الدرس السابع

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2406 12
الدرس السابع

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله جميعًا، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان": (فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ؛ وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِيهِ، فَيُؤَيِّدُهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَرُوحٍ مِنْهُ، وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ، وَلَهُمْ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ.
وَخِيَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتُهُمْ لِحُجَّةِ فِي الدِّينِ، أَوْ لِحَاجَةِ بِالْمُسْلِمِينَ، كَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَلِكَ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
لَمَّا كان الحديثُ عن الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ ناسبَ بيان مسألة الكرامات، والفرق بينها وبين مخاريق السَّحرة والكُهَّان، والفرق بينَ الكرامة وما يُؤتاه الأنبياء من الدَّلائل والمعجزات والبراهين الدَّالَّة على نبوَّتهم وصدقهم.
فهنا ثلاثة أشياء:
°        الأول: كرامات يُكرم الله بها أهل الإيمان، وهم أولياء الرحمن.
°        الثاني: معجزات وتسميتها ببيِّنات وبراهين ودلائل وعلامات نبوَّة، وهذه تكون للأنبياء.
°        الثَّالث: المخاريق التي تكونُ للسَّحرة والمشعوذينَ ونحوهم.
فلابدَّ من التفريق بين هذا وهذا، ومعرفة الفرقان مُهم جدًّا لأهل الإيمان ولطلاب العلم.
قال الشيخ: (فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ؛ وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِيهِ)، وهذا من تحقيق شهادة أنَّ محمدًا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنَّ معناها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجرَ، وأن لا يُعبَدَ الله إلا بما شرعَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال الشيخ: (فَيُؤَيِّدُهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَرُوحٍ مِنْهُ، وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ، وَلَهُمْ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ)، أي: أنَّ أهل الإيمان يُكرمهم الله -جلَّ وَعَلَا- بالتَّثبيت والتَّأييد، وهذا على نوعين:
-       الأوَّل: معنوي.
-       الثَّاني: حسِّي.
فالمعنوي: هو ما يكون في قُلوب المؤمنين من التَّصديق والإيمان، واليقين والطمأنينة، وحُسن الظَّن بالله، والثِّقة بفضله، والرَّجاء لنصره وتمكينه؛ كل هذا من تأييد الله -عزَّ وجلَّ- فيؤيدهم الله بملائكته وروحٍ من عنده، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ»[6]، وقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11]، فالملائكة يُصاحبون أهل الإيمان ويكونون معهم، وإذا وقعَ العصيان بعدت، كما جاء في الحديث: «لا تَصْحَبُ المَلائِكَةُ رُفْقَةً فيها كَلْبٌ ولا جَرَسٌ»[7]، وجاء في الحديث: «لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ ولَا صُورَةٌ»[8]، فهذا يدل على أنَّ البيوت التي خلت من هذا تملؤها الملائكة، ودخول الملائكة سببٌ لطرد الشياطين، وسبب لتقوية المؤمن في إيمانه.
قال: (وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ، وَلَهُمْ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ)، أي: المدد المعنوي: نور القرآن ونور السُّنَّة ونور الإسلام يُقذف في قلوبهم حتَّى يُميِّزوا بين الحق والباطل، فهذا النور معنوي يَقذفه الله في قلب المؤمن، فيكره المعصية ويُحب الطَّاعة، ويكره الكفر ويُحب الإيمان، قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: 7].
ولهذا فإنَّ المؤمن الصادق في إيمانه كثيرُ الذِّكر لله مُتبع السنَّة يُعطيه الله نورًا فيُميِّز، حتى إذا جاء رجلٌ سيء أو امرأة سيئة جاءت إلى هذه المؤمنة أبغضتها وكرهتها لِمَا رأت عليها من علامات الفجور، فكرهتها وكرهت مُصاحبتها؛ فهذا من النُّور الإيماني والتوفيق الذي يكون للمؤمنين، وهذا عِلمٌ غزيرٌ وبابٌ واسعٌ لا يتَّسع ذكر أمثلته، لكن المؤمن يُوفقه الله -عزَّ وجلَّ- ويُسدده ويُلهمه، وهذا من استجابة الله لهذا الدُّعاء العظيم الذي يُكرر في كل ركعة ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحـة:6- 7].
وسؤال الله -عزَّ وجلَّ- الهداية، أي: هداية التوفيق.
وهناك معنى آخر وهو صحيح وهو هداية الإرشاد والدلالة.
وهناك معنى ثالث: وهو التثبيت.
ومعنى رابع وهو: الزِّيادة.
وكل المعاني صحيحة، ولكن المعنى الأول وهو هداية التوفيق هذا من نور الله -عزَّ وجلَّ- ومن توفيق الله للمؤمن، يُحبب الله إليه الحق فيقبله ويعمل به، ويُبغِّض إليه الكفر فيكرهه ويتركه ويبتعد عنه ويبرأ منه.
قال: (وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ)، وهذا ليس كما يزعم الصُّوفيَّة أنَّه يُشاهدُ نورًا حسِّيًّا أو يشعر بهذا، وبعضهم يترك الجمعة والجماعة ويجلس في الغرفة ويقول: إنه يأتيه مدد!
فهذا كله من الأشياء المنكرة؛ لأنَّه لابدَّ حتى يكون الرجل -أو المرأة- على توفيق من الله؛ أن يكون مُقيمًا لأمر الله، فيتَّبع ما أمرَ، ويترك ما نهى، ويكون مُتَّبِعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال في وصف المؤمنين: (وَلَهُمْ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ).
الكرامات: جمعُ كرامة، والكرامة أمرٌ خارقٌ للعادةِ يُجريها الله -عزَّ وجلَّ- على يدِ ولي ومؤمن، وهذا الأمر الخارق للعادة يتنوَّع:
-       إمَّا أن يكون من جهة الأمور العلميَّة.
-       وإمَّا أن يكون من جهةِ القدرةِ والتَّأثير، وسيأتي ذكر أمثلة لهذا النوع.
فأهل السُّنَّة والجماعة يؤمنون بكرامات الأولياء ويُقرِّونَ بها، وهم وسطٌ بينَ ضلالة مَن أنكرها، وضلالة مَن غلا فيها وزعم أنها تقع حتَّى للمعرضين عن الدين أو المبدلين للشريعة أو المبتدعين.
فهناك أقوامٌ أنكروا الكرامات، وقالوا: لا تقع الكرامات، كما أنكروا السحر والشَّعوذة، وأنكروا كل هذه الأمور، وهم المعتزلة ومَن شابههم من أهل البدع، وهم على ضلالةٍ وعلى انحراف في هذا المسلك.
وقد قصَّ الله -عزَّ وجلَّ- علينا في القرآن العظيم قصَّة أصحاب الكهف وهم ليسوا أنبياء، وما جرى لهم هو كرامة وآية من آيات الله -عزَّ وجلَّ- فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أبقاهم أحياءً في نومٍ مُستمرٍّ مدَّة ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعًا.
وكذلك قصَّة مريم -عليها السلام- قال تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقً﴾ [آل عمران: 37]، ومريم ليست نبيَّة؛ بل هي امرأةٌ صالحةٌ صدِّيقة، قال تعالى: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75].
وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقً﴾ يدل على كرامة الله لهذه المؤمنة مريم -عليها السلام- ورحمها الله ورضي عنها.
وكذلك في السنَّة شيء كثيرٌ سيأتي ذكره.
فالكرامات ليست بلازمٍ لكل مؤمن أن يكون عنده كرامة، فقد يكون المؤمن مؤمنًا وكامل الإيمان، ومع ذلك لا يجري على يديه كرامة، ولا تقع له كرامة، فقد تقع له الكرامة وقد لا تقع، فليس من لازمِ الإيمانِ الكرامة، وإنَّما من لازم الإيمان الاستقامة، فإذا استقمتَ على الدين فهذه أعظم كرامة، ولكن بعض الناس لجهله ونقصِ معرفته بالشَّريعة الإسلاميَّة يظن أنَّه لابدَّ أن تقع له كرامة حتى يثبت إيمانه ويظن أنَّه وصل إلى مرحلة في الإيمان كاملة، وهذا من الجهل في الشريعة الإسلاميَّة، حتَّى أنَّ بعضهم يجلس يُفكِّر كيف تقع له الكرامة، ويأخذ هذا في باله، ويحرص على أسباب ذلك، فإذا لم تقع له الكرامة باتَ حزينًا ومنكسرًا وظنَّ أنَّه ضعيف الإيمان، وأنَّه ناقص وأنَّه غير مقبول عند الله، وإذا وقعت له الكرامة ظنَّ أنَّه كامل؛ فاغترَّ بنفسه، فكلُّ هذه المسالك مسالك غالطة وخاطئة وليست من الشريعة في شيء، فالكرامة تقع للمؤمن قوي الإيمان، وتقع للمؤمن ضعيف الإيمان أيضًا، وتكون الكرامة لحجَّةٍ في الدين أو لحاجةٍ بالمسلمين، أو لحاجةٍ له هو، فهذا مما يُميِّز الكرامة، فإذا وقعت الكرامة ليس لحجَّة في الدينِ، ولا لحاجة بالمسلمين ولا لحاجةٍ له هو؛ فهي لا تعد كرامة.
والفريق الثاني الذي غلا في الكرامة هم الصُّوفيَّة، فإنَّهم غلوا وبالغوا في الكرامات، وبعضهم صارَ يكذب حتى تُنسَب الكرامات لشيخه أو لزعيمهم أو لشيخ الطَّريقة، وكل هذا من الأشياء التي يجب الحذر منها، فالكرامات نؤمن بها ونقر بها، ومن طريقة أهل السنة والجماعة الإيمان بالكرامات التي تكون لأولياء الله المؤمنين، ولكن بهذه الضَّوابط التي سبق ذكرها.
قال: (وَخِيَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتُهُمْ لِحُجَّةِ فِي الدِّينِ، أَوْ لِحَاجَةِ بِالْمُسْلِمِينَ)، حجَّة في الدين: يعني من إقامة الحجَّة على الكفَّار، أو على المبتدعة، أو على المعاندين للسُّنَّة ونحو ذلك، فيأتي الله -عزَّ وجلَّ- للمؤمن بكرامةٍ، إمَّا قوَّة استدلال واستنباط، أو إفحام للخصم بطريقةٍ مبهرةٍ، أو لظهور تناقض الكافر وبيان هذا الشيء بسهولة، فيُلهم الله -عزَّ وجلَّ- المؤمن هذا الكلام، فيكونُ سببًا للإسلام الناس، أو إسلام مَن شاء الله -عزَّ وجلَّ- أن يهتدي.
وقوله: (أَوْ لِحَاجَةِ بِالْمُسْلِمِينَ)، كما يكون في القتال، ومثل ما يكون في الحروب، ومثل ما يتعرض بعض المسلمين للخطر فينقذهم الله -عزَّ وجلَّ- منه، فهذه آثار الكرام,
والمهم جدًّا أنَّ الإنسان لا يجعل الكرامة هي الغاية؛ بل إنَّ الغاية هي الاستقامة على الشَّريعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَدْخُلُ فِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلُ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ، وَإِتْيَانِ الشَّجَرِ إلَيْهِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ إلَيْهِ، وَإِخْبَارِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَإِتْيَانِهِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، كَمَا أَشْبَعَ فِي الْخَنْدَقِ الْعَسْكَرَ مِنْ قِدْرِ طَعَامٍ، وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَشْهُورِ، وَأَرْوَى الْعَسْكَرَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ مَزَادَةِ مَاءٍ وَلَمْ تَنْقُصْ، وَمَلَأ أَوْعِيَةَ الْعَسْكَرِ عَامَ تَبُوكَ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَنْقُصْ وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى كَفَى النَّاسَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، كَمَا كَانُوا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ، وَرَدِّهِ لِعَيْنِ أَبِي قتادة حِينَ سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ فَرَجَعَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة لِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَوَقَعَ وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ فَمَسَحَهَا فَبَرِئَتْ، وَأَطْعَمَ مِنْ شِوَاءٍ مِائَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا كُلًّا مِنْهُمْ حَزَّ لَهُ قِطْعَةً وَجَعَلَ مِنْهَا قِطْعَتَيْنِ فَأَكَلُوا مِنْهَا جَمِيعُهُمْ ثُمَّ فَضَلَ فَضْلَةٌ.
وَدَيْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَابِرٍ لِلْيَهُودِيِّ وَهُوَ ثَلَاثُونَ وَسْقًا.
قَالَ جَابِرٌ: فَأَمَرَ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ جَمِيعَهُ بِاَلَّذِي كَانَ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَمَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ لِجَابِرِ «جُدْ لَهُ» فَوَفَّاهُ الثَّلَاثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ قَدْ جَمَعْت نَحْوَ أَلْفِ مُعْجِزَةٍ)
}.
يذكر -رَحِمَهُ اللهُ- أمثلة على المعجزات التي حصلت للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قبل ذلك: (وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَدْخُلُ فِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وهذا المسلك مسلكٌ عظيمٌ نبَّهَ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا من الفرقان، ومن علامات الكرامات، فعلامات الكرامة تحصل ببركة اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمن هذا نأخذ فائدة وهي:
أولًا: أنَّ الذي لا يتبع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يسمى ما جرى له كرامات
ثانيًا: أنَّ هذه كرامات تعتبر داخلةً في مُعجزات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا آمن به هؤلاء المؤمنون فأجرى الله -عزَّ وجلَّ- على أيديهم هذه الكرامات؛ فهذا من دلائل صدق الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّ ما جاء به حق، فصارت من هذا الباب مُعجزة للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال: (مِثْلُ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ)، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر: 1]، وهذا من أعظم معجزات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد جاء فيها حديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في البخاري، عن ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شقتين، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْهَدُو»".
قال: (وَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ)، كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا وضع الحصى في كفه يسمع الناس تسبيح الحصيات، لهنَّ حنين كحنين النحل، فهذا من مُعجزات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَإِتْيَانِ الشَّجَرِ إلَيْهِ)، روى جابر بن عبد الله عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: "سِرْنَا مع رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بإدَاوَةٍ مِن مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَرَ شيئًا يَسْتَتِرُ به، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بشَاطِئِ الوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- إلى إِحْدَاهُمَا، فأخَذَ بغُصْنٍ مِن أَغْصَانِهَا، فَقالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بإذْنِ اللهِ» فَانْقَادَتْ معهُ كَالْبَعِيرِ المَخْشُوشِ، الذي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى، فأخَذَ بغُصْنٍ مِن أَغْصَانِهَا، فَقالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بإذْنِ اللهِ» فَانْقَادَتْ معهُ كَذلكَ، حتَّى إِذَا كانَ بالمَنْصَفِ ممَّا بيْنَهُمَا، لأَمَ بيْنَهُمَا، يَعْنِي جَمعهُمَا، فَقالَ: «التَئِما عَلَيَّ بإذْنِ اللهِ» فَالْتَأَمَتَا"، وهذا في صحيح مسلم.
وكذلك حنين الجذع، وهذا أمرٌ مشهورٌ متفقٌ عليه، ورواه البخاري ومسلم، قال ابن عمر: "كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْطُبُ إلى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ المِنْبَرَ تَحَوَّلَ إلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ فأتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عليه".
قال: (وَإِخْبَارِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ)، جاء في البخاري ومسلم من حديث جابر قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ في الحِجْرِ، فَجَلا اللَّهُ لي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عن آياتِهِ، وأنا أنْظُرُ إلَيْهِ»، ولأنه في الحديث الآخر قال: «لقَدْ رَأَيْتُنِي في الحِجْرِ وقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عن مَسْرايَ، فَسَأَلَتْنِي عن أشْياءَ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْها، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً ما كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لي أنْظُرُ إلَيْهِ، ما يَسْأَلُونِي عن شيءٍ إلَّا أنْبَأْتُهُمْ به»[9].
والإسراء والمعراج من معجرات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَإِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ)، وهذا كثير، أخبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأمور تقع في آخر الزَّمان، مثل: «أنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها، وأَنْ تَرَى الحُفاةَ العُراةَ العالَةَ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطاوَلُونَ في البُنْيانِ»[10]، ونحو ذلك من أشراط الساعة الصغرى والوسطى، فوقع كثير منها.
وكذلك أخبر بأمور سالفةٍ فيما حصل للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
قال: (وَإِتْيَانِهِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ)، هذا القرآن العظيم من أعظم الآيات البيِّنات والدَّلائل القاطعات السَّاطعات، فالقرآن العظيم هو المعجزة الكبرى.
قال: (وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً)، هذا وقع للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عدَّة مرات، كما حصل في غزوة الخندق، فإنَّ الجوع مسَّهم حتى إنَّ الصحابة ربطوا على بطونهم حجرًا، قال بعضهم: "فرأيتُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ربط على بطنه حجرين من شدَّة الجوع"، فأشبع المعسكر وكانوا ثلاثة آلاف.
قال: (كَمَا أَشْبَعَ فِي الْخَنْدَقِ الْعَسْكَرَ)، يعني: الجيش كله.
قال: (مِنْ قِدْرِ طَعَامٍ، وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَشْهُورِ)، وهذا الحديث في البخاري ومسلم، قالَ أبو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لقَدْ: سَمِعْتُ صَوْتَ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ضَعِيفًا، أعْرِفُ فيه الجُوعَ، فَهلْ عِنْدَكِ مِن شيءٍ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، فأخْرَجَتْ أقْرَاصًا مِن شَعِيرٍ، ثُمَّ أخَذَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ ببَعْضِهِ، ثُمَّ أرْسَلَتْنِي إلى رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في المَسْجِدِ ومعهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عليهم، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أرْسَلَكَ أبو طَلْحَةَ» فَقُلتُ: نَعَمْ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِمَن معهُ: «قُومُو» فَانْطَلَقُوا وانْطَلَقْتُ بيْنَ أيْدِيهِمْ، حتَّى جِئْتُ أبَا طَلْحَةَ فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ أبو طَلْحَةَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ، قدْ جَاءَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- والنَّاسُ، وليسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ ما نُطْعِمُهُمْ، فَقالَتْ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أبو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فأقْبَلَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وأَبُو طَلْحَةَ حتَّى دَخَلَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هَلُمِّي يا أُمَّ سُلَيْمٍ ما عِنْدَكِ فأتَتْ بذلكَ الخُبْزِ، قالَ: فأمَرَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بذلكَ الخُبْزِ فَفُتَّ، وعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فأدَمَتْهُ، ثُمَّ قالَ فيه رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَقُولَ، ثُمَّ قالَ: «ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فأذِنَ لهمْ فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قالَ: «ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فأذِنَ لهمْ، فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قالَ: «ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فأكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ وشَبِعُوا، والقَوْمُ سَبْعُونَ أوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا". وهذا وقع أيضًا في مناسبات أخرى.
قال: (وَأَرْوَى الْعَسْكَرَ)، يعني: سقاهم من الماء حتى ارتووا.
قال: (فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ مَزَادَةِ مَاءٍ وَلَمْ تَنْقُصْ)، هذه المزادة كانت لامرأة مشركةٍ، فأخذوها منها ثم ردوها إليها ولم تنقص، فهذا من آيات الله -عزَّ وجلَّ- ومعجزات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن علامات النبوية.
قال: (وَمَلَأ أَوْعِيَةَ الْعَسْكَرِ عَامَ تَبُوكَ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَنْقُصْ وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى كَفَى النَّاسَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، كَمَا كَانُوا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ، وَرَدِّهِ لِعَيْنِ أَبِي قتادة حِينَ سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ فَرَجَعَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ)، وهذا في يوم بدر، فإنَّ قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أُصيبَتْ عينُهُ يومَ بدْرٍ فسالَتْ حدَقَتُهُ على وجْنَتِهِ فأرادوا أنْ يقْطَعُوها فسألوا رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «ل» فدَعَا به فغمَزَ حدقَتَهُ براحتِهِ فكان لا يَدْرِي أيَّ عينَيْهِ أُصِيبَتْ"، من شدَّة برئها ورجوعها كما كانت.
قال: (وَلَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة لِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَوَقَعَ وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ فَمَسَحَهَا فَبَرِئَتْ)، القصة وقعت لعبد الله بن عتيق، فهو الذي انكسرت ساقه، والحديث في البخاري.
قال: (وَأَطْعَمَ مِنْ شِوَاءٍ مِائَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا كُلًّا مِنْهُمْ حَزَّ لَهُ قِطْعَةً وَجَعَلَ مِنْهَا قِطْعَتَيْنِ فَأَكَلُوا مِنْهَا جَمِيعُهُمْ ثُمَّ فَضَلَ فَضْلَةٌ)، يعني: زادت زيادة، وكانوا مائة وثلاثين، فالشَّاة ما تكفي عشرة أو خمسة عشر إذا كانوا جياعًا وليس معها شيء، وهؤلاء مائة وثلاثين أكلوا جميعهم، ثم فضل فضلة، وهذا في البخاري ومسلم.
قال: (وَدَيْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَابِرٍ)، هو جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، صحابي مشهور وأبوه صحابي وجده صحابي، فــ "حرام" صحابي، و"عبد الله" صحابي"، و"جابر" صحابي؛ فلمَّا استشهد عبد الله في أحد كان عليه ين عظيم، كان جابر معه أخواته، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى دين عبد الله بن حرام الذي كان لليهودي وهو ثلاثون وسقًا، فسأل جابر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعًا بالذي له فلم يقبل؛ لأنَّه لا يكفي ثلاثين وسقًا، قال: (فَمَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ لِجَابِرِ «جُدْ لَهُ»)، يعني: جدَّ النَّخل.
قال: (فَوَفَّاهُ الثَّلَاثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقً) اللهم صلِّ وسلم عليه، فكل هذا من معجزات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (قَدْ جَمَعْت نَحْوَ أَلْفِ مُعْجِزَةٍ)، يعني: ذكرها أهل العلم، مثل كتاب: "دلائل النبوة" لأبي نعيم الأصبهاني، ودلائل النبوة للبيهقي، ودلائل النبوة للفريابي، وجمعها ابن كثير في البداية والنهاية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَرَامَاتُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِثْلُ مَا كَانَ أسيد بْنُ حضير يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، فَنَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ لِقِرَاءَتِهِ، وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَ سَلْمَانُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ يَأْكُلَانِ فِي صَحْفَةٍ، فَسَبَّحَتْ الصَّحْفَةُ أَوْ سَبَّحَ مَا فِيهَا، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وأسيد بْنُ حضير خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَضَاءَ لَهُمَا نُورٌ مِثْلُ طَرَفِ السَّوْطِ، فَلَمَّا افْتَرَقَا افْتَرَقَ الضَّوْءُ مَعَهُمَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقِصَّةُ الصِّدِّيقِ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ لَمَّا ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَضْيَافٍ مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ، وَجَعَلَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً إلَّا رَبَّى مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا، فَشَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا هِيَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَامْرَأَتُهُ فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ، فَرَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَاءَ إلَيْهِ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ فَأَكَلُوا مِنْهَا وَشَبِعُو)
}.
هذه من كرامات الصَّحابة والتَّابعين، وبدأ الشيخ بذكر أمثلة عليها، فذكر قصَّة أسيد بن حضير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأنَّه لَمَّا كان يقرأ سورة الكهف، قال: (فَنَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ)، السُّرُج جمع سراج.
والظُّلَّة تشبه الغيمة الصَّغيرة، وكانت الملائكة في هذه الظُّلَّة تستمع للملائكة، الله أكبر!
وهذا يدل على فضل أسيد بن حضير، وأنَّ الملائكة تستمع لقراءته، وبوَّب لها البخاري "باب نزول السَّكينة والملائكة عند قراءة القرآن"، قال: "بَيْنَما هو يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إذْ جالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجالَتِ الفَرَسُ فانْصَرَفَ، وكانَ ابنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْها، فأشْفَقَ أنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّماءِ، حتَّى ما يَراها، فَلَمَّا أصْبَحَ حَدَّثَ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فقالَ: «اقْرَأْ يا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يا ابْنَ حُضَيْرٍ»، قالَ: فأشْفَقْتُ يا رَسولَ اللَّهِ أنْ تَطَأَ يَحْيَى، وكانَ مِنْها قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فانْصَرَفْتُ إلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلى السَّماءِ، فإذا مِثْلُ الظُّلَّةِ فيها أمْثالُ المَصابِيحِ، فَخَرَجَتْ حتَّى لا أراها، قالَ: «وتَدْرِي ما ذاكَ؟»، قالَ: لا، قالَ: تِلكَ المَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، ولو قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إلَيْها، لا تَتَوارَى منهمْ"، هذه قصَّة أسيد.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ)، وهذا جاء في سيرة عمران أنَّه كان مجاب الدَّعوة، فكان يقول -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَقَدْ كانَ يُسَلَّمُ عَلَيَّ، حتَّى اكْتَوَيْتُ، فَتُرِكْتُ، ثُمَّ تَرَكْتُ الكَيَّ فَعَادَ"[11]، يعني: الملائكة.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ سَلْمَانُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ يَأْكُلَانِ فِي صَحْفَةٍ، فَسَبَّحَتْ الصَّحْفَةُ أَوْ سَبَّحَ مَا فِيهَ)، فكانوا يسمعون التسبيح من الإناء الذي يُؤكَل فيه، أو من الطَّعام الذي في وسط الإناء
قال: (وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وأسيد بْنُ حضير خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَضَاءَ لَهُمَا نُورٌ مِثْلُ طَرَفِ السَّوْطِ، فَلَمَّا افْتَرَقَا افْتَرَقَ الضَّوْءُ مَعَهُمَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ)، يعني: السَّوط العادي الذي من جلدٍ أو خيزران ونحوه؛ صار فيه ضوء، فكان الضوء يمشي معهما في طرف سوطيهما يُضيء في الطَّريق، فلمَّا ذهبَ كلُّ واحدٍ لبيته أضاء لكلِّ واحدٍ منهما في الطريق، وهذا جاء في البخاري عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (وَقِصَّةُ الصِّدِّيقِ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ لَمَّا ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَضْيَافٍ مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ، وَجَعَلَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً إلَّا رَبَّى مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا، فَشَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا هِيَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَامْرَأَتُهُ فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ، فَرَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَاءَ إلَيْهِ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ فَأَكَلُوا مِنْهَا وَشَبِعُو).
ربى: أي زاد.
والعادة أنَّه إذا أخذ لقمةً أن ينقص الطَّعام، ثم اللقمة الثانية والثالثة حتى يفنى الطعام، فصار كلما رفع لقمةً ربى أكثر منها، فشبعوا وصار في الإناء أكثر مما كان فيه قبل، فرفعها إلى رسول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقوامٌ آخرون فأكلوا منها.
كل هذه من كرامات الله لهؤلاء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَخبيب بْنُ عَدِيٍّ كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ يُؤْتَى بِعِنَبِ يَأْكُلُهُ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ عِنَبَةٌ.
وَ عَامِرُ بْنُ فهيرة قُتِلَ شَهِيدًا فَالْتَمَسُوا جَسَدَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ رُفِعَ فَرَآهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَقَدْ رُفِعَ. وَقَالَ عُرْوَةُ: فَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ)
.
قصَّة خبيب بن عدي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في البخاري، وكان أسيرًا عند المشركين، وهو القائل الأبيات المشهورة:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا... علَى أيِّ شِقٍّ كانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذلكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ... يُبَارِكْ علَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
قُتل صبرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكان في حال أسره يأكلُ العنب، وليس بمكَّة يومئذٍ عنب، وهذه كرامة من الله لخبيب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وكذلك عامر بن فهير، قال الشيخ: (قُتِلَ شَهِيدًا فَالْتَمَسُوا جَسَدَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ رُفِعَ فَرَآهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَقَدْ رُفِعَ. وَقَالَ عُرْوَةُ: فَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ)، وهذا رواه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الرَّجيع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَخَرَجَتْ أُمُّ أَيْمَنَ مُهَاجِرَةً وَلَيْسَ مَعَهَا زَادٌ وَلَا مَاءٌ فَكَادَتْ تَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْفِطْرِ وَكَانَتْ صَائِمَةً؛ سَمِعَتْ حِسًّا عَلَى رَأْسِهَا، فَرَفَعَتْهُ فَإِذَا دَلْوٌ مُعَلَّقٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ حَتَّى رُوِيَتْ، وَمَا عَطِشَتْ بَقِيَّةَ عُمْرِهَا.
وَسَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ الْأَسَدَ بِأَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَشَى مَعَهُ الْأَسَدُ حَتَّى أَوْصَلَهُ مَقْصِدَهُ.
وَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ إذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَبَرَّ قَسَمَهُ، وَكَانَ الْحَرْبُ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ يَقُولُونَ: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّك. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَقْسَمْت عَلَيْك لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ؛ فَيُهْزَمُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ وَجَعَلْتنِي أَوَّلَ شَهِيدٍ؛ فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا. وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَاصَرَ حِصْنًا مَنِيعًا، فَقَالُوا لَا نُسْلِمُ حَتَّى تَشْرَبَ السُّمَّ، فَشَرِبَهُ فَلَمْ يَضُرَّهُ. وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مَا دَعَا قَطُّ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي هَزَمَ جُنُودَ كِسْرَى وَفَتَحَ الْعِرَاقَ)
.
وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مَا دَعَا قَطُّ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ، ووردَ حديث في هذا عند الترمذي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «اللَّهُمَّ استَجِب لسعدٍ إِذَا دَعاكَ»، وهذا في الغالب وليس دائمًا، فإنَّ إجابة الدَّعوة لسعدٍ ومَن كان مُستجاب الدَّعوة هذا إنَّما يكون في الغالب؛ لأنَّ إجابة الدعوة في كل حالٍ لم يُعطَه حتى الأنبياء، والدليل على هذا أنَّ نوحًا -عليه الصلاة والسلام- كما في القرآن دعا ربَّه -عزَّ وجلَّ- فلم يستجب الله له، قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود45، 46]، وكذلك إبراهيم لما دعا واستغفر لأبيه لم يُستجَب له، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ [التوبة: 114]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا لعمِّه أبي طالب، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 113]، وفي البخاري ومسلم أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقنت على أقوامٍ يدعو عليهم؛ فأنزل الله -عزَّ وجلَّ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: 128]، فبعض مَن سمَّاهم في الدُّعاء أسلموا.
وهذا ينبغي الانتباه له، وهو أنَّ بعض الناس إذا قرأها في سيرة بعض الصالحين وبعض الصَّحابة والتَّابعين أو مَن جاء من المتأخرين أنَّه مجاب الدَّعوة؛ ظنَّ أنَّه يملك كل شيء، ولكن إجابة الدعاء تكون في الأغلب، وكل هؤلاء من الصالحين إذا أُجيبَت دعوته فإنَّه لا يكون إلَّا فيما يُرضي الله -عزَّ وجلَّ- أمَّا إذا دعا بمحرَّمٍ أو دعاء بما لا يليق أو بما هو من الأمور التي اختصَّ الله -عزَّ وجلَّ- بها؛ فإنَّ هذا يكون قد خرجَ عن الشَّريعة، ولا يكون حينئذٍ صالحًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا أَرْسَلَ جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُسَمَّى "سَارِيَةَ"، فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ فَجَعَلَ يَصِيحُ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ. فَقَدِمَ رَسُولُ الْجَيْشِ فَسَأَلَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقِينَا عَدُوًّا فَهَزَمُونَا، فَإِذَا بِصَائِحِ: يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ؛ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا بِالْجَبَلِ فَهَزَمَهُمْ اللَّهُ.
وَلَمَّا عُذِّبَتْ الزَّبِيرَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي اللَّهِ فَأَبَتْ إلَّا الْإِسْلَامَ وَذَهَبَ بَصَرُهَا، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَصَابَ بَصَرَهَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى. قَالَتْ: كَلَّا وَاَللَّهِ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَ)
}.
هي الزِّنِّيرَة: بكسر الزَّاي وتشديد النون المكسورة، وهي مولاة لأبي بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وهي أحد السبعة الذين كانوا يُعذَّبون في الله، فعُذِّبَت في الله عذابًا شديدًا من كفار قريش، فاشتراها أبو بكرٍ وأعتقها، فلمَّا عُذِّبَت الزِّنِّيرَة على الإسلام أبَت إلا الإسلام وذهبَ بصرها، فقالوا: (أَصَابَ بَصَرَهَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى)، يعني: الذي أضرها وجعل هذا الشيء يقع عليها اللات والعزَّى.
فقالت: (كَلَّا وَاَللَّهِ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَدَعَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى أَرْوَى بِنْتِ الْحَكَمِ فَأُعْمِيَ بَصَرُهَا لَمَّا كَذَبْت عَلَيْهِ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا"، فَعَمِيَتْ وَوَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ مِنْ أَرْضِهَا فَمَاتَتْ)}.
لأنَّ هذه المرأة كذبت على هذا الصحابي الجليل وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو القرشي، وهو من الصحابة الأجلاء، فقال: "اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا"، فَعَمِيَتْ وَوَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ مِنْ أَرْضِهَا فَمَاتَتْ
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ" فَيُسْتَجَابُ لَهُ، وَدَعَا اللَّهَ بِأَنْ يُسْقُوا وَيَتَوَضَّئُوا لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ وَالْإِسْقَاءَ لِمَا بَعْدَهُمْ فَأُجِيبَ، وَدَعَا اللَّهَ لَمَّا اعْتَرَضَهُمْ الْبَحْرُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُرُورِ بِخُيُولِهِمْ، فَمَرُّوا كُلُّهُمْ عَلَى الْمَاءِ، مَا ابْتَلَّتْ سُرُوجُ خُيُولِهِمْ، وَدَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يَرَوْا جَسَدَهُ إذَا مَاتَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فِي اللَّحْدِ)}.
وهذا مثلما تقدَّم أنَّ الكرامة إمَّا لحجَّةٍ في الدِّينِ أو لحاجة بالمسلمين، فينبغي أن يُعلَم أنَّ إجابة الدُّعاء ليست على الإطلاق، وأنَّ كلما دعا في جميع الأحوال وجميع الأوقات أنَّه يُستجاب له؛ بل هذا من فضل الله عليه، فهذا يكون في الأغلب، بعض الناس يقول إنَّ فلانًا مجاب الدَّعوة، ثم يتعلق به حتى بعدَ ماته، وهذا من مداخل الصُّوفيَّة، فهم يقولون: إنَّ الكرامات ثابتة لهؤلاء في حياتهم وبعدَ مماتهم؛ فنلجأ إليهم في قبورهم وندعوهم!
وهذا من الشِّرك بالله -عزَّ وجلَّ- وهؤلاء الصالحون لا يرضون بهذا، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ [الأحقاف: 5]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم منهم، فهم أعظم البشر وأشرفهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومع ذلك أنزلَ الله -عزَّ وجلَّ- قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: 128]، فإنَّ الأمر كله بيد الله -عزَّ وجلَّ-، فلو دعا عليك رجلٌ صالح فلا شكَّ أنَّ هذا خطر، وخطأ منك أنَّك تتسبب في إيذائه حتَّى يدعو عليك، ولكن ليس معنى هذا أنَّه مجاب الدَّعوة، وأنَّ ما دعا به يتحقق، ولو قُدِّر أنَّه تحقَّقَ فليس معنى هذا أنَّه رجل صالح، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62]، فإجابة الدُّعاء قد تقع لأهل الإيمان، وقد تقع للمضطرين من الكفار، وقد تقع لغيرهم فتنة، وقد ذكر العلماء في بلعام بن باعورا وهو الذي ذُكرَت قصَّته في سورة الأعراف في قوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَ﴾ [الأعراف: 175]، فذكر أنَّ الآيات التي أوتيها كانت إجابة الدُّعاء، فإذا دعا أجيبت دعوته، فاستعملها فيما هو محرَّم، فدعا على موسَى، فانسلخ من الوحي، قال تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف 175، 176].
ومن هنا نأخذ فائدة: وهي أنَّ الكرامات التي يُكرم بها اللهُ بها المؤمنين إذا علمنا أنَّ هذا الرجل ولو كان مؤمنًا قد استعملها في محرَّمٍ أو استعملها في شركٍ، أو استعملها فيما يضرُّ بالدِّين؛ فإنَّ هذا قد نقصَ إيمانه أو زالَ إيمانه، بحسب الحال الذي وقع فيه، وبالتالي فلا نغتر به ولو طار في الهواء أو مشَى على الماء، أو تحقَّقَت له أشياء كثيرة؛ فإنَّ الدَّجَّال عدو الله أعظم منه، ويأتي بمخاريق أعظم من هذا بكثيرٍ، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حذَّرنا من فتنته، وحذَّرنا من شرِّه، فليست العبرة بهذه الأمور التي تجري على يده، ولكن هذه تكون من كرامة الله للمؤمنين إذا ثبتوا على الدين واستعملوها في مصلحةٍ للدين أو للمسلمين، أو استعملوها في سدِّ حاجتهم من طعامٍ وشرابٍ ونحو ذلك؛ فهذا فرقانٌ بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في مسألة الكرامات.
سنكمل -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم، وبقيَت الكرامات التي أوردها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك