{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ:
(وَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ الشَّيْطَانِيَّةُ هِيَ الرُّوحُ الَّذِي يَزْعُمُ صَاحِبُ
"الْفُتُوحَاتِ" أَنَّهُ أُلْقِيَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْكِتَابُ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُ
أَنْوَاعًا مِنْ الْخَلَوَاتِ بِطَعَامِ مُعَيَّنٍ وَشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذِهِ
مِمَّا تَفْتَحُ لِصَاحِبِهَا اتِّصَالًا بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ فَيَظُنُّونَ
ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْأَحْوَالِ
الشَّيْطَانِيَّةِ، وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ
يَحْمِلُ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ وَيَعُودُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ
يُؤْتَى بِمَالِ مَسْرُوقٍ تَسْرِقُهُ الشَّيَاطِينُ وَتَأْتِيه بِهِ، وَمِنْهُمْ
مَنْ كَانَتْ تَدُلُّهُ عَلَى السَّرِقَاتِ بِجُعْلِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ النَّاسِ
أَوْ بِعَطَاءِ يعطونه إذَا دَلَّهُمْ عَلَى سَرِقَاتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ شَيْطَانِيَّةً كَانُوا مُنَاقِضِينَ
لِلرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- كَمَا يُوجَدُ فِي
كَلَامِ صَاحِبِ "الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ" وَ "الْفُصُوصِ" وَأَشْبَاهِ
ذَلِكَ، يَمْدَحُ الْكُفَّارُ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَفِرْعَوْنَ
وَغَيْرِهِمْ، وَيَتَنَقَّصُ الْأَنْبِيَاءُ، كَنُوحِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَهَارُونَ، وَيَذُمُّ شُيُوخَ الْمُسْلِمِينَ الْمَحْمُودِينَ عِنْدَ
الْمُسْلِمِينَ، كالجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري،
وَيَمْدَحُ الْمَذْمُومِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، كَالْحَلَّاجِ وَنَحْوِهِ،
كَمَا ذَكَرَهُ فِي تَجَلِّيَاتِهِ الْخَيَالِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى آله
وأصحابه ومَن والاه.
أمَّا بعدُ؛ في هذا الدَّرس يواصل الشَّيخ بيان أنَّ هؤلاء المتصوِّفة الذين تبعوا
صوفية الملاحدة كابن عربي وأمثاله وقد ضلوا في باب الأولياء، فظنُّوا أنَّهم أفضل
من الأنبياء، وضلُّوا في مسائل أخرى، مثل اعتقادهم أنَّ ما يُلقَى عليهم أنَّه وحيٌ
وأنَّه من الله.
وذكر الشَّيخ أنَّ ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكيَّة" كانت تأتيه روحٌ وتُلقَى
إليه، ويقول الشَّيخ: إنَّ هذه الرُّوح شيطانيَّة ولا شكّ.
أمَّا ابن عربي قال في أوَّل كتابه: إنَّه رأى الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-في المنام ولا شكَّ أنَّ هذا كذب، أو أنَّه رأى شيطانًا، والشَّيطان لا
يتمثَّل بالرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن ربَّما رآه على غير
هيئته، والشَّيطان يتمثَّلُ بهيئاتٍ ثم يقول لمَن خرج له في المنام: أنا الرسول، أو
أنا كذا وكذا، وهو شيطان!
وحريٌّ بابن عربي وأمثاله أن تتمثَّل لهم الشَّياطين، وأن يكونوا جاهلين بصفة النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان يقول: إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أمره بإخراج هذا الكتاب، وأنَّه راضٍ عنه، ثم قال: "فمن الله فاسمعوا،
وإليه فارجعوا"، فهذا كلام ابن عربي!
يقول الشيخ: لا شكَّ أنَّ هذا روح شيطانيّ ألقى عليه، وأوهمه بهذا الوهم.
وذكر الشَّيخ أنَّ ابن عربي كان يخلو خلوات، ويمتنع عن الطعام والشَّراب ونحو ذلك،
وهذا يفتح الاتِّصال بالجنِّ -نسأل الله العافية والسَّلامة- وهذا كثيرٌ حتى عند
الغربيين والشَّرقيين من الكفَّار مَن يخلو خلوات ويتخيَّل أشياء وتنزل عليه
الشَّياطين، فيظنُّونَ أنَّ هذا علامةُ كرامةٍ لهم وأنَّهم خيرةُ النَّاس؛ ولكن هذه
أحوال شيطانيَّة.
يقول الشيخ: (وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْمِلُ
فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ وَيَعُودُ)، فيتعجَّب النَّاس، يقول: ذهبتُ من
دمشق لبغداد ورجعتُ، ويأتيهم بسلعةٍ أو بضاعةٍ من بغداد لا تُعرَف إلَّا هناك،
ومنهم مَن يخرج إلى مكَّة ويجلس في عرفات ويراه الناس في عرفاتٍ وهو بثيابه، لم
يُحرِم من الميقات، قد طارت به الجن.
