الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

1556 12
الدرس الحادي عشر

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالشَّيْطَانُ يُضِلُّ بَنِي آدَمَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَمَنْ عَبَدَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ وَدَعَاهَا - كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ - فَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يُخَاطِبُهُ وَيُحَدِّثُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ "رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ" وَهُوَ شَيْطَانٌ، وَالشَّيْطَانُ وَإِنْ أَعَانَ الْإِنْسَانَ عَلَى بَعْضِ مَقَاصِدِهِ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ أَضْعَافَ مَا يَنْفَعُهُ، وَعَاقِبَةُ مَنْ أَطَاعَهُ إلَى شَرٍّ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ قَدْ تُخَاطِبُهُمْ الشَّيَاطِينُ، وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَغَاثَ بِمَيِّتِ أَوْ غَائِبٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا الْمَيِّتَ أَوْ دَعَا بِهِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاجِدِ، وَيَرْوُونَ حَدِيثًا هُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ «إذَا أَعْيَتْكُمْ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ الْقُبُورِ»، وَإِنَّمَا هَذَا وَضْعُ مَنْ فَتَحَ بَابَ الشِّرْكِ.
وَيُوجَدُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالنَّصَارَى وَالضُّلَّالِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحْوَالٌ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ يَظُنُّونَهَا كَرَامَاتٍ وَهِيَ مِنْ الشَّيَاطِينِ، مِثْلُ أَنْ يَضَعُوا سَرَاوِيلَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيَجِدُونَهُ قَدْ انْعَقَدَ، أَوْ يُوضَعُ عِنْدَهُ مَصْرُوعٌ فَيَرَوْنَ شَيْطَانَهُ قَدْ فَارَقَهُ.
يَفْعَلُ الشَّيْطَانُ هَذَا لِيُضِلّهُمْ، وَإِذْ قَرَأْت آيَةَ الْكُرْسِيِّ هُنَاكَ بِصِدْقِ بَطَلَ هَذَا، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ؛ وَلِهَذَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" فَسَقَطَ، وَمِثْلُ أَنْ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ الْقَبْرَ قَدْ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ إنْسَانٌ فَيَظُنُّهُ الْمَيِّتُ وَهُوَ شَيْطَانٌ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ؛ فلازال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يُبيِّنُ أحوال الشَّياطين وأولياء الشَّياطين مُفرِّقًا بينهم وبينَ أولياء الرحمن، وهذا الكتاب العظيم "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" قد اشتمل على جُمل كثيرة بيَّنَ فيها -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما وردَ في الكتاب والسُّنَّة من الفرقان العظيم بين هؤلاء وهؤلاء -بين المؤمنين والكفار، وبين أهل الشرك وأهل التوحيد، وبين أهل الباطل وأهل الحق- فجزاه الله خيرًا على قدمَ وكتبَ وبيَّنَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
والكلام هنا مستمر على طريقة الشيطان في إضلال بعض الناس، بعض الناس يضل بسبب الكواكب، فيعبدها ويستغيث بها، ويظنُّ أنَّها تُدبِّرُ أمرَ الكون، وهذا شركٌ قديم، فالشرك في الأرض نوعان:
Ø   شركٌ أرضي.
Ø   شرك سماوي.
فالشرك الأرضي: هو التَّعلُّق بالمقبورين ممَّن يغلو فيهم بعض الناس ممَّن يُعتقَد فيهم الصَّلاح، أو الشرك بالأشجار أو بالأحجار أو بالنيران أو بأماكن معيَّنة، وهذا يكون بأشياء في الأرض.
أمَّا الشِّرك السَّماوي: فهو التعلق بالكواكب وهذه المخلوقات التي في السماء، وهذا مذكورٌ في القرآن، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: 37].
وقد ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة الأنعام ما جرى بين نبي الله وخليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وبين قومه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:75-79] فعلمنا أنَّهم كانوا يعبدون الشمس والقمر والكواكب، وهذا الشرك موجودٌ إلى الآن عندَ كثيرٍ من كفار الأرض، فالشياطين تضل هؤلاء، ووضح الشيخ هذا بكونها تتنزَّل على هؤلاء، ويسمعون أصواتًا يظنون أنها من تلك الكواكب وهي من الشياطين، وربما تُلقي عليهم معلومات فيظنون أنها من تلك الكواكب.
وهؤلاء يكثُر فيهم السِّحر، فيجعلون اجتماع النجوم وافتراقها وانتقالها في أبراجها أسبابًا لانعقاد السحر والتَّأثير على الناس، والنجوم والشمس والقمر مدبَّرة ومسخَّرة كل في فلك يسبحون، فهي خلقٌ مسخَّر لا يملك ضرًّا ولا نفعًا، فليس المطر منها، ولا الحروب منها، ولا الغلاء ولا الرُّخص، ولا تُدبِّرُ موتًا ولا حياة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ»[22].
فالمقصود: أن هذا من إضلال الشيطان لهؤلاء.
وقد ذكر أهل العلم أن بعض المنتسبين للإسلام -مع الأسف- لَمَّا انحرفوا وضلُّوا في هذا الباب ألَّفَ كتابًا عنوانه: "السِّر المكتوم في مخاطبة النُّجوم"، فهم يُخاطبونها، وتكلمهم الشياطين، ويظنونها أنها من النُّجوم، وهذا من تلاعب الشيطان بهؤلاء.
وذكر الشيخ في مواضع سابقة أنَّ الأصنام يسمع عُبَّادها منها أصواتًا، فيظنُّون أنَّها تُجيبهم في طلباتهم.
يقول الشيخ: (وَإِنْ أَعَانَ الْإِنْسَانَ عَلَى بَعْضِ مَقَاصِدِهِ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ أَضْعَافَ مَا يَنْفَعُهُ، وَعَاقِبَةُ مَنْ أَطَاعَهُ إلَى شَرٍّ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ)، فيتوب إلى الله ويُسلم، ويرجع إلى الله ويتمسَّك يه، ويكفر بالجبت والطَّاغوت؛ فإنَّه يتوب الله عليه.
قال الشيخ: (وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَغَاثَ بِمَيِّتِ أَوْ غَائِبٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا الْمَيِّتَ أَوْ دَعَا بِهِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاجِدِ)، ثلاثة أشياء ذكرناها في الدرس الماضي، وذكرها الشيخ في موضع قريب جدًّا، وهذا يدل على أن الشيخ يُفرق بين هذه الأمور الثلاثة:
Ø   مَن دعا الميت: فهذا شرك أكبر.
Ø   من دعا به: يعني توسَّل به، فهذا فيه تفصيلٌ:
-       إذا كان قد دعا به معتقدًا أنَّه واسطة بينه وبين الله، وأنَّ الله لا يقبل الدعاء إلَّا عن طريقه: فهذا شركٌ أكبر.
-       إذا دعا به يعتقد أنَّ هذا مشروع، متوسِّلًا باسمه وجاهه وحقِّه ومنزلته: فهذا بدعة.
-       وإذا دعا به -أي أقسَمَ به- فهذا شركٌ أصغر، وقد يكون شركًا أكبر.
وعلى كل الأحوال هذه فهو وسيلة من وسائل الشرك الأكبر.
Ø   من دعا عند قبره، أي: تحرَّى الدعاء عند قبره، وهذه الزيارة للقبور هي الزِّيارة البدعية، وهذا من المنكر المنهي عنه، وإنَّما المشروع أن يُدعَى للميِّت ولا يُطلب منه، ولا يُدعا عنده، وإنَّما يُدعا له، فهذا هو المشروع عند القبور، لا نأتي للقبور إذا احتجنا حاجات دينية أو دنيوية؛ وإنَّما نأتي للمساجد، أو نصلِّي ركعتين في بيوتنا في ظلمة الليل بين الأذان والإقامة، فهذه هي أعمال المؤمنين الموحِّدين.
يقول الشيخ عن هؤلاء الخرافيين: (وَيَرْوُونَ حَدِيثًا هُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ «إذَا أَعْيَتْكُمْ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ الْقُبُورِ») هذا يقول مسلم!
إذا أعيتكم الأمور فعليكم باللجوء إلى الله، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ [النمل: 62]، فكيف يقولون: "عليكم بأصحاب القبور"!
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 5، 6].
قال الشيخ: (وَإِنَّمَا هَذَا وَضْعُ مَنْ فَتَحَ بَابَ الشِّرْكِ)، وضع: أي افتراء وكذب، ولهذا يُسمَّى الحديث الموضوع، يعني: المكذوب المفتَرَى.
فهذا الحديث الذي وضعه وكذبه وافتراه أراد أن يفتح باب الشرك على المسلمين، ولكن الله أخزاهم، فلا تزال طائفة من أمة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على الحق منصورين، لا يضرهم مَن خذلهم ومَن خالفهم، حتَّى يأتي أمر الله تبارك وتعالى.
قال الشيخ: (وَيُوجَدُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالنَّصَارَى وَالضُّلَّالِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحْوَالٌ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ)، أحوال: يعني أشياء خارقة للعادة عند هذه المشاهد.
قال: (يَظُنُّونَهَا كَرَامَاتٍ وَهِيَ مِنْ الشَّيَاطِينِ)، أي: خوارق شيطانية.
ثم ذكر الشيخ أمثلة وقعت لبعض الناس، فالسروال عادة يكون له خيط قديمًا، وهو ليس مثل السروال في عصرنا، فكان السروال له خيط ويربطه مَن يلبسه، ثم إذا أراد خلعه حلَّه، فيضعون سروالًا عند القبر، فيجدون السروال مشدودًا مربوطًا، فيتعجَّبون مَن فعل هذا، يظنون أنَّ هذا من كرامات الميت.
أو يضعون عند قبر هذا الميت الذي يغلون فيه رجلًا مصروعًا، فإذا به يفيق ويسلم من هذا الصَّرع؛ فكل هذا من تصرُّفات الشَّياطين لتضل بني آدم.
قال الشيخ: (وَإِذْ قَرَأْت آيَةَ الْكُرْسِيِّ هُنَاكَ بِصِدْقِ بَطَلَ هَذَا، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ)، وهذا من فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].
قال: (وَلِهَذَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" فَسَقَطَ)؛ لأنَّ الشيطان يكره الأذان ويكره ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فتركه فسقط من هذا العلو، وبعضهم يرى أنَّ القبر انشقَّ وخرج منه إنسان يظنُّه الميت وهو شيطان.
قال الشيخ: (وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ)، يعني: هذا لا يُمكن أن نذكر كل أمثلته، ولكن اعرف أنت القاعدة، أنَّ الأحوال التي تقع عند القبور لا يُلتفت إليها ولا يعتمد عليها، فكلها أحوال شيطانية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا كَانَ الِانْقِطَاعُ إلَى الْمَغَارَاتِ وَالْبَوَادِي مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ؛ صَارَتْ الشَّيَاطِينُ كَثِيرًا مَا تَأْوِي إلَى الْمَغَارَاتِ وَالْجِبَالِ، مِثْلِ مَغَارَةِ الدَّمِ الَّتِي بِجَبَلِ قاسيون، وَجَبَلِ لُبْنَانَ الَّذِي بِسَاحِلِ الشَّامِ، وَجَبَلِ الْفَتْحِ بِأَسْوَانَ بِمِصْرِ، وَجِبَالٍ بِالرُّومِ وَخُرَاسَانَ، وَجِبَالٍ بِالْجَزِيرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَبَلِ اللِّكَام، وَجَبَلِ الأحيش، وَجَبَلِ سولان قُرْبَ أردبيل، وَجَبَلِ شُهْنَك عِنْدَ تَبْرِيزَ، وَجَبَلِ ماشكو عِنْدَ أَقَشْوَان، وَجَبَلِ نَهَاوَنْدَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِبَالِ الَّتِي يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ بِهَا رِجَالًا مِنْ الصَّالِحِينَ مِنْ الْإِنْسِ، وَيُسَمُّونَهُمْ رِجَالَ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا هُنَاكَ رِجَالٌ مِنْ الْجِنِّ فَالْجِنُّ رِجَالٌ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَ رِجَالٌ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظْهَرُ بِصُورَةِ رَجُلٍ شعراني، جِلْدُهُ يُشْبِهُ جِلْدَ الْمَاعِزِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ أَنَّهُ إنْسِيٌّ؛ وَإِنَّمَا هُوَ جِنِّيٌّ، وَيُقَالُ بِكُلِّ جَبَلٍ مِنْ هَذِهِ الْجِبَالِ الْأَرْبَعُونَ الْأَبْدَالُ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُظَنُّ أَنَّهُمْ الْأَبْدَالُ هُمْ جِنٌّ بِهَذِهِ الْجِبَالِ، كَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِطُرُقِ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَهَذَا بَابٌ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِبَسْطِهِ، وَذِكْرِ مَا نَعْرِفُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا قَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ الَّذِي كُتِبَ لِمَنْ سَأَلَ أَنْ نَذْكُرَ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُعْرَفُ بِهِ جَمَلُ ذَلِكَ)
}.
هذا الكلام فيه تنبيه عظيم، وهو أنَّ الاعتزال عن المسلمين، واللجوء إلى المغارات والكهوف والبوادي والصَّحاري والبُعد عن جماعة المسلمين وإمامهم هذا من علامات أولياء الشيطان، وأنَّ هذا من أسباب الفتنة ومن أسباب الضَّلال، ودين الصُّوفيَّة الضُّلَّال قائمٌ على مثل هذا، وهو أن يعتزلوا الناس ويبتعدوا عن العلم، ويبتعدوا عن مجالس العلم ومجالس القرآن ومجالس السُّنَّة، فيجلس الواحد منهم في مغارةٍ أو يجلس في كهفٍ أو يجلس في خلوةٍ يُغلق على نفسه، ولا يشهد جمعة ولا جماعة، وبعضهم يجلس أربعين يومًا، وبعضهم يجلس أسبوعًا يخلو بنفسه ويترك عياله وماله وكل شيء، ويقول: إنه ينقطع إلى الله؛ وكل هذا من تلاعب الشياطين بهم حتى يخلو بهم شيخهم الشيطان، فالشيطان يخلو بهؤلاء، ويُلقي في قلوبهم الوساوس والأفكار السَّيئة والضَّلالات، والتَّصوُّرات الخاطئة، ثم يرجعون إلى الناس بتلك الضَّلالات وبتلك الأباطيل، فهذا من علامات أولياء الشيطان.
والشيخ ذكر أمثلة، ولم يذكر حصرًا، فذكر مغارة الدَّم، وهو جبل قاسيون في دمشق، وجبل لبنان في الشام، وجبل الفتح بأسوان في مصر، ما تنتهي هذه الأمثلة، كل واحد يزعم أن هذا المكان فيه كذا، هذا مرَ به ولي، هذا صلَّى فيه الخضر؛ هذا كله افتراءات، ثم يخلو ولا يصلي جمعة ولا جماعة، وبعضهم ربَّما يأخذ تلامذته ويخلو بهم ويختفون عن الناس، ويسمون هذا خروجًا؛ فهذا ليس مشروعًا وليس من الإسلام في شيء.
يقول عمر بن عبد العزيز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "إذا رأيتَ قومًا يتناجون دونَ العامَّة بشيءٍ فاعلم أنَّهم على تأسيس ضلالة"[23]، فدين الإسلام دينٌ واضح، ما فيه أسرار في الدين نخفيها عن الناس، فالدين واضح، قال الله..، قال الرسول...؛ يُعلَن في المساجد ويُعلَن على المنابر، ويُبيَّن في مجالس العلم، ما فيه سريَّة في دين الإسلام، وما فيه عبادات تخصُّ أناسًا سرِّيين لا أحد يعلم بهم، هذا كله ليس من دين الإسلام في شيءٍ.
يقول الشيخ: (الَّتِي يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ بِهَا رِجَالًا مِنْ الصَّالِحِينَ مِنْ الْإِنْسِ، وَيُسَمُّونَهُمْ رِجَالَ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا هُنَاكَ رِجَالٌ مِنْ الْجِنِّ فَالْجِنُّ رِجَالٌ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَ رِجَالٌ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾)، قوله: ﴿فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾ فيها قولان:
الأول: زادوهم طغيانًا وكبرًا.
الثاني: زادوهم تعبًا وعبئًا.
وكلا المعنيين صحيح، فالجنُّ زادوا الإنس رعبًا وخوفًا وذُعرًا، والإنس بتصرُّفاتهم الشِّركيَّة زادوا الجن طغيانًا وفخرًا، وسيأتي الشَّيخُ بالأثر في هذا.
يقول الشيخ: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظْهَرُ بِصُورَةِ رَجُلٍ شعراني، جِلْدُهُ يُشْبِهُ جِلْدَ الْمَاعِزِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ أَنَّهُ إنْسِيٌّ؛ وَإِنَّمَا هُوَ جِنِّيٌّ)، يعني من تلبيسات هؤلاء أنَّ الشَّيطان يأتي له بجسم كله شعر كأنَّه ماعز، يسمونه "الرَّجل الشَّعراني"، فيظنه أنَّه إنسي، وهو ليس بإنسي لكثرة شعره، وليس من الجن لأنَّه يُشاهده، فقال الشيخ إنَّ هذا جني.
قال الشيخ: (وَيُقَالُ بِكُلِّ جَبَلٍ مِنْ هَذِهِ الْجِبَالِ الْأَرْبَعُونَ الْأَبْدَالُ).
مرَّ معنا في أوَّل الدروس أنَّ الأبدال ورد فيهم حديث وإن كان فيه ضعف، ولكن معناه أنَّهم هم العلماء والصَّالحين وأهل الخير وأهل العلم، وليس معناه هؤلاء المختفيين الغائبين عن الناس -على تقرير صحَّة الحديث.
يقول الشيخ: (وَهَذَا بَابٌ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِبَسْطِهِ، وَذِكْرِ مَا نَعْرِفُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا قَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ، يعني: لو أردت أن أضرب الأمثلة التي مرَّت عليَّ وأجمعها كلها فلن يتحمَّل الكتاب، لأنَّ هذا الكتاب مختصر).
يقول: (الَّذِي كُتِبَ لِمَنْ سَأَلَ أَنْ نَذْكُرَ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُعْرَفُ بِهِ جَمَلُ ذَلِكَ)، بعض أهل الخير سألوه عن الفُرقان لكثرة التَّلبيسات في زمنه، فذكر في بعض الكتب أنَّ هذا الكتاب جواب لمن سأل من ذوي السُّلطة، كأنَّ بعض السلاطين الصالحين وثقوا بشيخ الإسلام ابن تيمية فطلبوا منه أن يكتب هذا الكتاب، فالحمد لله أن كتب الشيخ هذا الكتاب.
وكما ترون ما فيه من الفوائد الجمَّة الغزيرة في كل صفحةٍ وفي كل ناحيةٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالنَّاسُ فِي خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
- قِسْمٌ يُكَذِّبُ بِوُجُودِ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَرُبَّمَا صَدَّقَ بِهِ مُجْمَلًا وَكَذَّبَ مَا يُذْكَرُ لَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، لِكَوْنِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ.
- وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ.
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خَطَأٌ، وَلِهَذَا تَجِدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ نُصَرَاءَ يُعِينُونَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَأُولَئِكَ يُكَذِّبُونَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ مَنْ لَهُ خَرْقُ عَادَةٍ.
وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّ مَعَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾)
}.
لَمَّا أكثَرَ الشيخ الأمثلة في أحوال الشياطين والأحوال الشيطانية وأحوال الخوارق الشيطانيَّة كأنَّه أرادَ بيان السبب، فيقول: إنَّ خوارق للعادة يدخل فيها معجزات الأنبياء، ويدخل فيها كرامات الأولياء، ويدخل فيها الأحوال الشيطانيَّة، وانقسَم الناس في هذا إلى قسمين:
الأول: أناسٌ كذَّبوا بذلك، وهم المعتزلة -كما مرَّ- وكذلك المدرسة العقلانية إلَّا معجزات الأنبياء؛ بل إنَّ بعضهم كذَّب بمعجزات الأنبياء -نسأل الله العافية والسلامة.
فهؤلاء إذا ذُكر لهم من القصص سواء من أحوال أولياء الرحمن أو أولياء الشيطان كذَّبَ بها، وهذا فيه مكابرة للواقع، أضف إلى أنه مخالفة للشرع.
الثاني: الخرافيُّون، وهم مَن يقولون إنَّ كل مَن خُلِقَت له العادة فهو ولي، فيجعلون السَّحرة والكهَّان وعباد الشياطين وكفرة النَّصارى أولياء، لأنَّهم حصل لهم خرق للعادة.
وينبني على هذا أنَّ بعض الناس لَمَّا صار قتال بين المسلمين وبين الكفار فرأوا أنَّ الكفار والمشركين معهم نُصراء، كأنَّهم من رجال الغيب أو من الجن؛ فظنُّوا أنَّ هذا من الولاية ومن خرق العادة ومن الكرامة لهؤلاء، كيف تكون الكرامة من الكفار!!
فهذا ليس كرامة ولا نشك في ذلك، هذا إن قُدِّرَ فهو خرقُ عادة، ومَن نصرهم يكون من جنسهم من الكفار لا من أولياء الله، فلا ينصر المشركين إلَّا مشرك، فلا يُمكن أن تنصرهم الملائكة، ولا يُمكن أن يُؤيِّدهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهم على الشرك، فإذا قُدِّرَ وجود خرق عادة عند المشركين فإنَّ هذا يكون عادةً من أناسٍ أو من الجن أو الشياطين الذين يؤيِّدون هؤلاء المشركين، ولا يكون هذا من علامات أولياء الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَؤُلَاءِ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ فَيَكُونُ لِأَحَدِهِمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ؛ لَكِنَّ خَوَارِقَ هَؤُلَاءِ يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِذَا حَصَلَ مَنْ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَبْطَلَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِهِمْ مِنْ الْكَذِبِ جَهْلًا أَوْ عَمْدًا وَمِنْ الْإِثْمِ مَا يُنَاسِبُ حَالَ الشَّيَاطِينِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهِمْ؛ لِيُفَرِّقَ اللَّهُ بِذَلِكَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَبَيْنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ وَالْأَفَّاكُ الْكَذَّابُ. وَالْأَثِيمُ الْفَاجِرُ)
}.
هذا من الفرقان العظيم، وهو أنَّنا إذا رأينا مع الكفار والمشركين أشياء تخرق العادة -كما مرَّ معنا قبل قليل- وفيهم أناس من كفرة النَّصارى وكفرة اليهود وكفرة المشركين وكفرة الهنود الذين يعبدون غير الله، وإذا رأينا فيهم عبًّادًا وزُهَّادًا وحصل لهم ما حصل من تلك الخوارق؛ فهؤلاء خوارقهم يُعارض بعضها بعضًا، وإذا وُجد من أولياء الله المؤمنين الصَّادقين مَن يواجههم فإنَّه تبطل أحوالهم، وهذا حصل لَمَّا قابل الشيخ الطَّائفة الرِّفاعيَّة الأحمديَّة وناظرهم، والمناظرة مطبوعة وموجودة في مجموع الفتاوى اسمها: "المناظرة الرفاعية"؛ وكانوا يتركون الصلوات وعندهم خوارق، فيطير الواحد منهم ويدخل في الجمر ويبتلع السَّكاكين ويأكلون العقارب والحيَّات، وعندهم أشياء عجيبة، فجاء شيخ الإسلام وتحدَّاهم، وقال لهم: أنا اتحدَّاكم بكتاب الله وسنَّة رسوله، وأُلزمكم بالجُمعة والجماعات، وكان معه أحد الأمراء فأخذ سيفه وقال: هذا سيف الشَّرع، من خرج عن سيف الشرع ضربه الأمير بسيف الشرع؛ فأعجب الأمير بذلك وهزَّ السيف وانبسط.
وناظرهم الشيخ وبيَّن لهم، فانكشفت مخاريقهم وبطلت أحوالهم، ولله الحمد والمنَّة.
يقول الشيخ قاعدة مهمَّة جدًّا وهي: أنَّ الأحوال الشيطانية والخوارق الشيطانية لابدَّ أن يصاحبها أحد أمرين أو الأمران جميعًا، هما:
الأول: الكذب.
الثاني: الإثم.
لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يجعل هذا فرقانًا، قال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ [الشعراء: 221]. الأفك: هو الكذب. والإثم: هو الفجور والظُّلم والمعاصي.
ولهذا لا يُمكن أن ينفك أحد هذين الوصفين -أو كلاهما- عن الأحوال الشَّيطانيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُقَوِّي الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ سَمَاعُ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي وَهُوَ سَمَاعُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَغَيْرُهُمَا مِنْ السَّلَفِ: التَّصْدِيَةُ هي: التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ. وَالْمُكَاءُ: مِثْلُ الصَّفِيرِ؛ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَّخِذُونَ هَذَا عِبَادَةً.
وَأَمَّا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ فَعِبَادَتُهُمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالِاجْتِمَاعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ عَلَى اسْتِمَاعِ غِنَاءٍ قَطُّ)
}.
هذا هو الدين الإسلامي، وهذا هو الحق، فالأحوال الشيطانيَّة تقوَى وتكثُر وتتنزَّل الشَّياطين إذا ضُربت المعازف والموسيقى والأغاني والطُّبول والدُّفوف، وهذا عمل المشركين.
أمَّا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لم يكونوا يفعلون شيئًا من هذا، وكذبَ مَن نسبَ إليهم هذا -كما سيأتي- فكانت عبادتهم ومجالسهم معمورة بالقرآن وبذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبتعليم العلم، وبالتوجيهات الَّبويَّة للمسلمين، لم يكونوا يجتمعون على استماع غناءٍ قط، ولا على ضربِ كفٍّ ولا دف، ولا تواجد، ولا غير ذلك، وكل مَن زعم ونسب هذا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقد كذبَ.
ونستفيد من هذا تحريم التَّعبُّد بالتَّصفيق للرجال، وتحريم التَّعبُّد بالصَّفير للرجال، وبعض الناس يتكلم ما إذا كان هذا عادة وليس عبادة؛ فنقول: إن كان هذا محرَّمٌ وهو عبادة، فيجب أن تكون عباداتنا بعيدة عن التَّشبُّه بالعادات المحرَّمَة، فلا يُصفِّر الإنسان ولا يُصفِّق؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال عن المشركين: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾، فلا يتشبَّه بهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَمْ يَجْتَمِعْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ عَلَى اسْتِمَاعِ غِنَاءٍ قَطُّ لَا بِكَفِّ وَلَا بِدُفِّ وَلَا تَوَاجُدٍ، وَلَا سَقَطَتْ بُرْدَتُهُ؛ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ.
وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: "ذَكِّرْنَا رَبَّنَا" فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ.
وَمَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَقَالَ لَهُ: «مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك» فَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا. أَيْ: لَحَسَّنْته لَك تَحْسِينًا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ ». وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلَّهُ أَشْهَدُ أُذُنًا أَيْ اسْتِمَاعًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ ». وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِابْنِ مَسْعُودٍ: «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ». فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ ؟ فَقَالَ: «إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى انْتَهَيْت إلَى هَذِهِ الْآيَةِ ﴿فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدً﴾ قَالَ: «حَسْبُك»؛ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ مِنْ الْبُكَاءِ.
وَمِثْلُ هَذَا السَّمَاعِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّ﴾. وَقَالَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾. وَمَدَحَ -سُبْحَانَهُ- أَهْلَ هَذَا السَّمَاعِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ وَدَمْعِ الْعَيْنِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾)
}.
هذا الموضع ذكر فيه الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- السَّماع المشروع.
والسَّماع: هو ما يسمعه الإنسان قصدًا، ويتقرَّبُ به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ.
والسَّماع غير المشروع سيأتي الحديث عنه، وهو ما فعله المتصوفة والمبتدعة وغيرهم.
أمَّا السَّماع المشروع الذي يُشرَع لنا أن نستمع له وننتفع به ونتلذَّذ بالاستماع إليه هو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- القرآن، وقد ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أدلةً من كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- تُبيِّن ماذا كان يستمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويفرح به ويتأثَّر به وتذرف عينه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بسببه، وكذلك الصَّحابة الكرام، وبماذا مدحهم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فهذا هو الذي يقوَى به حال أولياء الرحمن، بخلاف السَّماع الشَّيطاني، وسيأتي الآن الكلام عنه.
إذن؛ الأحوال الشَّيطانيَّة تضعف عندَ القرآن، وتضعف عندَ الأذان وتزول، والأحوال الرَّحمانية والبركات والخيرات تقوى عند القرآن، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ»[24].
أمام هذه النصوص الكثيرة، وغيرها كثير لم يذكره الشيخ هنا يأتي أهل الباطل من المتصوفة الضُّلَّال وغيرهم يقولون هناك سماع الأغاني الدينيَّة نقرَّبُ به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ!
هذا سماعٌ باطل ومُنكر، وقد بسطَ الشَّيخ هذه المسألة وتوسَّعَ فيها في كتابه "الاستقامة" فعلَّقَ على رسالة القُشَيْري -وهو من المتصوفة المتقدِّمين- وردَّ عليه في مسألة السَّماع، فمن أراد بسط الكلام فيها ونقد جميع شبهات الصُّوفيَّة التي تُزيِّن السَّماع الصوفي وتحبِّذه فليرجع إلى هذا الكتاب -كتاب الاستقامة- وهو مطبوعٌ في مجلَّدين.
الآن الشيخ سيتحدَّث عن السَّماع البدعي المُحدَث، وهو سماع المعازف والملاهي والطُّبول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا السَّمَاعُ الْمُحْدَثُ سَمَاعُ الْكَفِّ وَالدُّفِّ وَالْقَصَبِ، فَلَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ يَجْعَلُونَ هَذَا طَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا يَعُدُّونَهُ مِنْ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ؛ بَلْ يَعُدُّونَهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: "خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ")}.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: (وَهَذَا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَةِ الشَّافِعِيِّ وَعِلْمِهِ بِالدِّينِ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا تَعَوَّدَ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ وَالْأَبْيَاتِ وَالْتَذَّ بِهَا حَصَلَ لَهُ نُفُورٌ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ فَيَسْتَغْنِي بِسَمَاعِ الشَّيْطَانِ عَنْ سَمَاعِ الرَّحْمَنِ) (مجموع الفتاوى: 10/ 532)، فهذا يدل على أنه من البدع المذمومة التي حذر منها أئمة السنة وأئمة العلم، وإذا سمع هذه الأشياء على وجه اللهو؛ فهذا من المعاصي ومن الذنوب.
إذن؛ هناك أمران:
الأول: أن يُفعَل هذا تعبُّدًا وتقرُّبًا فيكون هذا من البدع المذمومة، وهو أخطر وأشد إثمًا.
الثاني: أن يسمعها لكونه يُريد أن يتلهَّى ويطَرب بهذا الصوت، فهذا من المحرمات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَارِفُونَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبًا وَافِرًا، وَلِهَذَا تَابَ مِنْهُ خِيَارُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْهُمْ.
وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْمَعْرِفَةِ وَعَنْ كَمَالِ وِلَايَةِ اللَّهِ؛ كَانَ نَصِيبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ أَكْثَرَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ يُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ أَعْظَمَ مِنْ تَأْثِيرِ الْخَمْرِ، وَلِهَذَا إذَا قَوِيَتْ سَكْرَةُ أَهْلِهِ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ، وَتَكَلَّمَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِهِمْ، وَحَمَلَتْ بَعْضَهُمْ فِي الْهَوَاءِ، وَقَدْ تَحْصُلُ عَدَاوَةٌ بَيْنَهُمْ كَمَا تَحْصُلُ بَيْنَ شُرَّابِ الْخَمْرِ، فَتَكُونُ شَيَاطِينُ أَحَدِهِمْ أَقْوَى مِنْ شَيَاطِينِ الْآخَرِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَيَظُنُّ الْجُهَّالُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَإِنَّمَا هَذَا مُبْعِدٌ لِصَاحِبِهِ عَنْ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ الْمَعْصُومِ مِمَّا يُكْرِمُ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ!
وَإِنَّمَا غَايَةُ الْكَرَامَةِ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ، فَلَمْ يُكْرِمْ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيَزِيدُهُ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَتَهُ)
}.
يقول الشيخ: إنَّ بعض الصالحين حضروا هذه المجالس بالغلط، أو أنهم فُتنوا بها، وهذه المجالس فيها ما سمَّاه الشافعي بالتَّغبير، وهو أنهم يأتون بحديدةٍ ويأتون بعصا يضربون به الحديد، فيصدر لها صوت، وهذا الصوت مع إلقاء الشعر يتأثَّر به السَّامع، وهم إمَّا يذكرونه بالموت، أو يذكرونه بحقارة الدنيا، وهذا كان للقدماء منهم، ومع ذلك سمَّاهم الشافعي "الزَّنادقة".
أمَّا مَن تأخَّرَ بعد الشافعي بمدَّة صاروا يذكرون شرب الخمر، ويذكرون وصف النساء، ويذكرون أشياء مُستقبحة من الضَّم والتَّقبيل، وغير ذلك من الأمور التي لا تقع إلَّا مع الفواحش والزنا، فيجعلونها ممَّا يُتقرَّب به إلى الله، وهو ممَّا يُبعدهم عن الله.
فبعض الصالحين من المتقدمين حضروا تلك المجالس ثم تابوا، عرفوا أنَّها تصدهم عن القرآن، وتصدهم عن الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وذكر الشيخ مسألة مُهمَّة، وهي أنَّ الصوت في هذا السماع المبتدع يؤثر على العقل، حتى يكون تأثيره كتأثير الخمر، فإذا شرب الخمر زال عقله، وكذلك الغناء يزول عقل صاحبها، ولهذا قال العلماء: "إن الغناء رقية الزنا"، فإذا أراد هؤلاء أن يزنوا بدؤوا بالغناء، حتَّى الآن الكفار والمشركون في بلادهم قبل أن يفعلوا فواحش الزنا واللواط يبدؤون بالموسيقى والمعازف وما يسمونه بـ "الديسكو" والرَّقص، حتَّى يبدأ العقل يخف وينقص التَّركيز، فهذا له خَمةٌ تُخامر العقل حتَّى تُرخص تلك المرأة نفسها، وحتَّى يرخص عنده الفاحشة بتلك المرأة -نسأل الله العافية والسلامة.
قال الشيخ: إنَّ بعضهم تتنزل عليهم الشياطين في هذه الأحوال، ويتكلَّم على لسانه، وبعضهم يذهب ويقتل مَن بجانبه غيرةً، ويحدث بينهم شيء عظيم من العداوات، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة:  90، 91]، فاللهم اهدِ ضال المسلمين يا رب العالمين.
وهؤلاء يقتل بعضهم بعضًا، بعض الجهلة يقول هذا من كراماته! وهذه ليست كرامة؛ بل من أحوال الشياطين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَذَلِكَ أَنَّ الْخَوَارِقَ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ كَالْمُكَاشَفَاتِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ كَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْغِنَى عَنْ جِنْسِ مَا يُعْطَاهُ النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْعِلْمِ وَالسُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْغِنَى.
وَجَمِيعُ مَا يُؤْتِيه اللَّهُ لِعَبْدِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إنْ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُقَرِّبُهُ إلَيْهِ وَيَرْفَعُ دَرَجَتَهُ وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ ازْدَادَ بِذَلِكَ رِفْعَةً وَقُرْبًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ كَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ؛ اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَوْبَةِ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ؛ وَإِلَّا كَانَ كَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُذْنِبِينَ.
وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُعَاقَبُ أَصْحَابُ الْخَوَارِقِ تَارَةً بِسَلْبِهَا كَمَا يُعْزَلُ الْمَلِكُ عَنْ مُلْكِهِ وَيُسْلَبُ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، وَتَارَةً بِسَلْبِ التَّطَوُّعَاتِ فَيُنْقَلُ مِنْ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ إلَى الْعَامَّةِ، وَتَارَةً يَنْزِلُ إلَى دَرَجَةِ الْفُسَّاقِ، وَتَارَةً يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ.
وَهَذَا يَكُونُ فِيمَنْ لَهُ خَوَارِقُ شَيْطَانِيَّةٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ)
}.
لَمَّا ذكر الشيخ أنَّ هؤلاء قد يقتل بعضهم بعضًا عند السَّماع؛ فهذا القتل يكون قتلًا خفيًّا؛ فيتعجَّب الناس، وإنَّما هذا من تأثيره الخفي الذي تعاونه الشياطين عليه.
وكما تقدَّم في الدرس الماضي أنَّ الخوارق تكون لثلاثة أشياء:
-       إمَّا في العلم والمكاشفة.
-       وإما في الغنى.
-       وإمَّا في القدرة والتَّأثير.
وهذا الغناء الشيطاني من القدرة والتَّأثير، حتى تكلم العلماء عن مسألة من يقتل غيره بباطنه، والله أعلم أن هذا يشبه أن يُقتَل بالسِّحر، فهل يُقاد به أو لا؛ على خلاف بينَ أهل العلم.
يقول الشيخ: إذا أعطى الله هذه الأشياء، وصار عنده خوارق للعادة، سواء في العلم والمكاشفة أو في الغنى أو في القدرة والتأثير؛ فإنَّ هذا ليس بموجب أن يعصي الله فيها؛ بل يستعملها في طاعة الله ورسوله، وإذا استعملها في المعاصي كانت عليه وبالًا وإثمًا، وقد يُسلَب الملك من مُلكه، وقد يزول عن العالم علمه، وقد ينتقل من الولاية الخاصة إلى الولاية العامَّة، فكان أولًا من خواص العباد الصالحين، فصار من عاوم الناس المسلمين، ليس له مزيَّة عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- بسبب معصيته، وقد يرتد عن الإسلام -نسأل الله العافية والسلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ شَيْطَانِيَّةٌ بَلْ يَظُنُّهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَيَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إذَا أَعْطَى عَبْدًا خَرْقَ عَادَةٍ لَمْ يُحَاسِبْهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَى عَبْدًا مُلْكًا وَمَالًا وَتَصَرُّفًا لَمْ يُحَاسِبْهُ عَلَيْهِ)}.
وهذا باطل، لا يجوز للإنسان أن يظن أنَّه إذا أعطاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- خرق عادة أنَّه غير محاسب، وأنَّه ولي لن يُسأل ولن يُحاسب؛ حتَّى ولو كان عنده خرق عادة فإنَّه لا يزال عبدًا لله ومُحاسَبًا، فعليه أن يستعملها في طاعة الله ورسوله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِالْخَوَارِقِ عَلَى أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَا مَأْمُورًا بِهَا وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهَا؛ فَهَذَا يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْأَوْلِيَاءِ، وَهُمْ الْأَبْرَارُ الْمُقْتَصِدُونَ وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَأَعْلَى مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ أَعْلَى مِنْ النَّبِيِّ الْمَلِكِ.
وَلَمَّا كَانَتْ الْخَوَارِقُ كَثِيرًا مَا تَنْقُصُ بِهَا دَرَجَةُ الرَّجُلِ؛ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّالِحِينَ يَتُوبُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِنْ الذُّنُوبِ -كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ- وَتَعْرِضُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَسْأَلُ اللَّهَ زَوَالَهَا، وَكُلُّهُمْ يَأْمُرُ الْمُرِيدَ السَّالِكَ أَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَهَا، وَلَا يَجْعَلَهَا هِمَّتَهُ وَلَا يَتَبَجَّحَ بِهَا، مَعَ ظَنِّهِمْ أَنَّهَا كَرَامَاتٌ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ الشَّيَاطِينِ تُغْوِيهِمْ بِهَ)
}.
يعني بعض الناس من الصالحين وفَّقهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولم يغتروا بمثل هذه الأشياء، بل إذا حصلَ لهم مثل هذه الخوارق وهذه العجائب وهي كرامات يخافون أن تكون فتنة لهم، ويخافون من الغرور، ويخافون أنَّهم يظنون في أنفسهم أنَّهم وصلوا؛ فيستغفرون الله، يقولون: نخشَى أن تكون هذه النِّعم وهذه الأشياء التي حصلت ابتلاءً واستدراجًا، وهذا يدل على صلاحهم وكمال خوفهم من الله، ويأمرون تلامذتهم ألَّا يلتفوا إليها وألَّا يتبجَّحوا بها، ولا تقف همَّتهم عندها، وهذا من الخير الذي فيهم، وهذا شيء يُشكرون عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنِّي أَعْرِفُ مَنْ تُخَاطِبُهُ النَّبَاتَاتُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا يُخَاطِبُهُ الشَّيْطَانُ الَّذِي دَخَلَ فِيهَا، وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ وَتَقُولُ: هَنِيئًا لَك يَا وَلِيَّ اللَّهِ؛ فَيَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فَيَذْهَبُ ذَلِكَ.
وَأَعْرِفُ مَنْ يَقْصِدُ صَيْدَ الطَّيْرِ فَتُخَاطِبُهُ الْعَصَافِيرُ وَغَيْرُهَا، وَتَقُولُ: خُذْنِي حَتَّى يَأْكُلَنِي الْفُقَرَاءُ؛ وَيَكُونُ الشَّيْطَانُ قَدْ دَخَلَ فِيهَا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِنْسِ وَيُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَهُوَ مُغْلَقٌ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجَهُ وَهُوَ لَمْ يَفْتَحْ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ؛ وَتَكُونُ الْجِنُّ قَدْ أَدْخَلَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ بِسُرْعَةِ، أَوْ تَمُرُّ بِهِ أَنْوَارٌ أَوْ تَحْضُرُ عِنْدَهُ مَنْ يَطْلُبُهُ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشَّيَاطِينِ يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ صَاحِبِهِ، فَإِذَا قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ.
وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُ مُخَاطِبٌ وَيَقُولُ لَهُ: أَنَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَعِدُهُ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ -النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَظْهَرُ لَهُ الْخَوَارِقُ مِثْلُ أَنْ يَخْطُرَ بِقَلْبِهِ تَصَرُّفٌ فِي الطَّيْرِ وَالْجَرَادِ فِي الْهَوَاءِ؛ فَإِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ ذَهَابُ الطَّيْرِ أَوْ الْجَرَادِ يَمِينًا أَوْ شَمَالًا ذَهَبَ حَيْثُ أَرَادَ، وَإِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ قِيَامُ بَعْضِ الْمَوَاشِي أَوْ نَوْمُهُ أَوْ ذَهَابُهُ حَصَلَ لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ، وَتَحْمِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَتَأْتِي بِهِ، وَتَأْتِيه بِأَشْخَاصِ فِي صُورَةٍ جَمِيلَةٍ، وَتَقُولُ لَهُ: هَذِهِ الْمَلَائِكَةُ الكروبيون أَرَادُوا زِيَارَتَك؛ فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: كَيْفَ تَصَوَّرُوا بِصُورَةِ المردان! فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَجِدُهُمْ بِلِحَى، وَيَقُولُ لَهُ: عَلَامَةُ إنَّك أَنْتَ الْمَهْدِيُّ إنَّك تَنْبُتُ فِي جَسَدِك شَامَةٌ؛ فَتَنْبُتُ وَيَرَاهَا. وَغَيْرُ ذَلِكَ وَكُلُّهُ مِنْ مَكْرِ الشَّيْطَانِ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَوْ ذَكَرْت مَا أَعْرِفُهُ مِنْهُ لَاحْتَاجَ إلَى مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي}. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿كُلًّ﴾ وَلَفْظُ "كَلَّا" فِيهَا زَجْرٌ وَتَنْبِيهٌ: زَجْرٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ. وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُخْبَرُ بِهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ بَعْدَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ حَصَلَ لَهُ نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ تُعَدُّ كَرَامَةً يَكُونُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مُكْرِمًا لَهُ بِهَا، وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ يَكُونُ مُهِينًا لَهُ بِذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَقَدْ يُعْطِي النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ لِمَنْ لَا يُحِبُّهُ، وَلَا هُوَ كَرِيمٌ عِنْدَهُ لِيَسْتَدْرِجَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ يَحْمِي مِنْهَا مَنْ يُحِبُّهُ وَيُوَالِيه، لِئَلَّا تَنْقُصَ بِذَلِكَ مَرْتَبَتُهُ عِنْدَهُ، أَوْ يَقَعَ بِسَبَبِهَا فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ)}.
هذه أمثلة ضربها الشيخ وذكر أنَّه ينبغي للإنسان ألَّا يغتر بها، وألَّا يعبأ بهذه الأشياء؛ لأنَّها تكون من الشياطين لفتنة الناس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَيْضًا كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى، فَمَا كَانَ سَبَبُهُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَمَنْ كَانَتْ خَوَارِقُهُ لَا تَحْصُلُ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالدُّعَاءِ؛ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ الشِّرْكِ: مِثْلُ دُعَاءِ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ أَوْ بِالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، وَأَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ: كَالْحَيَّاتِ وَالزَّنَابِيرِ وَالْخَنَافِسِ وَالدَّمِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَمِثْلِ الْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ لَا سِيَّمَا مَعَ النِّسْوَةِ الْأَجَانِبِ والمردان، وَحَالَةُ خَوَارِقِهِ تَنْقُصُ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَتَقْوَى عِنْدَ سَمَاعِ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ فَيَرْقُصُ لَيْلًا طَوِيلًا، فَإِذَا جَاءَتْ الصَّلَاةُ صَلَّى قَاعِدًا أَوْ يَنْقُرُ الصَّلَاةَ نَقْرَ الدِّيكِ وَهُوَ يَبْغُضُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيَتَكَلَّفُهُ، لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَحَبَّةٌ وَلَا ذَوْقٌ وَلَا لَذَّةٌ عِنْدَ وَجْدِهِ، وَيُحِبُّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَيَجِدُ عِنْدَهُ مَوَاجِيدَ؛ فَهَذِهِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَهُوَ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾.
فَالْقُرْآنُ هُوَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾، يَعْنِي: تَرَكْت الْعَمَلَ بِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ"؛ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ)
}.
وهذا من أعظم الفرقان، وهو أنه إذا كان سبب هذه الأحوال من طاعة الله ورسوله، ومن قراءة القرآن والصَّلاة والذكر والدعاء؛ فهذه أحوال رحمانيَّة، وإذا كان سببها الكفر والفسوق والعصيان فهي أحوال شيطانيَّة.
وذكر الشَّيخ المحرمات والشِّرك ودعاء غير الله، وأيضا الغناء والرَّقص؛ ويقول: إنَّ بعضهم يرقص طول الليل فإذا جاء إلى الصلاة صلَّى قاعدًا، يصلي الفجر قاعدًا؛ فهذه أحوال شيطانيَّة وليست أحوال رحمانيَّة.
إذا جاء الغناء أخذَ يسمعه ويبحث عنها واحدة بعد الثانية، ثم إذا جاء القرآن أغلقه وتضايق منه؛ فهذه أحوال شيطانية، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكً﴾.
فنسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يجعلنا وإيَّاكم من أهل القرآن، ومن أهل السُّنَّة والجماعة، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّدٍ.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك