الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

1557 12
الدرس الخامس

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور:  فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله محيَّا الله الإخوة جميعًا.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ مُوَافِقًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِوَجْدِهِ وَذَوْقِهِ غَيْرَ مُعْتَبِرٍ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ "الشَّرِيعَةِ" يَتَكَلَّمُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْعَ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا كَافِرٌ، وَبَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَالْحَاكِمُ تَارَةً يُصِيبُ وَتَارَةً يُخْطِئُ، هَذَا إذَا كَانَ عَالِمًا عَادِلًا، وَإِلَّا فَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِغَيْرِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ».
وَأَفْضَلُ الْقُضَاةِ الْعَالِمِينَ الْعَادِلِينَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ»، فَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُ الْخَلْقِ أَنَّهُ إذَا قَضَى بِشَيْءِ مِمَّا سَمِعَهُ وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قَضَى بِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ، إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَا ظَنَّهُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَكَانَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ؛ لَمْ يَجُزْ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قُضِيَ بِهِ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ حَكَمَ فِي الْعُقُودِ والفسوخ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ إنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
فَلَفْظُ "الشَّرْعِ وَالشَّرِيعَةِ" إذَا أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَمْ يُتَابِعْهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدَى بهداه.
هذا الموضع تتمَّة للكلام السَّابق حول ما تقدَّم من ضلالات عند الحلوليَّة والاتِّحاديَّة وأهل وحدة الوجود، وهذه المسألة مسألة مهمِّة، وهي من الفرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان، فإنَّ من علامات أولياء الرَّحمن أنَّهم يتَّبعون الكتاب والسُّنَّة وطريقة سلف الأمَّة، حتى في هذه الألفاظ التي أحدثها المحدثون، ومنها لفظ "الحقيقة والشَّريعة" فممَّا عُرف عن الصُّوفيَّة أنَّهم يقولون للعلماء والفقهاء والقضاة ونحوهم أنتم أهل الشَّريعة، ونحنُ أهل الحقيقة، ويُريدون بالحقيقة أنهم عندهم حقائق الأمور وبواطنها، فهذه الكلمة لا تُقبَل على إطلاقها.
يقول الشَّيخ: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْحَقِيقَةِ)، يتكلَّم بالأمور الباطنة، سواء كانت من أعمال القلوب أو من أمور الغيب أو من غيرها؛ فهذه الأمور لا تُقبَل على إطلاقها من أي قائل، لكن على التَّنزُّل بأنَّ هذا يتكلَّم بلسان الحقيقة؛ فنقول له: إنَّ حقائق الأمور حقيقتان:
الأولى: حقيقة كونيَّة، وهي ما يجري على النَّاس كلهم في الأمور الخفيَّة.
الثَّانية: حقيقة شرعيَّة دينيَّة، وهي ما وافق الشَّرع، فالله -جَلَّ وَعَلَا- أمرنا بالصبرِ عند القضاء، وأمرنا الله بالرِّضا وبحسن الظَّنِّ به، وأمرنا الله -سبحانه وتعالى- بالتَّوكل عليه، وأمرنا -جَلَّ وَعَلَا- بغير ذلك مِن أعمال القلوب، فهذه الحقيقة هي حقيقة محبوبة لله، فهذه الأمور التي تكون في القلب هي محبوبة لله -عز وجل- لأنَّها قد أُمِرَ بها شرعًا.
وأمَّا أن نسوِّي بينَ الشَّرع وبين ما يجري على الخلقِ وبين ما يجري في الكونِ، وأن نجعل كل هذا سواء ونسميه حقيقة فهذا ليس بمقبول، ولهذا قال الشَّيخ: (وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ)، فالذي يقوم بالحقيقة الدِّينيَّة موافق لأمر الله، فإذا ابتُليَ صبر.
وهناك آخرون يقولون: موافقتي للحقيقة أنِّي أستسلم حتى للذَّنب، فإذا أذنبتُ فهذه حقيقة ولا أعارضها! ويسمِّي هذا حقيقة، بدعوى أن هذا وقع في الكون وقُدِّر، فيرضى به ويسلِّم ويستمر على هذه الذنوب والمعاصي!
بل يعلو بعضهم فيقول: هذا الكافر لمَّا كفر فهذا شيء مقدَّر، فنرضى به، إذن هذا الشيء محبوب لله!
ويسمي هذا كله حقيقة، فلا يفرق بين الأمر الكوني والأمر الشَّرعي، ولا يُفرِّق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الشرعية.
كيف نفرق؟
نقول: الكفر والمعاصي والذنوب كلها مَبغوضة لله مسخوطة، لا يجوز أن نرضى بها، ولا يجوز أن نجعلها مما يستسلم لها، بل يجب مدافعتها، ويجب التَّوبة منها، ويجب نصح من قام بها؛ فهذه هي الحقيقة الشَّرعيَّة.
ضرب الشيخ مثالًا آخر فقال: (وَبَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِوَجْدِهِ وَذَوْقِهِ غَيْرَ مُعْتَبِرٍ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ).
يعني: هناك بعض النَّاس كلَّما وجدَ في قلبه مِن معانٍ قَبِلَهَا، وكلَّما ذاق من لذَّةٍ معنويِّةٍ بقلبه رَضِيَ بها حتى لو كانت محرَّمَة، كالرَّقص والغناء، والآثار التي تنتج عن الموسيقى، أو الآثار التي تنتج عن سماع أصوات النِّساء، أو الآثار النَّاتجة عن شرب الخمور؛ فيجعل هذا الوجد والذَّوق دليل على صحَّة الطَّريق الذي هو عليه! فهذا لم يعتبر الكتاب والسنَّة؛ بل اعتبر مجرَّد الرَّاحة النَّفسيَّة والطمأنينة والذَّوق القلبي لكل أحدٍ باعتباره فهو عنده مقبول!
فهذا لم يُفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولم يفرق بين الطاعة والمعصية، ولم يفرق بين السنَّة والبدعة، وهذا خلاف القرآن وخلاف السُّنَّة.
وهؤلاء الصُّوفيَّة الغلاة دائمًا يقولون: أنتم أهل الشَّريعة، أنتم أهل الظَّاهر ونحن أهل الباطن، وأنتم ما عندكم إلَّا الظَّواهر وما تعرفون شيئًا في البواطن؛ فنبَّهَ الشيخ على غلطٍ في مسمَّى "الشَّريعة" حتى عند الفقهاء وعند أهل العلم، وهو أنَّهم يجعلون اسم "الشَّريعة" على من نُصِّبَ حاكمًا بالقضاءِ الشَّرعيِّ، حتى الآن في العُرف عندنا يقولون: نذهب إلى الشَّرع، ويقصدون المحكمة الشَّرعية، فيقولون: تصطلحون في هذه المسألة أو نذهب إلى الشَّرع؟ فيقول: نذهب إلى الشرع؛ ثم إذا صدر حكم القاضي قال: هذا الشَّرع، أو حكمَ الشَّرع!
فيُعبِّرون بــ "الشَّرع" أو "الشَّريعة" ويريدون بذلك حُكم القاضي، ومعلوم أنَّ حُكم القاضي قد يُخطئ وقد يُصيب، فيسمون ذلك كله شرع.
ونقول: لا مُشاحة في الاصطلاح، ولكن من التَّنبُّه إلى أنَّ الأحكام التي تصدر من القضاة الشَّرعيين هي أحكام اجتهاد، وكما ذكر الشيخ من حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِغَيْرِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ».
وَأَفْضَلُ الْقُضَاةِ الْعَالِمِينَ الْعَادِلِينَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ»)
، فالقاضي الشَّرعي ما له إلَّا البيِّنات، فقد يكون صاحبُ الحقِّ ما عنده بيِّنة فيُقضَى عليه، فيُسمَّى حكمه "قضاء بالشَّرع" مع أنَّه صاحب الحق، فينتج من هذا أن بعض النَّاس يبغض الشَّرع المنزَّل بسبب أنَّه ظُلِمَ -في ظنه- وهذا يقع كثيرًا، ولهذا يجب التَّفريق أن الحكم بالشَّرع هو اجتهادٌ من القاضي، فقد يُصيب وقد يُخطئ، وهذا متفقٌ عليه بين أهل العلم.
