الدرس الثامن
فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرَحِب بِكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاءِ فِي حلقةٍ جديدةٍ مِن حَلقات
البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا
وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاك الله.
{سنبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- بـ "بَابِ الرَّضَاع".
قال المؤلف -رحمه الله: (باَبُ الرَّضَاعِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين، أمَّا بعد:
فأسأل الله -جَلَّ وَعَلا- أن يجعلنا وإيَّاكم مِن عِبادهِ الصَّالحين وأوليائه
المُتقين، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا نسوا تذكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، ونعوذ
باللهِ مِنَ الخُذلانِ، ونعوذ بالله مِنَ الضَّلالِ وطريقة أهل الزَّيِغِ والكُفْر
والشِّرك بالله -جَلَّ وَعَلا.
كنَّا في الدَّرس الماضي ابتدأنا -أو أشرنا- أو أطللنا إطلالة يسيرةً على باب
الرَّضاع، وقد ذكرنا أنَّ باب الرَّضاع عادة يُذكَرُ بعدَ الظِّهار والعِدَدِ
ونحوها، لكن المُؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن
قُدامة في هذا الكتاب ذكره في ثنايا كتاب النِّكاح باعتبار أنَّ له عُلقة بالمحرمات
في النِّكاح مِن جهةِ أنَّه مُحرِّمٌ، ويحصل به تحريم النِّكاح، وتحصل به
المحرميَّة، فكان له مَدخلٌ مِن هَذه النَّاحية؛ فلأجل ذلك ذكره.
وذكرنا أنَّ أَصل الرِّضاع في كتاب الله -جَلَّ وَعَلا- وسنَّةِ نبيه -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو إجماع بين أهل العلم، فالله -جَلَّ وَعَلا- قال:
﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾
[النساء:23]، وأيضًا الأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، أشهرها حديث عائشة في الصَّحيحين
أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ
مَنْ يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» ، وأيضًا فيه حديث عائشة في قصة أفلح أخا أبا
الْقُعَيْسِ لما أراد أن يدخل على عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فأبت، فقال: إني
عمُّكِ من الرَّضاع، فقالت: "والله لا يدخل حتى أستأذن النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فأرسلت إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالت:
"إنَّ أفلح يريد أن يدخل عليَّ بعد أن أُنزلت آية الحجاب، وإنه ليس هو أرضعني،
وإنما أرضعتني زوجة أبي القعيس". فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ» ، فدلَّ هذا على اعتبار
الرَّضاع في ذلك، وهذا جاء فيه أحاديث كثيرة ستجري الإشارة إليها.
والإجماع مُنعقدٌ على هذا كما ذكرنا.
فهذا أصل الرَّضاع في الشَّرع، وفيما تنتشر به المحرميَّة.
وبين يدي هذا الباب كنتُ نبَّهتُ إلى مسألة، وهي: لمَّا كان الرَّضاع محرِّمًا،
والرَّضاع يحصل أحيانًا عَرضًا، وأحيانًا يحصل قَصدًا، فالمقصود في أن تُرضع امرأة
طفلًا ففي الغالب أنَّه لا يَغيب عنهم أنَّ هذا ولدها، ويُحفَظ ذلك ويُذكر، لكن إذا
حصل إرضاع لصبيٍّ من حيث كان ذلك غير مَقصود، وتمَّت الرَّضاعات فينبغي أن يُحفَظَ
ذلك ويُسجَّل؛ لأنَّه يكثر الكلام فيما يلحق ذلك؛ هل هذه أُمَّه أو ليست أمه؟ هل
تَمَّ الرَّضاع أو لم يتم؟
ثُمَّ ينشأ عن ذلك أشياء كثيرة من الإشكالات، فيتجاذبون الكلام فيها، ثُمَّ
يتعارضون، وقد يحصل من خلال ذلك قطيعة، فواحد يقول: أنتِ أختي مِنَ الرَّضاع وهي
تقول: لا؛ وربما يحصل في ذلك مُناكحة وقد حصل الرَّضاع وثبتَ؛ فيحصل بذلك إشكال؛
فلمَّا كان الأمر كذلك فينبغي التحفُّظ في هذا والتَّروِّي وضبط ذلك على وجهٍ لا
يحصل معه رِيبة ولا شَك.
{قال -رحمه الله: (حُكْمُ الرَّضَاعِ حُكْمُ النَّسَبِ فِيْ التَّحْرِيْمِ
وَالْمَحْرَمِيَّةِ، فَمَتَى أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ طِفْلاً، صَارَ ابْنًا لَهَا،
وَلِلرَّجُلِ الَّذِيْ ثاَبَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ
يَحْرُمُ عَلى ابْنِهِمَا مِنَ النَّسَبِ)}.
قال: (حُكْمُ الرَّضَاعِ حُكْمُ النَّسَبِ فِيْ التَّحْرِيْمِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ).
يعني: مَن ارتضع فثبت له الرَّضاع الْمُحَرِّم بالشُّروط التي سيأتي ذكرها؛ يكون
حُكمه حُكم الأخ مِنَ النَّسب والابن مِنَ النَّسبِ، ويتعلق به سائر ما يتعلق
بالقَرابة النَّسبيَّة، وما يتعلق بها في التَّحريم -يعني تحريم النِّكاح- فكما لا
يجوز للإنسان أن يتزوج أخته النَّسبيَّة فكذلك لا يجوز له أن يتزوَّج أخته مِنَ
الرَّضاع، وكما أنَّه لا يجوز له أن يتزوج عَمَّته مِنَ النَّسب؛ فكذلك لا يجوز له
أن يتزوج عمَّته مِنَ الرَّضاع، وكما لا يجوز له أن يتزوج ابنة أخيه مِنَ النَّسبِ
فكذلك لا يجوز له أن يتزوج ابنة أخيه مِن الرَّضاع، وهكذا...، إذن في التَّحريم
والمحرميَّة.
وكذلك يكون محرمًا لها، فيجوز له أن يُسافر بها؛ لأنَّه يكون له عليها حِفظٌ وقيام
بها، ورعاية لمصلحتها؛ متى ما انطبقت عليه أحكام المحرميَّة وفق ما ذكره الفقهاء
-رحمهم الله تعالى- في كتاب الحج، ففي كتاب الحج يذكرون أحكام المحرم وما يتعلق به؛
لأنَّ الحَجَّ يحتاج إلى سَفَرٍ، والسفر يحتاج إلى محرمٍ، فذكروا هناك تعريف
المحرم، وما يتعلق به مِن قُيود، ومتى يُحتاج إليه، ومتى لا يُحتاج إليه، وما
يُكمِّل ذلك مِن المسائل.
فإذن حُكم الرَّضاع حُكم النَّسب في التَّحريم والمحرمية، وأصل ذلك مثلما قلنا قبل
قليل: قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ
مَنْ يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» .
والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا دَخَلَ على عائشة ووجدَ عندها
رجلًا فكأنَّه استغربَ ذلك، فقالت: إنَّه أَخي مِنَ الرَّضاع، فقال: «انْظُرْنَ
مَنْ إِخْوَانُكُنَّ ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» ، فالمهم أنَّ
النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَذِنَ لها لَمَّا ذكرت أنَّه أخًا لها
مِنَ الرَّضاع، ونبَّه على أمرٍ مُهمٍّ وهو محل الرَّضاع -وسيأتي الكلام عليه.
إذن هو أخ في تحريم النِّكاح والمحرميَّة، وَإِلَّا لَو لم يكن مَحرمًا لم يَكُن
لَه ليدخل عليها، ولم يكن لها أن تَرفَع الحِجَاب، وأن تجلس إليه، وأن تخلوَ به.
فهذا معنى المحرميَّة.
فقوله: (فَمَتَى أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ طِفْل).
الطفل هو الصغير، وسيأتي الحدُّ في ذلك، وبيانه بيانًا ظاهرًا جليًّا.
قال: (صَارَ ابْنًا لَهَا، وَلِلرَّجُلِ الَّذِيْ ثاَبَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ).
هنا مسألة دائمًا تُشكل على الناس في تعلق الرَّضاع، فيمن تتعلق؟ وهل هذا داخل أو
ليس بداخل، ونحو ذلك.
فنقول: القاعدة عند أهل العلم تقول: "إنَّ الرَّضاع تنتشر المحرمية فيه في المرتضع
-الذي ارتضع- وفروعه، لا في أصوله ولا في حواشيه".
إذن مَن ارتضع مِنَ امرأةٍ فإنَّه تَعلقت بهما المحرميَّة والتَّحريم ونحو ذلك؛
فصارت أمًّا له، وأمًّا لأبنائه، وأمًّا لبناته، وتعلَّقَ بها سائر ما يتعلق
بأبنائه وبناته، فهو ابن لها مِنَ الرَّضاع، كما يتعلق ذلك بأبنائها وأبنائه مِنَ
النَّسب، فهذا من جهة المرتضع.
أمَّا مِن جهة المُرضِع وصاحب اللبن، فالمحرمية تتعلق في كلِ ما يُحيط بهما، بمعنى
أنَّ هذا المرتضع تصير هذه أمه مِن الرَّضاع، وأمها جدته مِنَ الرَّضاع، وأم أبيه
جدته من الرَّضاع، وعمَّة أبيه عمَّته من الرَّضاع، وعمَّة جدِّه كذلك، وعمَّة أمه
كذلك، وخالة أبيه، وخالة أمِّه، وأخت أمِّه من الرَّضاع تكون خالةً له، وبناتها من
الرَّضاع يكنَّ أخوات له، وأبناؤها من الرَّضاع يكونوا إخوة له، وكذلك أبوه صاحب
اللبن يَصير أبًا له مِنَ الرَّضاع، وآباؤه وأمهاته كذلك، فتتعلق في جميع أصول
وفروع وحواشي المرضع ومَن له اللبن.
إذن عندنا جانب المرضع وصاحب اللبن. هذه جهة.
وعندنا المرتضع. هذه جهة أخرى.
المرتضع: أصوله -أمه وأبوه مِنَ النَّسب- ما لهم علاقة البتَّةَ برضاعه، ولا تنتشر
بينهما محرميَّة ولا يتعلق بهما تحريم نكاح ولا سِواه.
وكذلك إخوان المرتضع لا تتعلق بهم أيُّ عُلقَةٍ بالمرضعِ ولا صاحب اللبن ولا مَن
سواهم، فهذا أصول وحواشي المرتضع أخرجناهم.
بالنسبة للمُرضِعة وصاحب اللبن؛ فإنَّ محرميَّة وتحريم هذا الذي رَضَع مِنهم تنتشر
في كلِّ أصولهم وفروعهم وحواشيهم، وهذا ظاهر.
فلو افترضنا على سبيل المثال: أنَّ أبا المرتضع مِنَ النَّسبِ أراد أن يتزوَّج أمَّ
المرتضع من الرَّضاع؛ فلا إشكال في ذلك؛ لأنَّ أباه لا علاقة له بهذه المرأة، وإنما
ابنه رضع منها فصارت أمًّا له، لكن هو ليس له علاقة بها.
وكذلك لو أنَّ أبا المرتضع أراد أن يتزوجَ ابنتها والتي هي أخت ابنه من الرَّضاع،
لكن هو ليس له علاقة بها.
وكذلك العكسُ: لو أنَّ أباه مِن الرَّضاع أراد أن يتزوج أُمَّه مِن النَّسب، أو
أخته، أو ابنة أخيه، أو عمَّته، أو خالته؛ فكذلك لا غضاضة؛ لأنَّ المرضِع وصاحب
اللبن لا علاقة لهما بأصول وحواشي المرتضع، وكذلك هؤلاء لا علاقة لهم بهذا؛ إنما
دائرة التَّعلق وانتشار المحرمية في المرتضع وما تفرع منه وما نزل منه من أبناء
وبنات وأحفاد، ونحو ذلك.
فهذا قول المؤلف -رحمه الله: (صَارَ ابْنًا لَهَا، وَلِلرَّجُلِ الَّذِيْ ثاَبَ
اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ).
إِذَا وَطِء الرجل امرأةً فإنَّه يصيرُ دارًّا للبنها في الغالب، وهذا مما جعله
الله -جَلَّ وَعَلا- مما تقوم عليه خلقة المرأة الآدمية، وفي ذلك من الحِكَمِ شيء
كثير، وأشياء لطيفة قضاها الله -جَلَّ وَعَلا- رحمةً بالعبادِ وإحسانًا إليهم.
فيقول: ما دام أنَّ هذا اللبن لبنه وثابَ من وطئه؛ فإنَّه يكون أبًا في مثل تلك
الحال، ومتعلق به ذلك الحكم.
بمعنى: لو أنَّ امرأةً عقد عليها شخص، ولم يدخل بها، فأرضعت صبيًّا، فهذا اللبن
الذي أرضعت به هذا الصبي ليس لبنُ هذا الذي عقد النِّكاح، فإذن لا تعلق له بهذا
الولد، لكن لو أنَّه دخل بها ووطئها؛ فإنَّ اللبن يُنسَب إليه، وبناءً على ذلك يكون
الولد ولده، وهكذا...
قال: (فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ يَحْرُمُ عَلى ابْنِهِمَا مِنَ النَّسَبِ)،
على ما شرحناه لكم من أنَّ المحرميَّة والحرمة تنتشر في المرتضع وفروعه لا في أصوله
وحواشيه.
أمَّا في المرضع وصاحب اللبن فإنَّها تنتشر في أصولهم وفروعهم وحواشيهم، فيكون
المرتضع كأنه ابنهم من النَّسب، كل مَن تعلق به حكم النسب من أبنائهم وبناتهم تعلق
به حُكم الرَّضاع سواء بسواء.
{قال -رحمه الله: (وَإِنْ أَرْضَعَتْ طِفْلَةً، صَارَتْ بِنْتًا لَهُمَا تَحْرُمُ
عَلى كُلِّ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَتُهُمَا مِنَ النَّسَبِ لِقَوْلِ رَسُوْلِ
اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ
مِنَ النَّسَبِ») }.
هذا تفريع على ما ذكرنا، قال: (وَإِنْ أَرْضَعَتْ طِفْلَةً، صَارَتْ بِنْتًا
لَهُمَا تَحْرُمُ عَلى كُلِّ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَتُهُمَا مِنَ النَّسَبِ)،
فلو أنَّ زيدًا وسارة لهما بنت من النَّسب اسمها خلود، فهذه البنت تحرم على
إخوانها، وأخوالها، وأعمامها، ونحو ذلك.
فلو أنَّ سارةَ أرضعت ابنة جيرانهم، واسمها مثلاً عبير، فــ عبير هذه ابنتهم مِنَ
الرَّضاع، فمن حَرُمَت عليهم خُلود فإنَّ عبيرًا تَحرم عليهم سواء بسواء، فتحرم
عبير على أخوال خُلود مِن النَّسب، وتحرم على أعمامها، وتحرم على إخوانها، وتحرم
على أبناء أخواتها، وتحرم على أبناء أخواتها، فكما أنَّ خُلودًا تحرم على هؤلاء
فكذلك عبير، ولذلك قال المؤلف: (تَحْرُمُ عَلى كُلِّ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ
ابْنَتُهُمَا مِنَ النَّسَبِ)، كما جاء في الحديث على ما ذكرنا قبل قليل.
{قال -رحمه الله: (وَالرَّضَاعُ الْمُحَرَّمُ مَا دَخَلَ اْلحَلْقَ مِنَ اللَّبَنِ،
سَوَاءٌ دَخَلَ بِارْتِضَاعٍ مِنَ الثَّدْيِ، أَوْ وَجُوْرٍ، أَوْ سَعُوْطٍ،
مَحْضًا كَانَ، أَوْ مَشُوْبًا إِذَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ)}.
هنا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالرَّضَاعُ الْمُحَرَّمُ)، وفي بعض
النُّسخ (وَالْمُحَرَّمُ من الرَّضَاعُ).
لَمَّا قرَّر المؤلف أنَّ الرَّضاع محرِّم أراد أن يُبيِّن ما يحصل به الحُرمَة، أو
ما يتحقق به الرَّضاع المحرم شرعًا، فقال المؤلف: (مَا دَخَلَ اْلحَلْقَ مِنَ
اللَّبَنِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِارْتِضَاعٍ مِنَ الثَّدْيِ)، وهذا هو الأصل، بأن
يمتدَّ فمُ الصبي إلى ثدي هذه المرأة فيلتقمه فيرتضع الرَّضاعات المحرمة، فنقول:
هذا تعلق به أحكام الرَّضاع، وصار ابنًا لها، وابنًا لمن له اللبن، وهكذا، وبشرط أن
يكون في الحولين، وأن يكون خمس رضعات مشبعات، على ما سياتي بيان ذلك بعد قليل.
قال: (أَوْ وَجُوْرٍ)، حتى لو افترضنا أنَّه لم يلتقم الثَّدي، لكن قد أخرج لبن هذه
المرأة بأي طريقة كانت وجُعل في إناء، ثم صُبَّ في حَلْقِه الوجور، والوجور: هو ما
يُصَبُّ في الحلق مُباشرة، فيصل في الجوف، ولهذا في الغالب يُستعمل في بعض الأدوية
وغيرها، ولكنَّه قد يُستعمل في الرَّضاع، أو نحو ذلك.
قال: (أَوْ سَعُوْطٍ)، السعوط: هو ما يُخل عن طريق الأنف كيفما كان، فكأنَّ المؤلف
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: إنَّ التقامه للثَّدي محرِّمٌ، فكذلك ما كان نحوًا
منه بالوجور أو السعوط.
أو بعبارة أخرى: كأنَّه يقول: إنَّ ما يحصل بالتقام الثَّدي هو الارتضاع، فكل ما
حصل به ارتضاع ووصول هذا اللبن الذي يَبني به عظمه ويَقوَى به جسده فإنَّه يأخذ
حُكم الالتقام، وذلك في الوجور والسَّعوط، وهذا هو مَشهور المذهب عند الحنابلة،
وقول جمع من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فلا يختلف هذا عن هذا.
قال: (مَحْضًا كَانَ، أَوْ مَشُوْبًا إِذَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ).
محضًا: بأن يكون لبنًا خالصًا، فإذا كان لبنًا خالصًا فهذا ظاهر.
مَشوبًا: كأن يُدخَل عليه ماءٌ أو يُجعل معه عصير، أو نحو ذلك، فيقول المُؤلِّفُ
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إنَّ ذلك ناقل للحكم أيضًا، ومرتَّبٌ عليه الأثر، فيكون
ابنًا لهما مِنَ الرَّضاع، متى ما تحقق به الرضعات المحرمة على ما سياتي من
الشُّروط المُعتبرة.
قوله: (إِذَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ)، هذا هو القَيدُ الوحيد، وذلك أَلَّا يُستهلك فيما
داخله، بمعنى أنَّه إذا داخله ماءٌ أو داخله عصير، أو داخله طعام آخر؛ فإن كان هذا
اللبن قد استُهلك في الطَّعام حتَّى لا يُرَى ولا يُرى إِلَّا طعام، أو لا يُرى إلا
عصيرٌ؛ فإنَّ اللبن ذهب حُكمه، ولم يبقَ له حُكم، فبناء على ذلك نقول: هذا لا ينقل
المحرميَّة، ولا تترب عليه أحكام الرَّضاع.
أمَّا لو أنَّه لما داخله بقيَ اللبن ولكن خفَّ تركُّزه ومحضيَّته ولكن لم يخرج عن
دائرة أن يكون لبنًا، أو كذلك العصير غيَّر لونه تغيُّرًا يسيرًا لكنَّ النَّاظر له
يراه لبنًا ويعرف ذلك؛ فنقول في مثل هذه الحالة: تبقى أحكام الرَّضاع، ويعتبر أنَّه
ارتضع، وتنتشر به المحرميَّة، ويحرم به النِّكاح، وتترتب عليه سائر الأحكام.
لقائل أن يقول: من أين لهم هذا القيد (إِذَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ)؟
هذا دائمًا يستشكله المتعالمون الذين لا يَعرفون طريقة الفُقَهاء، فالفقهاء يقولون:
الشرع رتَّبَ أحكام الرَّضاع على رضاع اللبن، فما دام اسم اللبن باقيًا فحكم
الرَّضاع ثابت، ومتى ما زال اسم اللبن فإنَّ الرَّضاع ذهب ولم يبقَ، فأخذوها مِن
المعنى، وهو أنَّ الشَّارع رتَّبَ الأحكام على الرَّضاع، فكان متعلقًا به ما دام
اسم اللبن باقيًا فيه.
{قال: (وَلاَ يَحْرُمُ إِلاَّ بِشُرُوْطٍ ثَلاَثَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُوْنَ لَبَنُ امْرَأَةٍ، بَكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّباً فِي
حَيَاتِهَا، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَمَّا لَبَنُ اْلبَهِيْمَةِ أَوِ الرَّجُلِ
أَوِ اْلخُنْثَى اْلمُشْكِلِ، فَلاَ يُحَرِّمُ شَيْئ)}.
قال: (وَلاَ يَحْرُمُ إِلاَّ بِشُرُوْطٍ ثَلاَثَةٍ).
القاعدة عندنا: أنَّ الشُّروط والأركان والواجبات هي اجتهاد مِن الفُقَهاء -رحمهم
الله تعالى- لَمَّا استخلصوا النُّصوص وجمعوها، وما رتَّب الشَّارع عليه الحُكم؛
فجعلوا منه ما هو شُروط، ومنه ما هو أركان، ومنه ما هو واجبات، ومنه ما هو سُنن،
ومنه ما هو مَكروهات، وهكذا....
إذن هي مِنَ الفُقَهَاءِ تقريب للفقه وتيسير للطلبة، وجمعٌ لدلالات الأدلة بما
دلَّت عليه من قوَّةٍ في هذا، فيكون فرضًا، أو ركنًا، أو جاء الشَّرع بالإلزام به،
لكن دونَ التَّعظيم له فيكون واجبًا، وإذا أَمَرَ به الشَّارع وخيَّر فيه فيكون
مُستحبًّا، وهكذا..
فبعض الأمور ظاهرة، وهذا لا إشكال فيه، وبعضها ربما يكون فيه شيء من الخفاء، فإنما
يعرفه الفقهاء بجمع دلالات النُّصوص، والنَّظر في نظائر ذلك، ودفع ما قد يأتي عليه
من الإشكال، وما يرد عليه من المنازع.
فهنا قال: (أَحَدُهَا: أَنْ يَكُوْنَ لَبَنُ امْرَأَةٍ، بَكْرًا كَانَتْ أَوْ
ثَيِّب).
إذن لابد أن يكون لبن ارمأة، لأن هذا هو الذي تعلق به حكم الشرع، قال تعالى:
﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾
[النساء:23]، فإنما رتَّب الشَّارع أحكام الرَّضاع على رضاع المرأة ونحوها، ولأنَّ
غيرَ المرأة لا يُساويها مِنَ البَهائِم وغيرها، فإنَّه لا يُساويها في نفع ذلك
اللبن، ولا ما جاءت به دلالات الشَّرع مِن أن تُعَلّق الحكم بالرَّضاعة من الآدمية
لا مَن سواها.
وقوله هنا: (بَكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّب)، أمَّا الثيب فلا إشكال فيها، وهي محل
إجماع إذا كانت ثيبًا؛ لأنَّها قَد درَّ لها لبنٌ.
لكن البكر يقل درُّ اللبن لها، فلو درَّ لبنها، هل تترتب عليه الأحكام أو لا؟
المُؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا نصَّ على أنَّه تترتب عليه الأحكام، وهذه
رواية عند الحنابلة، وهي خلاف المذهب، وهو قول جماهير أهل العلم، باعتبار أنَّه
لبنُ آدميَّة، والشَّارع جاء بتعلق الأحكام بالرَّضاع مِن المرأة دونما تفريق بين
بكرٍ ولا ثيبٍ، ولا مزوَّجةٍ ولا غيرِ مزوَّجة، وإن كان الغالب أنَّه لا يدرُّ إلا
لبنُ المزوَّجة، لكن إذا وُجد فحيَّ هلا ولا غضاضة في ذلك، وهذا خلاف الرواية
الثَّانية عند أحمد، والتي ربما انفرد بها أحمد، ولم يتابعه على ذلك أحد.
ولذلك جرى المؤلف هنا -أبو محمد بن قدامة- على الرواية الثَّانية عند الحنابلة، وإن
كانت ليست مشهور المذهب؛ لأنَّ هذا قول عامة أهل العلم في أنَّ اللبن محرم، سواء
كان من بكرٍ أو من ثيبٍ على حدٍّ سواء.
قال: (فِي حَيَاتِهَا، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَ). ممكن أن يترضع الإنسان بعد الموت؟
نعم، وهذا من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فيه لُطفٌ ودقَّة لطيفة في النَّظر
الفقهي.
طبعًا النَّاس الآن يتصوَّرون الأمور كلها غير ذلك، كان من أشد ما يكون أن يوجد مَن
تُرضِع، ولربما اجتمع العشر صبيان عند المرأة ترضعهم، وتأخذ على هذا إمَّا كسوة،
وإمَّا طعام، أو نحو ذلك، وقد يَصيح الطفل فيُنقل بين نساء أهل القرية لا يجدون
صدرًا يُلائمه ولا ثديًا يَقبله، فيحصل بذلك عند الناس أثر كبير.
والمهم: لو أنَّ هذه المرأة ماتت، وكان بجوارها صبي وكان مُلتقمًا ثديها، فارتضع
ومصَّ ذلك الثَّدي، أليس هو لبنها؟ أليس هو لبن زوجها؟
نعم، إذن تتعلق به أحكام المحرمية.
ومثل ذلك: لو أُخِذَ لبنها وجُعل في إناءٍ ونحوه، ثم ماتت، ثم شرب اللبن، فاللبن
لبنها، ويتعلق به ما يتعلق به لبن الحيَّة، والشَّارع لم يُفرق، فهذا قد ارتضع
منها، أو أخذ من لبنها وانتفع، وهو مُتحقق فيه الشُّروط في السنتين وخمس رضعات؛ فما
الذي يمنع أن تكون محرِّمَةً له؟!
وهنا يَظن بعض النَّاس أيضًا أنَّ هذه غرائب! لا، هذه ليست غرائب في الفقه، هذا
ذكرُ حَدِّ المسألة، وحدُّ المسألة هو أبعدُ مَا يَردُ فيها، حتى يُعلم ما يدخل وما
لا يدخل، وإنَّما الغَرائب أن تُذكر مسألة من أصلها ويُظنُّ أَنَّها لا تقع، وأمَّا
ذِكْرُ الحَدِّ الأبعد وإن كان قليل الوقوع حتى تعرف أنَّ ما دونه داخل فيما ذكره
الفقهاء، وما بعده ليس بداخل فيه، فيكون كالقاعدة لك.
والقاعدة عند أهل الرياضيات مثلًا يدخل فيها المسائل كثيرة الوقوع، المعادلات
المتكررة، والمعادلات غير المتكررة؛ لأنَّها تجمع أطراف الموضوع، فكذلك الحدُّ عند
الفقهاء، فيذكرون المسألة التي هي آخر ما يرد فيها، كحدِّ المزرعة، فلا تقل: إنَّ
حدَّ المزرعة من هنا وتنتهي هنا، وإنما تذكر آخر حدٍّ لها ولو كان بعيدًا، وهكذا..
ونقول هذا الكلام يا إخوان؛ لأنَّه يكثر في هذه الأوقات القول بأنَّ الفقه فيه
تكلف، فيأتي أناس مُتَعالمون أو مُغْرِضون، أو جُهَّال لا يعرفون حقائق العِلم
والفقه والنَّظر؛ فيقولون مثل هذا الكلام، أو يسمعونه من قائل، أو ينقلونه من كاتب،
فيردِّدونه كالببغاوات التي لا تُحسن الكلام ولا تعرف الحقيقة!
أَمَا علمتم أنَّه حتى الآن في القواني الفرنسية والغربية ونحوها أنَّ جملة من
مسائلها مأخوذة من كلام فقهائنا، ومعتمدة على ما عند أهل الإسلام، مع أنهم لا
يعترفون لا بديننا ولا بفقهنا ولا يحوبنه؛ ولكن لما كانت المسائل غزيرة، ولها دقائق
جميلة ومفصَّلة، وحود المسائل موضَّحة؛ فإنه يُمكن للنَّاظر الذي يريد أن يجمع حدود
المسائل وما يدخل فيها وما لا يدخل ان يأخذ ذلك، وأن يصدر عنه بيسرٍ وسهولةٍ
وانضباطٍ من كلِّ وجهٍ.
فلأجل ذلك؛ لله درُّ علماء الإسلام، ما أعظم فضلهم علينا، على اختلاف مذاهبهم
وبلدانهم، وقرونهم، من الحنفية، والمالكية، والشَّافعية، والحنابلة، وغيرهم ممن
تقلَّد مذاهبهم، وانبرى للعلم والفقه، ولم تزل منارة العلم قائمة، عسى الله أن
يُظهرها، وأن يُعليها، وأن يُعين على الاستمساك بمنهاجها ونبراسها، وأن يجعل هذا
البناء العلمي ومثل هذه اللقاءات مُعينة على ذلك، مُوصلة إلى هذا المنهاج، ومكملة
لهذا الطريق، وأن يجعلنا وإيَّاكم مِن أهل العلم الذي يحيون به، ويحيون مناره،
ويموتون عليه، إنَّ ربنا جواد كريم.
{قال: (الثَّانِيْ: أَنْ يَكُوْنَ فِيْ الْحَوْلَيْنِ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ
اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلاَّ مَا
فَتَقَ اْلأَمْعَاءَ وَكاَنَ قَبْلَ اْلفِطَامِ»)}.
الثاني: أن يكون في الحولين، وهذا قول الحنابلة، وقول أكثر اهل العلم، أنه لا يُحكم
بالرَّضاع إِلَّا للصغير، فإذا جاوزَ الصَّغير سنَّ الحولين فإنه قد فُطِمَ، فلا
تعلقٌ لأحكام الرَّضاعة بعد ذلك، فلو أنَّ طفلًا بعد الحولين التقمَ ثديَ امرأةٍ
مرَّةً أو مرتين، أو عِشرين مرة، أو ألف مرَّة، أو بقيَ سنةً يلتقم ثديها، فنقول:
إنَّه لا تتعلق به أحكام المحرميَّة، ولا تحرم عليه، ولا يدخل في ذلك حكمٌ من أحكام
الرضاع البتَّةَ.
وهذا يدلُّ عليه ما ذكرناه من أنَّ الرَّضاعة لا تكون إلَّا في الحولين، وأيضًا ما
جاء في الحديث هنا: «لاَ يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلاَّ مَا فَتَقَ اْلأَمْعَاءَ
وَكاَنَ قَبْلَ اْلفِطَامِ»، والله -جَلَّ وَعَلا- يقول: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلَاثُونَ شَهْرً﴾ [الأحقاف:15]، وأقل الحمل ستة أشهرٍ، فدلَّ على أنَّ الفِصَال
يكون أربعة وعشرين شهرًا، يعني: عامين، لا يجوز ذلك ولا يتجاوزه.
وَلِمَا جاء في الحديث الذي تقدَّم معنا قبل قليل في قصَّة عائشة أنَّ النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ
الْمَجَاعَةِ»، فذهب أهلُ العِلم إلى أنَّ مَا بعد الحولين لا تتعلق به أحكام
المحرميَّة بحالٍ من الأحوال.
{قال المُؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّالِثُ: أَنْ يَرْتَضِعَ خَمْسَ
رَضَعَاتٍ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "أُنْزِلَ فِي اْلقُرْآنِ
عَشْرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَنُسِخَ مِنْ ذلِكَ خَمْسٌ وَصَارَ اْلأَمْرُ إِلى
خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُوْمَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ-صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَاْلأَمْرُ عَلى ذلِكَ")}.
يقول المُؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّالِثُ: أَنْ يَرْتَضِعَ خَمْسَ
رَضَعَاتٍ).
المؤلف ذكر ثلاثة شروط، من بينها أن يكون لبن امرأة، وبعضهم يجعله قيدًا وإن لم
يدخله في الشُّروط، وبعضهم يجعله شَرطًا، لكن المشهور عند أهل العلم أن يكون في
الحولين، وأن تكون خمس رضعات، أو أن يستكمل الرَّضعات المحرمة.
مَا الرَّضعات المحرِّمة؟
الرَّضاعات المحرِّمة عند أهل العلم فيها شيءٌ من التَّباين:
بعضهم يقول: ثلاث.
وبعضهم يقول: عشر.
والمشهور مِن المذهب عند الحنابلة وهو قول جمع من أهل التَّحقيق أَنَّها خمس
رضعات.
وأصل ذلك: أنَّ حديث عائشة قد نصَّ على عددها، قالت: "أُنْزِلَ فِي اْلقُرْآنِ
عَشْرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَنُسِخَ مِنْ ذلِكَ خَمْسٌ وَصَارَ اْلأَمْرُ إِلى
خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُوْمَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ-صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَاْلأَمْرُ عَلى ذلِكَ" فهذا الحديث فيه نصٌّ على ما
كان، ثم نصٌّ على ما آل إليه الأمر، ثم نصٌّ على استقرار هذا الأمر إلى وفاة
النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
جاء في بعض الأحاديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا
تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» ، وفي بعضها «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ
وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ»، ففهم منها بعضهم أنَّ الثَّلاث يحرمن، لكن نقول: هناك
دلالات مَفهومٍ، وهذا دلالة منطوق عددٍ وهو أخص ما يكون في الدلالة، فكان ذلك
قاطعًا للمفهوم في تلك الأحاديث، فلا يُعارض مفهومها بمنطوق حديث عائشة، كيف وهو لا
يُعارضه، فالحديث على سبيل الإشارة، أنَّ الإملاجة والإملاجتان لا تحرمان، فكأنه
يشير إلى أنَّ القليل لا يُحرِّم، وجاء في حديث عائشة ما يُبيِّن في ذلك الحد، فكان
هو الأصل، وإليه المرجع، وهو المردُّ في ذلك على ما سمعنا، وخاصة أنَّ حديث عائشة
مِنَ الأحاديث التي رواها مسلم في صحيحه، واستقر أهل العلم على صحته، فإنه في
الصِّحاح المشاهير.
{قال -رحمه الله: (وَلَبَنُ اْلفَحْلِ مُحَرِّمٌ، فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ
امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا بِلَبَنِهِ طِفْلاً وَاْلأُخْرى طِفْلَةً
صَارَا أَخَوَيْنِ لِأَنَّ اللِّقَاحَ وَاحِدٌ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا
بِلَبَنِهِ طِفْلَةً ثَلاَثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ أَرْضَعَتْهَا اْلأُخْرى
رَضْعَتَيْنِ صَارَتْ بِنْتًا لَهُ دُوْنَهَا، فَلَوْ كَانَتِ الطِّفْلَةُ زَوْجَةً
لَهُ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَلَزِمَهُ نِصْفُ صَدَاقِهَا يَرْجِعُ بِهِ
عَلَيْهِمَا أَخْمَاسًا وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَم)}.
مِنَ المسائل المُهمة وهي مكملة لمسألة "خمس رضعات محرمات" كيف تُعدُّ هَذه
الرَّضعات؟ وكيف نعرفها؟
يقول أهل العلم: إنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ خمس رضعات،
ولم يأتِ في ذلك تفصيل، فكان مردُّ هذا إلى العُرف، فَمَا عَدَّه النَّاس رَضعة فهي
رضعة.
فبناءً على ذلك يقول أهل العلم: متى مَا التقم الصَّبيُّ الثَديَ فتركه فهذه رضعة،
طالت أو قصُرَت، ومتى ما أخذ الصَّبي فالتقمه ثم نُزِعَ عنه فهي رضعة، إذن هذه
رضعة، وتلك رضعة، وهكذا؛ إِلَّا أن يكون انفكاكه منها لأخذ نفسٍ، أو أن يُحوَّل مِن
ثديٍ إلى آخر، فَهُنا يقولون: إنَّ هذه بعضها يكمل بعضًا، فلا تعتبر رضعتين، فبناء
على ذلك تكون رضعةً واحدةً.
وهذه من المسائل التي يحصل فيها إشكال، وسبب ذلك أنَّ هذا معروف عند أهل العلم
بتحقيق المناط، وتحقيق المناط في كون احتسابها رضعة أو لا؟ وهذا يحصل فيه إشكال إلى
ما لا نهاية فيه.
ولذا ينبغي أن يُعْلَمَ أنَّ الرَّضعة لها ابتداء وانتهاء، متى ما ترك فالحمد لله،
وليس بلازم ذلك أن تكون الرَّضعة مُشْبِعة، وليس بلازم ذلك أن تكون الرَّضعة كاملة،
يعني: أنه أخذ الثدي حتى شبع فنام أو ترك، لا؛ بل متى مَا تَرَكَ الثدي لأي سببٍ من
الأسبابِ أو نُزِعَ منه فنعتبرها رضعة.
المهم أنَّ مَردَّها إلى العُرفِ، فكل ما أخذ وترك أو نُزِعَ منه فهي رضعة يتعلق
بها، أو تُعدُّ عند الفقهاء واحدة، فإذا انضمَّت إلى ذلك أخرى وثالثة ورابعة
وخامسة؛ فتكون خمس رضعات، وبذلك تتعلق وَتَتِمُّ أحكام الرَّضاعة على وفق ما ذكرنا.
ثم يقول المؤلف: (وَلَبَنُ اْلفَحْلِ مُحَرِّمٌ).
هنا عبَّر بـ "الفحل"، و"الفحل" عادة إنما يُستعمل في البهائم، فيُقال: فحلٌ للذي
أُعدَّ للضراب، فهو مخصوص للضراب ونحو ذلك، فيقال في الإبل: هذا فحلها الذي أُعدَّ
لضرابها حتى تكثُرَ وتتكاثر، وكذلك في البهائم كالأغنام وغيرها.
ولكن على كل حال التسمية لا غضاضة فيها، باعتبار أن الرجل له فحولة وذكورة يحصل بها
الولد، ونحو ذلك.
قال: (وَلَبَنُ اْلفَحْلِ مُحَرِّمٌ)، يعني كما أنَّ المرأة إذا أتمت الرَّضاعات
الخمس تحقق بها الإرضَاع؛ فأيضًا لو أنَّ اللبنَ لبنُ الرجلِ فحصلت منه خمس رضعات
فإنهنَّ مُحَرِّمات، طبعًا هذا ظاهر فيما إذا كانت له زوجةٌ واحدة أو أكثر من زوجة،
لكن الذي أرضعت هي زوجة واحدة.
وهنا أرادَ المؤلف أن يُبيِّن حتى ولو لم يكمُلَ لامرأةٍ إرضاع هذا الصَّبي خمس
رضعات؛ فإنَّه لا يكون ولدًا لها، ولكن يكون ولدًا لزوجها.
بمعنى: لو أنَّ هذا الصبي قُدِّمَ لأربعٍ مِنَ النِّسوة لزوجٍ واحد؛ فأعطيَ لواحدة
فأرضعته، ثُمَّ أرضعته الثَّانية، ثُمَّ أرضعته الثَّالثة، ثُمَّ أرضعته الرَّابعة،
ثُمَّ عاد إلى الأولى فأرضعته، فإذا نظرنا وجدنا أنَّه ليست واحدة منهنَّ أمًّا له،
باعتبار أَنَّه لم يستكمل الخمس رضعات مع واحدة منهن، لكن هو استكمل خمس رضعات مِن
لَبنِ رَجُلٍ واحدٍ؛ لأنَّ كل هذا اللبن يُنسَب إلى هذا الرجل، فبناء عليه يكون
أبًا له مِن الرَّضاع، وأبناؤه إخوةً له مِنَ الرَّضاع، وإن تكن هَؤلاءِ النِّساء
أُمَّهات له من الرَّضاع.
ولذلك قال: (فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا
بِلَبَنِهِ طِفْلاً وَاْلأُخْرى طِفْلَةً صَارَا أَخَوَيْنِ).
وهذه صورة أخرى: لو أنَّ هذه المرأة أرضعت هذا الصَّبي، والمرأة الثَّانية أرضعت
صبيةً أخرى؛ فهذا يكون أخًا لهذه باعتبار أنَّ اللبن لهذا الرجل، وكلاهما سُقيا من
لبنِ رجلٍ واحد، فكان أبوهما واحدًا، فكانا أخوين من الرضاعة، ولذلك قال: (لِأَنَّ
اللِّقَاحَ وَاحِدٌ).
قال: (وَإِنْ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا بِلَبَنِهِ طِفْلَةً ثَلاَثَ رَضَعَاتٍ،
ثُمَّ أَرْضَعَتْهَا اْلأُخْرى رَضْعَتَيْنِ صَارَتْ بِنْتًا لَهُ دُوْنَهَ)، مثل
ما قلنا قبل قليل في المسألة المتقدمة.
قال: (فَلَوْ كَانَتِ الطِّفْلَةُ زَوْجَةً لَهُ انْفَسَخَ نِكَاحُهَ)، يعني: لو
أنَّ هذه الطفلة التي قُدِّمَت إلى زوجاته كان عاقدًا عليها وهي صغيرة ابنة سنة
ونصف، أبوها كان ضعيفًا ولم يكن عنده أحد، ورغب أن يتعاهدها، وخشيَ أن يموت
ويتركها، فلا قريب لها يؤويها، ولا أحد يقوم عليها؛ فعقد عليها هذا الرجل فتزوجها،
فجعلها عند نسائه، فأردنَ أَلَّا تشاركهنَّ هذه، فإنها إذا كبرت صِرنَ هُنَّ عجائز
فيكون الحظُّ لها، فدبرنَّ لها مَكيدة، فقامت واحدةٌ فأرضعتها ثلاث رَضَعَات، وقامت
الثَّانية وأرضعتها رَضْعَتين؛ فصارت ابنته، فبناء على ذلك سينفسخ نكاحها، ولذلك
قال: (وَلَزِمَهُ نِصْفُ صَدَاقِهَ)؛ لأنَّ فَسْخَ النِّكاح جاء من قِبَله لا من
قِبَلِها، والنِّكاح إذا انفسخ قَبْلَ الدُّخول من قبل الرجل كان للمرأة نصف
المسمَّى.
قال: (يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِمَ)، أي: يرجع عليهما بالمهر الذي فات عليه، وبناء
على ذلك يكون على واحدة ثلاثة أخماس، والأخرى خُمُسَين، بحسب الرَّضاعات التي أرضعت
كل واحدةٍ، وتسببنَ في فوات هذه المرأة عليه.
{هل يُفهَم من كلام الموفق -رحمه الله- أنَّ اللبن لبن الزوج، كأنه يُخالف كلامه في
الأول لما قال في أول كلامه: (لبن امرأة بكرًا كانت أو ثيبً)}.
إذا كانت بكرًا فيكون للمرأة فقط، فلو افترضنا أنَّ امرأةً بكرًا درَّ لبنها -والآن
يُسمى بزيادة الهرمون، وللأطباء وأهل الاختصاص في هذا تعاريف وطرائق- فسَقَت هذه
البكر طفلًا، فنقول: هي أمُّه مِنَ الرَّضاع وإن لم يكن له أبًا، يعني: ليس بلازم
الرَّضاع أن يكون له أب وأم مِنَ الرَّضاع.
ففي هذه المسألة كانت له أم مِنَ الرَّضاع ولم يوجد له أب؛ لأنَّ هذا اللبن لا
يُنسَب إلى أحدٍ، فكانت أُمَّه مِنَ الرَّضاعِ، وإن لم يُنسَب إلى شخصٍ آخر.
وعكسه، مثل ما لو تَفَرَّق لبن الرجل، فَسَقَتْهُ ثلاث نساء، كل واحدةٍ مرَّتين،
فصار أكثر من خمس مرات، فهو لبنه، فصار ابنًا له، وإن لم يكن له أمٌّ مِنَ
الرَّضاع.
مثل ذلك: لو أنَّ امرأةً نُفيَ ولدٌ لها باللعان، فلها لبنٌ من هذا الرجل الذي
لاعنها، وتفرقا، فأرضعت صبيًّا، فهذا الصَّبي سيكون ولدها مِن لبنها، ولكن لا يكون
الرَّجل أبًا له؛ لأنَّه قد صار بينهما لعان، وانتفى الولد في ذلك، فكذلك أيضًا مَا
يَعقبه مِن لبنٍ يدر، فإنَّه لا يُنسب إلى ذلك الرَّجل.
{من المسائل الحادثة يا شيخ: بعض النِّساء اللاتي لا يولد لها -عقيم- تكون مُتزوجة،
فتأخذ بعض الحبوب تدر اللبن، وتتبنى ولدًا، فهل يكون ولدًا لها من الرَّضاع؟}.
لا بأس، مَا دَام أنَّ ثديها درَّ لبنًا، وهذا اللبنُ يُنسَبُ إليها، سواء جاء
خِلقةً من الله -جَلَّ وَعَلا- أو استدعت سببًا من الأسباب، فهذا حصل به المقصود،
وهو أنَّ اللبن لبنها، فَسَقَتْهُ صبيًّا أقلَّ من سنتين وخمس رضعات، فكان
مُحرِّمًا.
مثال آخر، وهو ليس في باب الرضاع: الآن مثلًا حفر الآبار للمياه، فهو طلب سبب،
ومثله الآن الاستمطار، إذا جاءت سُحب تُرشُّ ببعض الأشياء حتى تُمطر، هذه أمور
يذكرها بعض أهل الاختصاص والفلكيون ونحو ذلك، فهذا سبب، فإذا حصل المطر فهل نقول:
إنَّه ليس بمطر؟!
فكذلك هذا لبنها، سواء استدعته بنفسها، أو بسبب من الأسباب، يقول أهل الاختصاص
مثلًا: مَن أَكَلَت هَذا الطَّعام فدرَّ لبنها، فهل نقول: ما دامت أنها أكلت طعامًا
ليدر لبنها فلا يكون لبنًا لها؟!
لا يكون، فما دام لبنها قد درَّ فالحكم قد تحقق، فيكون الولد ولدها، وعسى الله أن
يبلغها فيه ومثيلتها من الأنسِ والرَّاحة ما يعوضها عن ولدها الذي ترتقبه، وأن يجعل
فيه خيرًا كثيرًا.
{قال -رحمه الله: (وَلَوْ أَرْضَعَتْ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ الطِّفْلَةَ خَمْسَ
رَضَعَاتٍ، ثَلاَثاً مِنْ لَبَنِهِ، وَاثْنَتَيْنِ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهِ، صَارَتْ
أُمًّا لَهَا وَحَرُمَتَا عَلَيْهِ، وَحَرُمَتِ الطِّفْلَةُ عَلى الرَّجُلِ الآخر
عَلى التَّأْبِيْدِ)}.
لعلنا نترك هذه المسألة، وتكون في استهلال الدرس القادم -بإذن الله جَلَّ وَعَلا-
أسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلَّم
وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أشكركم فضيلة الشيخ على ما تُقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم،
هذه تحية طيبة من فريق البرنامج، ومني أنا مُحدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى
أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نَستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه،
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13396 33
-
17105 27
-
23747 18
-
78673 18
-
5037 6
-
2908 22
-
2730 24
-
2682 12
-
5748 12
-
8845 12
-
10684 24
-
11542 13