنَ
أَعْدَائِهِ أَهْلِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَالْفَسَادِ، وَأَعْدَائِهِ حِزْبِ
الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ).
وهذا أدلته كثيرة جدًّا في القرآن وفي السَّنة، وهذا أمرٌ متفق عليه بين علماء
المسلمين، لا يُنازع فيه إلَّا هؤلاء الشَّياطين وأولياؤهم وأعوانهم من المنحرفين
والمنحلِّين من الاتِّحاديَّة والحلوليَّة، ومَن ضلَّ من خرافيي الصُّوفيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا
مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ .
وَقَالَ فِي أَعْدَائِهِ ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾)}.
الآية الأولى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، يُخبر ربنا -سبحانه وتعالى أنَّه لا
يُمكن أن تجد مؤمنين بالله واليوم الآخر حقًّا وهم في نفس المقام يوادُّون مَن
حادَّ الله ورسوله، لا يُمكن أن يوجد هذا، مَن يُحبُّ ويودُّ مَن حادَّ الله ورسوله
فإنَّه ل يكون مؤمنًا بالله واليوم الآخر.
وعلمنا من هذا أنَّه يجب على كل مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ أن يُبغض ويتبرَّأ من محبة ومودَّة
مَن حادَّ الله ورسوله، ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ
أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، فهؤلاء هم أولياء الرحمن.
الآية الثَّانية في غزوة بدر، قال تعالى: ﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ
أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾.
هناك فريقان في نفس الآية:
الأول: الذين آمنوا ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُو﴾، فهؤلاء أولياء الرحمن.
الثاني: الذين كفروا ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾، وهؤلاء
أولياء الشيطان.
وقال في أعدائه في سورة الأنعام: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى
أَوْلِيَائِهِمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾، وهذه الآية في
سياق تحريم بعض الأشياء التي حلَّلها الكفار، أو تحريم ما أحل الله، فإنَّ الله
-عزَّ وَجلَّ- قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121]، الذي لا يُذكر اسم الله عليه، أو يُذكَر عليه
غير اسم الله؛ فهذا من الميتة ولا يجوز أكله لأنَّه أُهلَّ به لغير الله، كأن يقول:
باسم المسيح ويذبح، أو باسم الزُّهرَة -الكوكب- ويذبح؛ فهذه الذبيحة حرام، والذابح
كافر مُشرك، ولا يحل الأكل من هذه الميتة.
وكذلك مما حرَّم الله -عزَّ وَجلَّ: البهيمة التي تموت من غير تذكية، فلا يجوز
أكلها وتعد ميتة، والله تعالى يقول: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا
مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: 3]، التَّذكية الشرعيَّة قبل خروج الرُّوح، فالتي تموت
حتفَ أنفها لا تحل؛ لأنَّها لم يُذكر عليها اسم الله، ولم تُذكَّ الذَّكاة
الشَّرعيَّة.
ماذا فعلت شياطين الإنس والجن؟
قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾،
أولياؤهم هُنا هُم كفار قريش، فقالوا للمسلمين: كيف تأكلون ممَّا قتلتم ولا تأكلون
ممَّا قتله الله؟
فالذي مات حتف أنفه قتله الله، يعني مات بقدر الله، فأنتم تحرِّمونه، وما قتلتموه
أنتم بأيديكم وذكرتم عليه اسم الله تأكلونه وتُحلِّلونه؛ فأورد الشياطين على الكفار
هذه الحجَّة الشيطانيَّة والشُّبهة الشَّيطانيَّة؛ فقالوها للمسلمين، قال تعالى:
﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾، فهؤلاء هُم أولياء
الشيطان، وأنت أيها المؤمن الموحِّد لا تطع أولياء الشيطان مهما كان الأمر، واثبت
على القرآن والسُّنَّة وكن من أولياء الرحمن، وكنْ مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- والصحابة، واثبت على هذا.
قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾، أي:
أطعتموهم في تحليل الميتة التي حرمها الله عليكم إنَّكم لمشركون، ولهذا فإنَّ طاعة
المشرك في تحليل ما حرَّمَ الله أو تحريم ما أحلَّ الله يكون شركًا وكفرًا وخروجًا
من ملَّةِ الإسلام.
وينبغي التَّنبيه هنا إلى أنَّ طاعة المشرك أو الكافر فيها تفصيل، فلو قُدِّرَ أنَّ
الكافر أمرَ مسلمًا بخيرٍ، مثل أن يقول للمسلم: بُرَّ والديك، واخدم والدكَ،
فالقائل هنا كافر، والمسلم مُقصِّر مع والده لجهله وتفريطه وعصيانه، فأطاع المسلم
هذا الكافر؛ فإنَّ هذا ليس بشرك.
أمَّا لو أطاع الكافر في معصيةٍ مع اعتقاده أنَّها معصية؛ فهذا إثم وليس بشرك.
ويكون شركًا إذا أحلَّ ما حرَّم الله، أو حرَّمَ ما أحل الله طاعةً للمشرك.
وهذا التفصيل نحتاج إليه؛ لأنَّ هناك بعض الغلاة يضلُّون في هذا الموضع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا
شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُورً﴾)}.
فهؤلاء هم أولياء الشيطان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ
وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ
تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا
يَفْعَلُونَ * إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ *
إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا
تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ *
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ *
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى
الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ﴾)}.
هذا تفريق بين ما تُلقيه الشَّياطين على الكُهَّان، وبين وحي الله القرآن، وتفريق
بين طريقة الشَّياطين وأوليائهم وبينَ طريقة المؤمنين، قال تعالى: ﴿إلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
وكذلك في آيات سورة الحاقَّة تنزيه القرآن عن ما قاله الكفار، ولا زالوا يقولونه،
عندما يقولون عن القرآن إنَّه قول بشر، أو قول شاعر، أو كهانة؛ فكل هذا من إفك
الشَّياطين وأوليائهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ
رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ *
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ
يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ
إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾)} .
وهل استطاع أحد أن يأتي بمثله؟
الجن والإنس كلهم تحدَّاهم الله ولم يأتوا بمثله!
قوله: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ *
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ﴾، كل هذه تُهمٌ باطلة ألقاها الكفَّار، ولازال الملاحدة
والكفار إلى يومنا هذا يُلقونها، وقد أخزاهم الله -عزَّ وَجلَّ- ونزَّه نبيَّه عن
هذه الأوصاف، وما أتاه الله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الوحي من
الله -سبحانه وتعالى- وهو الحق المبين.
وكان معلومًا عند كفَّار قريش أنَّ الكاذب على الله -عزَّ وَجلَّ- أنَّه يُهلَك ولا
يبقى، ولذلك قالوا ﴿نتربص به ريب المنون﴾، يعني: الموت، فالكاذب على الله لا
يُمكَّن، ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ [الطور: 31]، فلمَّا تربَّصوا أهلكَ الله الكفَّار، وأعزَّ الله
نبيَّه، ونصرَ دينه.
واليوم -ولله الحمد- أخزى الله كلَّ كافرٍ على وجه الأرض، فدين الإسلام باقٍ منذ
ألف وأربعمائة وأربعين سنةٍ، منذ هجرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فدين الإسلام باقٍ وظاهرٌ، وسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محفوظة،
والقرآن محفوظٌ، وهذا من نصرة الله لنبيه، وأما مثل الأسود العنسي وسجاح ومسيلمة
أبادهم الله، فكل متنبِّئ كذَّاب يُبيده الله ويُهلكه، يُترَبَّص به ويزول، وأما
الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد أعزَّه الله، ولهذا نقول في السَّعي
بين الصفا والمروة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على
كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده"،
والحمد لله رب العالمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَنَزَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَّنْ تَقْتَرِنُ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ
الْكُهَّانِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْمَجَانِينِ ؛ وَبَيْنَ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ
بِالْقُرْآنِ مَلَكٌ كَرِيمٌ اصْطَفَاهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ
النَّاسِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ
*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الْآيَةَ .
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ *وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً
مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ
مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ﴾، فَسَمَّاهُ الرُّوحَ الْأَمِينَ وَسَمَّاهُ رُوحَ الْقُدُسِ .
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ﴾
يَعْنِي: الْكَوَاكِبَ الَّتِي تَكُونُ فِي السَّمَاءِ خَانِسَةً أَيْ:
مُخْتَفِيَةً قَبْلَ طُلُوعِهَا، فَإِذَا ظَهَرَتْ رَآهَا النَّاسُ جَارِيَةً فِي
السَّمَاءِ، فَإِذَا غَرَبَتْ ذَهَبَتْ إلَى كناسها الَّذِي يَحْجُبُهَا.
قال: ﴿وَاللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ﴾ أَيّ: إذَا أَدْبَرَ وَأَقْبَلَ الصُّبْحُ.
قال: ﴿وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ﴾ أَيْ: أَقْبَلَ.
قال: ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قال: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ أَيْ:
مُطَاعٍ فِي السَّمَاءِ أَمِينٍ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ أَيْ: صَاحِبُكُمْ الَّذِي مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهِ إذْ بَعَثَهُ إلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْ جِنْسِكُمْ،
يَصْحَبُكُمْ إذْ كُنْتُمْ لَا تُطِيقُونَ أَنْ تَرَوْا الْمَلَائِكَةَ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا
مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا
لَجَعَلْنَاهُ رَجُلً﴾ الْآيَةَ .
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ أَيْ: رَأَى جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قال: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ﴾، أَيْ: بِمُتَّهَمِ وَفِي
الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: ﴿بِضَنِينٍ﴾ أَيْ: بِبَخِيلِ يَكْتُمُ الْعِلْمَ وَلَا
يَبْذُلُهُ إلَّا بِجُعْلٍ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَكْتُمُ الْعِلْمَ إلَّا
بِالْعِوَضِ.
قال: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾، فَنَزَّهَ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ
السَّلَامُ- عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا كَمَا نَزَّهَ مُحَمَّدًا -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ كَاهِنً)}.
كل هذه الأدلَّة تدلُّ على الفرقان بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان، فنزَّه
الله نبيَّه محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما سمعنا في الآيات أن يكونَ
كاهنًا أو شاعرًا، أو أن يكون مجنونًا كما يقول هؤلاء الكفار، ونزَّه الواسطة الذي
نزل بالحوي، وهو جبريل -عليه الصلاة والسلام- فسمَّاه الرُّوح الأمين، وسمَّاه روح
القدس.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ أَيْ: رَأَى جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وقال: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ﴾، بالظَّاء -التي فيها عصا- من
الظِّنَّة وهي الاتِّهام، وقُرئَت ﴿بِضَنِينٍ﴾ بالضاد -بدون عصا- أَيْ: بِبَخِيلِ؛
فالله -عزَّ وَجلَّ- نزَّه نبيه محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو
مؤتمنٌ، وليس بمحل كذب، ولا كتمان للعلم، فلا يبخل بالعلم أو يكتمه ولا يبذله إلَّا
بجعلٍ كما يفعل مَن يكتم العلم إلَّا بعوضٍ.
قال: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾، يعني أنَّ جبريل ليس بشيطان؛ بل هو
ملكٌ كريم، وهو الرُّوح الأمين -عليه الصلاة والسلام.
فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان، وهذه هي طريقة النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا الوحي الذي أُنزل عليه، وهذا الذي جاءه بالوحي هو
جبريل -عليه الصَّلاة والسَّلام- خلافًا لِمَا عليه شياطين الإنس والجن -نسأل الله
العافية والسَّلامة.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر،
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12804 18
-
16751 9
-
34828 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12