وإذا أريد بــ"الشَّرع" أنَّه الشَّرع المنزَّل والكتاب والسنَّة؛ فليس لأحدٍ الخروج عليها، ولا ادِّعاء أنَّ فيها احتمال خطأ، فما أنزله الله على رسوله من القرآن ومن سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما أجمع عليه الصحابة والسلف الصالح لا يكون إلَّا حقًّا لا يتطرَّق إليه خطأ بأي وجه من الوجه، فهو حقٌّ مطلَق؛ لأنَّه من عند الله -عز وجل- قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، والله -عزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 58]، فهو الموافق للحكمة والصَّواب، فكل ما جاء عن الله وعن رسوله وما أجمع عليه السَّلف فلا يتطرَّق إليه الخطأ، وهو الشَّريعة المنزَّلة.
أمَّا الشَّريعة التي يحكم بها القضاة سواء في عهد الصَّحابة أو مَن بعدهم؛ فهم يحكمون بنحوِ ما يرون وبنحوِ ما يسمعون؛ فقد تنقص البيِّنات عند بعض النَّاس، وقد يُخطئ القاضي، وقد يغفل، وقد يوجَد مَن يُظلم من القضاة، فلا يُسمَّى هذا شرعًا مُنزلًا، والخطأ فيه وارد؛ لأنَّه من اجتهادات القضاة.
{أحسن الله إليكم.
لو سأل أحدٌ القاضي وقال له: "ما رأي الشرع في كذا"، في مسألة من المسائل؛ فما الحكم؟}.
نبَّه المشايخ وأهل العلم على أنَّه إذا قيل للمسؤول: "ما رأي الإسلام، أو ما حُكم الإسلام، أو ما حُكم الشَّرع"؛ أنَّ المفتي يتنبَّه لهذا ويقول في جوابه: "الذي ظهر لي، أو الذي يتَّضح من الآيات كذا...".
وهناك فرقٌ بين الأمر القطعيِّ الذي لا يحتمل الاجتهاد مثل تحريم الخمر، فإذا قيل: "ما حكم الشرَّع في الخمر؟" فنقول: حرام قطعًا.
ولو قيل: "ما حكم الشَّرع في بيع السَّيارة بالآجل عن طريق كذا وكذا..."، فهذا يأتي فيه بعض الاحتمالات؛ فحينئذٍ يكون الحكم هو حُكم المفتي واجتهاده هو.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَلَفْظُ "الشَّرْعِ وَالشَّرِيعَةِ" إذَا أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَمْ يُتَابِعْهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ)}.
وهذا هو ما ذكره الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب في "نواقض الإسلام العشرة"، فقال: "من ظنَّ أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما وسع الخضر الخروج عن شريعة مُوسى فهو كافرٌ إجماعًا"، وهنا يقول الشيخ (وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَمْ يُتَابِعْهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ)؛ لأنَّ بعض النَّاس يقول: أنا أتابع النبي في الظاهر، لكن في الباطن أتَّبِعُ الخضرَ أو الولي الفلاني! وكل هذا من الخزعبلات والكذب والمخالفة للشَّريعة.
فنقول: لو ادَّعى أنَّ في الباطن طريق غير ما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو كافر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ كَانَ غالطا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا كَانَ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُهُ؛ فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مَبْعُوثًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَلَوْ أَدْرَكَهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَضِرِ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى؛ وَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُهُ فَكَيْفَ بِالْخَضِرِ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: "إنَّا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ". وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الثَّقَلَيْنِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا.
الثَّانِي: أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمُوسَى لَمْ يَكُنْ عَلِمَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُبِيحُ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَيَّنَهَا لَهُ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ ثُمَّ تَرْقِيعُهَا لِمَصْلَحَةِ أَهْلِهَا خَوْفًا مِنْ الظَّالِمِ أَنْ يَأْخُذَهَا إحْسَانٌ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَتْلُ الصَّائِلِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَمَنْ كَانَ تَكْفِيرُهُ لِأَبَوَيْهِ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِقَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ.
قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لنجدة الحروري لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ الْغِلْمَانِ؛ قَالَ لَهُ: "إنْ كُنْت عَلِمْت مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ، وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إلَى الْيَتِيمِ بِلَا عِوَضٍ وَالصَّبْرُ عَلَى الْجُوعِ؛ فَهَذَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُخَالِفًا شَرْعَ اللَّهِ)
.
الخضر نبي ذُكِرت قصَّته في سورة الكهف، وجاءت مُفصَّلَة ومُوضَّحة ومُبيَّنة في سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في صحيح البخاري، وكذلك جاء في صحيح مسلم والسُّنَن، فقصَّةُ الخضر طالما غَلِطَ فيها بعض المتصوِّفَة وجعلوها حُجَّة لهم في دعواهم، أنَّهم يسلكون غير مسلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقولون: إنَّ الخضر لم يتَّبع موسى -عليه الصَّلاة والسَّلام- فيحتجون بهذا على عدم اتباعهم لمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ومن قال إنه لا يلزمه اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّ الخضر لم يلزمه اتباع موسى؛ فهذا كافر.
يقول الشيخ: (كَانَ غالطا مِنْ وَجْهَيْنِ)، يعني: سبب الغلط الذي حصل عنده من وجهين.
الوجه الأول من غلطهم: قال: (أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا كَانَ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُهُ؛ فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مَبْعُوثًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ)، والله -عزَّ وَجَلَّ- ذكر في سورة إبراهيم أنَّ موسى مبعوث لبني إسرائيل، فقال -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: 5]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»[3]. فهذا هو الفرق الأول.
ونقول: لو قُدِّر للخضر أنَّه بقي إلى وقت النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى تقدير أن الخضر نبي؛ فإنه يجب على الخضر اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنَّ من هو أفضل من الخضر بالإجماع كإبراهيم وموسى وعيس ونوح -وهم أولو العزم من الرسل- أخذ الله عليهم الميثاق وعلى جميع النبيين لئن بُعث محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم أحياء ليتبعونَّه وليؤمنن به، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 81].
وفي صحيح البخاري ومسلم قال الخضر لموسى "إنَّا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ".
وسبب ذلك أنَّ موسى قال: "إني أعلم أهل الأرض"، فأوحى الله إلى موسى أنَّ عبدي الخضر..." فأراد الرِّحلةَ والذَّهاب إليه ليستفيد من علمه، فقصَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- علينا خبرَه في سورة الكهف، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ [الكهف: 60- 63]، فكان نسيان الحوت علامة على مكان الخضر.
قال: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمً﴾.
واختلف علماء أهل السُّنَّة في الخضر هل هو نبي أو ولي؛ ولهذا قال الشيخ: (سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّ)، فذكر الشَّيخ القولين هنا، وابن تيمية يُرجِّح أنَّه نبي، وكثير من المحققين أيضًا كابن القيم يُرجِّح أنَّه نبي، وكذلك الشَّيخ عبد العزيز بن باز يرجِّح أنَّه نبي، والدَّليل على ذلك من القرآن ومن السُّنَّة.
أمَّا مِن القرآن فقوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمً﴾ [الكهف: 65]، فهذا هو الموضع الأول، ويدلُّ على أنَّ العلم الذي مع الخضر من لَدُن الله -عزَّ وَجَلَّ- وهذا يدلُّ على أنَّه وحي، وقال في آخر السورة: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: 82]، يعني ما فعله من خرق السَّفينة إلى آخره، ما فعله عن أمره، فهذا دليل على أنه نبي وأنَّه يُوحَى إليه.
والدَّليل من السنة: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قول الخضر: "إنَّا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ"، يعني يا موسى.
فهذا يؤكِّد أن الخضر نبي، فإذا كان الخضر نبيًّا فإنه لا يجب عليه اتِّباع موسى، وعلى تقدير أن الخضر ولي فإنَّه لا يجب عليه اتِّباع موسى لأنَّه ليس من بني إسرائيل، فعلى كلا الاحتمالين فلا يتم استدلال الصُّوفيَّة أنَّه قد وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى فيخرجون الخروج عن شريعة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الوجه الثاني من غلطهم: أن يُقال إنَّ كل ما فعله الخضر من أعمال كلها معلَّلَة بالمصلحة، وظاهرة للخضر، وليست غيبًا، فإنَّ الخضر يعلم أنَّ هذه السفينة لمساكين، وأنَّ هناك ملك ظالمٌ يأخذ سفُنَ الفقراء ويستولي عليها، فأراد أن يخرقها بخرقٍ يُمكن إصلاحه فيما بعد، حتى ينصرف عنها هذا الملك الغاصب.
وكذلك ما يتعلَّق بالغلام إذا صالَ على والديه، وأراد قتل والديه، فإنَّ دفع الصَّائل يجوز ولو بقتله، وهذا هو ما حصلَ، والله -عزَّ وَجَلَّ- أوحى إلى الخضر أنَّ هذا سوف يقتل والديه إذا كبر، فدُفِعَ شرُّه بقتله، ولهذا قال ابن عباس: "إنْ كُنْت عَلِمْت مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ، وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ"، وهذا كان في مناظرة طويلة وعظيمَة بين ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبين نجدَة -وهو من الخوارج- وردَّ فيها ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على الخوارج وفنَّدَ شبهاتهم، ومن هذا أنَّ الخوارج يقتلون الصِّبيان، فمِن حجج الخوارج أنهم يقولون: إذا كبروا سوف يقتلوننا، فقال ابن عباس لـ (نجدة بن عامر الحنفي): هل تعلم الغيب؟.
فالجواب: لا، حتى نجدة بن عامر الحنفي يعرف أنه لا يعلم الغيب.
فَأَحَجَّه ابن عباس بهذا، فقال: "إنْ كُنْت عَلِمْت مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ، وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ"، ومعلوم أنَّ هذا مستحيل، وهو أن يعلم نجدة أو غيره ما علمه الخضر، لأنَّ الخضر علمه الله -عزَّ وَجَلَّ- وأوحى إليه.
قال الشَّيخ -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إلَى الْيَتِيمِ بِلَا عِوَضٍ وَالصَّبْرُ عَلَى الْجُوعِ)؛ لأنهم دخلوا القرية فأحسنوا إلى أيتام، وهذا من صالح الأعمال، وليس في ذلك أمرٌ مُستنكَر، وبالتَّالي ما فعله الخضر يعتبر مُوافق للشَّرع، فلا يجوز لأحدٍ من الصُّوفيَّة أو غيرهم أن يأتي بأعمال مخالفة للشرع ويقول: أنا مثل الخضر! فالخضر ما خالف الشرع الذي عَلَّمَه الله -عزَّ وَجَلَّ- إيَّاه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالشَّرْعِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا وَقَدْ يَكُونُ عَادِلًا، وَقَدْ يَكُونُ صَوَابًا وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً، وَقَدْ يُرَادُ بِالشَّرْعِ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ والأوزاعي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وداود وَغَيْرِهِمْ)}.
هذا ما سألتَ عنه قبل قليل، ففتاوى العلماء غير قضاء القضاة، وقد يُراد بالشَّرع حكم الحاكم، الذي هو القاضي الشَّرعي، وقد يُراد بالشَّرع أقوال اهل العلم، وأقوال أئمَّة السُّنَّة، فينبغي التَّفريق بين هذا وهذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهَؤُلَاءِ أَقْوَالُهُمْ يُحْتَجُّ لَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِذَا قَلَّدَ غَيْرَهُ حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَانَ جَائِزً)}.
التَّقليد جائز للحاجةِ، لكن لا يجب على المسلمين جميعًا أن يقلِّدوا شخصًا إلا أن يتَّبعوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمَّا الأئمة فيستفاد من علمهم ويُقتدَى بهم ويُتفقَّه على طريقتهم ولكن من غير تعصُّبٍ أو تقليد أعمى، لكن إذا عجزَ أو جهل جاز له التقليد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَيْ لَيْسَ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمْ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا يَحْرُمُ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمْ كَمَا يَحْرُمُ اتِّبَاعُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ)}.
الذي يتكلَّم بغيرِ علمٍ لا يجوز أخذ قوله ولا تقليده؛ لأنَّه يتكلم بغير علم، بخلاف أئمَّة الهُدَى وأئمَّة الدِّين وأئمة الفقه، فلو قلَّدهم فلا حرج عليه عند الحاجة، أمَّا مَن يتكلَّم بالهوَى أو عُرف عنه أنَّه بدَّلَ الشرع فلا يجوز تقليده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا إنْ أَضَافَ أَحَدٌ إلَى الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنْ أَحَادِيثَ مُفْتَرَاةٍ، أَوْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ بِخِلَافِ مُرَادِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مِنْ نَوْعِ التَّبْدِيلِ)}.
وهذا كما يفعل الباطنيَّة وغُلاة الرَّافضَة وغُلاة الصُّوفيَّة، والكذَّابون الذين يكذبون على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والخرافيُّون؛ فإذا أضافوا أفعالهم وأقوالهم وأباطيلهم وإفكهم إلى الرسول وإلى الشَّريعة؛ فهذا يُسمَّى "شرع مبدَّل" وهو شرع باطل وغير حقيقي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُؤَوَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُبَدَّل)}.
الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ: هو الكتاب والسُّنَّة، وما اتَّفقَ عليه سلف الأمَّة، وهذا لا يتطرَّق إليه الباطل، وكله حق.
الشَّرْعِ الْمُؤَوَّلِ: وهو اجتهادات العلماء، سواء قضاة الشَّرع -قضاة المحاكم- أو أئمَّة الفتوى وأئمَّة العلم، فهذا يُسمَّى الشَّرع المؤوَّل، فإذا وافقت اجتهاداتهم الكتاب والسُّنَّة فيستفاد منها ويؤخَذ بها، ويُلزَم الناس بها، وإذا وقع منهم خطأ فهذا وارد؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، لكن لا يتَّفقون على خطأ؛ لأنَّ الأمَّة لا تجتمع على ضلالة.
الشَّرْعِ الْمُبَدَّل: وهو الخرافات والأكاذيب، والأشياء التي افتُريَت على الشَّريعة؛ فلا يجوز الأخذ بها أو الرُّكون إليها؛ بل يجب تحذير النَّاس منها، ولهذا بعض النَّاس يُطلق على هذا شرع، وعلى هذا شرع، ويطلق على هذا شرع! وهذا كثير عند الملحدين الآن، فبعضهم يأتي إلى داعية أو خطيب أو واعظ جاهل، وهذا ربَّما تصدر منه كلمات غير صحيحة، أو روايات لا يضبطها، أو يزيد فيها أو ينقص، ثم يُقال: هذا دينكم! فيتَّخذون من أخطاء هؤلاء سُلَّمًا للنيل من الشَّريعة التي أنزلها الله -عزَّ وَجَلَّ- فهذا كثير ما يفعله الملاحدة اليوم وأعوانهم.
وأنا ألاحظ أحيانًا في بعض وسائل التَّواصل أن بعض المغرضين يستغل انحرافات أو أخطاء من بعض المنتسبين للدِّين، ثم يقول: هذا هو الشَّرع!
ولهذا يجب على طلبة العلم وعلى أهل العلم أن يتفطَّنوا لهذا، وأن يردُّوا على هؤلاء المغرضين، كما عليهم أن ينبهوا هؤلاء الغالطين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ مَا يُكْتَفَى فِيهَا بِذَوْقِ صَاحِبِهَا وَوَجْدِهِ)}.
الذَّوق والوجد لا عبرَةَ به ولا يُكتَفَى به؛ لكن لابدَّ من الكتاب والسُّنَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ، وَالْأَمْرِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْإِذْنِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَالْبَعْثِ، وَالْإِرْسَالِ، وَالْكَلَامِ، وَالْجَعْلِ؛ بَيْنَ الْكَوْنِيِّ الَّذِي خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَا يُحِبُّهُ وَلَا يُثِيبُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ، وَبَيْنَ الدِّينِيِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ وَأَثَابَ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَهُمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ الَّتِي يُفَرَّقُ بِهَا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، فَمَنْ اسْتَعْمَلَهُ الرَّبُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ كَانَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ فِيمَا يُبْغِضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ كَانَ مِنْ أَعْدَائِهِ.
فَالْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ هِيَ مَشِيئَتُهُ لِمَا خَلَقَهُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلَةٌ فِي مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، الْمُتَنَاوِلَةُ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَجَعَلَهُ شَرْعًا وَدِينً)
}.
هذا الفصل مهم جدًّا، واشتمل على قسمين:
القسم الأوَّل: الفروق بين هذه الكلمات المذكورة، فقد ذكر تسع كلمات وردت في الشَّريعة على وجهين:
       وجهٌ كونيٌّ: متعلقٌ بالإرادة والمشيئة العامَّة.
       ووجهٌ شرعيٌّ دينيٌّ: متعلِّق بالمحبَّة.
والفرقُ بين هذا وهذا ظاهر لكلِّ مُسلم، لكن عندما تكلَّم هؤلاء الملاحدة من أهل وحدة الوجود والضُّلال الذين تكلَّموا في الدَّرجات الثَّلاث التي سبق ذكرها عندما يشهد طاعة ومعصية، ثم يشهد طاعة بلا معصية، ثم يشهد لا طاعة ولا معصية؛ وكذلك في مسائل التَّصوُّف الأخرى؛ فإنَّهم يبدؤون بالدَّمجِ بين الإرادة الكونيَّة والإرادة الشَّرعيَّة، والحقيقة الكونيَّة والحقيقة الشَّرعيَّة، والأمر الكوني والأمر الشَّرعي، وكذلك الإذن الكوني والإذن الشَّرعي، والقضاء الكوني والقضاء الشَّرعي...، إلى آخره.
والشَّيخ هنا يُنبِّه إلى أنَّ القرآن فرَّق بين هذا وهذا، والقاعدة: أنَّ ما أمرَ الله به وشَرَعَه وأوجبَه على عباده واستحبَّه لهم فهذا شرعي، والقيام به من الشَّرع، وهو محبوبٌ لله، ومَن قام به فقد عمل عملًا محبوبًا لله، وهو من أولياء الله. وعكسه من المحرَّمات والشِّرك والكفر وغير ذلك فهو من عمل أعداء الله، فجيب الفرق بين ما يُحبه الله ويرضاه، وبين ما يكرهه ويأباه.
وهذا الأمر من أعظم الفروق التي يُفرَّق بها بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان، فأولياء الرحمن يُفرِّقون بين ما فرَّق الله به، وألياء الشيطان يجعلونها شيئًا واحدًا، فيجعلونَ المحبوب والمسخوط والطاعة والمعصية شيئًا واحدًا؛ فهؤلاء هم أولياء الشيطان.
بدأ الشَّيخ بالإرادة، والإرادة ترد في كتاب الله -عزَّ وَجَلَّ- على طريقين:
الأول: الإرادة بمعنى المشيئة، ونعرف أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ الإرادة بمعنى المشيئة من خلال السِّياق، وهذا واضح جدًّا.
الثَّاني: أن تأتي الإراد بمعنى الشيء المشروع المحبوب، وهذا يُعرف أيضًا من خلال السِّياق.
وذكر الشيخ أمثلة، نأخذها آية آية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذِهِ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾)}.
الإرادة هنا كونيَّة لأنَّه قسَّمَ النَّاس، فهناك أناس هداهم وهناك أناس أضلهم، فالله أراد إضلال هؤلاء وأراد هداية هؤلاء. إذن؛ هذه الإرادة إرادة كونيَّة بمعنى المشيئة، وليست إرادةً شرعيَّة، فليس من الشَّرعِ الضلالُ الذي يضلُّ به بعضُ النَّاس ويكفرون بسببه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾)}.
الإرادة هنا بمعنى المشيئة، فتعتبر الإرادة هنا إرادة كونيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾)}.
كذلك هذه إرادة كونيَّة بمعنى المشيئة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ تَعَالَى فِي الثَّانِيَةِ)} يقصد الإرادة الشرعيَّة الدينية التي بمعنى المحبَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾)}.
يعني بعض النَّاس يشقُّ ويُعسِّر على نفسه، إذن معنى الآية: يُحب الله لكم ويشرع لكم؛ فعرفنا من السياق أنَّ هذه إرادة شرعيَّة، فقد شرع الله لكم اليسر، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُو»[4]، لكن بعض النَّاس قد يعسِّر على نفسه، فعلمنا هنا أنَّ المراد بالإرادة هنا الإرادة الشَّرعيَّة الدِّينيَّة التي بمعنَى المحبَّة والشَّرع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾)}.
هنا إرادة شرعيَّة دينيَّة، ولهذا بعض النَّاس يُلابس النَّجاسات ولا يتطَّهر! فبعض الناس لا يتطهَّر من البول، وبعضهم لا يستنجي!
فقوله: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾، لو كانت الإرادة بمعنى المشيئة الكونيَّة لكان كل الناس على طهارة ولا تمسهم نجاسة، لكن المراد هنا هو الإرادة الشَّرعيَّة، يعني: شرَع لكم هذه الطَّهارة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَحَلَّهُ وَمَا حَرَّمَهُ مِنْ النِّكَاحِ قَالَ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفً﴾)}.
هذه إرادة شرعيَّة دينية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ لَمَّا ذَكَرَ مَا أَمَرَ بِهِ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ: ﴿إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا فَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُ كَانَ مُطَهَّرًا قَدْ أُذْهِبَ عَنْهُ الرِّجْسُ بِخِلَافِ مَنْ عَصَاهُ)
}.
وهذا فيه بيانٌ أنَّ قرارَ المرأةِ في البيتِ مشروعٌ، وأنَّ هذا مِن أسباب ابتعادِ أهل الشَّرِّ عنها، فلزوم الحجاب ولزوم البيت والعفَّة والطَّهارة والحياء مما يُحبُّه الله لنِّساء، وهو عكس ما يُريده الملاحدة وأهل الشَّرِّ وأهل المجون وأهل الفسق الذين يُريدون بالمرأة المسلمة عكس مراد الله -عزَّ وَجَلَّ- فيريدونها أن تتبرَّج وأن تخرج سافرَة عن جسمها وعن مفاتنها، يريدونها أن تجلس مع الرِّجال الأجانب وتتضاحك معهم وتتمايل معهم، فإذا قلتَ لهم أنَّ هذا لا يجوز وأنَّه خلافُ الشَّرع؛ قالوا: هذا كبتٌ لحريَّة المرأة!
والله -عزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا "الْأَمْرُ"؛ فَقَالَ فِي الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ: ﴿إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾)}.
الآن أتى الشيخ إلى كلمة "الأمر"، والأمر كذلك ينقسم إلى:
      أمر كوني قدري بمعنى المشيئة.
      أمر شرعي ديني بمعنى المحبَّة.
فالأول كما في قوله تعالى: ﴿إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، هذا أمر كوني.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا: الْأَمْرُ الدِّينِيُّ: فَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً﴾).
هذا أمر شرعي ديني.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا "الْإِذْنُ" فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ لَمَّا ذَكَرَ السِّحْرَ: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أَيْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَإِلَّا فَالسِّحْرُ لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)}.
فهذا إِذْنٌ كونيُّ قدريٌّ بمعنى المشيئة، وليس الإذنُ الشَّرعيُّ الدِّينيُّ الذي بمعنى المحبَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ فِي "الْإِذْنِ الدِّينِيِّ": ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
وَأَمَّا "الْقَضَاءُ" فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ﴾ أَيْ أَمَرَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ قَدَّرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ عُبِدَ غَيْرَهُ كَمَا أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾)
}.
إذن قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ﴾، يعني أمرَ ووصَّى، فهذا الأمر ليس أمرًا كونيًّا، إنما هو أمر شرعي؛ لأننا نرى في الكون أنَّه قد عُبِدَ غيره، فلو كان الأمر كونيًّا عامًّا للخلق كلهم أنه لا يُعبَد إلَّا الله لرأينا أنَّه لا يُعبَد إلَّا الله في الكون كله، ولكن لمَّا رأينا أنَّه يُعبَد غيره عرفنا أنَّ المراد هنا بالقضاء هو أنه أمر ووصَّى -كما قال الصحابة في تفسير هذه الآية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَوْلُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾)
}.
كل هذه الآيات تدلُّ على أنَّه قد عُبِدَ غير الله.
فمعنى قضى: أي أمرَ، وليس المعنى هو القضاء الكوني.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذِهِ كَلِمَةٌ تَقْتَضِي بَرَاءَتَهُ مِنْ دِينِهِمْ وَلَا تَقْتَضِي رِضَاهُ بِذَلِكَ)}.
يعني قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ليس معناه الرِّضا بدينهم، والكن المعنى: أنا متبرِّئ منكم ومن دينكم، فانتم على باطل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ هَذَا رِضَا مِنْهُ بِدِينِ الْكُفَّارِ فَهُوَ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وَأَكْفَرِهِمْ، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ بِمَعْنَى: قَدَّرَ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا قَضَى بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ، وَجَعَلَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالْكُتُبِ)
}.
هذا يُبيِّن لك سبب إطالة الشيخ في قوله﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾، لأنَّ بعض الملاحدة احتجَّ بهذا، فقال: ما دام أنَّ الله قضى ألا نعبد إلا إيَّاه؛ فكل الناس لا يعبدون إلا الله! وهذا ظنٌّ فاسدٌ، لأنَّ ﴿قضى﴾ يعني: أمرَ ووصَّى، وليس كما يزعم هذا الملحد.
وكذلك قوله تعالى﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، أي: أنا بريء من دينكم، كما قال في الآية الأخرى: ﴿أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
وسيواصل الشيخ الكلام في بقيَّة الألفاظ، البعث والإرسال، والجعل، إلى آخره.
نسأل الله -عزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياكم العلم النَّافع والعمل الصَّالح، والفرقان بينَ الحقِّ والبطل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك