الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

5748 12
الدرس الثاني عشر

عمدة الفقه (5)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاك الله، وحيًّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله لي ولكم دوام التوفيق والسداد.
{نبدأ -بإذن الله- في (فَصْلٌ فَيْ سُقُوْطِ الْمَهْرِ وَثُبُوْتِهِ).
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلُّ فُرْقَــةٍ جَـــاءَتْ مِنَ الْمَــرْأَةِ، قَبْلَ الدُّخُــوْلِ، كَإِسْـــلاَمِهَا، أَوِ ارْتِدَادِهَا، أَوْ إِرْضَاعِهَا أَوْ ارْتِضَاعِهَا، أَوْ فَسْـخٍ لِعَيْبِهَــا أَوْ فَسْـخِهَا لِعَيْبِهِ، أَوْ إِعْسَــارِهِ، أَوْ عِتْقِهَــا، يَسْقُطُ بِهِ مَهْرُهَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين، أما بعد:
فأسألُ الله -جَلَّ وعَلَا- أن يُتمَّ عَلينا نعمته، وأن يزيدنا من فضله، وأن يُبلغنا طاعته، وأن يُعيذنا من مَعصيته، وأن يجعلنا على نهجِ أهلِ العلم سائرين، وعلى طريق أهل الفضل مُستقيمين مُتمسِّكين، وألا يُزيحنا ولا يزلَّنا عن الهَدي المستقيم، إنَّ ربنا جوادٌ كريم.
كُنَّا ابتدأنا في المجلس الماضي بما يتعلق بكتاب الصَّداق، وهو من الأبواب المهمَّة في كتاب النِّكاح، إلى أن ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- تفاصيل أحكام الصَّداق من حيث استقراره أو عدم ثبوته، أو تنصُّف المهر، وما يدخل في ذلك من مسائل.
وبينَ يدي ذلك لابدَّ من مُقدمة يُقدَّم بها، وهي: أنَّ الصَّداق إذا سُمِّيَ وجُعل للمرأة مُعيَّنًا فإنَّه قد دخل في مِلكها، فيُملَك الصَّداق بالعقدِ إذا سُمِّيَ.
ويترتَّب على ذلك أنَّه متى عُقِدَ النِّكاح وجعل لها مهر مُعيَّن، فما يكون عليه من زيادة فهو لها، وما يكون عليه من نقصٍ فهو من ضمانها، وما يترتب عليه من زكاة فهو داخلٌ في ذمَّتها، فإذا مرَّ عليها حولٌ منذ عقدت عقد النكاح الذي جُعل فيه مهرٌ بعينه؛ فإنه يجب عليها الزكاة إذا كان ذلك الصَّداق مما يجب فيه الزكاة.
متى يستقر؟ ومتى يتنصَّف؟ ومتى يسقط؟
هذه هي المسائل التي يذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا:
المسألة الأولى: بِمَ يُملَك الصَّداق؟
الصَّداق يُملك عند عامة أهل العلم عند تسميته في العقد، وبناء على ذلك تترتب عليه أحكام، ولكن إذا مَلَكَتْ يُمكن أن يستقر لها، ويُمكن أن يزول مِن مُلكها، ويُمكن أن يزول بعضه ويبقى بعضه، وهذا هو محل البحث هنا، فلذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكُلُّ فُرْقَــةٍ جَـــاءَتْ مِنَ الْمَــرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُــوْلِ).
إذن عندنا حالان:
- إمَّا قبل الدخول.
- أو بعد الدخول.
بعد الدخول: تستحق المرأة المهر، ويستقر المسمى قَطعًا؛ لأنَّه استحلَّ فَرجَهَا، واستباح عيبتها واستمتع بها، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَ» ؛ ولأن استحلال المرأة أمرٌ عظيمٌ؛ فلابدَّ أن يُوازيه شيءٌ كبير، حتى ولو لم يكن ذلك إِلَّا مَرَّة واحدة، فيكون لها المسمَّى كله، قليلًا كان أو كثيرًا.
أمَّا إذا لم يكن قد سُمِّيَ لها شيءٌ فإنَّه يستقر بالدُّخول مَهر مثلها، فإذا دخل بها زوجها ولم يكن سمَّى لها مهرًا بأن تكون مُفوضة بُضعٍ أو مفوضة مَهر -على ما سبق بيانه- فنقول: بدخوله عليها استقرَّ مَهرُ مِثلها.
وذكرنا إشارة لطيفة في كيفية حساب مهر المثل، فأهل العلم يَعتبرونه بمَن يساويها من أهلها، بكارة وثيوبة، جمالًا وعدمه، صغرًا وكبرًا، وما يُماثل ذلك، ولهم في هذا سبعة أشياء يُعلِّقون عليها اعتبار المثل في المهر.
إذا ملكت المسمَّى، ثم قبل الدُّخول جاءت الفُرقة من قِبَلِهَا، كأن تكون ارتدَّت -نسأل الله السَّلامة والعافية- أو أسلمت وكانا زوجين نصرانيين، فحينئذٍ يكون فسخ النكاح مِن قِبَلِها، وإن كان بعض أهل العلم يقولون في هذه المسألة: إنَّها لما فعلت ما وجب عليها، فكأن الفسخ حصل من جهته؛ لأنَّه هو الذي تخلَّف عنها، ولهم في هذا تفصيل.
وقولهم له اعتبار من النَّظر، وإن كان ظاهر الحال أنَّها لمَّا أسلمت هي التي استدعت الفرقة، فلأجل ذلك كان ظاهر المذهب اعتبار المرأة هي التي كان منها فسخ النِّكاح، فسقط مهرها كله، ولا يبقى لها لا نصف ولا شيء؛ لأنَّ الفرقة جاءت من قبلها.
ويقول أهل العلم: لأنَّ البدل الذي في هذا النِّكاح كأنها هي التي تعجَّلت إسقاطه، وهي التي تسلطت على إتلافه، فبناء على ذلك لم يكن لها شيء.
ومثل ذلك: رضاعها، ومثل هذه المسائل مرَّت الإشارة إليها فبما يتعلق بالكلام على المحرمات من النِّكاح، لما استرسل المؤلف فذكر باب الرَّضاع، وذكر جُملة من الأمثلة المتعلِّقة بذلك، وأرجو ألا يكون الإخوة قد نسوا ذلك!
فإنَّ من الطلاب مَن هو مثل الحصَّادة التي تحصد وتلقي خلفها، ثم لا تعود إليه، فيذهب ويُنسَى! فينبغي للطالب أن يكون أكثر حرصًا.
قال المؤلف: (أَوْ إِرْضَاعِهَ)، يعني: لو أرضعت، فإذا كانت زوجة لشخص فأرضعت زوجته الصغيرة؛ فإنها ستكون أم زوجته، فكأنها هي التي استدعت فسخ النِّكاح منه، وبناء على ذلك نقول: إنَّ الفرقة جاءت من قِبلها، فيسقط مهرها بالكليَّة.
قال: (أَوْ ارْتِضَاعِهَ)، وهذا مثَّلناه بما لو دبَّت الصغيرة المزوَّجة، فالتقمت ثديَ زوجته فارتضعت خمس رضعات محرمات، فإن الفرقة جاءت من قبلها.
قال: (أَوْ فَسْـخٍ لِعَيْبِهَــا أَوْ فَسْـخِهَا لِعَيْبِهِ)، إذا فُسِخَ لعيبها فليس لها مهر؛ لأنَّ العيب من جهتها، فكأنها هي التي استدعت.
لقائل أن يقول: إذن يُقابل ذلك أنَّه إذا فُسِخَ لعيبه فيكون الفسخ من جهته، فيتنصَّف المهر!
هذا الكلام له وجه وجيه، وقال به جمعٌ من أهل العلم، ولكن يقولون: إنَّ العيب نفسه ليس هو الذي استدعى الفسخ، وإنما هي التي لم ترضَ بالعيب فطلبت الفسخ، فكأنها هي التي طلبت.
أيًّا كان؛ فالقول بالتَّسوية بين هاتين المسألتين فيه نظر.
فإذا قُلنا: إنَّ العيب نفسه ليس سبب فسخ النِّكاح، فكذلك لا يكون عيبها هي سببًا لفسخ النِّكاح، فيكون هو الذي طلب وتكون الفُرقة جاءت من قبله.
وهذه من المسائل التي تسمَّى عند الفقهاء بطَردِ الضَّابط، فطرده أن يُقال: إذا فُسخَ لعيبها، فيكون من جهتها، وإذا فسخ من عيبه يكون الفسخ من جهته؛ فيتنصَّف فيه المهر.
ولكن هنا كأنهم جعلوها على وجه واحدٍ، وهذا يكون بابه عند الفقهاء باب النظر والترجيح وتحقق المناطات، وهذه محل تنازع، فعلى كل حالٍ هم ذكروه هنا واعتبروه في هذه الجهة.
قال: (أَوْ إِعْسَــارِهِ)، إذا أعسر ولم تصبر على عسرته، فطلبت فسخ النِّكاح؛ فإنَّ الفرقة جاءت من قِبلها؛ لأنَّ من النِّساء مَن يُمكن أن تصبر على فقر زوجها وعسرته، فهو وإن كان الذي هيَّجَ ذلك؛ لكن هي التي طلبت.
قال: (أَوْ عِتْقِهَ)، يعني: لو عتقت وزوجها عبد، فطلبت الفراق، فإنَّ الفسخ جاء من جهتها، فبناء على ذلك يسقط مهرها.
وقلنا: إنَّ سُقوط المهر هنا؛ لأنَّ الفُرقة جاءت من قبلها، ولأنَّ البدل حقٌّ لها مقابل عقد النَّكاح، لكنَّها هي التي استعجلته، ففوَّتت هذا البدل بأن فسخت العقد وأنهت النَّكاح وطلبت الفُرقة والخلاص، فلأجل ذلك قال أهل العلم بسقوط مهرها، ولأننا لو قلنا بعدم سقوطه لاستدعى ذلك بلاءً كثيرًا على الرجال، فإنَّ كل النساء يعقدنَ النِّكاح ويستدعين تسمية الصَّداق، حتى إذا أراد الدخول طلبت الفسخ، فإذا قلنا: إنها تأخذ نصف المهر بطلبها للفسخ؛ صار لها مثل العادة، كلما أخذت شخصًا وأراد الدخول بها عادت ونكصت؛ فاستحقَّت نصف المهر من هذا ونصف المهر من هذا ونصف المهر من هذا؛ ففسدت النَّفس، واستدعت حق الغير، وتسلَّطت على أموال الناس، وكان في هذا بلاء كثير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ جَـاءَتْ مِنَ الزَّوج، كَطَـلاَقِهِ وَخُلْعِهِ، تَنَصَّفَ بِهِ مَهْرُهَا بَيْنَهُمَا، إِلاَّ أَنْ يَعْفُوَ لَهَا عَنْ نِصْفِهِ أَوْ تَعْفُوَ هِيَ عَنْ حَقِّهَا وَهِيَ رَشِيْدَةٌ، فيُكْمَلُ الصَّداق لِلآخَرِ)}.
القاعدة: إذا جاءت الفُرقة من جهة المرأة فيسقط المهر كله، وهذا مُقيد بما إذا كان قبل الدخول، أمَّا بعد الدُّخول فإنَّ المهر قد استقرَّ باستحلال فرجها.
وفروع تلك المسائل بعضها محل كلام، منها ما قد يستقر القول أنها من جهتها، ومنها ما قد يكون محل كلامٍ مثلما قلنا في بعض المسائل التي تقدمت فيما يتعلق بالفرقة من جهة الزَّوجة.
إذا جاءت الفرقة من جهة الزَّوج قبل الدخول: فإنَّ للمرأة نصف مَهرها، كأن يُطلقها، أو خالعها؛ لأنَّ الخلع هو استدعاء المرأة للفسخ، وإجراؤه وإنفاذه من جهته، فيكون لها نصف المهر.
وأصل ذلك قول الله -جَلَّ وعَلَا: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: 237]، يعني: إن طلقتموهن قبل الدخول.
فلأجل ذلك قيَّدنا هذه المسائل كلها بما إذا كان قبل الدخول، وهذا فيما إذا كانت الفرقة من جهته؛ لأنَّ الله -جَلَّ وعَلَا- أسند الطَّلاق إليه فقال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ ، فدل على أنَّه لو كان انتهاء عُلقة النكاح من جهتها -ولا نقول: "الطَّلاق من جهتها" لأنها لا تملك طلاقًا- فإنَّه لا يدخل في هذه الآية، فلأجل ذلك نقول: بدلٌ تعجَّلت فواته فذهب عليها.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (تَنَصَّفَ بِهِ مَهْرُهَا بَيْنَهُمَا، إِلاَّ أَنْ يَعْفُوَ لَهَا عَنْ نِصْفِهِ أَوْ تَعْفُوَ هِيَ عَنْ حَقِّهَا وَهِيَ رَشِيْدَةٌ، فيُكْمَلُ الصَّداق لِلآخَرِ).
هذه مسألة العفو، وقد نصَّ الله -جَلَّ وعَلَا- على العفو في كتابه فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 237]، هذه آية عظيمة في سَلِّ سخيمة الزَّوجين، وإذهاب ما في نفوسهما، مع ما جرى عليهما من الفُرقة، ومع ما حَلَّ عليهما من الاختلاف والطَّلاق؛ فإنَّ الله -جَلَّ وعَلَا- دعاهما إلى سَلِّ سَخائم النُّفوسِ وضغائنها، وطلبِ العفو والصَّفح عمَّا كان، حتى إنَّ الواحد ليتنازل عمَّا في يده، وما استحقَّه على صاحبه، حتى تطيب بذلك النُّفوس، وينجبر الخاطر، وكلٌّ يذهب في طريقه؛ لأنَّ النُّفوس إذا كانت مَشحونة بعدَ الطَّلاق فإنَّ هذا أفسد ما يكون على الزَّوجين، سواء كان لهما أبناء فاستدعى ذلك أن ينتقل ذلك إلى نفوس أبنائهم، فمن المعلوم أن الحياة الزَّوجية -حتى ولو كان قبل الدخول- يدخل بينهما من الأسرار وينتشر بينهما ممَّا لا يطلع عليه سواهما، فلو أنَّه لم يعفُ عنها، ولم تعفُ هي عنه، وحصل الطَّلاق على حينِ شحِّ النفوسِ ومنازعتها ومكابرتها؛ فإنَّ ذلك داعٍ إلى أن تُفشيَ سرًا، أو تُظهرَ عيبًا، أو تتكلم في غيبته، أن تُنفِّرَ منه، وهو كذلك ربما قال عنها كذا وكذا وكذا؛ فإذا حصل بينهما شيء من التَّصافح والتَّسامح حتى إنَّ أحدهما ليعفو عن نصفِ مَهره؛ فإنَّ ذلك أدعى إلى أن تطيب نفسها، وتقبل على حياتها، وتنسى ما كان من زوجها.
وفي قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ ، فالزَّوجة عفوها ظاهر في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ ، ولكن قوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هل المقصود بذلك الزَّوج؟ أو الولي كالأب فله أن يعفو عن نصف الصَّداق عن الزَّوج؟
هذا فيه كلام لأهل العلم كثير، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزَّوج؛ لأنَّه هو الذي بيده حلُّ النِّكاح، وهو الذي جاء عن ابن عباس وعن مجموعة من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعن غير واحدٍ من السَّلف، والآية جاءت على سبيل المقابلة ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ فهذا من جِهَتِهِنَّ، ثم قال: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ ، فذكر جهة الزَّوج، فيكون ذلك مُستقرًّا وظاهرًا.
وقال بعض أهل العلم: إنَّ الذي يعفو هو الأب؛ لأنَّه هو الذي بيده عُقدة النِّكاح، فهو الذي يُزوِّج موليَّته.
فإن قال قائل: إنَّ المهر للمزوَّجة وليس للولي!
فيقولون: وإن لم يملك مهرها، إلا أنَّ للأب أن يتملَّك من مهرها، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» ، فله أن يتملَّك المهر، ثُمَّ بعد ذلك يعفو، وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم، وإن كان ما استقر عليه مذهب الحنابلة في ذلك ظاهرٌ وقويٌّ من جهةِ المعنى، ومن جهةِ ما استندوا عليه من الأدلة الظَّاهرة فيها.
إذن قوله: (إِلاَّ أَنْ يَعْفُوَ لَهَا عَنْ نِصْفِهِ)، كأنَّ المؤلف فسَّر أنَّ الذي بيده عُقدة النِّكاح هو الزَّوج.
قال: (أَوْ تَعْفُوَ هِيَ)؛ لأنَّ الله -جَلَّ وعَلَا- قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ ، فذكر النِّساء.
قال: (وَهِيَ رَشِيْدَةٌ)؛ المقصود بالرُّشد هنا: الرُّشد في المال بأن يكون لها تصرف، فلا تكون صغيرة، ولا تكون مجنونة، أو معتوهة، ولا تكون سفيهة في الأموال، لأنَّها ربما تكون عاقلة ومن أكثر الناس دينًا وأطيبهم خلقًا، ولكنها لا تُحسن التَّصرُّف في المال، فتكون محجورًا عليها ولا تتصرف، فاشترط المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أن تكون رشيدة، لئلا تكون سفيهة، فلا ينفذ تصرفها.
فإذا عفَت وهي رشيدة فإنَّ عفوها صحيح ومقبول، ولذلك قال: (فيُكْمَلُ الصَّداق لِلآخَرِ)، إن كان الذي عفا هو الزَّوج وقال: خذي المال كله؛ فيكون المهر كله لها، وإن عفَت هي وقالت: لا أريد منك شيئًا؛ فيُردُّ إليه مَهره كلُّه.
وهذا ينبغي أن تتداعى إليه النُّفوس، وأن تطيب به القُلوب، وأن يُمنَع زيادة نشوب الخلاف بينهما، وما يكتب الله للإنسان خير، ثُمَّ إنَّ الله -جَلَّ وعَلَا- قال: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة: 237]، فيحصل في ذلك تقوى القلوب، وذهاب للضَّغائن، وما عند الله خير وأبقى، فإنَّ الذي ذهب عليكِ يُمكن أن يعوضكِ الله -جَلَّ وعَلَا- خيرًا منه، وأزكى عند الله، وأطيب في زوجيَّة، وأنعم في مال، وأحسنَ في تعامل، وأكمل في خلق.
ونقول للزَّوج: إن فاتت عليه زوجته على نحو ذلك الحال، فأنفق وتعنَّى وترك المال لها، فيوشك أن يخلف الله عليه ما أنفق، وأن ييسر له فوق ما تمنَّى، وأن يُلصقه الله ويزوجه بامرأة طيبة تكون أتم في خلقها، وأحسن في خلقتها، وأرعى لبيت زوجها، وتقوم بينهما المودة والمحبَّة، وفضل الله عظيم لا حدَّ له، مهما طالت الأمور، أو تعقَّدت الأشياء، أو اشتدت العوائق، أو كثُرَت الموانع، أو لم يكن في ذلك ما يستدعي من حال الزَّوج أو الزَّوجة في جمالٍ أو في جاهٍ أو في حسبٍ أو في سواه؛ ففضل الله لا حدَّ له، والله يؤتي فضله مَن يشاء، وهو ذو الفضل العظيم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ جَاءَتْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، فَعَلَى الزَّوج نِصْفُ المَهْرِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَينهُمَ)}.
يعني: ما دام أنَّ الفُرقة ليست مِن جهتها، فكأنَّ الزَّوج هو الذي طَلَّقَها، فبناء على ذلك يلزمه نصف المهر.
والمقصود بالأجنبي: أنَّه ليس الزَّوج أو الزَّوجة، وليس المقصود أنَّه الرَّجل البعيد؛ وبناء على ذلك نقول: إنَّه أجنبي، سواء كانت أُمَّه، أو أبيه، أو أمَّها، أو أبيها، أو أخيها، أو أي أحدٍ من النَّاس، ويكون على الزَّوج في مثل هذه الحال نصف المهر، ويرجع على هذا الأجنبي.
فلو أنَّ امرأة كانت أمًّا لهذا الزَّوج من الرَّضاع، وأرادت ألا يتزوج هذه البنت، فقامت وأرضعتها حتى تفوتها عليه غيرةً وحسدًا، فهذا يحصل من النِّساء، فإذا أرضعتها فتكون هي التي تسببت على هذا الزَّوج بفوات زوجته، وبناء على ذلك يرجع عليها بنصف المهر.
وهكذا ما شابه ذلك من المسائل، فإذا تسبب هذا الأجنبي في الفرقة، فنقول: إنَّ حق المرأة يستقر بنصف المهر، ولما لم تكن الفُرقة من قِبَل الزَّوج فإنَّ حقه يثبت ويرجع على من فوَّت عليه الزَّوجة وتسبب عليه في ثبوت نصف المهر في ذمته أن يرجع إليه فيرفعه إلى الحاكم، ويُطلَب له ما فوَّت من نصف المهر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَتَى تَنَصَّفَ الْمَهْرُ وَكَانَ مُعَيَّنًا بَاقِيًا لَمْ تَتَغَيَّرْ قِيْمَتُهُ، صَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ زَادَ زِيَادَةُ مُنْفَصِلَةً، كَغَنَمٍ وَلَدَتْ، فَالزِّيَادَةُ لَهَا وَاْلغَنَمُ بَيْنَهُمَ)}.
الأحوال التي يُحكَم فيها بتنصُّف المهر بأن يكون الطَّلاق من جهة الزَّوج، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (صَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ).
لماذا قال: (وَمَتَى تَنَصَّفَ الْمَهْرُ)؟
لأنَّه إذا كان المهر كله لها انتهينا، وإذا كان المهر كله سيرجع إليه أيضًا فلا إشكال في ذلك، ولكن الكلام في حال التَّنصُّف.
فإذا كان المهر مُتنصِّفًا بأن تكون الفرقة من قِبَل الزَّوج وكانت قبل الدخول؛ فبناء على ذلك يقول المؤلف: (وَكَانَ مُعَيَّنًا بَاقِيًا لَمْ تَتَغَيَّرْ قِيْمَتُهُ، صَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ)، يعني: هو على ما هو عليه، كهذه السَّيَّارة لما جعلها مهرًا لها، فطلقها قبل الدُّخول، فنقول: هي بينهما نصفين، نصفها للزَّوج، ونصفها للمرأة، فيبيعها، ثم إذا خرجت قيمتها مثلًا مائة ألف، فلها خمسون، وله خمسون، وإذا كانت قيمة السيارة أربعون، فيكون للزوجة عشرون وللزوج عشرون، وهكذا.
ولهذا قال: (وَكَانَ مُعَيَّنًا بَاقِيًا لَمْ تَتَغَيَّرْ قِيْمَتُهُ).
إذا قال أحدهما: أنا أريدها لي؛ فيلزمه أن يدفع النِّصف للآخر، فينتهي ما بينهما.
قال: (وَإِنْ زَادَ زِيَادَةُ مُنْفَصِلَةً، كَغَنَمٍ وَلَدَتْ، فَالزِّيَادَةُ لَهَا وَاْلغَنَمُ بَيْنَهُمَ).
هذه مسألة إلى ما ذكرناه في أوَّلِ الكلام، أنَّ الصَّداق يُملَك إذا سُمِّيَ في العقد، وبناء على ذلك لمَّا كان مملوكًا للزَّوجة فهذه الزِّيادة زادت في مِلكها، فهي نتاج ملكها، فتكون الزِّيادة لها؛ لأنَّ القاعدة عند الفقهاء: أنَّ "الخراج بالضَّمان"، فكما أنَّه لو تَلف فسيكون عليها الضَّمان، فكذلك لو زاد فإنَّه يكون لها.
يقول المؤلف: (كَغَنَمٍ وَلَدَتْ)، فلو كان أمهرها عشرين من الغنم -وهم من أهل البوادي والرعي- فنُتجت عشرًا، فصارت ثلاثين، ثُمَّ طلقها قبل الدخول، فنقول: ترد عليه عشرًا، أمَّا نتاجها فللزوجة؛ لأنَّه نتاج ملكها، فلا مدخل للزَّوج فيه، فإنَّ للزَّوج نصف ما أعطى، وقد أعطى عشرين، فيُردُّ إلى نصفها -عشرًا- وهذا إذا كان قِيَم الغنم متساوية، وإلا فلذلك حسبة معلومة. قال: (فَالزِّيَادَةُ لَهَا وَاْلغَنَمُ بَيْنَهُمَ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، مِثْلُ إِنْ سَمِنَتِ اْلغَنَمُ، خُيِّرَتْ بَيْنَ دَفْعِ نِصْفِهَا زَائِدًا وَبَيْنَ دَفْعِ نِصْفِ قِيْمَتِهَا يَوْمَ اْلعَقْد)}.
أمَّا في حال الزِّيادة فلا يخلو:
- إما أن تكون الزِّيادة متَّصلة.
- أو تكون منفصلة.
الزِّيادة المنفصلة: مثلما قلنا أنَّ الزِّيادة تكون لها.
الزِّيادة المتَّصلة: مثل أن سَمنت الغنم، يعني لمَّا كانت الغنم عند الزَّوج كانت هزيلة، ثم لمَّا وليها أهل المرأة فرعوها وأحسنوا إليها، وقاموا بعلفها فسمنت، فبدلَ أن كانت الواحدة تساوي ألفًا صارت تساوي ألفًا وخمسمائة، فلما طلقها قبل الدُّخول قال: أعطيني عشرًا!
قالت: لا، لما أعطيتني إيَّاها ما كانت تساوي كذا وكذا!
فكيف يُحكَم في ذلك؟
يقول المؤلف: (وَإِنْ زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، مِثْلُ إِنْ سَمِنَتِ اْلغَنَمُ، خُيِّرَتْ بَيْنَ دَفْعِ نِصْفِهَا زَائِدً)، يعني: تتبرع أن تدفع له النَّصف مع الزِّيادة، فهي كانت تساوي عشرة آلاف والآن تساوي خمسة عشر ألفًا، فتكون قد أعطته حقَّه وزيادة، فلا يجوز له بعد ذلك أن يقول: أنا أعطيتك إيَّاها أقل من ذلك فلا أريدها وأريد قيمتها، فإذا دفعته له فإنَّها قد دفعت له عينَ ماله وزيادة، فيلزمه قبول ذلك.
ثم يقول المؤلف: (وَبَيْنَ دَفْعِ نِصْفِ قِيْمَتِهَا يَوْمَ اْلعَقْد)، أمَّا إذا كانت ما رضيَت وما طابت نفسها أن تدفع له ما زاد، وهذا نماء ملكها، فنقول: لكِ ذلك.
فنقول: هذه العشر من الغنم تساوي عشرة آلاف، وللزَّوج نصفها، فتعطيه المرأة خمسة آلاف؛ لأنَّ الزَّيادة كلها لها، ولكن لمَّا كانت الزيادة متَّصلة لا يُمكن قسمها، قلنا: إمَّا أن تتبرع وتعطيه عينَ ماله بزيادته، وإمَّا أن نرجع إلى القيمَة عند العقد الذي هو محل التَّملُّك وانتقاله من الزَّوج إلى الزَّوجة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ نَقَصَتْ، فَلَهَا اْلخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهَا نَاقِصًا وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيْمَتِهَا يَوْمَ اْلعَقْدِ)}.
فإذا كانت الغنم سمانًا، ثُمَّ لمَّا أعطاها المرأة فجعلوها عند شخصٍ أو صاروا يُعطونها شيئًا يسيرًا من الطَّعام، ولم تكن مثل عناية أهلها الذين يلون مثل هذه الأشياء ويعتادون على ذلك؛ فنقصت الغنم، ثم طلقها قبل الدخول، فقالت: خذ نصفها.
فقال: لا، الآن هي ناقصة!
فنقول: أنتَ بالخيار، إن شئتَ أن تأخذ نصفها حتى ولو جرى عليها نقص، فهذا منك إحسانٌ وتسامح وعفو، والمسامحة في المعاملة هي من صفات أهل الفضل، «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى» ، يعني: تقاضى حقًّا له عندَ أحدٍ، ومثل ذلك تنصيف المهر في مثل هذه الحال.
فنقول: يُخيَّر بينَ أخذه ناقصًا، وبين أخذ حقِّه، فإذا قال: أنا أعطيتها إيَّاها سمانًا، وهذه هزال، فلا أقبلها!
فإذا كانت تُساوي مثلًا اثنا عشر ألفًا وهي سمانًا، فنقول: أعطيه أيتها المرأة ستًّا.
فلو أنهما اصطلحا على شيءٍ آخر، كأن تقول: أعطيكَ اثنا عشر -بدل العشر التي هي نصف المهر- فهذا إليهما، ولكن نحن نقول في حال ما إذا لم يرضيا ولم يصطلحا على شيء؛ فالحكم هو أن يُرجَع إلى القيمة، فيُنظَر إلى قيمتها، فتبذلها له.
إذا قالت: ما عندي شيء!
نقول: بيعي هذه الغنم، وأعطيه نصف قيمتها التي استحقها عليكِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ تَلِفَتْ، فَلَهُ نِصْفُ قِيْمَتِهَا يَوْمَ اْلعَقْدِ)}.
إن تَلفت وذهبت أو ماتت من سُمٍّ أو من ضعف، أو جاءت سيَّارة فصدمتها فهلكت؛ فنقول في مثل هذه الحال: أنتِ أيتُها المرأة مَلكتيها، وهلكت وهي تحت يدكِ، فضمانها عليكِ، فبناء على ذلك إذا طلقكِ قبل الدخول فالآن أعيانها قد ذهبت ولم يبقَ إلا قيمتها، فإذا كانت قيمتها مثلًا اثنا عشر؛ فَتُلزَم بإعطائه ستة آلاف؛ لأنها ثبتت في ذمَّتها.
{قال: (وَمَتَى دَخَلَ بِهَا، اسْتَقَرَّ الْمَهْرُ وَلَمْ يَسْقُطْ بِشَيْءٍ)}.
متى ما دخل بها فإنَّه يَستقر المهر لها، ويكمل لها المسمى، فإذا كان قد أعطاها مائة وستين ألفًا فإذا دخل بها فقد استحقَّت ذلك، ولو طلقها بعد الدُّخول فإنَّه لا يرجع عليها بشيءٍ، فهذا حقها الذي أحقَّه الله، وجعله الله -جَلَّ وعَلَا- مُقابل ما خلَّت بين نفسها من استمتاعه بِبُضْعِها وانتفاعه بها، وإعفافها له، وما يتبع ذلك من المنافع التي يجدها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ خَلاَ بِهَا بَعْدَ اْلعَقْدِ، وَقَالَ لَمْ أَطَأْهَا، وَصَدَّقَتْهُ، اسْتَقَرَّ الْمَهْرُ وَوَجَبَتِ اْلعِدَّةُ)}.
هذا تقرير لمسألة ما يحصل به الدخول، متى نقول: إنَّه طلقها قبل الدُّخول أو بعدَ الدُّخول؟
عندنا حالان:
الحالة الأولى: أن يدخل بها بأن يطأها أو يُجامعها، فإذا جامعها بأن أولج حشفته في فرجها فهنا استقر المهر إجماعًا عند أهل العلم، لقوله تعالى: ﴿وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن﴾ [البقرة: 237]، وهذا قد مسَّها، فبناءً على ذلك قد استقرَّ حقها كاملًا وهو المهر تامًّا.
الحالة الثَّانية: أن يدخل بها ولا يطأها، وذلك بأن يَدخل عليها في مكان فتُرخَى السُّتور وتُغلَق الأبواب، ولم يكن بينهما جماع، فهل يعتبر ذلك دخولٌ ويُلحق بأحكام المسيس، فيكون استقرارًا للمهر أو لا؟
هذه مسألة خلافيَّة بين الفقهاء:
- منهم من جعل الجماع هو حقيقة الدُّخول لا غير، لأن هذا هو معنى قوله: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ .
- ومنهم مَن قال: إنَّ حصول أسبابه الظَّاهرة كحصول حقيقته الباطنة؛ لأنَّ الله -جَلَّ وعَلَا- علَّقَ الأمرَ على الجِماع، والجِماع أمر خفيٌّ، فحكمنا بما يدلُّ عليه، والذي يدلُّ عليه هو إرخاء السُّتور وإغلاق الأبواب، وهذا هو مَشهور مذهب الحنابلة، واستدلُّوا بأنَّ ذلك هو إجماع الصَّحابة، فإنهم قالوا: قَضَى الخلفاء الراشدون أنَّ مَن أغلق بابًا وأرخى سترًا فقد وجبَ المهر واستقر، ووجبت العدَّة.
إذن حُكم الفقهاء الحنابلة مبنيٌّ على ما جاء عن الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا باتِّباعهم؛ ولأنَّ وروده عنهم يكون كالمشتهر، فيكون كحكم الإجماع بين الصَّحابة، فلذلك ألحقوا مسألة الدخول ولو لم يكن معه وطء بمسألةِ حقيقة المجامعة المسيس، لِمَا ذكرنا من المعنى، ولِمَا نُقِلَ من الأثرِ، فيكون ذلك ظاهرًا، والله الموفق.
وهنا مسألة: أنَّه يحصل كثيرًا أنَّ من الناس مَن يلتقي زوجته، ولكن الباب مفتوح، أو يلتقي زوجته ومعهم بعض أهليهم، أو يلتقي زوجته بأن يخرج وإيَّاها إلى مكانٍ عامٍّ كمعطعمٍ ونحو ذلك، فهذه لا تُعتبَر إرخاءً للستور وإغلاقًا للأبواب، ما دام أنه لم يحصل هذا المعنى.
بقيت مسألة: لو طلَّقها قبل الدُّخول، وكانت الفُرقة من جهتها، فإنها ستردُّ إليه المهر كله، ما الذي ترده إليه؟
تردُّ إليه أصل المهر، أمَّا الزيادة المتصلة والمنفصلة فمثلما قلنا في حال التَّنصُّفِ على نحو التَّفصيل المتقدِّمِ سواءً بسواء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنِ اخْتَلَفَ الزَّوجانِ فِيْ الصَّداق أَوْ قَدْرِهِ، فَاْلقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِيْ مَهْرَ اْلمِثْلِ مِنْهُمَا مَعَ يَمِيْنِهِ)}.
مسائل الخلاف والاختلاف يذكرها الفقهاء في نهاية كل باب، وهي عونٌ للقضاة ومَن يلي حلَّ الخلاف بين الأزواج، والمختلفين في تقريب هذه المسائل.
وأصل ذلك: أنَّ البينة على المدَّعي، واليمين على مَن أنكر.
فلمَّا كان الأصل أنَّ لها مهر المثل، فمن يدَّعي زيادة فإنَّ خلاف الأصل، فلمَّا كان خلاف الأصل فإمَّا أن يُثبت ذلك بالبيِّنة، وإمَّا أن يقول القول قول منكره، فمَن أنكرَ هذه الزِّيادة كان الأصل معه، فبناء على ذلك اعتبرنا قوله باليمين.
على سبيل المثال: لو أنَّه قال: أصدقتكِ خمسة آلافٍ، ومهر مثلها عشرين ألفًا.
فقالت: لا، أصدقتني عشرين ألفًا.
إذن المرأة هي مَن يدَّعي مهرَ المثل، فمعها الأصل؛ لأنَّ الأصل أنَّ النِّساء يُعطينَ مهر أمثالهنَّ.
فبناء على ذلك نقول: إنَّ القول قولها، وأنتَ أيُّها الزَّوج إمَّا أن تثبت بالبيِّنة أنَّكُما اتفقتما على خمسة آلاف، وإلا فلتدفع لها مهر مثلها، فإذا لم يأتِ بالبينة فتحلف أنَّه قال: إنَّ لها مهر المثل، فإذا حلفت استحقَّت العشرين كاملة.
والعكسُ بالعكسِ، فلو قالت: اتفقت أنا وإيَّاه على أن يُعطيني خمسين ألفًا، وكان مهر مثلها ثلاثين.
فقال: أنا لم أتَّفق، وإنما أعطيها مثلما جاءت العادة لمثيلاتها، فليس لها إلا ثلاثين.
فنقول: هل لكِ بيِّنة أيتها المرأة؟
قالت: لا بيِّنة لي، هذا دار بيننا في الهاتف، أو في مجلس والدي، ولم تكن ثَمَّ بيِّنة، ووالدها لا يُقبل قوله على ذلك الرجل.
فنقول هنا: إمَّا أن تُثبتي البيِّنة، وإمَّا أن نعتبر قوله، فإذا حلف أنَّه لم يُثبت لها الزيادة فلن تستحق إلا مهرَ مثلها.
إذن؛ القولُ قولُ مَن يدَّعي مهرَ المثل مع يمينه سواء كان الزَّوج أو الزَّوجة، في المسألتين المتقدمتين على نحوِ ما ذكرنا.

باب "معاشرة النساء" أرجو أن يكون هو استهلالَ دراستكم في الفصل القادم، وهذا الباب من الأهمية بمكان، والحقيقة أنا أخَّرتُ الوصول إليه، لئلَّا يكونَ في نهاية دراستنا في هذا الفصل فنختزل الكلام فيه؛ لأنَّ فيه مسائل مهمَّة تقوم عليها البيوت، وينتهي معها الخلاف، وتصلح معها الأحوال، ويندفع بها شرور كثيرة، وتستقر بها أحوال الزَّوجيَّة، وتُظَلُّ بظِلالِ المحبَّةِ والمودَّة، وتكملُ الحال، فلمَّا كان الأمر كذلك أحببنا أن تكون هذه المسائل في مُستهلِّ الفصل القادم، ولعلَّ إن كتب الله -جَلَّ وعَلَا- لنا عُمرًا وحياة ثم لقاءً بكم أن نفيض في القول فيه، ونجعل ذلك في مسائل مُهمَّة تليق بالمقام؛ لأنَّ الكلام فيها ليس كلامًا يُراد به هناء النفوس أو أنسُها، أو التَّفريج عنها؛ بقدرِ ما يُراد به تأصيل مسألةٍ يُراد فهمها على وجهٍ صحيحٍ يقطع الخلاف بينَ الزَّوجين، ويرتكسُ به الشيطان، فلا يصل إلى الأزواج، ولا يُفسد عليها القلوب والنفوس والبيوت، ويحصل بذلك الخير الكثير.
ثُمَّ إنَّ هذه المسائل مع مستجدات العصر، وما حصل عند النَّاس من قُرب بعضهم لبعض بوسائل التقنية ونحوها؛ صارت العشرة عُرضة للخلاف، وفي مهبِّ الرِّيح، وصارت كالسَّفينةِ في لُجَّة البحر عند هيجان الأمواج؛ فلا يُدرَى في كل يومٍ ما يكون مِن حَالِها، فكان أليَقَ أن نُعْنَى بها عناية؛ لنأخذ هذه السفينة إلى شاطئ الاستقرار، وإلى الفيء وحصول الظِّلال، والبُعد عن تلاطمِ هذه الأمواج، والعرضة للغرق والذهاب والفوات، فكان الأمر أهم ما يكون، فلذلك نُرجئ الحديث إلى وقته.
بقي عندنا مسألتان:
إحداهما ما وعدتكم به، وهي مسألة العيوب في النِّكاح.
ذكرنا ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- من أنَّ العيوب في النِّكاح سبعة:
- شيء يختص بالرجل.
- شيء يختص بالمرأة.
- شيء مشتركٌ بينهما.
وكان من الفقهاء سبرٌ وتتبُّع لما يذهب بها كمال العفَّة بين الزَّوجين، ومن المعلوم أنَّ مع تطور الأيام وتطور الطِّب اختلفت كثير من هذه الأشياء، فصار بعضها ليس محلًّا للعيوب، وتجدَّدَ من الأشياء ما قد يكون أعظم من ذلك، مثل حصول مرض: "الإيدز" ونحو هذا، فيُحتاج في ذلك إلى شيء من التفصيل، ولو استطردنا في ذكر هذه العيوب أو ما استجدَّ منها؛ فهي محل تجاذب لطال بنا الحديث، ولكن من أنسبِ ما قيل: ما ذكره ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: "أن كلَّ ما كان سببًا لعدمِ كمال الاستمتاع بينَ الزَّوجين، وحصول النُّفرةِ بينهما؛ فإنَّه يكونُ عيبًا"، فهذه كالقاعدة يدخل فيها أشياء كثيرة، ويُمكن أن يدخل فيها ما استجدَّ، وأن يخرج منها ما لم يكن عيبًا، أو ما أمكن علاجه ولم يكن مستقرًّا؛ فهذا من الأهمية بمكان، وكان بودِّي أن أذكرها في وقتها، ولكن استنفذنا الحديث فيه بما يليق به، ولكنها إشارة تُغني عن كثير من العبارة.
أيُّها الإخوة؛ هذا نهاية لقائنا بكم في هذا الفصل، أسأل الله أن نكون قد أدَّينا ما طُلبَ منَّا، وأن نكون قد وُفِّقنا للحقِّ ووُفِّقنا للهدى، ووُفِّقنا للدِّينِ والصَّواب، وأن نكون قد يسَّرنا لكم المعلومة، وقرَّبنا لكم المراد، واستعنَّا بالله -جَلَّ وعَلَا- على المطلوب في مثل هذه المسائل، وألا يجعل في كلامنا زللًا، وفي شرحنا خطأً، ولا فيما ذكرناه انحرافًا ولا فواتًا، وأن يُصلح لنا النِّيَّات، وأن يوفقكم لِحُسنِ الفهم، وأن يزيدكم من الخير، وأن يُتم عليكم النِّعمة، وأن يرقيكم في درجات العلم، وأن يزيدكم من الهدىة والتَّوفيق، وأن يجعل هذه الدُّنيا بُلغةً لنا إلى الخير والتَّوفيق والسَّداد، وأن يجعل ما تعلمناه ذخرًا لنا عند الله -جَلَّ وعَلَا- يوم لقاه، وألا تكون هذه المجالس حجَّة علينا عند الله -سبحانه وتعالى- أو أن نطلبَ بها تكثُّرًا أو تزيُّدًا في هذه الدُّنيا، والله الموفق أن يعفو عنَّا الخلل والتَّقصير.
وإني أُوصي الإخوة بأن مَن وقفَ على شيءٍ من النَّقصِ أو التَّقصير أن يَصلني به، وأن ينصحني فيه، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا لِمَنْ؟ قال: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» ، فأنا واحدٌ من عامَّتهم، لا أستغني عن نُصحكم، وفقنا الله وإيَّاكم، وشكر الله لكم، وشكر الله للقائمين على هذا البناء العلمي، وشكر الله للإخوة الذين كانوا مَعنا في نقل هذه المجالس، وأسأل الله أن يجزي كل مَن بذل خيرًا وأن يُوفقنا للعلم ونشره وتحصيله، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{في ختام هذا الفصل المبارك أشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر.
إلى أن نلقاكم في الفصل القادم -بإذن الله- إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك