الدرس العاشر
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ:
(وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا حَضَرَ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ
يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ حَتَّى يَحْمِلَهُ فِي الْهَوَاءِ وَيُخْرِجَهُ
مِنْ تِلْكَ الدَّارِ، فَإِذَا حَصَلَ رَجُلٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
طَرْدَ شَيْطَانِهِ فَيَسْقُطُ كَمَا جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ،
نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فلا زال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه "الفرقان بين
أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" يتحدَّث عن الأحوال الشَّيطانيَّة؛ ليُبيِّن أنَّها
من الشَّيطان، وأنَّ أصحابها هم أولياء الشيطان، وهذا من أعظم الفرقان بين أولياء
الرحمن وأوليءا الشَّيطان.
وهنا يتكلَّم عن حضور مجالس المكاء -وهو الصَّفير- والتَّصدية -وهي التَّصفيق- قال
الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾
[الأنفال: 35]، فهذا هو فعل المشركين من كفَّار قريش، فإنَّهم كانوا يتعبَّدون
بالتَّصفيق والصَّفير عندَ الكعبةِ -بيت الله عز وجل- فهذا من أعمال الكفار، ومن
أعمال شياطين الإنس، وليس من أعمال المؤمنين أولياء الرحمن.
ولهذا فإذا حضر بعض هؤلاء المفتونين مجالس المكاء والتَّصدية فإنَّ الشَّياطين
تتنزَّل عليهم وتغشاهم وتتلبَّس بهم، فيحدث منهم أفعال منكرة، وصراخ وصياحٌ وقفز،
وربَّما يحدث لبعضهم بما يسمُّونه الآن "الزَّار"، فيجلس ينقز نقزًا عظيمًا لا
يستطيعه بدون هذا المجلس وبدون هذا المكاء والصَّفير والتَّطبيل والتَّصفيق.
يقول الشيخ: (حَتَّى يَحْمِلَهُ فِي الْهَوَاءِ وَيُخْرِجَهُ مِنْ تِلْكَ
الدَّارِ)، فهذا شيءٌ لا يُطيقه الإنسان، فهذا من تنزُّل الشَّياطين.
قال الشيخ: (فَإِذَا حَصَلَ رَجُلٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى)، يعني: إذا
جاء رجلٌ من المؤمنين الصَّالحين من أهل الخير والتَّقوى ومن أهل السُّنَّة.
قال: (طَرْدَ شَيْطَانِهِ فَيَسْقُطُ)؛ لأنَّ الشَّياطين تفر من أولياء الرحمن
وتخاف منهم، فإذا كان هذا المؤمن يذكر الله -عزَّ وَجلَّ- ويقرأ آية الكرسي؛ يبطل
هذا الشيء، ويسقط هذا الشَّخص الذي طار؛ لأنَّ الشَّيطان فرَّ وهرب، وقد أخبرنا
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه إذا نودي للصلاة فإنَّ الشيطان يفر
وله ضراط حتَّى لا يسمع صوت الأذان، فإذا قضى الأذان رجع إلى الإنسان، فإذا ثُوِّب
للصلاة –يعني: أقيمت الصلاة- هرب الشيطان، فإذا قضى التَّثويب رجع حتَّى يحول بين
الرجل وبين ما يقرأ حتَّى لا يُدريه كم صلَّى!
فعلمنا بهذا أنَّ الأذان وقراءة آية الكرسي تطرد هؤلاء، وتبطل أعمالهم.
يقول الشيخ: (كَمَا جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ)، يعني: حصل لبعض أهل الإيمان
أنَّهم ذكروا الله -عزَّ وَجلَّ- وقرؤوا القرآن؛ فبطلَ ما يعمله المشركون، وهذا
يُبيِّن لنا الفرقان في المجالس، هناك مجالس أولياء الرحمن فيها القرآن، وفيها حديث
الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصحيحة، وفيها الفقه، والسِّيرة
النَّبويَّة، والتَّفسير، والحديث، وفيها معرفة أحكام الشَّريعة؛ فهذه مجالس يُحبها
الله، وكذلك المجالس التي فيها صلة الرحم، والإحسان، والصَّدقة، والمجالس التي فيها
الحث على الخير والتَّشجيع عليه؛ فهذه مجالس تحفُّها الملائكة، قال النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ
اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ
عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ
وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»[15].
وهذا بخلاف مجالس الغناء، ومجالس الاختلاط بين الرجال والنساء، ومجالس المعازف
والخمور، فإنَّها مجالس تحفُّها الشَّياطين -نسأل الله العافية والسلامة.
إذن؛ هذا من الفرقان بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِمَخْلُوقِ إمَّا حَيٌّ
أَوْ مَيِّتٌ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحَيُّ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ
مُشْرِكًا؛ فَيَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ،
وَيَقْضِي بَعْضَ حَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغِيثِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ ذَلِكَ
الشَّخْصُ، أَوْ هُوَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُ
لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ، كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَدْخُلُ الْأَصْنَامَ
وَتُكَلِّمُ الْمُشْرِكِينَ)}.
هذه مسألة مُهمَّة جدًّا؛ وهي مسألة الاستغاثة بغير الله، وهذا ممَّا يُبيِّن أنَّه
شركٌ أكبر، فإنَّ الاستغاثة هي أعظم الدُّعاء، وهي الدعاء في حال الكرب؛ لأنَّ
الدعاء كله لله، ولا يجوز صرفه لغيره، والاستغاثة أشد ما يكون من توجُّه القلب
واضطراره إلى المستغاث به، فبعض الناس يستغيث بمخلوق إمَّا حي من المشايخ الذين
يعرفهم، أو من الناس الذين يعرفهم، أو يستغيث بميِّتٍ، كمَن يستغيث بالحسين -رَضِيَ
اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أو بعليٍّ بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أو
يستغيث بأبي بكر أو عمر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما-؛ فكل هذا من الشِّرك
الأكبر، والشَّياطين تريد من الناس أن تكفر وتُشرك بالله، وتُعرض عن دعاء الله،
وتدعوا هؤلاء الأموات.
قال: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِمَخْلُوقِ إمَّا حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ،
سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحَيُّ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُشْرِكً)،
يعني: وصل من تضليل الشياطين لهؤلاء أنَّهم ليس فقط يحثونهم على الشرك بالله في
حقِّ من يُظنُّ أنَّه ولي من المسلمين؛ بل حتَّى النَّصارى والمشركين.
قال: (فَيَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ، وَيَقْضِي
بَعْضَ حَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغِيثِ)، يقول له: خذ هذا المال، أنا فلان الذي
استغثت به، وهو في الحقيقة شيطان، والشيطان فعل هذا حتَّى يكفر هذا الإنسان بالله
-عزَّ وَجلَّ- ويرضى بالشِّرك.
يقول الشيخ: (وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ،
كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَدْخُلُ الْأَصْنَامَ وَتُكَلِّمُ الْمُشْرِكِينَ)،
وهذا معروف وقد ذكره الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فكانت الشياطين تكلم
المشركين من خلال الأصنام، فيظن المشرك أنَّ الصَّنم هو الذي يتكلم، وأن هذا صورة
نبي أو صورة ولي لأنَّه أغاثه!
من القصص التي وردت في هذا: ما حدث لابن تيمية نفسه، فهو يتكلم عن نفسه في كتابه
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: "وَمِثْلُ هَذَا يَجْرِي كَثِيرًا لِكَثِيرٍ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرَى
أَحَدُهُمْ شَيْخًا يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ وَيَقُولُ أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ،
وَيَكُونُ شَيْطَانًا، وَأَعْرِفُ مِنْ هَذَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَعْرِفُ غَيْرَ
وَاحِدٍ مِمَّنْ يَسْتَغِيثُ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ الْغَائِبِينَ وَالْمَوْتَى
يَرَاهُ قَدْ أَتَاهُ فِي الْيَقَظَةِ وَأَعَانَهُ، وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِي
وَلِغَيْرِي مِمَّنْ أَعْرِفُهُ، ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِي
مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، وَأَنَّهُ رَآنِي قَدْ جِئْتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
رَأَيْتُكَ رَاكِبًا بِلِبَاسِكَ وَصُورَتِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: رَأَيْتُكَ
عَلَى جَبَلٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: غَيْرَ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُمْ أَنِّي لَمْ
أُغِثْهُمْ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِي لِيُضِلَّهُمْ لَمَّا
أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَدَعَوْا غَيْرَ اللَّهِ".
فهذه شهادةٌ من شخصٍ ثقةٍ إمامٍ معروف بالرُّسوخ في العلم، يحكي عن أناس يعرفهم
جيِّدًا أنَّهم رأوا صورته، وأنَّهم استغاثوا به؛ فنهاهم عن هذا الشِّرك، وأخبرهم
أنَّ هذا من الشَّيطان، وأنَّ هذا شركٌ بالله وعبادة لغير الله، فإذا قُدِّرَ وقوع
مثل هذا فلا نغتر به، وهذا من أسباب إضلال الشياطين لبني آدم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَصَوَّرُ لَهُ الشَّيْطَانُ
وَيَقُولُ لَهُ: أَنَا الْخَضِرُ وَرُبَّمَا أَخْبَرَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ،
وَأَعَانَهُ عَلَى بَعْضِ مَطَالِبِهِ، كَمَا قَدْ جَرَى ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ
بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَمُوتُ لَهُمْ الْمَيِّتُ؛ فَيَأْتِي
الشَّيْطَانُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى صُورَتِهِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ
ذَلِكَ الْمَيِّتُ، وَيَقْضِي الدُّيُونَ، وَيَرُدُّ الْوَدَائِعَ، وَيَفْعَلُ
أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَيِّتِ، وَيَدْخُلُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَيَذْهَبُ،
وَرُبَّمَا يَكُونُونَ قَدْ أَحْرَقُوا مَيِّتَهُمْ بِالنَّارِ كَمَا تَصْنَعُ
كُفَّارُ الْهِنْدِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِهِ)}.
أيضًا هذا مما يقع، والشيخ يذكرها هنا لأنَّه يُريد أن يُخبر المسلمين بأنَّ هذه
أحوال شيطانيَّة، ومن علامات أولياء الشَّيطان.
فيقول: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَصَوَّرُ لَهُ الشَّيْطَانُ وَيَقُولُ لَهُ:
أَنَا الْخَضِرُ)، وهؤلاء الخرافيُّون لا يزالون يقولون: إنَّ الخضر حي، وإنَّه
يدور في الدنيا، وإنه يمرُّ على هذا وعلى هذا؛ فهذا كله كذب، بل إنَّ هذا شيطان،
وهؤلاء إمَّا مُلبَّس عليهم لكونهم عميقي الجهل، أو أنَّهم يُريدون إضلال الناس، أو
أنَّهم حدث لهم هذا الشيء ففتنوا به.
وأذكر الشيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ- وأذكر هذا الموقف لأنَّي رأيته
أمامي وأنا موجود في مسجد "سارة" الذي كان الشيخ يُدرِّس فيه بعدَ المغرب في يومي
الأحد والأربعاء؛ ففي إحدى هذه الدروس والشيخ خارج بعد صلاة العشاء من المجلس؛ فإذا
بشخصٍ يظهر عليه سمات الخير، ويقول وهو مستعجل: يا شيخ عبد العزيز أنا رأيتُ الخضر،
والخضر يُسلِّم عليك. فقال له الشيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ- مباشرة: يا
ولدي، هذا شيطان تعوَّذ بالله منه.
فهذه هي طريقة الرَّاسخين من أهل العلم، فلا يغتر بمثل هذا، فالشَّياطين تضل الناس
وتتخيل لهم وتخرج لهم، وقد مرَّت معنا قصَّة أبي هريرة كيف تخيَّل له الشيطان في
صورة شيخ كبير، فلا يُستغرَب لهذا، فهذا واردٌ في السُّنَّة وثابت، ولهذا يجب الحذر
من هذا.
وذكر الشيخ أنَّ هذا جرى لليهود والنَّصارى كما جرى لبعض المسلمين، وهو في اليهود
والنَّصارى أكثر وأكثر.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ يَمُوتُ لَهُمْ الْمَيِّتُ؛ فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ بَعْدَ مَوْتِهِ
عَلَى صُورَتِهِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ ذَلِكَ الْمَيِّتُ، وَيَقْضِي
الدُّيُونَ، وَيَرُدُّ الْوَدَائِعَ، وَيَفْعَلُ أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ
بِالْمَيِّتِ، وَيَدْخُلُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَيَذْهَبُ، وَرُبَّمَا يَكُونُونَ قَدْ
أَحْرَقُوا مَيِّتَهُمْ بِالنَّارِ كَمَا تَصْنَعُ كُفَّارُ الْهِنْدِ،
فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِهِ)، فهذا من تلاعب الشيطان بهؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ شَيْخٌ كَانَ بِمِصْرِ أَوْصَى خَادِمَهُ
فَقَالَ: إذَا أَنَا مُتّ فَلَا تَدَعُ أَحَدًا يُغَسِّلُنِي فَأَنَا أَجِيءُ
وَأُغَسِّلُ نَفْسِي، فَلَمَّا مَاتَ رآى خَادِمُهُ شَخْصًا فِي صُورَتِهِ
فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ، دَخَلَ وَغَسَّلَ نَفْسَهُ فَلَمَّا قَضَى ذَلِكَ
الدَّاخِلُ غُسْلَهُ - أَيْ غُسْلَ الْمَيِّتِ - غَابَ، وَكَانَ ذَلِكَ شَيْطَانًا،
وَكَانَ قَدْ أَضَلَّ الْمَيِّتَ وَقَالَ: إنَّك بَعْدَ الْمَوْتِ تَجِيءُ
فَتُغَسِّلُ نَفْسَك، فَلَمَّا مَاتَ جَاءَ أَيْضًا فِي صُورَتِهِ لِيُغْوِيَ
الْأَحْيَاءَ كَمَا أَغْوَى الْمَيِّتَ قَبْلَ ذَلِكَ)}.
فهذا من تضليل الشيطان بهؤلاء، فمرَّة يأتيهم ويقول لهم: أنا الخضر، ومرَّةً يأتيهم
في صورة شخصٍ يُعظِّمونه، ومرَّة يأتي هذا الشيخ المفتون الخرافي ويقول لمن حوله:
لا تغسلوني، أنا أُغسِّل نفسي بعدَ موتي!
فانظر إلى شدَّة الضَّلال، فمعلومٌ أنَّ الخضر مات، قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185]، لكن هؤلاء يُخالفون النُّصوص الصَّريحة لعمقِ جهلهم
وعمق تعصُّبهم الأعمى وبدعتهم الغليظة -نسأل الله العافية والسلامة.
وهذا يقول: لا تغسلني، فأنا أُغسِّل نفسي.
هل أحد عاقل يقول مثل هذا الكلام! وهذا يُبيِّنُ لك أنَّ مَن أعرضَ عن هدي الله وعن
الكتاب والسُّنَّة، فإنَّه لا يُبالي الله به كيف يضيع ويضل، وتتلاعب به الشَّياطين
أيما تلاعب، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا
ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى عَرْشًا فِي الْهَوَاءِ وَفَوْقَهُ
نُورٌ وَيَسْمَعُ مَنْ يُخَاطِبُهُ وَيَقُولُ أَنَا رَبُّك فَإِنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أَنَّهُ شَيْطَانٌ فَزَجَرَهُ وَاسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ
مِنْهُ فَيَزُولُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَشْخَاصًا فِي الْيَقَظَةِ، يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ
نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَيْخٌ مِنْ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ جَرَى هَذَا
لِغَيْرِ وَاحِدٍ)}.
ذكروا أنَّ هذا قد جرى لعبد القادر الجيلاني -رَحِمَهُ اللهُ-، أنَّه قد عرضَ له
شيطان وقال له: أنا ربُّك، وقد أبحتُ لكَ ما حرَّمتُ عليك. فقال له: أنتَ شيطانٌ
أعوذ بالله منك؛ فدحَرَه وذهب!
فالشيطان يُضل الناس، وبعض الذي يشتغلون بالعبادة والتَّزهُّد وكثرة الأوراد قد
تأتيهم أحوال يفقدون فيها التَّصوُّر ويُغشَى عليهم، فيستغل الشيطان هذا، أو أنَّهم
يُعجبون بأنفسهم فيفتنهم الشيطان، يقول لهم: أنت الآن بلغت منزلة ما عليك حلال ولا
حرام، وتسقط عنك التكاليف!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ بَعْضَ
الْأَكَابِرِ؛ إمَّا الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَوْ غَيْرُهُ قَدْ قَصَّ
شَعْرَهُ أَوْ حَلَقَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ طَاقِيَّتَهُ أَوْ ثَوْبَهُ؛ فَيُصْبِحُ
وَعَلَى رَأْسِهِ طَاقِيَّةٌ وَشَعَرُهُ مَحْلُوقٌ أَوْ مُقَصَّرٌ، وَإِنَّمَا
الْجِنُّ قَدْ حَلَقُوا شَعْرَهُ أَوْ قَصَّرُوهُ. وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ
الشَّيْطَانِيَّةُ تَحْصُلُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمْ
دَرَجَاتٌ)}.
هذه أشياء يضرب بها الشيخ أمثلة، حتى لا يستغربها طالب العلم فيعرفها، ويعرفها
المسلم، فلو وقعت يعرف أنَّ لها نظائر قديمة، فبعض الناس يقوم من نومه فيجد شعره
محلوق، ويجد أنَّه قد لبس لباسًا غريبًا، فيتمثَّل له شيطان ويقول له: أنا أبو بكر
الصديق، وأنا الذي حلقتُ شعرك؛ فيفتنه!
هذه الأحوال لا تحصل إلَّا لهؤلاء المعرضين، فلا تحدث لأهل الكتاب والسُّنَّة،
لأنَّ الشيطان ييأس منه ويعرف أنَّهم سيكذبونه؛ فيخاف منهم ويفر، ولأنَّهم يذكرون
الله -عزَّ وَجلَّ- ويأخذون بالأوراد، ولأنَّ عندهم يقينيَّات لا يتزحزحون عنها
لمثل هذه التَّصرُّفات الشَّيطانيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَقْتَرِنُونَ بِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ
وَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَالْجِنُّ فِيهِمْ الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ
وَالْمُخْطِئُ، فَإِنْ كَانَ الْإِنْسِيُّ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ جَاهِلًا؛
دَخَلُوا مَعَهُ فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالضَّلَالِ، وَقَدْ يُعَاوِنُونَهُ
إذَا وَافَقَهُمْ عَلَى مَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ الْكُفْرِ، مِثْلُ الْإِقْسَامِ
عَلَيْهِمْ بِأَسْمَاءِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ، وَمِثْلُ
أَنْ يَكْتُبَ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَوْ بَعْضَ كَلَامِهِ بِالنَّجَاسَةِ، أَوْ
يَقْلِبَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَوْ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَوْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ
أَوْ غَيْرَهُنَّ وَيَكْتُبَهُنَّ بِنَجَاسَةِ؛ فَيُغَوِّرُونَ لَهُ الْمَاءَ
وَيَنْقُلُونَهُ بِسَبَبِ مَا يُرْضِيهِمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ. وَقَدْ يَأْتُونَهُ
بِمَا يَهْوَاهُ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ إمَّا فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا
مَدْفُوعًا مَلْجَأً إلَيْهِ، إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَطُولُ
وَصْفُهَا.
وَالْإِيمَانُ بِهَا إيمَانٌ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ.
وَالْجِبْتُ: السِّحْرُ.
وَالطَّاغُوتُ: الشَّيَاطِينُ وَالْأَصْنَامُ.
وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَمْ
يُمْكِنْهُمْ الدُّخُولُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ مُسَالَمَتُهُ)}.
هذا توصيفٌ لأحوال الشَّياطين، فالجن والشياطين التي تفعل هذه الأفعال تتفاوت فيما
بينها، والله -عزَّ وَجلَّ- حكى عن الجن أنَّهم طرائق قدادًا، وأنهم أنواع شتَّى،
فيهم الكافر، وفيهم الفاسق، وفيهم الصَّالح، والكفار أنواع، ففيهم اليهودي، وفيهم
النصراني، وفيهم المشرك، وفيهم الملحد، وكذلك فيهم المبتدعة؛ فهم أنواع شتَّى،
ولهذا فهم يأتون إلى مَن يُشاكلهم من كفرة الإنس أو مبتدعة الإنس، فيُحاولون معهم
ويُضلونهم أكثر وأكثر؛ فإذا اختار ما هم عليه ووافقهم على ما هم عليه من الكفر
عاونوه وقدَّموا له الخدمات، وهذا دلَّ عليه القرآن، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ ۖ
وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ
وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ
خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
[الأنعام: 128].
فهؤلاء كيف يستمتع بعضهم ببعض؟
الجنَّي يحس بالمتعة ويطمع فيها ويبحث عنها، ومن هذه المتعة أنَّه يُقسم باسمه،
فيقع الإنسي في الشرك بتعظيمه له، فيُقسم بأسماء المشركين وأسماء الجنِّ، وهذا
الإقسامات كلها كفرٌ وشركٌ حرَّمها الإسلام، لكنَّ الجني ينبسط ويفرح ويتمتَّع بكون
الإنسي يفعل هذا الشيء.
أو يقوم الإنسي بكتابة أسماء الله أو القرآن في النَّجاسات، أو يَقْلِب الفاتحة،
فيبدأ من قوله: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾، ثم ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، وهكذا،
يقلبها عمدًا واستهزاءًا وتهكُّمًا بكلام الله، فيرضَى الجنِّي وينبسط بهذا؛ لأنَّه
عدوٌّ لله كافرٌ.
أو يفعل أشياء منكرة، كأن يخطف له امرأةً أو يخطف صبيًّا، أو يُغطِّي على أعينهم
حتَّى يُدخلهم في بيته فيفعل فيهم الفاحشة، وأحيانًا يسجد الإنسي للجنِّي ويذبح له.
أما ما يتمتَّع به الإنسي، فكأن يُغوِّر له الماء، أو يُبيِّن له مكان الضَّالَّة،
أو يأتي له بطعامٍ مسروق، أو يأتيه بذهبٍ وأموالٍ مسروقةٍ، أو يُغري الجني امرأة
بالإنسي حتَّى تدخل عليها فيغتصبها ويفعل بها الفاحشة، أو يُلجئُ صبيًّا إليه؛
فالإنسي يتمتَّع بهذه الخدمات.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا
بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ النَّارُ
مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 128]، فهذا كله من الكفر ومن الجبت والطَّاغوت.
واليهود أشد الناس في هذا، وكفرة النَّصارى فيهم هذا أيضًا، وهناك مَن ينتسب
للإسلام وخرج عن الإسلام وفعل مثل هذا، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلً﴾
[النساء: 51].
الجبت: هو السِّحر.
والطَّاغوت: هو الأصنام، والشَّياطين والكُهَّان.
وختم الشيخ هذه الفقرة فقال: (وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَمْ يُمْكِنْهُمْ الدُّخُولُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ
مُسَالَمَتُهُ)، أي أنَّ الشَّياطين لا تستطيع أن تفعل معه هذا، ولا تدخل معه في
مسالمة أو اتِّفاقيَّة، أو أعطني وأُعطيكَ؛ بل إنَّ الشياطين تفر منه؛ لأنَّه مؤمنٌ
صادقٌ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةُ الْمُسْلِمِينَ
الْمَشْرُوعَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ؛ كَانَ عُمَّارُ
الْمَسَاجِدِ أَبْعَدَ عَنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ
الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ وَمَشَاهِدَ الْمَوْتَى،
فَيَدْعُونَ الْمَيِّتَ، أَوْ يَدْعُونَ بِهِ، أَوْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ
عِنْدَهُ مُسْتَجَابٌ؛ أَقْرَبُ إلَى الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَإِنَّهُ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَنَّهُ قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ
لَيَالٍ: «إنَّ مَنْ أمِنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو
بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاِتَّخَذْت
أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ، لَا يَبْقَيَن فِي
الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ، إنَّ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا
الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ فِي مَرَضِهِ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ، وَذَكَرُوا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَقَالَ: «إنَّ
أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ
مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهَا تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ
عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إنَّ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ
وَهُمْ أَحْيَاءُ، وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ»، وَفِي
الصَّحِيحِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا
تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَ»، وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ
اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، وَفِي
السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا
عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي». وَقَالَ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ
اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ». وَقَالَ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً
يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ». وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ
الْجُمْعَةِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ». قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت - أَيْ بَلِيتَ ؟ -
فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ
الْأَنْبِيَاءِ».
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِ
نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ
وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرً﴾. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: "هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ
نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا
تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ، فَكَانَ هَذَا مَبْدَأَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ".
فَنَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ
مَسَاجِدَ لِيَسُدَّ بَابَ الشِّرْكِ، كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ
حِينَئِذٍ، وَالشَّيْطَانُ يُقَارِنُهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ،
فَتَكُونُ فِي الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ مُشَابَهَةٌ لِصَلَاةِ الْمُشْرِكِينَ فَسَدَّ
هَذَا الْبَابَ)}.
هذا الموضع من أهم المواضع التي يُعرَف بها الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء
الشيطان، فأولياء الرحمن عبادتهم جُلُّها ومعظمها في بيوت الله -المساجد- التي أمرَ
الله -عزَّ وَجلَّ- أن يُنادى بالصَّلاة فيها، وأن تُصلَّى فيها الجُمَع والجماعات،
فهم عُمَّارها، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: 18]، وقال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ﴾ [النور: 36، 37].
أمَّا أصحاب الأحوال الشيطانيَّة الشركيَّة فإنَّ نشاطهم ورغبتهم وهمَّتهم مُنصرفة
إلى قبور المعظَّمينَ عندهم، ومشاهد الموتَى، فيدعونَ الأموات أو يدعونَ بهم.
وقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ: (فَيَدْعُونَ الْمَيِّتَ، أَوْ يَدْعُونَ بِهِ، أَوْ
يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهُ مُسْتَجَابٌ؛ أَقْرَبُ إلَى الْأَحْوَالِ
الشَّيْطَانِيَّةِ)، يعني: هذا أقرب إلى الأحوال الشَّيطانيَّة من الأحوال
الرحمانيَّة.
ثمَّ بيَّنَ ما وردَ في الشرع المطهَّر من أحكام القبور، والنَّهي عن اتِّخاذ
القبور مساجد.
أينَ تكون عبادة الإيمان والتَّقوى، عند المساجد أم عند المشاهد؟
الجواب: عند المساجد، كما هو صريح القرآن وصريح السُّنَّة، وأمَّا القبور فليست
موضعًا للعبادة ولا للصلاة ولا لقراءة القرآن؛ بل إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورً»[16]، يعني: صلُّوا
في بيوتكم ولا تجعلوها قبورًا، وهذا يعني أنَّ القبور لا يُصلَّى فيها، اللهم إلَّا
صلاة الجنازة لمن فاتته الصلاة عليها، فيُصلَّى عليها إلى شهرٍ كما صلَّى النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على تلك المرأة التي كانت تقمُّ المسجد،
فدُفِنَت ليلًا، فلمَّا سألَ عنها، قالوا: ماتت فدفنَّاها، كرهنا أن نوقظك. فقال
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَ»[17]، فصلَّى عليه،
وهذا يكون إلى شهرٍ فقط، وبعده لا تُصلَّى الجنازة، فلا يُصلَّى على ميتٍ مات قبل
شهرين أو قبل سنةٍ، وإنَّما تُشرَع زيارة القبور والدعاء للأموات بالرحمة والمغفرة.
وزيارة القبور على ثلاثة أنواع:
- زيارة شرعيَّة.
- زيارة بدعيَّة.
- زيارة شركيَّة.
أمَّا الزِّيارة الشَّرعيَّة فلها مقاصد:
الأول: التَّذكُّر والاتِّعاظ، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا
هُجْرً»[18].
الثاني: الدُّعاء للأموات، بأن يقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، وكان النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «السَّلَامُ علَيْكُم أَهْلَ الدِّيَارِ
مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وإنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ،
أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ العَافِيَةَ»[19].
أمَّا الزِّيارة البدعيَّة: فهي الزِّيارة لأجل أن يتحرَّى الصَّلاة لله عندها أو
التَّصدُّق لله عندها؛ يظنُّ أنَّ صلاته عندَ القبرِ أفضل؛ فهذا من ابتداع
المبتدعين وليس من دين المسلمين، فلم يُشرع لنا في دين الإسلام أن نصلِّيَ عند
القبور، بل جاء النَّهي الصَّريح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
واللعن لمن فعل ذلك، كما في الأحاديث التي معنا هنا.
وأمَّا الزِّيارة الشِّركيَّة: وهم مَن يأتي إلى القبور ويزورها ليطلب منهم الحاجات
والمدد، ويطلب منهم الشفاء، ويطلب منهم حاجاته الدِّينيَّة والدُّنيويَّة؛ فهذا
شركٌ أكبر مخرج من ملة الإسلام.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ يُعَظِّمُونَ
الْقُبُورَ وَمَشَاهِدَ الْمَوْتَى)، فهذا ديدن أولياء الشَّيطان، فيعظِّمونَ
القبور التَّعظيم الباطل، وإلَّا فنحن لا نُهين القبر، فنهينا أن نطأ القبر، ولكن
ما نعظِّمه، فلا نرفعه ولا نبني فوقه، ولا نكتب عليه، ولا نضع عليه الجص؛ فكل هذا
قد نهى عنه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صريح السُّنَّة، وما زاد
عن ذلك بأن يُرفَع القبر أو يُوضَع فقوه قبَّة، أو تُوضَع عليه السَّتائر، أو
تُوضَع عليه مصابيح وسُرُج؛ فمَن فعل ذلك فهو من الملعونين.
قال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهَا
الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ"[20]، السُّرج: جمع سراج.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَيَدْعُونَ الْمَيِّتَ، أَوْ يَدْعُونَ بِهِ).
فإذا دعوا الميِّت واستغاثوا به فهذا هو الشِّرك الأكبر.
وأمَّا الدُّعاء بالميت فله عدَّة صور، فهم يسمُّونه التَّوسُّل بالأموات، ومن صوره
أن يقول: "اللهم إني أسألك بفلانٍ"، أو "أسألك بجاه فلانٍ"؛ فهذا الكلام محتمل:
الاحتمال الأول: إمَّا أنَّه يدعوه من دون الله، وأنَّه هو الواسطة لقبول الدُّعاء،
وأنَّ الله لا يقبل الدُّعاء حتَّى يكون هذا واسطة. فهذا كفر أكبر، فالله -عزَّ
وَجلَّ- يقول: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ [غافر: 60]، فلا يحتاج -سبحانه- إلى واسطة
يتوسَّط ليرفع الدُّعاء له!
الاحتمال الثاني: أنَّه يُريد الإقسام بفلان هذا على الله، وهذا إقسامٌ بالمخلوق،
والقسم بالمخلوق من الشرك.
الاحتمال الثالث: أن يكون مُتوسِّلًا لله ليقبل عمله بجاه فلان ومنزلة فلان وحق
فلان؛ فهذا من الابتداع في الدين، ومن وسائل الشِّرك.
وعلى كل هذه الصُّور لا يجوز هذا الدُّعاء، ولا يجوز هذا التَّصرُّف، فهو محتمل أن
يكون شرك أكبر، ومحتمل أن يكون شرك أصغر، ومحتمل أن يكون بدعةٌ في الدِّين.
وقال ابن تيمية في مواضع أخرى في كتب أخرى: إنَّ هذه الصور بدعة منكرة، أو بدعة
يُنهى عنها باتِّفاق المسلمين؛ فهذا لا يعني أنَّه ليس شركًا، فمنه ما هو شرك، كما
هو معروف أنَّ دعاء الأموات شركٌ بالله -عزَّ وَجلَّ- لأنَّه صرَفَ العبادة لغيره.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهُ مُسْتَجَابٌ)؛
فهذه العقيدة باطلة، يعني: ليس من مواضع إجابة الدُّعاء في الشريعة الإسلاميَّة
أنَّكَ تأتي عند القبر فتدعو، وقد بُيِّنت مواضع الدعاء في الكتاب والسُّنَّة،
وجاءت موضَّحة أين يُشرَع لنا أن ندعوا ومتى ندعوا، لا من جهة الزَّمان، ولا من جهة
المكان، ولا من جهة الأحوال العارضة كنزول المطر والسفر وغيره؛ فهذه الأدعية التي
يدعو بها المسلم كالدعاء وقت السَّحر، أو بين الأذان والإقامة، أو في أدبار
الصلوات، دعاء الوالد لولده؛ ولكن ليس من الشَّريعة الإسلاميَّة أنَّ الدُّعاء عند
القبر من أسباب الإجابة، فهذا من أمور المبتدعة وهو أقرب إلى الأحوال
الشَّيطانيَّة، وليس من عمل أهل السنة.
ثم ذكر الشيخ حديث «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
القبور: جمع قبر.
فهم اتَّخذوا قبر النبي مسجدًا، ويدخل في هذا كفرة اليهود وكفرة النصارى.
قد يقول بعض الناس: إن عيسى بن مريم رُفع.
نقول: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال «أَنْبِيَائِهِمْ»، ومعلوم
أنَّ النَّصارى يعرفون منزلة نبي الله موسى ويُؤمنونَ به، ويعرفون منزلة يُوشَع بن
نون، ويعرفون منزلة بقيَّة الأنبياء كيوسف وغيره؛ فهم يعرفون أنَّ هؤلاء أنبياء.
وفي الرواية الثانية: «قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ وصَالِحِيهِمْ»[21]، ولا يزال كفَّار
النصارى اليوم يعظِّمونَ تلك القبور كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، ولهذا فهم مستوجبون للعنة.
كيف اتَّخذوا القبور مساجد؟
اتِّخاذ القبور مساجد له ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يمون الميِّت من نبيٍّ أو ولي، ثم يُبنَى فوق قبره مسجد،
والأنبياء لا تُعرف قبر أحدٍ منهم بعينه إطلاقًا، إلَّا قبر نبيِّنا محمد -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد دُفِنَ في بيته في غرفة عائشة، وهو ليس من المسجد،
وإن كان المسجد قد أحاط به، إلَّا أنه مُستقل، ولا أحد يدخل إليه، ولا أحد يخلُص
إليه، وأُحيط بثلاثة جدران، وأمَّا الأنبياء الآخرين -عليهم الصلاة والسلام- فلا
يُعرَف قبر نبيٍّ بعينه، إلَّا أنَّه يُعرَف أنَّ قبر نبي الله إبراهيم في مدينة
الخليل، ولكن لا يُعرف بالتَّحديد، وما يُزعَم أنَّه في المسجد الإبراهيمي؛ فهذا
ليس بثابتٍ.
وهذا المسجد الذي يبُنيَ فوق قبر النبي أو الولي يجب هدمه بإجماع المسلمين، بل هو
أعظم من مسجد الضِّرار.
الصورة الثانية: أن يكون المسجد قد بُنيَ على التَّوحيد وعلى التَّقوى، ثم أوتيَ
بالميِّت فدُفِنَ فيه، فهذا منكرٌ، ويجب إخراج القبر من هذا المسجد، فإن لم يُستطَع
إخراجه فلا يُصلِّي فيه المسلم مُطلقًا.
الصورة الثالثة: أن يُصلَّى عند القبر حتَّى لو لم يُبنَ مسجد؛ لأنَّه يسجد عنده،
فصار هذا المكان مسجدًا له، أي أنَّه وضعَ مساجده السَّبعة فيه.
فكل هذه الصور تُسمَّى اتَّخاذ القبر مسجدًا.
ثم ذكر الشيخ حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا
الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ»، وقال -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ
بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهَا تِلْكَ التَّصَاوِيرَ
أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وذكر أحاديث أخرى في التحذير من الغلو في القبور، مثل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَ»، وَفِي
الْمُوَطَّأِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا
يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، وهذا يُبيِّن لنا تحريم أنَّنا نتَّجه إلى القبرِ
لأجلِ الصلاة لله -عزَّ وَجلَّ.
مثال: لو أراد شخص أن يُصلِّي الضُّحَى، فيأتي عند قبر رجل صالح ويُصلي عنده!
نقول: لا، هذا منهي عنه، وهو من اتخاذ القبور مساجد.
فإن قال: أنا ما أعبده!
نقول: حتى لو لم تعبده، فهذا منهيٌّ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى
قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا
وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي». وَقَالَ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا
رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ». وَقَالَ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً
يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ».
كل هذه الأحاديث تدلُّ على أنَّه لا يجوز الغلو في القبور وأصحاب القبور، ولا يجوز
اتِّخاذها مواضع للصلاة، ولا مواضع للعبادة.
وغالب الخرافيين يُخالفون هذه الأحاديث؛ فيأتون عندَ قبور مَن يزعمون أنَّهم أولياء
ثم يصلُّون عند هذه القبور ركعتين، ويضعون كراسي للجلوس، ويقولون: اقرأ الفاتحة
بنيَّة ثوابها للميت. وبعضهم يقول: يا فلان، يا ولي الله أعطني، خذ بيدي، مدَّني
بمددٍ. وبعضهم يقول: لازمٌ أن تتخيَّل هذا المقبور في الدُّعاء، ويسمونها الرابطة
الرُّوحيَّة بينك وبين هذا الميت!
فهذا كله من الشرك الأكبر ومن أعمال الشياطين، ومن أعمال أولياء الشيطان، وليست من
أعمال أولياء الرحمن.
وكانوا قبلُ في الجاهلية يفعلون هذا، قال الله عنهم: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْرً﴾، فهؤلاء صالحون وعلماء وأتقياء وعُبَّاد، ولكن عُبِدُوا من دون الله،
وصارَت لهم أصنامٌ تُعظَّم، وتُعبَد من دون الله، كما ذكر ذلك ابن عباس.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ
لِيَسُدَّ بَابَ الشِّرْكِ، وليس لأجل أن القبور فيها نجاسة، فقال بعضهم: إنَّما
نُهيَ عن ذلك لأجل نجاسة وصديد الأموات! وهذا غير صحيح، فالميِّت يُدفَن داخل الأرض
ويُغلق عليه اللحد، فلا يُمكن أن يصل صديده إلى أعلى، فبينه وبين سطح الأرض مترين
من التراب الغليظ، ولكن نجاسة الشرك هي سبب النهي.
وهذا مثل نهي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا؛ لِأَنَّ الشمس تطلع بين قرني شيطان، فيسجد
لها الكفَّار، فلمَّا سجد الكفَّار للشيطان في هذا الوقت نهانا الرسول -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مشابهتهم حسمًا لمادة الشِّرك، حتَّى لا نشابه
المشركين، ولهذا يجب علينا أن نشابه أولياء الشيطان الذين يُعظِّمونَ الأموات
ويغلون فيهم ويستغيثون بهم، ويعبدونهم من دون الله في هذه الأماكن.
فالتَّعلق بالأوثان والتَّعلق بالأولياء والتَّعلُّق بالمقبورين من علامات كون
الرجل من أولياء الشيطان -نسأل الله العافية والسلامة-، أمَّا أهل الإيمان
والتَّقوَى فإنَّهم يتعلَّقونَ بالله الحي القيوم، ويلجؤون إليه ويعمرون المساجد،
ولا يعمرون المشاهد.
واتِّخاذ القبور مساجد فهو من أسباب لعنة الله -عزَّ وَجلَّ- قال -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
بعضهم يقول: حصلت كرامات، سيدي الرفاعي مدَّ يده وصافحناه!
فهذا إن كان قد وقعَ كما زعمَ هذا الرَّجل؛ فإنَّه شيطان، فالذي يتمثَّل في صورة
إنسي يمشي بين الناس وهو شيطان لا يُستبعَد أن يُخرج يدًا وهو شيطان، وإن كان
كاذبًا فأحرى أنهم أولياء الشياطين الذين يكذبون على الله، ويُحاولون أن يُزيِّنوا
الشِّرك للجُهَّال -نسأل الله العافية والسلامة.
فيجب الحذر من بدع هؤلاء وضلالاتهم، نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من
أولياء الرحمن، وأن يُعيذنا من أعمال أولياء الشيطان، إنه -سبحانه وتعالى- سميعٌ
مجيب الدُّعاء، وصلى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12804 18
-
16751 9
-
34829 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12