الدرس الثامن
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ:
(وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني الَّذِي أُلْقِيَ فِي النَّارِ،
فَإِنَّهُ مَشَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْعَسْكَرِ عَلَى دِجْلَةَ وَهِيَ
تُرْمَى بِالْخَشَبِ مِنْ مَدِّهَا، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ :
"تَفْقِدُونَ مِنْ مَتَاعِكُمْ شَيْئًا حَتَّى أَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
فِيهِ؟" فَقَالَ بَعْضُهُمْ : فَقَدْت مِخْلَاةً فَقَالَ: اتْبَعْنِي، فَتَبِعَهُ
فَوَجَدَهَا قَدْ تَعَلَّقَتْ بِشَيْءِ فَأَخَذَهَا.
وَطَلَبَهُ الْأَسْوَدُ العنسي لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَقَالَ لَهُ :
أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: مَا أَسْمَعُ!
قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ فَأَمَرَ
بِنَارِ فَأُلْقِيَ فِيهَا فَوَجَدُوهُ قَائِمًا يُصَلِّي فِيهَا، وَقَدْ صَارَتْ
عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا.
وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَجْلَسَهُ عُمَرُ بَيْنَهُ وَبَيْن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا- وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى
أَرَى مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فُعِلَ
بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ")}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه
أجمعين.
أمَّا بعدُ؛ فلازال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه "الْفَرْقانُ
بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ" يذكر الكرامات التي
جرت لبعض الصالحين من هذه الأمَّة، بدأً من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثم التَّابعين لهم بإحسانٍ -رضي الله عنهم ورحمهم.
وذكر قصَّة أبي مسلم الخولاني، وكنَّا في الدرس الماضي قد وقفنا عند قصَّة العلاء
ابن الحضرمي، وهو عامل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على البحرين.
وحتَّى نربط ما مضي بما سيأتي؛ فمن آخر ما مرَّ معنا من سياق الكرامات أنَّ العلاء
ابن الحضرمي كان يقول في دعائه: "يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ
فَيُسْتَجَابُ لَهُ"، وذكر الشيخ: (وَدَعَا اللَّهَ بِأَنْ يُسْقُوا
وَيَتَوَضَّئُوا لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ وَالْإِسْقَاءَ لِمَا بَعْدَهُمْ
فَأُجِيبَ)، إلى آخر ما ذكر الشيخ عن العلاء بن الحضرمي -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى
عَنْهُ.
وقبل أن ننتقل إلى قصَّة أبي مسلم الخولاني يجدر التَّنبيه إلى أنَّ هذا الدُّعاء
الذي دعا به العلاء بن الحضرمي –رَحِمَهُ اللهُ- دعاءٌ طيِّبٌ، وهو ممَّا أباحه
الله وشرعه لعباده، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ
بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف:180]، فدعاء الله
بأسمائه الحسنى مشروعٌ لأهل الإيمان، ولكن ينبغي لنا أن نعلمَ الفرق بين ما قاله
الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشرعه لأمَّته من الأدعية والأذكار،
فإن هذا يؤخَذ لفظًا ويُتعبَّدُ به، ويكون ذكرًا ودعاءً للمسلمين في كل وقتٍ وحينٍ.
أمَّا ما جرى على ألسنة الصَّحابة والتَّابعين من الأدعية فإنَّ هذا يدلُّ على
مشروعيتها في الجملة وجوازها، لكن لا ينبغي أن نقول للنَّاس: ينبغي عليكم حفظ هذا
الدعاء والتعبَّد لله به، إنَّما ما جاء عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وصحَّ وثبت عنه فإنه يكون فيه الأسوة والقدوة، وأمَّا ما جرى على كلام
الصحابة فإنه لا شكَّ أنَّ هذا يدل على مشروعيَّة هذا الدعاء في الجملة، وأن هذا من
الأدعية التي تُشرع، ولكن التعبُّد لله -جلَّ وَعَلَا- بمثل هذا الذكر وبمثل هذا
الدعاء متوقِّفٌ على وروده عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويدلُّ لذلك
حديث البراء ابن عازب -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- لَمَّا عَلَّمَه النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماذا يقول عند النوم، فرُوي عنه: أنَّ النَّبيَّ
-صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- قالَ لَهُ: «إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ
وضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ علَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، وقُلْ: اللَّهُمَّ
أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وأَلْجَأْتُ ظَهْرِي
إلَيْكَ، رَهْبَةً ورَغْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ ولا مَنْجا مِنْكَ إلَّا
إلَيْكَ، آمَنْتُ بكِتابِكَ الذي أنْزَلْتَ، وبِنَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ» قالَ
البراءُ: فَقُلتُ أسْتَذْكِرُهُنَّ: "وبِرَسولِكَ الذي أرْسَلْتَ" فقالَ: «لا،
وبِنَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ»[12].
إذن؛ الأدعية توقيفيَّة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإذا جاءت
أدعية على ألسِنَة الصَّالحين بعدَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا
نقول إنَّها ينبغي للأمَّة أن تحفظها بألفاظها وتتلوها وتقولها، بل ننظر إن كان من
الصحابة وصحَّ وثبتَ فإنَّه يدل على جوازه، والصحابة لا يقع منهم إلَّا ما هو
مشروعٌ في الجملَة، لكن لا يُتعبَّد لله بنفس هذا الدعاء إلا للرسول -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا لأجل إن إذا مرَّ عليك أي دعاء دعا به بعض التَّابعين أو بعض الصَّالحين فلا
يصلح أن يقول للنَّاس: ادعوا بهذا الدعاء أيها النَّاس!
وإنما نقول للنَّاس: ادعوا بما علمنا الله إياه -جلَّ وَعَلَا- في القرآن، وبما ثبت
عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صحيح السُّنَّة.
وتجد بعض الأخطاء من بعض العُبَّاد أنه يقول: إني جربتُ هذا الدُّعاء الذي دعا به
الشَّيخ الفلاني أو العالم الفلاني أو الدَّاعية الفلاني؛ فاستُجيبَ لي!
نقول: إذا وقع هذا اتِّفاقًا لا يعني أنَّ هذا بعينه مشروع، فننتبه أن لا ندل
النَّاس ولا نحضهم ولا ندعوهم إلَّا إلى ما جاء في الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة.
{أحسن الله إليكم.
هنا سؤال من شقين:
الشِّق الأوَّل: هل يجوز للإنسان أن يستحسنَ دعاءً لم يرد في الكتاب والسنة؟
الشق الثاني: أن يُثبت هذا الدعاء، فيلتزم هذا الدعاء في كلِّ حين، في صلاته، وكل
أوقاته. فما حكم ذلك؟}.
أمَّا الشق الأول أن يستحسن هذا الدعاء ويقول للناس: إن هذا حسن ويدعو إليه ويشجِّع
الناس عليه فلا، ولابدَّ أن يكون الدعاء ثابتًا من كتابٍ وسنَّةٍ صحيحةٍ، وأمَّا ما
تعوَّده الناس أو تلقَّاه بعضهم عن آبائه أو عن بعض مدرسيه فننظر إن كان في السنَّة
فحيَّ هلا، وإن لم يكن في السنَّة فنقوِّم أدعية النَّاس ونردها إلى الأذكار
والأوراد إلى صحيح السنة. وهذا من جهة الاستحسان.
وأما من جهة الجواز؛ فننظر في الدعاء نفسه؛ لأنَّ الأصل أن الدعاء واسع، فكل يدعو
الله -عزَّ وَجلَّ- بما أباح الله له، وبما شرعَ الله له.
فمثلًا: لو قال إنسان: "اللهم ارزقني زوجةً صالحةً، وارزقني مركبًا طيبًا"، فهذه
الأدعية مباحة، ثم أخذ يتوسَّل إلى الله بأسمائه وصفاته.
فنقول: هذا من المشروع، ولكن لا يجعل سنةً ثابتة تدعو الناس إليها، إلا ما ثبت في
الكتاب والسُّنَّة.
وثبت في القرآن والسُّنَّة الحض على الدُّعاءِ، فيدعوا الناس بما أباحَ الله لهم
وبما شرعَ الله لهم؛ فلا بأس بذلك، لكن ما نجعل سنَّةً تُتَّبع إلَّا ما ثبتَ.
{قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني)،
وهو عبد الله بن ثوبٍ الخولاني، أسلمَ في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ولكنه لم يرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقدمَ المدينة في
خلافة الصِّديق، فرضي الله عنه.
وحصلت له عدَّة كرامات، منها: أنَّه مشى هو وأصحابه من العسكر على نهر دجلة.
وقول الشيخ: (وَهِيَ تُرْمَى بِالْخَشَبِ مِنْ مَدِّهَ)، يعني: مليئة بالماء،
فالأنهار يأتيها مدٌّ وجزرٌ، فكان الماء عميقًا ومن سقط فيه غرق، فمشى فوق هذا
النهر.
قال: (ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "تَفْقِدُونَ مِنْ مَتَاعِكُمْ
شَيْئًا حَتَّى أَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ؟" فَقَالَ بَعْضُهُمْ :
فَقَدْت مِخْلَاةً فَقَالَ: اتْبَعْنِي، فَتَبِعَهُ فَوَجَدَهَا قَدْ تَعَلَّقَتْ
بِشَيْءِ فَأَخَذَهَ).
ومن كراماته أيضًا: أنَّه لما ذهب إلى الأسود العنسي الذي ادَّعى النُّبوَّة،
فناداه الأسود وطلبه، قال الشيخ: (فَسَأَلَه: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَ: مَا أَسْمَعُ!
قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ فَأَمَرَ
بِنَارِ فَأُلْقِيَ فِيهَا فَوَجَدُوهُ قَائِمًا يُصَلِّي فِيهَا، وَقَدْ صَارَتْ
عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامً)، فهذا من كرامات أبي مسلم -رَحِمَهُ اللهُ.
وهذه ليست مثل النَّار التي أُلقيَ فيها إبراهيم، فالنَّار التي أُلقي فيها إبراهيم
أعظم بكثيرٍ من هذا، ولكن هذا يشبهها من بعض الوجوه، ولهذا قال عمر: "الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَى مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ
اللَّهِ"، فهذا من كرامات الله -عزَّ وَجلَّ- لهذه الأمة، وهذا نصرٌ للإسلام، ونصرٌ
للدِّينِ، وقد تقدَّمَ معنا أنَّ الكرامات تكونُ لحُجَّةٍ في الدين، أو لحاجة
بالمسلمين، أو لحاجة لهذا الشخص، فهذا من حجج الدين، ومن نصرة الدين، ومن الرد على
هذؤلاء الذين ادَّعوا النبوة.
ونلاحظ أنَّ أبا مسلم الخولاني -رَحِمَهُ اللهُ- لم يتباهى بهذا ولم يُظهره، وكذلك
الكرامات السابقة والتي ستأتي، فكل هؤلاء لا يتباهون بها ويقولوا: انظروا حصل لنا
كذا وكذا! ولكن هذا يُحكَى عنهم، فلا يفتخرون ولا يغترون، بل هم في قمَّة التَّواضع
والخشيةَ لله -عزَّ وَجلَّ- والإخبات، وهذا عكس ما عليه الضُّلَّال من المتصوفة
وغيرهم الذين يجعلون هذه علامة على الولاية وعلامة على أنَّهم يُغترُّ بهم، وأنهم
يُدعَى إليهم، وأن الناس يجب أن يتبعوهم لأنَّهم حصل لهم كذا وكذا.
وتقدَّم معنا أنَّ أعظم الكرامات هي الاستقامة على الدين، فإن حصلت هذه الأمور وخرق
الله العادة لأهل الإيمان، قويي الإيمان منهم أو ضعيفه؛ فهذا نعمةٌ من الله عليه،
فيشكر الله ولا يغتر بها، ولا يتفاخر بها، ولا يجعلها هي الدليل على الإيمان، فإنَّ
الدليل على الولاية هو الإيمان والتَّقوى، قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا
وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس 62، 63].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَوَضَعَتْ لَهُ جَارِيَةٌ السُّمَّ فِي طَعَامِهِ فَلَمْ
يَضُرَّهُ.
وَخَبَّبَتْ امْرَأَةٌ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ فَدَعَا عَلَيْهَا فَعَمِيَتْ،
وَجَاءَتْ وَتَابَتْ فَدَعَا لَهَا فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا.
وَكَانَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ يَأْخُذُ عَطَاءَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي
كُمِّهِ، وَمَا يَلْقَاهُ سَائِلٌ فِي طَرِيقِهِ إلَّا أَعْطَاهُ بِغَيْرِ عَدَدٍ،
ثُمَّ يَجِيءُ إلَى بَيْتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ عَدَدُهَا وَلَا وَزْنُهَا.
وَمَرَّ بِقَافِلَةٍ قَدْ حَبَسَهُمْ الْأَسَدُ، فَجَاءَ حَتَّى مَسَّ بِثِيَابِهِ
الْأَسَدَ، ثُمَّ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَقَالَ: "إنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ
مِنْ كِلَابِ الرَّحْمَنِ وَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَخَافَ شَيْئًا غَيْرَهُ"
وَمَرَّتْ الْقَافِلَةُ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِ
الطَّهُورَ فِي الشِّتَاءِ فَكَانَ يُؤْتَى بِالْمَاءِ لَهُ بُخَارٌ، وَدَعَا
رَبَّهُ أَنْ يَمْنَعَ قَلْبَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَيْهِ)}.
هذا من جملة الكرامات، أنَّ أبا سلم الخولاني وضعت له جارته السُّمَّ في طعامه
وأكله فلم يضره، وهذا من فضل الله عليه أن وقاه الله شر هذا السُّم.
وكذلك خببت امرأةٌ عليه زوجته، يعني: أفسدت عليه زوجته كأن تقول لها: ماذا تريدين
بهذا الرجل! وماذا تفعلين بهذا الرجل! لماذا لا تفارقينه وتتزوجين آخر!
فدعا على هذه المرأة فعميَت، وهذا يُبيِّن أنَّ هذا الرجل الصَّالح ابتُليَ
بامرأته، فلا يلزم من وجود الكرامات أن يكون الإنسان في حياته كل أموره مستقيمة،
ولا يحصل له نكد فيها؛ بل يحصل له من البلاء ما الله به عليم.
قال: (وَجَاءَتْ وَتَابَتْ فَدَعَا لَهَا فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَ).
أيضًا عامر بن قيس وهو من سادات التابعين، كان يُقسَم له عطاء من بيت مال المسلمين،
فيأخذ ألفي درهم، فكلما مرَّ به فقيرٌ أعطاه، فإذا وصل البيت فإذا هي كما هي لم
تتغيَّر ولم تنقص وبقيت ألفي درهم، وهذا من عجائب قُدرة الرب -سبحانه وتعالى- ومن
كرامات الله لهذا الرجل.
قال الشيخ: (وَمَرَّ بِقَافِلَةٍ قَدْ حَبَسَهُمْ الْأَسَدُ)، يعني: أرادوا النزول
في الطريق، وكان في الطريق أسدٌ مفترس ضَارٍ جائع، فلو نزلوا وخاطروا بأنفسهم
هَجَمَ عليهم الأسد، فجاء عامر بن قيس ومسَّ الأسدَ بثوبه، ووضع رجله على عنقه
وقال: "إنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ مِنْ كِلَابِ الرَّحْمَنِ وَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ
أَخَافَ شَيْئًا غَيْرَهُ" فمَرَّتْ الْقَافِلَةُ، ولم تُمس بأذى من قِبَل هذا
الأسد.
قال الشيخ: (وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِ الطَّهُورَ فِي
الشِّتَاءِ)، الطهور: هو الوضوء، ومعلومٌ أن الجو بارد جدًا والماء يكون باردًا،
قال الشيخ: (فَكَانَ يُؤْتَى بِالْمَاءِ لَهُ بُخَارٌ)، يعني: يخرج البخار من الماء
دليلًا على دفء هذا الماء، وهذا من تيسير الله لهذا الرجل -رحمه الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَغَيَّبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْحَجَّاجِ
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ سِتَّ مَرَّاتٍ فَدَعَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَلَمْ
يَرَوْهُ، وَدَعَا عَلَى بَعْضِ الْخَوَارِجِ كَانَ يُؤْذِيه فَخَرَّ مَيِّتًا.
وَصِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ فِي الْغَزْوِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ
لَا تَجْعَلْ لِمَخْلُوقِ عَلَيَّ مِنَّةً" وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
فَأَحْيَا لَهُ فَرَسَهُ.
فَلَمَّا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ قَالَ: "يَا بُنَيَّ خُذْ سَرْجَ الْفَرَسِ
فَإِنَّهُ عَارِيَةٌ"، فَأَخَذَ سَرْجَهُ فَمَاتَ الْفَرَسُ. وَجَاعَ مَرَّةً
بِالْأَهْوَازِ فَدَعَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَاسْتَطْعَمَهُ، فَوَقَعَتْ
خَلْفَهُ دَوْخَلَةِ رُطَبٍ فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ فَأَكَلَ التَّمْرَ، وَبَقِيَ
الثَّوْبُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَمَانًا.
وَجَاءَ الْأَسَدُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي غَيْضَةٍ بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا سَلَّمَ
قَالَ لَهُ: اُطْلُبْ الرِّزْقَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَوَلَّى الْأَسَدُ
وَلَهُ زَئِيرٌ.
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي أَيَّامِ الْحَرَّةِ يَسْمَعُ الْأَذَانَ
مِنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْقَاتَ
الصَّلَوَاتِ وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَدْ خَلَا فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ.
وَرَجُلٌ مِنْ النَّخْعِ كَانَ لَهُ حِمَارٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ لَهُ
أَصْحَابُهُ: هَلُمَّ نَتَوَزَّعُ مَتَاعَك عَلَى رِحَالِنَا. فَقَالَ لَهُمْ :
أَمْهِلُونِي هُنَيْهَةً، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَأَحْيَا لَهُ حِمَارَهُ فَحَمَلَ
عَلَيْهِ مَتَاعَهُ)}.
هذه أمثلة أخرى على كرامات الله -عزَّ وَجلَّ- لأوليائه وعباده المؤمنين.
قال الشيخ: (وَتَغَيَّبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْحَجَّاجِ فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ سِتَّ مَرَّاتٍ فَدَعَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَلَمْ يَرَوْهُ، وَدَعَا
عَلَى بَعْضِ الْخَوَارِجِ كَانَ يُؤْذِيه فَخَرَّ مَيِّتً).
الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ- من عباد الله الصالحين، ومن خيار التَّابعين وسادتهم
وعلمائهم وعبَّادهم، والحجاج بن يوسف الثقفي كان نائب الخليفة، وكان رجلًا فَاتِكًا
شديدًا على أهل الخير وأهل الإيمان، وكان الحسن لا يُبالي به، فكان -رَحِمَهُ
اللهُ- واضحًا في النُّصح والصدق ولا يُجامل في دين الله -عزَّ وَجلَّ-، فأرسل
الحجاج له جنودًا ليقبضوا عليه، فدعا الحسن البصري ربه -عزَّ وَجلَّ-، فكلما دخلوا
عليه لا يرونه، وهذا ستّ مرات، وهذا من كرامات الله -عزَّ وَجلَّ.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَما خرج من مكَّة إلى المدينة كان كفار
قريش قد وقفوا على باب بيته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأعمى الله أبصارهم
حتى خرج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخرج معه أبو بكر، فخرجوا خارج
مكَّة ولم يروهم.
وكذلك عيسى بن مريم لما رفعه الله -عزَّ وَجلَّ- أخذ الله أبصار الكفار والمشركين
الذين أرادوا قتل نبي الله عيسى.
فهذا يكون للمؤمنين، فيحمي الله عباده من بطش أولئك، ولكن هذا ليس لكل المؤمنين،
فمن المؤمنين مَن يمضي عليه قدر الله والبلاء، فيُؤجَر تمام الأجر، مثل: أصحاب
الأخدود الذينَ قصَّ الله شأنهم.
والمقصود: أنَّ هذا من كرامات الله للحسن -رَحِمَهُ اللهُ.
قال: (وَدَعَا عَلَى بَعْضِ الْخَوَارِجِ)، الخوارج من أهل البدع، وهم الذين يرون
الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم فيسفكون الدماء ويُكفِّرونهم بغير حق، فكان
الخوارج يتضايقون من هذا العالم الرباني -الحسن البصري- لأنَّه -رَحِمَهُ اللهُ-
يُقرر طريقة أهل السنة والجماعة، فينهى عن الخروج، ويأمر بلزوم الجماعة، ويأمر
بالصبر حتى يُفرِّج الله -عزَّ وَجلَّ- وأما طريقة المرجئة فهم يرون الموافقة على
الباطل والمعاصي.
فكان هذا الخارجي يتضايق من تقريرات الحسن، فكان يُؤذي الحسن، فدعا الحسن عليه
فخرَّ ميِّتًا.
وهذا يُبيِّنُ لكَ أن الخوارج شرُّهم قديم، وأنهم يؤذون أهل العلم ويتسلَّطون
عليهم؛ لأنَّ أهل العلم هم أعظم بوابة تصدُّ شرهم عن المسلمين، ولهذا فإنَّ واجب
أهل العلم أن يقفوا أمام الخوارج وأمام المرجئة وأمام جميع أهل البدع ببيان الحق
والصَّدع به والصبر، ويتحمَّلون ما يصيبهم من الأذى.
أيضًا صلة بن أشيم، وهو من التَّابعين الصَّالحين، قال الشيخ: (وَصِلَةُ بْنُ
أَشْيَمَ مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ فِي الْغَزْوِ)، فهو الآن ما عنده فرس ليركب، فسوف
يحتاج للآخرين، قال الشيخ: (فَقَالَ: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِمَخْلُوقِ عَلَيَّ
مِنَّةً" وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحْيَا لَهُ فَرَسَهُ).
فَلَمَّا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ قَالَ: "يَا بُنَيَّ خُذْ سَرْجَ الْفَرَسِ
فَإِنَّهُ عَارِيَةٌ")، يعني: علم أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- سوف يأخذه منه، وإنَّما
الله -عزَّ وَجلَّ- يسَّر له ما يركبه حتَّى يصل.
قال الشيخ: (وَجَاعَ مَرَّةً بِالْأَهْوَازِ فَدَعَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-
وَاسْتَطْعَمَهُ، فَوَقَعَتْ خَلْفَهُ دَوْخَلَةِ رُطَبٍ فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ
فَأَكَلَ التَّمْرَ)، يعني قنو فيه شماريخ كلها مليئة بالرُّطب.
قال: (وَبَقِيَ الثَّوْبُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَمَانً)، أي: بقي الثوب الحرير عند
زوجته.
وهذا من عجائب خلق الله -سبحانه وتعالى- وقدرته ورحمته بعباده.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجَاءَ الْأَسَدُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي غَيْضَةٍ
بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ: اُطْلُبْ الرِّزْقَ مِنْ غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ؛ فَوَلَّى الْأَسَدُ وَلَهُ زَئِيرٌ)، فصرف الله عنه شرَّ هذا الأسد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي أَيَّامِ الْحَرَّةِ
يَسْمَعُ الْأَذَانَ مِنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَدْ خَلَا فَلَمْ يَبْقَ
غَيْرُهُ.
وَرَجُلٌ مِنْ النَّخْعِ كَانَ لَهُ حِمَارٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ لَهُ
أَصْحَابُهُ: هَلُمَّ نَتَوَزَّعُ مَتَاعَك عَلَى رِحَالِنَا. فَقَالَ لَهُمْ:
أَمْهِلُونِي هُنَيْهَةً، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَأَحْيَا لَهُ حِمَارَهُ فَحَمَلَ
عَلَيْهِ مَتَاعَهُ.
وَلَمَّا مَاتَ أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ وَجَدُوا فِي ثِيَابِهِ أَكْفَانًا لَمْ
تَكُنْ مَعَهُ قَبْلُ، وَوَجَدُوا لَهُ قَبْرًا مَحْفُورًا فِيهِ لَحْدٌ فِي
صَخْرَةٍ فَدَفَنُوهُ فِيهِ، وَكَفَّنُوهُ فِي تِلْكَ الْأَثْوَابِ.
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عُقْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ يُصَلِّي يَوْمًا فِي شِدَّةِ
الْحَرِّ فَأَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ، وَكَانَ السَّبْعُ يَحْمِيه وَهُوَ يَرْعَى
رِكَابَ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الْغَزْوِ
أَنَّهُ يَخْدِمُهُمْ)}.
سعيد بن المسيب من أكبر علماء التابعين ومن سادتهم، قال الشيخ: (وَكَانَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي أَيَّامِ الْحَرَّةِ يَسْمَعُ الْأَذَانَ مِنْ قَبْرِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ
وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَدْ خَلَا فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ)، أيام الحرَّة كان فيها
قتال، فإن يزيد أرسل إلى أهل المدينة، وكان مِن أهل المدينة مَن خلعَ بيعةَ
الخليفة، وبايعوا رجلًا آخر في المدينة، وكان ابن عمر حيًّا في ذلك الوقت -رَضِيَ
اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فجمعَ أولاده وأحفاده وخدمه كلهم وبيَّن أنَّ خلعَ البيعة
لا يجوز، وأنَّهم يجب عليهم الصبر، وأنهم إذا خلعوا البيعة فقد وقعوا في الغدر،
وتكلَّم في هذا بكلام معروف في صحيحي البخاري ومسلم، وممَّن ثبتَ على طريق الكتاب
والسُّنَّة وعلى توجيهات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الموقف من
ولاة الأمر سعيد بن المسيب، وكذلك زين العابدين حفيد علي بن أبي طالب، فكلهم ثبتوا
على السُّنَّة ولم يخلعوا البيعة، ولم يُوافقوا هذا الحاكم في معاصيه، ولكن لم
يخرجوا عليه، فكان سعيد جالسًا في المسجد معتزلًا الفتنة؛ لأنَّه صار قتال عظيم في
المدينة، وصار أهل المدينة يُقاتلون جندَ الخليفة الذي خلعوه، فبقي سعيد بن المسيب
-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- في المسجد واعتزل الناس وما خرج، ولم يكن هناك أذان
بسبب الفتنة، فتوقَّفت الصلاة وتوقف الأذان، وهذا يُبيِّن لنا خطر الفتن، وخطر
الخروج على ولاة الأمور حتَّى لو جاروا، فإن المفسدة في الخروج عليهم أعظم بكثير من
مفسدة ما يقع منهم من معاصٍ.
فالمقصود: أنَّه من رحمة الله به أنَّه كان يسمع الأذان من جهة قبر النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولعلَّ هذا -والله أعلم- تنبيهًا له على وقت دخول
الصَّلاة، وكان المسجد قد خلا فلم يبقَ فيه غيره.
وهذه كرامة من كرامات الله لهذا الرجل الصالح العالم الجليل سعيد بن المسيب.
قال الشيخ: (وَرَجُلٌ مِنْ النَّخْعِ كَانَ لَهُ حِمَارٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ،
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: هَلُمَّ نَتَوَزَّعُ مَتَاعَك عَلَى رِحَالِنَ)، يعني
يتوزَّعون أغراض السَّفر وعدَّته التي كان يحملها حماره. قال الشيخ: (فَقَالَ
لَهُمْ : أَمْهِلُونِي هُنَيْهَةً، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَأَحْيَا لَهُ حِمَارَهُ فَحَمَلَ
عَلَيْهِ مَتَاعَهُ).
وأويس القرني جاء فيه حديث عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الثناء
عليه، وهو لم يرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأويس من سادات
التابعين ومن العبَّاد، قال الشيخ: (وَلَمَّا مَاتَ أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ وَجَدُوا
فِي ثِيَابِهِ أَكْفَانًا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ قَبْلُ، وَوَجَدُوا لَهُ قَبْرًا
مَحْفُورًا فِيهِ لَحْدٌ فِي صَخْرَةٍ فَدَفَنُوهُ فِيهِ، وَكَفَّنُوهُ فِي تِلْكَ
الْأَثْوَابِ).
ثم ذكر الشيخ قصَّة عمرو بن عتبة بن فرقد، فقال: (وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عُقْبَةَ
بْنِ فَرْقَدٍ يُصَلِّي يَوْمًا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَأَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ) وهي
السَّحابة.
قال: (وَكَانَ السَّبْعُ يَحْمِيه وَهُوَ يَرْعَى رِكَابَ أَصْحَابِهِ)، فأجرى الله
عليه هذه الكرامة، وكان من أخلاقه الفاضلة أنَّه يشترط على أصحابه عندَ السفر أن
يخدمهم، وهذا مع صلاحه وتقواه.
وهذا يُبيِّن لنا أن أولئك -رحمةُ الله عليهم- لم يكونوا يجعلون هذه الكرامات التي
تجري لهم سببًا للفخرِ أو التَّعالي على الناس أو رؤية النفس، بل كانوا في قمَّة
التَّواضع وهضم النَّفس، وأنهم لا يرونَ أنفسَهم شيئًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير إذَا
دَخَلَ بَيْتَهُ سَبَّحَتْ مَعَهُ آنِيَتُهُ، وَكَانَ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ
يَسِيرَانِ فِي ظُلْمَةٍ فَأَضَاءَ لَهُمَا طَرَفُ السَّوْطِ.
وَلَمَّا مَاتَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَقَعَتْ قَلَنْسُوَةُ رَجُلٍ فِي قَبْرِهِ
فَأَهْوَى لِيَأْخُذَهَا فَوَجَدَ الْقَبْرَ قَدْ فُسِحَ فِيهِ مَدَّ الْبَصَرِ.
وَكَانَ إبْرَاهِيمُ التيمي يُقِيمُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَأْكُلُ
شَيْئًا، وَخَرَجَ يَمْتَارُ لِأَهْلِهِ طَعَامًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ،
فَمَرَّ بِسَهْلَةِ حَمْرَاءَ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ
فَفَتَحَهَا فَإِذَا هِيَ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ، فَكَانَ إذَا زَرَعَ مِنْهَا
تَخْرُجُ السُّنْبُلَةُ مِنْ أَصْلِهَا إلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبً)}.
مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخير من التَّابعين، ومن عُبَّاد أهل البصرة، قال الشيخ:
(إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ سَبَّحَتْ مَعَهُ آنِيَتُهُ)، وهذا من كرامات الله لهذا
الرَّجل الصَّالح، ووقع أعظم من هذا للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فكان الصحابة يسمعون تسبيح الحصى بين يدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كذلك من كرامات مطرف بن عبد الله بن الشِّخير كما ذكر الشيخ: (وَكَانَ هُوَ
وَصَاحِبٌ لَهُ يَسِيرَانِ فِي ظُلْمَةٍ فَأَضَاءَ لَهُمَا طَرَفُ السَّوْطِ)، وهذا
شيء عجيب! أن السَّوط الذي هو مصمَتٌ وليس فيه أي إضاءة؛ فيُضيء ويُصبح سببًا
للرؤية في الطريق، وهذا وقع لبعض الصحابة كما مرَّ معنا، وهو عَبَّاد بن بشر، وغيره
من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الشيخ: (وَلَمَّا مَاتَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ)، وهذا ممَّن يُضرَب به المثل
في الحلم، أدرك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يرَه، فلما مات الأحنف
ودفنوه في القبر، وقبل أن يفرغوا من الدفن سقطت قلنسوة رجل -وهي ما يُوضع على الرأس
من طاقيَّةٍ ونحوها- في القبر، فنزل ليأخذها فوجد القبر قد فُسِحَ فيه مد البصر.
سبحان الله العظيم!
وهذا من كرامات الله له، ونحن نؤمن بهذا، وأنَّ أهل الإيمان يُفسَح لهم في قبورهم
مدَّ البصرِ، ونسأل الله -عزَّ وَجلَّ- أن يجعل قبورنا وقبور والدينا وجميع
المسلمين روضةً من رياض الجنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ إبْرَاهِيمُ التيمي يُقِيمُ الشَّهْرَ
وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا، وَخَرَجَ يَمْتَارُ لِأَهْلِهِ طَعَامًا
فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَمَرَّ بِسَهْلَةِ حَمْرَاءَ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ
رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَفَتَحَهَا فَإِذَا هِيَ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ، فَكَانَ إذَا
زَرَعَ مِنْهَا تَخْرُجُ السُّنْبُلَةُ مِنْ أَصْلِهَا إلَى فَرْعِهَا حَبًّا
مُتَرَاكِبً)}.
هو إبراهيم بن يزيد التَّيمي، وهذا من صالحي أهل الكوفة وعلمائهم، قال الشيخ:
(وَكَانَ إبْرَاهِيمُ التيمي يُقِيمُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَأْكُلُ
شَيْئً)، فهو لا يتعمَّد الجوع، ولكن لا يجد شيئًا يأكله، فكان يصبر بما يعطيه
الله -عزَّ وَجلَّ- من القوَّة، وهذا من كرامات الله للمؤمن.
قال الشيخ: (وَخَرَجَ يَمْتَارُ لِأَهْلِهِ طَعَامًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ)،
يعني: خرج يشتري لأهله طعامًا ولم يكن معه نقود، فخشي أن يقول الناس عنه أنَّه لم
يشترِ.
قال الشيخ: (فَمَرَّ بِسَهْلَةِ حَمْرَاءَ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى
أَهْلِهِ)، يعني أخذها كأنَّه اشترى، ورجع بها إلى أهله، قال: (فَفَتَحَهَا فَإِذَا
هِيَ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ)، وهذا من كرامات الله لهذا الرجل الصالح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ عتبة الْغُلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ:
صَوْتًا حَسَنًا، وَدَمْعًا غَزِيرًا، وَطَعَامًا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. فَكَانَ
إذَا قَرَأَ بَكَى وَأَبْكَى، وَدُمُوعُهُ جَارِيَةٌ دَهْرَهُ، وَكَانَ يَأْوِي
إلَى مَنْزِلِهِ فَيُصِيبُ فِيهِ قُوتَهُ) وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيه)}.
عتبة الغلام هو من عبَّاد التابعين -رَحِمَهُ اللهُ وغفر له- وهذا البكاء فيما يزهر
-والله أعلم- أنَّه خارجٌ عن إرادته، فكانت تجري دموعه دائمًا.
ونقول: إن هذا الحال هو حال ناقص على ما لديهم من إمامة وعبادة وتقوى، إلَّا أنَّ
حال نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحال أبي بكر وعمر والصَّحابة أكمل
-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فمع خوفهم من الله -عزَّ وَجلَّ- إلَّا أنَّ عندهم
من رجاء رحمته، فيجمعون بينَ هذا وهذا، وأيضًا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُمازح أصحابه ويضحكون، وهذا الباب بعض الناس يُسرف فيه، فإذا رأى بعض
هذه المواقف من هؤلاء الصالحين ظنَّ أنَّ هذه المواقف محمودة على الإطلاق، فابن
تيمية هنا لم يرد أن يعلق على حالته وعبادته، ولكن أراد أن يُبيِّن هذه الكرمات
التي جرَت له، فهذه الكرمات التي تجري له من فضل الله، ولكن -كما تقدَّم- أنَّها لا
تدل على أنَّ كلَّ ما عمله حق؛ فالحق في كتاب الله وفي سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيما أجمع عليه الصحابة فقط، وأمَّا ما يقع لهؤلاء الصالحين
نقيسها بمقياس الشرع.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
مثل هذه الأحوال وما وقع لعتبة الغلام وغيره؛ فهل نذكرها لأناسٍ غلبت عليهم القسوة
والغفلة من باب الوعظ؟}.
لاشك نذكرها، ولكن لا نجعل حالة هؤلاء هي الحالة الممدوحة دائمًا، فإنَّ الحالة
الممدوحة دائمًا هي حالة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحوال الصحابة
-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ أَصَابَهُ
الْفَالِجُ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُطْلِقَ لَهُ أَعْضَاءَهُ وَقْتَ الْوُضُوءِ،
فَكَانَ وَقْتَ الْوُضُوءِ تُطْلَقُ لَهُ أَعْضَاؤُهُ ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهُ)}.
الفالج هو الشَّلَل، فكان لا يستطيع أن يُحرِّك يديه ولا رجليه، فدعا ربه -عزَّ
وَجلَّ- بأن يُطلق أعضاءه وقت الوضوء، وهذا من كرامة الله لهذا الرَّجل، فالشَّلل
عادة يستمر ولا ينقطع، فأجاب الله له دعاءه، وهذا يدل على كرامة الله لهذا الرجل
الصالح -رَحِمَهُ اللهُ.
وكما تقدَّم أنَّ مَن لم يقع له مثل هذا من المؤمنين لا يدل على نقص، ومَن وقع له
هذا لا يدل على كماله، وهذه مسألة نؤكِّد عليه مرارًا وتكرارًا، لأنَّ بعض الناس
يظن أنَّه إن لم يحصل له مثل هؤلاء فهو ناقص! فالإنسان دائمًا يتَّهم نفسه
بالنَّقص، ولكن إذا قُدِّر أنها إذا وقعت لبعض الناس في عصرنا هذا فلا يغتر به ويظن
أنه كامل، فالكرامات تقع لضعيف الإيمان ولقوي الإيمان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى
كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ عَنْ أَعْيَانٍ وَنَعْرِفُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
فَكَثِيرٌ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ: أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ
حَاجَةِ الرَّجُلِ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ أَوْ
الْمُحْتَاجُ؛ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إيمَانَهُ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ)}.
قول الشيخ: (وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى كَرَامَاتِ
الْأَوْلِيَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ عَنْ
أَعْيَانٍ وَنَعْرِفُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَكَثِيرٌ)، فهناك من أهل العلم مَن
جمع كرامات الأولياء، وأظنُّ من الكتب المشهورة كتاب "كرامات الأولياء للَّالكائي"
فذكر جملةً منها في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة، وكثيرٌ من أهل العلم يذكرها في
كتب العقائد، حتَّى شيخ الإسلام ابن تيمية ذكرها في الواسطية فقال: (ويؤمن أهل
السنة والجماعة بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات)،
فهذا حقٌّ يُؤمن به أهل السُّنَّة والجماعة، ولا يُنكر كرامات الأولياء إلا
المبتدعة، كالمعتزلَة والعقلانيين وأشباههم، أمَّا أهل السُّنَّة فإنَّهم يذكرونها
في عقائدهم، وأنَّ هذا شيء حقٌّ ويقع، ولكن كما تقدَّم أنه لا يلزم وقوعه لكل مسلم
ولكل مؤمن، فقد يقع وقد لا يقع، ولا يدل وقوعه على كما الإيمان أو على نقص الإيمان،
فإنَّ هذا ليس هو الضَّابط في معرفة كمال الإيمان أو نقصه، إنَّما يُعرَف كمال
الإيمان ونقصه بموافقة الكتاب والسُّنَّة وما يقوم بقلب المؤمن من أعمال القلوب.
وهذه الكرامات هل يُعتَمَد فيها على الحكايات؟
الشيخ يقول: (وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ عَنْ أَعْيَانٍ وَنَعْرِفُهُ فِي هَذَا
الزَّمَانِ فَكَثِيرٌ)، يعني أنَّ الشيخ يعرف في زمانه أحداث كثيرة.
ونقول: هذا الأمر قد يأتي فيه الغلط، وقد تأتي فيه المبالغة، وقد يكذب فيه بعض
الناس، ولكن فيما يظهر أن شيخ الإسلام أراد بقوله هذا أنَّه وقفَ على أشياء بعينه
ورآها بنفسه.
وأمَّا ما سبق من الكرمات هل نقول بثبوتها كلها؟ وهل لها أسانيد صحيحة؟
نقول: الله أعلم! قد لا تثبت بعض أسانيدها.
وحتَّى لو لم تثبت تلك الكرامات التي مرَّت معنا فعندنا قاعدة كبيرة: وهي أنَّ
الكرامات حق وتقع للمؤمنين قديمًا وحديثًا، في هذه الأمَّة وقبل هذه الأمَّة، ومن
آخر ما سيقع ما يكون مع الدَّجال إذا خرج -نعوذ بالله من شره وفتنته- فإنَّه سيأتيه
رجل من أهل الإيمان من هذه الأمَّة فيقول: «يا أيُّها النَّاسُ هذا الدَّجَّالُ
الذي ذَكَرَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- قالَ: فَيَأْمُرُ
الدَّجَّالُ به فيُشَبَّحُ، فيَقولُ: خُذُوهُ وشُجُّوهُ، فيُوسَعُ ظَهْرُهُ
وبَطْنُهُ ضَرْبًا، قالَ: فيَقولُ: أوَ ما تُؤْمِنُ بي؟ قالَ: فيَقولُ: أنْتَ
المَسِيحُ الكَذّابُ، قالَ: فيُؤْمَرُ به فيُؤْشَرُ بالمِئْشارِ مِن مَفْرِقِهِ
حتَّى يُفَرَّقَ بيْنَ رِجْلَيْهِ، قالَ: ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بيْنَ
القِطْعَتَيْنِ، ثُمَّ يقولُ له: قُمْ، فَيَسْتَوِي قائِمًا، قالَ: ثُمَّ يقولُ له:
أتُؤْمِنُ بي؟ فيَقولُ: ما ازْدَدْتُ فِيكَ إلَّا بَصِيرَةً، قالَ: ثُمَّ يقولُ: يا
أيُّها النَّاسُ إنَّه لا يَفْعَلُ بَعْدِي بأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، قالَ:
فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فيُجْعَلَ ما بيْنَ رَقَبَتِهِ إلى
تَرْقُوَتِهِ نُحاسًا، فلا يَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا، قالَ: فَيَأْخُذُ
بيَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ به، فَيَحْسِبُ النَّاسُ أنَّما قَذَفَهُ إلى
النَّارِ، وإنَّما أُلْقِيَ في الجَنَّةِ»[13] كما أخبرنا النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعلى كل حال؛ هذه الكرامات لا نتعلَّق بها، ولا نجعل مَن وقعَت له سببًا للغلو فيه،
أو تقديسه، أو التَّبرُّك به؛ فهذا كله من الأغلاط التي يقع فيها بعض الناس، وفي
نفس المقام لا ننكرها ولا نكذب بها.
قال الشيخ: (وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ: أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ
بِحَسَبِ حَاجَةِ الرَّجُلِ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ
أَوْ الْمُحْتَاجُ؛ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إيمَانَهُ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ).
يعني هذه الكرامات تكون للمحتاج ولو كان ضعيفَ الإيمان، فبعض الناس يظن أن الكرامات
لا تقع إلَّا لأفضل الناس عبادةً، وهذا غير صحيح، قد يكون وسطًا في العبادة أو
ضعيفًا في العبادة بل قد يكون عنده معاصٍ ويُجري الله على يديه كرامات، خاصَّةً إذا
كان فيها نصرة للدين، ولهذا فإنَّ بعض الناس يُجاهد ويُقاتل أعداء الله -عزَّ
وَجلَّ- وقد يكون عنده بعض البدع والمخالفات الشرعية، لكن الله -عزَّ وَجلَّ- يُجري
على أيديهم النصر في أسبابٍ لا يحلمون بها، وليس مما فعلوه، فيخرق الله العادة
وينصرهم على أعدائهم الكفار، أو يكون بعض المبتدعة يردُّ على بعض الملاحدة فيُوفَّق
في رده لردِّ ذلك الإلحاد، فلا يعني أنَّه وُفِّقَ وأُلهِمَ وأكرمه الله بحججٍ
قويَّة جدًّا دحض بها هؤلاء أنَّ على صواب في بدعته؛ بل إنَّ البدعة بدعة حتَّى لو
وقعت ممَّن وقعت له كرامة.
{ذكرتم أنَّ ممَّن يرد الكرامات المعتزلة والعقلانيين، بعض الناس تُشكل عليه كلمة
العقلانيين، فهل معنى "العقلانيين" من يستخدم عقله في التفكير؟}.
"المدرسة العقلانية" اصطلاح على أُناس يقدِّمون عقولهم النَّاقصَة على أحكام
الشَّريعة وعلى مسلَّمات النصوص الشَّرعيَّة، وصار هذا مصطلح علمي يُطلق على هذه
المدرسة، وهم يسيرون على خُطَى مَن سبقهم من أهل الكلام خصوصًا المعتزلة الذين
يُقدِّمونَ العقل على النصوص الشرعية، فلهذا سُمُّوا "المدرسة العقلانية"، وهذه
المدرسة مدرسة منحرفة، ويكفي في انحرافها أنَّ الإنسان يجعل نفسه وهو ضعيف وناقص
ويعرف أنَّه كان جاهلًا ثمَّ تعلَّم؛ فيجعل نفسه ندًّا لكلام الله وكلام رسوله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا قمَّة في انحطاط هذا العقل البشري، فالعقل
مخلوق من عدم أوجده الله -عزَّ وَجلَّ- وله حدود، مثل ما أن البصر له حدود والسَّمع
له حدود، الآن أنت تبصر، فإذا نظرتَ ببصرك إلى آخر الأرض أثناء وقوفك في الصحراء
-مثلًا- ستجد أن بصرك ينقطع عند حدٍّ معيَّنٍ مع أنَّك مبصر، وكذلك السَّمع ينقطع
عند حدٍّ معيَّنٍ، فكذلك العقل، فعقلك لا يُدرك كل شيء، العقل نعمة من الله نفهم به
الأشياء ونعرف به الحجج، والله -عزَّ وَجلَّ- ركَّبَ هذا العقل لنستفيد منه
ولنستعمله، لكن فيما أباح الله فويما شرع، فلا نجعل هذا العقل ندًّا لشرعِ الله،
يقول: لا أقبل هذه الآية، أو لا أقبل هذا الحديث! فهؤلاء يسمون العقلانيون، أو
المدرسة العقلانية، وهي مدرسة ضالَّة مبتدعة ومنحرفة عن الشَّريعة الإسلاميَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَكُونُ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ وِلَايَةً لِلَّهِ مِنْهُ
مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَأْتِيه مِثْلُ ذَلِكَ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ
وَغِنَاهُ عَنْهَا لَا لِنَقْصِ وِلَايَتِهِ ;؛ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ
الْأُمُورُ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ؛ بِخِلَافِ مَنْ
يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ لِهَدْيِ الْخَلْقِ وَلِحَاجَتِهِمْ
فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً)}.
لعلَّنا نشرح هذا في الدرس القادم -إن شاء الله- على توسُّع.
وخلاصة الكلام: إذا وقعت للإنسان الكرامات فلا تدل على كماله وسلامته من الأخطاء،
فالصحابة أكمل إيمانًا ولم تقع لهم كرامات في العدد والكثرة مثلما وقعت للتابعين،
مع أن التابعين أقل منزلةً من الصحابة. وبالله التوفيق.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12803 18
-
16751 9
-
34828 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12