ومنهم مَن تأتيه الشَّياطين بالأموال المسروقة، فبعض النَّاس يفقدُ مالًا -أو
يُسرَق منه- فيأتي عندَ الكُهَّان ومَن يدَّعون المخاريق، فيدَّعون الولاية وهم
أعداء لله وشياطين إنسيَّة، فيأتونهم ويقولون: فقدنا مالًا؛ فيخاطب الشَّياطين
ويناديهم ويستغيث بهم، فتذهب الشياطين وتأتي بالمال المسروق، أو تقول له: إنَّ
المال المسروق في المكان الفلاني، فيُعطَونَ جُعلًا على ذلك، ويأخذون الأموال،
ولهذا فإنَّ هؤلاء لا ينفكُّونَ عن الإفك والإثم؛ لأنَّهم يأكلون أموال الناس
بالباطل.
بعدما ذكر الشيخ هذه الأنواع قال: (وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ
شَيْطَانِيَّةً كَانُوا مُنَاقِضِينَ لِلرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ)، فتجد أعمالهم مخالفة لأعمال الرسل، وأقوالهم مخالفة
لأقوال الرسل، وعقائدهم مخالفة لعقائد الرُّسل، وهذا من الفرقان بينَ أولياء الرحمن
وأولياء الشيطان.
قال الشيخ: (كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ "الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ" وَ
"الْفُصُوصِ" وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ)، هو نفسه ابن عربي الطَّائي، وقد سبقت الإشارة
إليه في أكثر من مرَّة، فصاحب الفتوحات المكيَّة وفصوص الحكم هو شخص واحد، ألَّفَ
هذين الكتابين، وهذان الكتابان مملوءان بالضلالات، ومن ضمن هذه الضلالات ما ذكره
الشيخ هنا، قال: (يَمْدَحُ الْكُفَّارُ)، تخيَّل مسلم يمدَح الكفَّار ويذمُّ
المؤمنين والرُّسل!
قال: (مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ)، يمدح قوم نوح الذين
كفروا بالنبي نوح.
قال: ( وَيَتَنَقَّصُ الْأَنْبِيَاءُ)، أي: يزدريهم ويتنقَّص نوحًا وموسى وإبراهيم
وهارون، فإنَّ هذا علامة لمناقضة الرسل أشد مناقضة.
قال: (وَيَذُمُّ شُيُوخَ الْمُسْلِمِينَ الْمَحْمُودِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ)،
يذمُّ علماء الإسلام الصَّادقين المعروفين بالسُّنَّة والاتِّباع من الصَّحابة
والتَّابعين وأتباعهم، والعُبَّاد الصَّالحين، كالجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري.
قال: (وَيَمْدَحُ الْمَذْمُومِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ)، مَن أجمع المسلمون على
ذمِّهم يمدحهم ابن عربي هذا.
قال: (كَالْحَلَّاجِ وَنَحْوِهِ)، يُدافع عن الحلَّاج ويمدحه، ويذمُّ علماء
الإسلام، فهذه مناقضة.
والحلَّاج هو: الحسين بن منصور الحلَّاج، أصله من فارس، ولم يُعرَف عنه انحراف في
بدايته، ثم انسلَخَ من الدِّين، وسافر إلى الهند وتعلَّم السِّحر، وتعلَّم هذه
المخاريق التي عند السَّحرة، وأجمع الفقهاء على قتله، وكانت له أقوال شيطانيَّة
وكلمات كفريَّة، ومن ضمن كلماته المشهورة أنَّه يقول عن نفسه لمَّا لَبِسَ الجبَّة:
"ما في الجبَّة إلَّا الله"، يعني: أنَّ الله حلَّ فيه، وهذا اتَّفقَ الفقهاء على
قتله، وذكر المؤرخون هذا وأجمعوا عليه.
ومع هذا كلِّه نجد الآن مَن يُدافع عن الحلَّاج، فما تفسير هذه المدافعة؟
الذي لا شكَّ فيه -والله تعالى أعلم- أنَّ هذه المدافعة نابعة من موافقةٍ لعداوة
الإسلام وعدواة القرآن والسُّنَّة، سواء شعُر القائل بذلك أو لم يشعُر، فإن كان لا
يشعر فإنَّ هذا ناتجٌ عن جهله العميق واغتراره الكبير بمَن يمدح هؤلاء الزَّنادقة
السَّحرة المشعوذين الكذَّابين المفترين على الله ورسوله، فالذي يمدح هؤلاء
المجرمين كالحلَّاج وابن عربي حقيقةً هو يصفُّ في صف أعداء الإسلام وأعداء القرآن،
وعداوة السُّنَّة، وعداوة الصَّحابة، وعداوة أهل العلم والإيمان؛ شاء أم أبى!
قال: (كَمَا ذَكَرَهُ فِي تَجَلِّيَاتِهِ الْخَيَالِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ).
هذه التَّجليَّات في نفس كتابه، والتَّجليات أن تأتيه الهواجس ويُحدِّث نفسه، ثم
تأتيه خواطر من هنا وهناك فيسميها تجليَّات ثم يكتبها!
ولا شكَّ ولا ريبَ أنَّها من الشَّيطان؛ لأنَّ الشيطان حريص على ذمِّ الأنبياء ومدح
الكفَّار، وهذا يذم الأنبياء ويمدح الكفَّار، يمدح فرعون -كما مرَّ معنا في الدرس
الماضي- يقول: "فصحَّ وصدَقَ فرعون"، ويسب السَّحرة الذين آمنوا، ويسب موسى، وسيذكر
الشيخ بعض مقالاته.
ومن ضمن ضلالات ابن عربي هذا أنَّه يتنقَّص الجنيد بن محمد، والجنيد بن محمد عالم
زاهد، يعدُّه الصُّوفيَّة من كبارهم، ولكنَّه من خيار المتعبِّدين، ولم تُعرَف عنه
مقولات بدعيَّة؛ بل له مقولات تنفي البدعة -كما سيأتي- ولما كانت له مقالات تنفي
البدعة أبغضه ابن عربي وسبَّه وشتمه -كما سيأتي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ الجنيد -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- كَانَ مِنْ
أَئِمَّةِ الْهُدَى فَسُئِلَ عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: التَّوْحِيدُ إفْرَادُ
الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ)}.
يعني: أنَّ المخلوقات ليست هي الخالق، ولكنَّه عبَّرَ بتعبيرٍ غير معروفٍ عندنا
الآن، ولكنَّه كان معروفًا عندهم، والحقيقة أن تعبيرات "الحدوث والقدم" اصطلاحات
غير شرعيَّة، ولكنَّنا نتجاوز هذا الخطأ إلى المعنى.
ماذا يُريد الجنيد بقوله: (إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ)؟
يعني أنَّ الخالق ليس هو المخلوق، وهذه الشَّرارة أحسَّ بها الجنيد، وزلَّ فيها
أقوامٌ في عصره، ولهذا قال لهم: (إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ)، أي: لا
تجعلوا الخالق هو المخلوق، ولا تغترُّوا بأنفسكم.
ثم استمرَّ هذا الضَّلالُ وتوسَّعَ، ولهذا ضاق صدر ابن عربي من هذه الكلمة، ومن
الجنيد نفسه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَبَيَّنَ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَ
الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَبَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
وَصَاحِبُ "الْفُصُوصِ" أَنْكَرَ هَذَا؛ وَقَالَ فِي مُخَاطَبَتِهِ الْخَيَالِيَّةِ
الشَّيْطَانِيَّةِ لَهُ: يَا جنيد هَلْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ
إلَّا مَنْ يَكُونُ غَيْرَهُمَا؟ )}.
هو بينه وبين الجنيد أربعمائة سنة، فالجنيد مات قبله بأربعمائة سنة، وجلس يتخيَّل
وتأتيه الهواجس وكأنَّه يُخاطب الجنيد، فيقول: "يَا جنيد هَلْ يُمَيِّزُ بَيْنَ
الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ إلَّا مَنْ يَكُونُ غَيْرَهُمَا؟"، وهذا كلام باطل!
فالإنسان قد يُميِّز وهو أحد الطَّرفين، فأنت مخلوق وأنا مخلوق، ونعرف أنَّ الخالق
ليس مثل المخلوق، ونُميِّز بينَ الخالق والمخلوق ونحن الطَّرف الأوَّل الضَّعيف.
فهو يقول: لا، الذي يُميِّز يكون طرفًا ثالثًا! وهذا من فساد عقله وتلاعب
الشَّياطين به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَخَطَّأَ الجنيد فِي قَوْلِهِ: "إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ
الْقِدَمِ" لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ: إنَّ وُجُودَ الْمُحْدَثِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ
الْقَدِيمِ)}.
هذه عقيدة غُلاة الصُّوفيَّة الاتِّحادية الملاحدة أهل وحدة الوجود، فالخالق
والمخلوق عندهم شيء واحد، ولهذا فإنَّ الجنيد لما قال: "إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ
الْقِدَمِ" فرَّق بينَ الخالق والمخلوق، وهذه عقيدة كل مسلم ما فيها شك، فخطَّأه
ابن عربي؛ لأنَّ عقيدة ابن عربي أنَّ الخالق والمخلوق شيءٌ واحد.
وهذا -يا إخواني الكرام- نقل عن كتاب "فصوص الحكم" الذي لا يزال يُطبَع حتى هذه
اللحظة عند أولياء الشيطان، لكي تعرفوا من هم أولياء الرحمن ومن هم أولياء الشيطان،
فأولياء الشيطان يطبعون هذا الكتاب ويروِّجونَ له، وإذا حُكِمُوا وضُيِّقَ عليهم
قالوا أنت ما تفهم الكلام، والكلام له ظاهر وباطن، أو هذا مدسوس، فيفرُّونَ كما يفر
المنافقون والجبناء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: ( كَمَا قَالَ فِي فُصُوصِهِ: "وَمِنْ أَسْمَائِهِ
الْحُسْنَى "الْعَلِيُّ" عَلَى مَنْ؟ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ، وَعَنْ مَاذَا؟ وَمَا
هُوَ إلَّا هُوَ فَعَلُوهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمُسَمَّى
مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهِ وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ". إلَى أَنْ قَالَ:
" هُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ وَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ، وَمَا ثَمَّ مِنْ يَرَاهُ
غَيْرُهُ، وَمَا ثَمَّ مَنْ يَنْطِقُ عَنْهُ سِوَاهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى أَبُو
سَعِيدٍ الْخَرَّازُ)}.
هذا واحدٌ من الصُّوفيَّة يقول: الله هو أبو سعيد الخرَّاز!
ما هذه الجرأة؟! وأنا أسأل مَن يطبع هذا الكتاب ويُروِّج لهذه الشَّخصيَّة وأمثاله:
هل ما يعقل وام يُفكِّر؟ فهذا يكيد للإسلام والمسلمين ولا شك!
يقول: "عَلَى مَنْ؟ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ، وَعَنْ مَاذَا؟" ويقول: "هُوَ عَيْنُ
مَا بَطَنَ وَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ"، وبعضهم يُصرِّح بالكلمات القذرة، كالكلب
والخنزير والحمار، والقاذورات -تعالى الله عمَّا يقولون- ونستغفر الله ونتوب إليه!
فأيُّ كفرٍ أعظم من هذا الكفر، وأي استهزاء بالله وبدينه أعظم من هذا؟!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: ("وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُحْدَثَاتِ")}.
يعني يقول: إنَّ الله هو أبو سعيد الخرَّاز وغير ذلك، كلّ المحدثات هي الله!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُلْحِدِ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ
الْمُمَيِّزِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ ثَالِثًا
غَيْرُهُمَا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ
وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ هُوَ ثَالِثٌ، فَالْعَبْدُ يَعْرِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ
وَيُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ خَالِقِهِ، وَالْخَالِقُ -جَلَّ جَلَالُهُ-
يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ رَبُّهُمْ
وَأَنَّهُمْ عِبَادُهُ)}.
لما قال للجنيد: "هَلْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ إلَّا مَنْ
يَكُونُ غَيْرَهُمَا؟"؛ نقول: هذا كلام غير صحيح، نعم الخالق يعلم أنَّه هو الخالق
سبحانه، وقد وصف نفسه بصفاته وأسمائه الحسنى، والمخلوق يعلم أنَّه مخلوق ويُميِّز.
والشيخ يُصرِّح هنا بكفر ابن عربي فقال: (فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُلْحِدِ)، ولهذا
جمع أحد المشايخ وهو "دغش العجمي" في كتاب له عن ابن عربي يُقدِّم له معالي الشيخ
صالح اللحيدان -حفظه الله-، جمع كل أقوال العلماء في هذه الشَّخصيَّة؛ ليُبيِّن
تحذير المسلمين وعلمائهم من هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ،
وَالِاسْتِشْهَادُ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهِ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ فَيَزْعُمُونَ مَا كَانَ يَزْعُمُهُ التلمساني
مِنْهُمْ - وَهُوَ أَحْذَقُهُمْ فِي اتِّحَادِهِمْ - لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ
"الْفُصُوصُ" فَقِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ يُخَالِفُ فُصُوصَكُمْ.
فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ، وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا.
فَقِيلَ لَهُ: فَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ وَاحِدًا فَلِمَ كَانَتْ الزَّوْجَةُ
حَلَالًا وَالْأُخْتُ حَرَامًا؟ فَقَالَ: الْكُلُّ عِنْدَنَا حَلَالٌ، وَلَكِنْ
هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ)}.
هذا كلام يقوله مسلم؟!
يقول الشيخ: إنَّ الاستشهاد بالقرآن والانتفاع بالقرآن يكون للمؤمنين، أمَّا هؤلاء
فلا يرون القرآن شيئًا، فهم عندهم من الكفريَّات الشَّيءَ العظيم.
ابن عربي كان يقول في فتوحاته المكيَّة: "العبدُ ربٌّ والرَّبُّ عبدٌ، يا ليت شعري
مَن المكلفُ!"، هل فيه مسلم يقول هذا؟!!
فهؤلاء الملاحدة -كما يزعم التِّلمساني- أنَّه أحذقهم، وهذا شاعر من شعراء
الصُّوفيَّة الضُّلَّال يسمونه العفيف التِّلمساني، والشيخ ابن تيمية في مواضع
يقول: "الفاجر التِّلمساني"؛ هذا التِّلمساني اسمه: سليمان بن علي التلمساني، وله
مصنفات كثيرة، وهو يتبع ابن عربي في أقواله وأفعاله، واتُّهم بالميل إلى مذهب
النُّصيريَّة، وهلك سنة ستمائة وتسعين، وله أقوال عظيمة في الحلول والاتِّحاد
والزَّندقة والكفر المحض.
كمال الدِّين المراغي أحد العلماء الصَّالحين في زمن قبل ابن تيمية قليلًا، كان
كمال الدين المراغي جالسًا، والتلمساني موجود ويقرؤون عليه من فصوص الحكم، فقال له:
يا هذا، القرآن يُخالف قولكم!
فقال: "الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ، وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا"؛ فهذا
من كبار الملاحدة!
وآخر قال له: "فَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ وَاحِدًا فَلِمَ كَانَتْ الزَّوْجَةُ
حَلَالًا وَالْأُخْتُ حَرَامًا؟" فجاء الرَّد أخبث وأخبث، قال التلمساني: "الْكُلُّ
عِنْدَنَا حَلَالٌ"، فحلال عند التلمساني أن يطأ الرجل أمَّه، أو أن يفجر الرجل
ببنته، فهذا حلال عندهم.
ثم قال: "وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ
عَلَيْكُمْ"، نعوذ بالله من هذا الكفر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا مَعَ كُفْرِهِ الْعَظِيمِ مُتَنَاقِضٌ ظَاهِرٌ
فَإِنَّ الْوُجُودَ إذَا كَانَ وَاحِدًا فَمَنْ الْمَحْجُوبُ وَمَنْ الْحَاجِبُ؟)}.
من هم المحجوبون؟ فيه حاجب ومحجوب، فأنتم تقولون: إنَّ الوجود واحد! فينطق بكلامه
ما يدلُّ على تناقضه، فإذا كنت تقول: إنَّ هناك محجوبون؛ إذن أنت ميَّزتَ، فصار فيه
حاجب ومحجوب، فلا يكون الوجود واحدًا، وصار الوجود مختلفًا!
وهذا أمر ما يحتاج إلى دليل، وهو واضحٌ جدًّا عند كل إنسان، لكن أن يصل بنا الحال
إلى أن نصل إلى هذه المناطق العليا من الإقناع في مسائل بديهيَّة يدلُّكَ على شدَّة
الانحراف وشدَّة الإلحاد -نسأل الله العافية والسَّلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ لِمُرِيدِهِ: مَنْ
قَالَ لَك: إنَّ فِي الْكَوْنِ سِوَى اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ.
فَقَالَ لَهُ مُرِيدُهُ: فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَكْذِبُ؟ وَقَالُوا لِآخَرَ: هَذِهِ
مَظَاهِرُ)}.
المريد –التلميذ- خَصَم وحجَّ وأفحم الأستاذ المشرك الملحد الاتحادي، فالاتحادي
الضَّال يقول: إذا قيل لك أن في الكون سوى الله شيء فهذا يكذب عليك، كل ما في الكون
هو الله.
فقال له المريد: من الذي يكذب؟
إذن فيه شخص آخر! فهذا تناقض ظاهر جدًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَقَالَ لَهُمْ: الْمَظَاهِرُ غَيْرُ الظَّاهِرِ أَمْ هِيَ؟
فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا فَقَدْ قُلْتُمْ بِالنِّسْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ إيَّاهَا
فَلَا فَرْقَ)}.
المظاهر مثل: الجبال والبحار والسماء؛ يقولون إن هذه المظاهر غير الظَّاهر، أنت
تقول إنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- ظاهر في كل شيء وأنَّه هو كل شيء، فهذه المظاهر غير
الظاهر، أو هي الظَّاهر؟ هي الله أو غيره؟
فإن كانت هي غير الله فقد قلتم بالنِّسبة، وهذا هو الحق، أن الله فوق خلقه، والخلق
لم يكن متَّحدًا بالله ولا حالًّا في الله، إذن لا تسميها مظاهر، فلما تقول أنَّ
هذه مظاهر فإنَّ كلامك فيه تناقض.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى كَشْفِ أَسْرَارِ
هَؤُلَاءِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ قَوْلِ كُلٍّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ، وَأَنَّ صَاحِبَ "الْفُصُوصِ" يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ، وَوُجُودُ
الْحَقِّ فَاضٍ عَلَيْها، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ.
وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَعْدُومُ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ
مَعَ ضَلَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْهُ، فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا: إنَّ الرَّبَّ خَلَقَ
لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ وُجُودًا لَيْسَ هُوَ وُجُودُ
الرَّبِّ.
وَهَذَا زَعَمَ أَنَّ عَيْنَ وُجُودِ الرَّبِّ فَاضَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عِنْدَهُ
وُجُودُ مَخْلُوقٍ مُبَايِنٌ لِوُجُودِ الْخَالِقِ، وَصَاحِبُهُ الصَّدْرُ القونوي
يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى
الْفَلْسَفَةِ فَلَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ؛ لَكِنْ جَعَلَ الْحَقَّ
هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَصَنَّفَ "مِفْتَاحَ غَيْبِ الْجَمْعِ وَالْوُجُودِ".
وَهَذَا الْقَوْلُ أَدْخَلُ فِي تَعْطِيلِ الْخَالِقِ وَعَدَمِهِ)}.
قول الشيخ: (وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى كَشْفِ أَسْرَارِ هَؤُلَاءِ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ قَوْلِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ)، فالشيخ له
كتب كثيرة، وله رسالة مشهورة اسمها "حقيقة مذهب الاتِّحاديَّة"، وهذه موجودة في
مجموع الفتاوى - المجلد الثاني، الصفحة مائة وأربعة وثلاثين، وأغلب المجلد الثاني
في هذه الرسالة وهي حقيقة مذهب الاتِّحاديين.
وكذلك له كلام في عدَّة رسائل في مجموع الفتاوى، ومواضع كثيرة مثل درء التَّعارض
وغيرها، فالشيخ في كثير من المواضع يأتي ويضرب هذا المذهب الخبيث ويُبيِّن فساده،
وكذلك في الصَّفديَّة وشرح الرسالة الأصفهانيَّة له كلام كثير عن هؤلاء.
وخلاصة الكلام: أن هؤلاء خرجوا في القرن الخامس والسادس، وقبل أن يُولَد الشيخ،
وبعدما وُجِدَ ابن تيمية كان يراهم ويرى انتشارهم واغترار الحكَّام بهم، وإفسادهم
لأديان الناس، فنشطَ في تتبُّعهم، ثم اتَّضح لابن تيمية -ووضَّح هذا في كتبه-
أنَّهم على ثلاثة أقسام:
الأول: مذهب الحلول.
الثاني: مذهب الاتِّحاد.
الثالث: مذهب وحدة الوجود.
الدَّرجة الأولى: الحلول، يعني مثلًا هذا الماء حلَّ في الكأسِ، فالماء شيء والكأس
شيء، والقول بأن الخالق حلَّ في المخلوقات كفر، ولكن هؤلاء الكفَّار الحلوليَّة
يقولون: إنَّ الخالق شيء والمخلوقات شيء آخر. وهذه هي الدَّرجة الأولى من مذهب
هؤلاء الكفار.
الدرجة الثانية: يسمون بالاتِّحاديَّة الصُّوفيَّة، يقولون: إن الخالق اتَّحدَ
بالمخلوق.
نضرب مثالًا في المخلوقات التي نفهمها: إذا وضعنا ملحًا في الماء ومزجناه، أو صببنا
لبنًا على الماء ومزجناه؛ اتَّحدَ الماء واللبن -أو الملح مع الماء- فاختلطا فصارا
شيئًا واحدًا، فكان قبلُ شيئين ثم صار شيئًا واحدًا، وهذا هو مذهب الاتِّحاديَّة
وهو أشد كفرًا من مذهب الحلوليَّة.
فالاتِّحاديَّة يقولون: إنَّ هناك خالق ومخلوقات، ثم اتَّحدَ الخالق والمخلوقات
فصارا شيئًا واحدًا.
الدرجة الثالثة: وهي أشد غلوًا، وهو مذهب ابن عربي -ونبه الشيخ هنا على ذلك-
يقولون: إنَّ الخالق والمخلوق هو شيء واحد في الأصل، لم يكونا شيئين ثمَّ اتَّحدا،
فكل ما في الوجود هو الله، فهم يقولون: بوحدة الوجود، وهذا أشدُّ وأدخلُ في الكفر.
يقول الشيخ: (وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ قَوْلِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ)، يعني: في
المراجع.
فصاحب الفصوص يقول: (الْمَعْدُومُ شَيْءٌ، وَوُجُودُ الْحَقِّ فَاضٍ عَلَيْه)،
يعني: يفرِّق بينَ الوجود والثُّبوت، فأول أمره كان يُفرِّق، ثم صار بأقواله إلى
الاتِّحاد، فكان أول يقول المعدوم شيء والخالق شيء، ثم فاض الخالق على المخلوق
-المعدوم- فصارا شيئًا واحدًا. قال الشيخ: (فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ
وَالثُّبُوتِ).
ويُنبِّه الشيخ هنا تنبيهًا عقليًّا على فساد هذه العقيدة فيقول: المعتزلة على أنهم
ضُلَّالٌ ومعروفٌ عند الناس ضلالهم أخف منه شرًّا؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ المعدوم
شيء ثابت في الخارج، وهذا غير صحيح، المعدوم لا شيء، وحتى لو قالوا بهذا فإنهم
يقولون: إن الله هو الذي خلق هذه الأشياء، ولا يقولون: إنها غير مخلوقةٍ لله، ولا
يقولون: إن وجودها هو وجود الرَّب، ولا يقولون: إنَّ الله فاض عليها وحلَّها أو
اتَّحدَ بها.
قال -جَلَّ وَعَلَا: (وَصَاحِبُهُ الصَّدْرُ القونوي)، هذا رومي، واسمه: صدر الدين
محمد بن إسحاق القونوي، وهو من كبار تلاميذ ابن عربي، ومن مشايخ الاتِّحاديَّة، وهو
شيخ التِّلمساني، توفي سنة ستمائة ثلاثة وسبعين، هذا الضَّال يُفرِّق بين المطلق
والمعين؛ لأنَّه أقرب للفلسفة، فعنده نوعٌ من التَّعقُّل فلم يقع في وحدة الوجود.
قال الشيخ: (فَلَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ؛ لَكِنْ جَعَلَ الْحَقَّ
هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَصَنَّفَ "مِفْتَاحَ غَيْبِ الْجَمْعِ وَالْوُجُودِ".
وَهَذَا الْقَوْلُ أَدْخَلُ فِي تَعْطِيلِ الْخَالِقِ وَعَدَمِهِ)، يعني الصدر
القونوي أشدُّ إلحادًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا الْقَوْلُ أَدْخَلُ فِي تَعْطِيلِ الْخَالِقِ
وَعَدَمِهِ، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - وَهُوَ الْكُلِّيُّ
الْعَقْلِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ،
وَالْمُطْلَقِ لَا بِشَرْطِ وَهُوَ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ.
وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ، فَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا
مُعَيَّنًا، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِثُبُوتِهِ فِي
الْخَارِجِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ إمَّا مُنْتَفِيًا فِي
الْخَارِجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَهَلْ يَخْلُقُ الْجُزْءُ الْكُلَّ أَمْ يَخْلُقُ الشَّيْءُ نَفْسَهُ؟ أَمْ
الْعَدَمُ يَخْلُقُ الْوُجُودَ؟ أَوْ يَكُونُ بَعْضُ الشَّيْءِ خَالِقًا
لِجَمِيعِهِ.
وَهَؤُلَاءِ يَفِرُّونَ مِنْ لَفْظِ "الْحُلُولِ" لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَالًا
وَمَحَلًّا، وَمِنْ لَفْظِ "الِاتِّحَادِ")}.
هؤلاء يفرُّون من لفظ "الحلول" ومن لفظ "الاتِّحاد" لأنَّهم هم أهل وحدة الوجود،
وهؤلاء أغرق وأشد في الكفر والإلحاد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لِأَنَّهُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا
بِالْآخَرِ وَعِنْدَهُمْ الْوُجُودُ وَاحِدٌ. وَيَقُولُونَ: النَّصَارَى إنَّمَا
كَفَرُوا لَمَّا خَصَّصُوا الْمَسِيحَ بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَلَوْ عَمَّمُوا
لَمَا كَفَرُو)}.
هذا من أقوال غلاة الاتِّحاديَّة وأهل وحدة الوجود، يقولون: إنَّ النَّصارَى كفروا
لأنَّهم خصَّصوا عبادة المسيح وعبدوه، ولو أنَّهم عمَّموا وعبدوا كلَّ شيءٍ لَمَا
كفروا، وهذا يُبيِّن لك شدَّة كفر هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي عُبَّادِ الْأَصْنَامِ: إنَّمَا
أَخْطَئُوا لَمَّا عَبَدُوا بَعْضَ الْمَظَاهِرِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَوْ عَبَدُوا
الْجَمِيعَ لَمَا أَخْطَئُوا عِنْدَهُمْ.
وَالْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ عِنْدَهُمْ لَا يَضُرُّهُ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ)}.
انظر! يقولون: إنَّ عُبَّاد الأصنام ما كفروا إلَّا لأنَّهم عبدوا الأصنام فقط،
وإلَّا لو عبدوا كلَّ شيءٍ ما كفروا! وأيُّ كفرٍ أعظم من هذا؟!
ولهذا يقول الشيخ: (وَالْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ عِنْدَهُمْ لَا يَضُرُّهُ عِبَادَةُ
الْأَصْنَامِ).
لاحظ هذه الجملة! المحققون من هؤلاء الكفرة الاتِّحاديَّة وأهل وحدة الوجود يقولون:
إنَّ الذي يعبد الأصنام لا شيء عليه، العارف المحقق عندهم لا تضره عبادة الأصنام،
فنحن الآن نتحدَّث عن قومٍ بلغوا في الكفر مَبلغًا لم يبلغه لا اليهود ولا
النَّصارى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ فَفِيهِ
مَا يَلْزَمُهُمْ دَائِمًا مِنْ التَّنَاقُضِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: فَمَنْ
الْمُخْطِئُ؟ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِجَمِيعِ
النَّقَائِصِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ.
وَيَقُولُونَ: إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تُوصَفُ بِجَمِيعِ الكمالات الَّتِي يُوصَفُ
بِهَا الْخَالِقُ.
وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ "الْفُصُوصِ": "فَالْعَلِيُّ لِنَفْسِهِ هُوَ
الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ بِهِ جَمِيعَ النُّعُوتِ
الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا
أَوْ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا،
وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً، وَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ هَذَا
لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ التَّنَاقُضُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ
أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ ذَاكَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَا كَانَ يَقُولُهُ
التلمساني: إنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ
الْعَقْلِ. وَيَقُولُونَ: مَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ - يَعْنِي تَحْقِيقَهُمْ -
فَلْيَتْرُكْ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ")}.
قول صاحب الفصوص: "فَالْعَلِيُّ لِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ
الَّذِي يَسْتَوْعِبُ بِهِ جَمِيعَ النُّعُوتِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ
الْعَدَمِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا أَوْ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا،
أَوْ مَذْمُومَةً"، فالله عندهم يوصف حتى بالنَّقائص، فهذا هو كلام صاحب الفصوص
-نسأل الله العافية والسلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قُلْت لِمَنْ خَاطَبْته مِنْهُمْ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ
كَشْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ وَأَتَمُّ مِنْ كَشْفِ غَيْرِهِمْ، وَخَبَرَهُمْ
أَصْدَقُ مِنْ خَبَرِ غَيْرِهِمْ، وَالْأَنْبِيَاءُ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِمْ- يُخْبِرُونَ بِمَا تَعْجِزُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ؛ لَا
بِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ، فَيُخْبِرُونَ
بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ
فِي إخْبَارِ الرَّسُولِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعُقُولِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ
يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ: سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ
سَمْعِيَّيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا، فَكَيْفَ
بِمَنْ ادَّعَى كَشْفًا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؟)}.
يقول التلمساني: "ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ.
وَيَقُولُونَ: مَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ - يَعْنِي تَحْقِيقَهُمْ - فَلْيَتْرُكْ
الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ"، والشيخ أراد الرَّد على التلمساني.
يقول التلمساني: عندنا كشف فوق مستوى العقل وفوق مستوى الشرع، فاترك عنك العقل
واترك عنك الشَّرع، وامشِ مع كشفنا.
فالشيخ قال له: أعظم كشف هو كشف الأنبياء، وخبر الأنبياء أعظم خبر، فكيف يأتي أحد
بشيءٍ فوق الأنبياء؟! ثم إن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يُخبرون الناس بما
تعجز عقول الناس عن معرفته وإدراكه على التفصيل، لا بما يعرف الناس أنه ممتنع.
وهذه عبارة الشيخ وقد كررها في مواضع: " فَيُخْبِرُونَ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا
بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ"، يعني: تأتي أخبار عن الله وعن نبيِّه -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعن الغيب والآخرة ما تحار فيه العقول، أن تتعجَّب من عظمة
الله، وتتعجَّب من قدرة الله، وتعجز العقول عن إدراكه بمفردها، لكن لا يُمكن أن
يأتي في خبر الله وخبر نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخبار الأنبياء
ما تقطع العقول بأنَّه ممتنع ومستحيل، فهذا لا يُمكن، وهذا هو معنى قوله:
"فَيُخْبِرُونَ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ"، يعني: تجعله
مستحيلًا ممتنعًا، فهذه العبارة كررها الشيخ واستعملها في كثير من المواضع، ففرقٌ
بين ما يقصر العقل عن دَرَكه، وبينَ ما يعلم العقل استحالته، فهذا هو الفرق بين
محارات العقول ومحالات العقول.
قال: (وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِ الرَّسُولِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ
الْعُقُولِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ: سَوَاءٌ
كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا
وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا، فَكَيْفَ بِمَنْ ادَّعَى كَشْفًا يُنَاقِضُ صَرِيحَ
الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؟)، هذا لا يُمكن، فهذا الكشف هو كشفٌ شيطاني إذا عرض الشرع.
وهذا هو الرد على أتباع التلمساني الذين قالوا "ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي الْكَشْفِ مَا
يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ، مَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ فَلْيَتْرُكْ الْعَقْلَ
وَالشَّرْعَ"!
فهذا كلام فاسد وباطل، وهؤلاء الضُّلَّال نقض الشيخ كلامهم هنا.
ومَن أراد التَّوسُّع من طلبة العلم والمتخصصين يُراجع الكتب الموسَّعتة، مثل "درء
تعارض العقل والنقل"، فنقض أصول الفلاسفة وأصول الملاحدة، ملاحدة الباطنيَّة هؤلاء
وغيرهم.
نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يغفر للشيخ، وأن يجزيه خيرًا على هذا الجهاد العظيم،
والنُّصرة لدين الإسلام، ونسأل الله أن ينفع بهذا الكلام ويجعله نافعًا لمسلمين.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر،
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}