الدرس السادس
فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم
السَّلام عليكمُ وَرَحمةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
أُرحِبُّ بِكُم إِخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ
البناء العلمي، وأُرَحِبُّ بشيخنا الفاضل فضيلة الشيخ/ عبد الحكيم بن محمد
العِجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله وأهلًا وسهلًا.
{في الدَّرس الماضي أخذنا مُقدمة في بابِ ولاية النِّكاح، وَلَعَلَّنَا في هذه
الحلقة -بإذن الله- نقرأ في هذا الباب}.
نحن أخذنا ولاية النِّكاح، وبدأنا في الفصل.
{قال الموفق ابن قدامة -رحمه الله: (فَصْلٌ فِيْ اْلاِسْتِئْذَانِ فِي النِّكاح:
وَلِلأَبِ تَزْوِيْجُ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ، ذُكُوْرِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ،
وَبَنَاتِهِ اْلأَبْكَارِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُ
اْلبَالِغَةِ، وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيْجُ اْلبَالِغِ مِنْ بَنِيْهِ وَبَنَاتِهِ
الثُّيَّبِ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ اْلأَوْلِيَاءِ تَزْوِيْجُ
صَغِيْرٍ وَلاَ صَغِيْرَةٍ، وَلاَ كَبِيْرَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِهَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَك على نبينا محمدٍ،
وعلى آله وأصحابه وَسَلِّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإِيَّاكُم مِن عباده العَالِمين، وأن يُعقبنا
الفقه في الدين، وأن يجعلنا ممن تعلموا فعملوا، وممَّن عملوا فعلَّموا واهتدوا
ودعوا إلى الهُدى، واستعانوا بذلكِ إلى أن يلقوا الله -جل وعلا- ونسأله أن يحفظ
العباد والبلاد، وأن يُجنبنا الفتن مَا ظَهَر منها وما بطن.
كان الكلام في الدَّرسِ الماضي على ولاية النِّكاح، وَذِكْرُ مَا يَتَعَلَّق بأصلِ
هذا الرُّكنِ وهو من أهم أركان النِّكاح، وتفاصيل الكلام عليه.
ثُمَّ ذَكَرَ المؤلف -رحمه الله تعالى- ترتيب الأولياء، وذكر انتقال الولاية مِن
الأقربِ إلى الأبعدِ، والأحوال التي تنتقل فيها، وخضنا في مسائل متنوعة إلى أن
ولجنا إلى هذا الفصل.
وهذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- هو في ولاية الإجبار، وفي ولاية
الأب، وما يتعلق بها من تفاصيل.
ابتدأنا نُتفةً يَسيرةً في آَخِرِ الدَّرسِ الماضي في هذا الفصل، فذكرنا ما يتعلق
بتزويج الأب لابنه الصغير وابنه الكبير إذا كان مَعتوهًا أو مجنونًا، وأظن أنَّه
انتهى إلى ذلك الحديث.
ما يتعلق بتزويج الإناث هو محل بحثنا، وابتدائنا في هذا المجلس -بإذن الله جَلَّ
وَعَلا.
وبين يَدي هذا الحديث مسألة يدور الكلام عليها كثيرًا، ربما أخذت أصداءً إعلاميَّة،
وأديرت عبر منصَّات مختلفة، ولا يخلو الكلام فيها من إرادة للباطل، أو من شُبهٍ
يُراد بها التَّشويه لما جاء في أحكام الشريعة، ولما جاء عن النَّبي -صلى الله عليه
وسلم- وهو ما يُسمى بــ"تزويج القاصرات"، وأحيانًا يُعبرون عنه بـ "تزويج
الصغيرات".
هذه مَسألة مُهمة، وهي مُفيدة للطالب مِن جِهةِ مَا يتعلق بتزويج القاصر، فما حُكم
تزويج القاصر؟
إذا كنت فقيهًا أو تَسْلُك مَسالك الفُقهاء -رحمهم الله تعالى- في معرفة ما يتعلق
بالفقه ومبناه؛ فإنك لا تقول: "جائز" أو "غير جائز"، ولكن تبدأ بمقدمة، فتقول:
تزويج القاصر ليس مِنَ المُصطلحات الشَّرعية، فماذا تريدون بالقاصر؟
هذا حتى لا تلتبس عليك الأمور ولا تتداخل عليك؛ لأنَّ القَاصِر لا يُوازي الصغيرة،
فعندهم ابنة ستة عشر وسبعة عشر قاصر، اعتبارًا بأنَّ القاصر مَن دُون سِنِّ
الثَّامنة عشر في القوانين الوضعية.
ونحن هنا حينما نتكلم على هذه المسألة نتكلم على مبناها الشَّرعي، فنقول: أمَّا
تزويج الصغيرة فمن حيث الأصل فلا يخلو من كونه إمَّا أن يكون المُزوِّج أبوها،
وإمَّا أن يكون غيره.
فإن كان المُزوِّج أبوها: فإنَّه يَجوز له أن يُزوِّج الصغيرة، وهذا ممَّا تتابعت
عليه الأدلة من الكتاب ومن السُّنَّة، وعلى ذلك إجماع سلف الأمَّة؛ لأنَّ الله
-جَلَّ وَعَلا- قال: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾
[الطلاق:4]، فتكلَّم على تزويج البنت من حيث أنَّها صغيرة، أو أنَّ لها عِدَّة وهي
صغيرة، فإذا كان لها عدةٌ وهي صغيرة فمعنى ذلك أنها زُوِّجت، فهذا دلالة القرآن.
أمَّا دلالة السُّنَّة في هذا فكثيرة، فالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- تَزَوَّجَ
عائشة وهي صغيرة، وتتابعت الأحاديث بما جاء عَن الصَّحابَةِ وغيرهم.
فلا إشكال في ذلك، ولكن نقول: إنَّ تزويج غَيرَ الأبِ محلُّ كلامٍ لأهل العلم،
والأصل أنَّ غيرَ الأب لا يُوازي الأب في الحِرصِ على ابنته والشَّفقة عليها، فلأجل
ذلك لم يكن له عليها ولاية إجبار، فكان ذلك خاصًّا بالأب ووصيِّهِ الذي يقوم
مَقامه، والذي لم يُوصِ إليه بالولاية إلا لِعِلمِه أنَّه أَتمُّ في الشَّفقة وأكمل
في العناية.
إذن غيرُ الأب لا يُزوِّج، ولذلك لمَّا سُئل النَّبي -صلى الله عليه وسلم، فقال
مؤكدًا: «لا تزوج اليتيمة حتى تُستأمر» ، وإذا كانت لا تُزوَّج إلا بعد أن
تُستَأمَر فهذا يعني أنَّ ذلك لا يكون إلا بعد بلوغها.
وجاء في الأحاديث الأخرى لما زُوِّجَت الصغيرة خيَّرها النَّبي -صلى الله عليه
وسلم- بعد أن بلغت.
فهنا مَسألة تكلمنا على بعضها، ودخلنا على شقٍّ منها في المجلس الماضي، وقلنا: إنَّ
بعض النَّاس يقول كيف تُزوَّج الصغيرة؟! وما هذه الشَّريعة؟!
ويضعون في أذهانهم وقائع في الحال، إمَّا أُناس لا يرعون حق الله-جلَّ وعَلا-
فيُزوِّجون على وجهٍ لا تحصل به مصلحة، وإمَّا ينظرون إلى آباء قد ذهبت مِنهم معاني
الشَّفقة والأبوة، فلا يَعبؤون ببناتهم، فقالوا: كيف نجعل لهذا أن يُزوَّج ابنته
ويجبرها على النِّكاح؟!
فنقول: إنَّ هذا بناءٌ للحكمِ على غيرِ وجهٍ صحيح؛ لأنَّ الشَّرع لم يأتِ على حالٍ
مُعيَّنةٍ، وإنما باعتبار الجُملَة، فالأصل أنَّ الأب مُشفق على ابنته، وأنَّ الأب
أعظم ما يكون حرصًا عليها، وأعرف لما يكون فيه مصلحتها، وأنَّ مَا سِوى ذلك خلاف
الأصل.
ثُمَّ جاء في الشَّرع أيضًا ما يدل على أنَّ الأب إذا ظُنَّ به عدم القيام بالولاية
أو إحسانها أو تمام العناية بها؛ فإنه يُحجَب عن الولاية ويُمنَع منها، ويتدخل في
ذلك القاضي، فحفظ الشَّارع -سبحانه- الأمرين جميعًا، أن يكون له ولاية إجبار، وأنَّ
إجباره فيه مَصلحة لها ظاهرة، وأنَّه لا يُتجاوز في ذلك حَقِّها، ولا يكون فيه منع
لها، وقد يكون الخير في تزويجها، وأن مَن لا يُظنُّ به كمال الشفقة كسائر الأولياء
فإنه ليس له ولاية إجبار. هذا من حيث الجُملة.
نأتي إلى تزويج البنات الأبكار بغير إذنهن:
وهذا لا يخلو مِن أَمرين، إمَّا أن تكون البنت بكرًا أو ثيبًا:
مَن كانت دُون تسع سنوات: عند جميع أهل العلم -الحنفية والمالكية والشَّافعية
والحنابلة- تُزوَّج، لِمَا ذكرنا مِنَ الآية، فَدَلَّ على أنَّ لها عدَّة، فإذن هي
مُزوَّجة، يُمكن أن تُزوَّج ويُمكن أن تُطلَّق.
بنت تسع ودون البلوغ: يجوز في قَول جماهير أهل العلم -أو أكثر الفقهاء- للأب
تزويجها، ويكون له ولاية إجبارٍ عليها.
النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى
تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ أَنْ تَسْكُتَ» ، قالوا: لمَّا جعل للثيب
استئمارًا –يعني: أمرًا- دلَّ على أنَّ البِكر لا أمر لها؛ ولأنَّ مَن دون البلوغ
لا حقيقة لإذنها أو استئمارها؛ لأنَّها صغيرة لم تُكلَّف، فلا تُحسِنُ حتى ما قصدته
وما أرادته وما طلبته، فالغالب أنَّ الأب أعرف بمصلحتها، وأنَّه لا يحملها على
الزواج في ذلك إِلَّا لمصلحة.
ثُمَّ نقول: إنَّه لو ثبت أنَّ أَباها ليس أهلاً للقيامِ بذلك فإنَّه يُمنَع، فلو
زوَّجها ثُمَّ ثبتَ أنَّه زوجها على غير وجهٍ صحيح فإنَّ لها الخيار؛ لأنَّ النَّبي
-صلى الله عليه وسلم- كما جاء عند أهل السنن أنَّ رجلًا زوج ابنته وهي صغيرة من ابن
أخيه ليرفع بها خسيسته؛ فخيَّرها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك.
- أمَّا إذا كانت البكر بالغًا: فمن أهل العلم مَن يقول: إنها تُجبر؛ لأنَّ ليس
معرفة بالأزواج، ولا بأمور النِّكاح، ولربما يكون فيه شيء من الغرَّة فتؤخذ
بعاطفتها أو برغبتها أو نحو ذلك، فكان الأب هو الذي يلي ذلك ويُجبرها.
ومنهم من يقول: لا إجبار لها؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَ» ،
فهذا منطوق يدلُّ على أنَّ لها حقًّا، ولها اعتبارًا، وهذا وجيه من حيث النَّظر
وليس ببعيد.
وحتى مَن قَال مِن أَهلِ العِلم أنَّ للأب إجبار البنت، إِلَّا أنَّه أُمِرَ
باستئذانها وأن يَطلُبَ رضاها «اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ» ، كما
جاء عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فيُستحب عند أهل العلم أن تُستأذن، ويؤخذ
بخاطرها، ويُنظر إلى رغبتها، فإنَّ ذلك أَحرى في أن يَحصل أنسٌ في النِّكاح،
وطمأنينة فيه.
أمَّا إذا كانت ثيِّبًا: فالثِّيب تُستَأمر، وهذا جاء في الحديث عن النَّبي -صلى
الله عليه وسلم- إذا كانت بالغًا بإجماع أهل العلم، وإذا لم تكن بالغًا فهو قول
ظاهر عند جمع الفقهاء أنها تُستأمر.
إذن قول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَبَنَاتِهِ اْلأَبْكَارِ بِغَيْرِ إِذْنِهِن)،
على التفصيل الذي ذكرناه:
دون التسع: بالإجماع يجوز إجبارهنَّ.
ما بين التسع إلى البلوغ: هذا في قول الجماهير يجوز إجبارهنَّ.
ما بعد البلوغ: هذا محل خلاف، والمؤلف على جادَّةِ المذهب أنَّ له الإجبار، وهو
قول لبعض الفقهاء، خلافًا لأبي حنيفة وجماعة من أهل العلم.
ثم قال: (وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُ اْلبَالِغَةِ)، لما ذكرنا، وللدليل الذي
تقدَّم إيراده قبل قليل.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيْجُ اْلبَالِغِ مِنْ
بَنِيْهِ وَبَنَاتِهِ الثُّيَّبِ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ).
أمَّا البنات إذا كنَّ ثيِّبات، والثيب هي من ذهبت بكارتها- فلا يُزَوِّجُهَا
إِلَّا بِإِذنِها.
أمَّا الابن البالِغ: فلا يُزوَّج إِلَّا بإذنه، فإذا كان عاقلًا فكذلك؛ لأنَّ
البالغ له قصد وله إرادة، ولأنَّ مَرَدَّ النِّكاح إلى الرغبة، وهو أعرف برغبته.
لِمَ فرَّقَ الشَّارع بين الابن والبنت؟
نقول: لأنَّ الابن يَعرف مصلحته، وأمَّا المرأة باعتبار قرارها في بيتها وكثرة
عاطفتها ورقَّتها ربما يفوت عليها المعرفة بالأزواج والخبرة بالنِّكاح، فكان للأب
الولاية عليها تحصيلًا لمصلحتها.
أمَّا البالغ إذا كانَ مَعتوهًا أو مجنونًا: فهو أيضًا محل خلاف، وإذا قيل بتزويج
الصغير، فتزويج الكبير أيضًا له وجه، خاصة إذا خِيفَ عليه، إمَّا رُؤيَ أنه يميل
إلى النِّساء، أو أنَّه خِيفَ عليه الضَّياع، كأن لا يكون له أم، أو أنَّ أُمه لا
تُعنى به، فيُخشَى أن يذهب هنا وهناك؛ فإذا رؤيَ في امرأة أنها يمكن أن تقوم عليه
وهي عارفة بحاله، وأرادت أن تتحمل ذلك في مُقابل ما يحصل لها إمَّا من ذريَّة، أو
من حصول نفقة، أو إعفاف، أو نحو ذلك كله، فرضيَت به على هذا الحال، فيمكن القول
بتزويجه في مثل هذه الحال.
ثم قال: (وَلَيْسَ لِسَائِرِ اْلأَوْلِيَاءِ تَزْوِيْجُ صَغِيْرٍ وَلاَ صَغِيْرَةٍ،
وَلاَ كَبِيْرَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِهَ).
وهذا مثل ما قُلنا كما جاء في الحديث لما سُئِل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن
اليتيمة قال: «لا تزوج اليتيمة حتى تستأمر»، وجاء أيضًا في قصة قدامة بن مظعون لما
زوَّج ابنة أخيه، فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ردَّ نكاحها، فدلَّ ذلك على
أنَّه لابد للإذن إذا كان المزوج غير الأب.
فإذا قُلنا: إنَّ السُّنة في حقِّ الأب أن يَستأذن، فمن باب أولى أن يكون غير الأب
ليس له هذه الخصيصة، ولا يصل إلى هذه الدرجة من الولاية، ولما ذكرناه مِن الفَرق
بين الأب في كمالِ شفقته وتمام حِرصه وبين سائر الأولياء ممن قد يكون حَريصًا
ومُشفقًا، لكن لا تبلغ شفقتهم ما يبلغ الأب مِن أنَّه لا يحمله الإجبار إِلَّا على
مصلحة مُتحققة أو مُتيقَّنة لابنته، وأنَّه لا يُمكن أن يُستجر لأجل مصلحة له أو
لوعود بأمور الدُّنيا، أو للتخلصِ من ابنته؛ لأنَّ الأب لا يُرخص بناته بخلاف بعض
الأولياء، فلربما تكون عليه تَبِعَةٌ فيُريد الخلاص منها ومن تبعتها.
قال -رحمه الله: (وَإِذْنُ الثَّيِّبِ اْلكَلاَمُ، وَإِذْنُ اْلبِكْرِ الصُّمَاتُ،
لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم «الأْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ
وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَ»).
الله المستعان!
هذا في الأزمنة التي كان فيها الحياء لباسًا وشعارًا ودثارًا لبيوتات النَّاس
والمسلمين والمسلمات، أمَّا في هذه الأوقات فصار هناك جُرأةٌ!
على كل حال، ما قرره الفُقهاء هو أنَّ الثيِّبَ إذنها الكلام، فإذا استُئذنت، فلابد
أن تقول: "نعم" أو "رضيت" أو "لا مانع عندي من أزوَّج بفلان"، أو نحو هذا مما يكون
قاطعًا للنزاع وموصلًا للمعنى المُراد.
أمَّا البكر فإنَّها جَرت على الاستحياء، فإنَّ إظهار رغبتها لفظًا قد ترى فيه
غضاضة أمام أبيها، أو أخيها، أو أمها، أو نحو ذلك؛ فيقولون في هذه الحالة: إذا
صمتت، أو إذا ضحكت؛ فمن باب أولى يكون إذنها ظاهر ورضاها بهذا.
ولذلك قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «الأْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ
وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَ» .
وفي بعض الأحاديث: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ
الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟
قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» .
{قال -رحمه الله: (وَلَيْسَ لِوَلِيِّ امْرَأَةٍ تَزْوِيْجُهَا بِغَيْرِ كُفْئِهَا
بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَاْلعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاء، وَلَيْسَ اْلعَبْدُ
كُفُءَ اْلحُرَّةِ، وَلاَ اْلفَاجِرُ كُفُءَ اْلعَفِيْفَةِ)}.
الكفاءة في النِّكاح مُعتبرة عند أهل العلم في الجملة، وجاء بها نصوص، وهذه
النُّصوص منها ما هو ظاهر بيِّن، ومنها ما يُمكن أن يعتضد بالعمومات، لكن إذا تقرر
هذا من حيث الجُملة فإنه قد يُختلف فيه من جهةِ بعض التفاصيل والمسائل، ومن حيث
درجة اعتبار الكفاءة.
فهل الكفاءة في النِّكاح شرط من شروط صحته كالولي ونحوه؟
المشهور عند أهل العِلم أنَّه ليس كذلك، لكن الكفاءة في قول الحنابلة كما هو قول
جماهير أهل العلم أنها مؤثرة في النِّكاح، فإذا لحق ضرر بنكاح امرأة بمن هو دُونها؛
فإنَّ ذلك موجب الخيار، ويُمكن أن يُطلب به فَسخ النِّكاح، وهذا مُستقرٌ ومعروف.
ما هي خصال الكفاءة التي يُمكن حصول تفاوت في الكفاءة أو النقص؟
أولًا: الكفاءة هي: المساواة، أي يكون الرجل مساوٍ للمرأة، والكفاءة مُعتبرة في
الرَّجل لا في المرأة، يعني: أن يكون الرجل مُكافئًا للمرأة، لا أن تكون المرأة
مُكافئة للرجل، فللرجل أن يتزوج امرأة ولو كانت وضيعة، لكن الرَّفِيعة مِنَ
النِّساء لا تُزوَّج إلا بكفءٍ يُماثلها أو يُقاربها في ذلك.
ما مناط الكفاءة؟
مِن أَهلِ العِلم مَن قَال: إنَّها مُتعلقة بالدِّين والنَّسب، ومنهم من جعلها
خَمْسَ خِصال، هي: الدين، والنَّسب، والحرية، والصناعة، واليسار.
أولًا: إذا كانت المرأة حُرَّة فلا تُزوَّج بعبدٍ، وهذا أمر ظاهر، فاعتبار الحرية
في النِّكاح ظاهر في السُّنة، بدليل قصة بَريرة، فإنَّ بَريرة لما أعتقتها عائشة
-رضي الله عنها- كان زوجها "مُغيث" عبدًا، فبقيَ عبدًا وصارت هي حرَّة، فخيَّرها
النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: «لا، إِنَّمَا
أَنَا شَافِعٌ». قالت: لا أريده، ففسخ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- نكاحها، فاستدل
به أهل العلم على أنَّ العبد ليس بكفءٍ للحُرَّة، ولذا كان لها فسخ النِّكاح إذا
كانت حُرَّة وزوجها عبد.
وفيها قصة لطيفة: حيث إنَّ مُغيثًا كان يُحبُّها، حتى إنَّه ذُكر في الحديث أنَّه
كان يتتبعها في الأسواق ويبكي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لِلْعَبَّاسِ: «أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ
وَبُغْضِهَا إِيَّاهُ»، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. هذا بالنسبة للحرية.
أيضًا الدِّين: فالكافر ليس بكفءٍ للمسلمة، وكذلك العفيفة والدَّيِّنة ليس الفاجر
والفاسق بكفءٍ لها، فلو أنها زُوِّجت بفاجر أو شاربٍ للخمور أو نحو ذلك، وهي مِن
أَهلِ الصَّلاح والهُدى؛ فإنَّ لها الخيار في ذلك، ولها فَسخُ النِّكاح؛ لأنَّ الله
-جلَّ وعَلا- قال: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا
يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة:18]، فأخذ من هذا أهل العلم أنَّها لا تُزوَّج به.
الأشياء الثَّلاثة الأخرى -الصناعة واليسار والنَّسب- هذه من حيث قوَّة دلالتها من
عدمه متجاذبة بين الأدلة، لكن نوردها على وجه الاختصار:
من جهة النَّسب: قالوا: إنَّ العرب بعضهم أكفاء لبعض، والعجم بعضهم أكفاء لبعض، وهو
قول لجمهور أهل العلم عند الحنفية والشَّافعية والحنابلة، وأخذ ذلك مما جاء في بعض
الآثار أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لِأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ
الْأَحْسَابِ، إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ"، ولما قال سلمان: "لا نتقدمكم في الصلاة،
ولا نتزوج نسائكم، فإنَّ الله اصطفاكم عنَّا بمحمد"، يعني أن هذه الخيرة ليست لأجل
شيء، ولكن لما فضل الله هذه الأمة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت هذه الآثار
فيها ضعف وتُكُلِّمَ فيها.
وبعضهم قال: إن مجموع هذه الأدلة يدلُّ على أنَّ هذا له أصل.
وبعضهم قال: لا أثر للنَّسب في الكفاءة في النِّكاح؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه
وسلم- زوَّجَ فاطمة بنت قيس الفهريَّة القرشيَّة من أسامة بن زيد، وزوج زيد بن
حارثة -الذي هو أبوه- من زينب بنت جحش، وأيضًا أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة زوَّج
سالمًا -الذي هو مولاه- من ابنة أخيه هند بنت عتبة، فَمِنْ هذا أخذ أهل العلم أنَّ
المرأة الشَّريفة لو تزوجت من دونها فإن ذلك جائز ولا غضاضة فيه.
هذا المبحث فيه شيءٌ قد تميل فيه النفوس، فقد يجد العربي في الكلام على هذه المسألة
ما يتشبَّث ويُعظِّم هذه المسألة، وقد يراها سواه أنها مسألة فيها شيء من الغضاضة
بهم، أو استنقاصهم او نحو ذلك.
ونحن نقول: أولًا ينبغي أن يُعلم أنَّ المؤمنين مُسَلِّمُون لما جاء عن الله -جلَّ
وعَلا- وجاء عن رسوله -صلى الله عليه وسلم - وإذا استقرَّ الأمر على شيء فنقول:
سمعنا وأعنا.
وأمَّا إذا كانت مسألة مُتجاذبة عند أهل العلم، فإن كان مأخذ الإنسان فيها طلبُ
الحق والهُدى فلا غضاضة عليه في هذا ولا ذاك، وإن كان مأخذ الإنسان فيها هو الهوى
وحظ النفس فإنه يلحقه في ذلك الغضاضة في كل حال!
وهنا ملحظ لطيف: أنكم والمشاهدون -على اختلاف بلدانهم- تعرفون هذا قطعًا؛ أن كل أمة
وبلد وجنسٍ من النَّاس لهم أعرافهم، ولهم عوائدهم، ولهم أحوالهم، فحينما يدخل عليهم
داخل لا يجد تمام أُنسه، ولا يُفرح به تمامًا، فيحصل بذلك شيءٌ من التَّنازع، وربما
انتهت الأمور، وانقطعت العلاقة، فلمَّا كان الأمر ذلك سائغًا جاء الشَّرع باعتبار
هذه الأشياء، وهي ليست أصلًا في النِّكاح فتمنع صحَّته؛ ولكن إذا ظهر ضررها فقد جعل
الشَّارع فيها فُرجَة وفُسحةً للتخلص من تبعتها، أو مما يحصل في ثنايا ذلك من
الأضرار ونحوها.
اليسار والصناعة ذكر بعض أهل العلم أنَّها مُعتبرة في ذلك، وعلى كل حال ينبغي من
حيث التوجيه أنه لا يُدخل في أمرٍ يلحق بالإنسان شيئًا من الأخذ والرد والزيادة
والنقص ما دام الإنسان في سَعةٍ، فالحمد لله لم يقف الأمر على أن تتزوج فلانة أو أن
تتزوج أخرى، وإذا فات عليك هذه فسيفتح الله لك غيرها كثير، وكذلك المرأة على هذا.
وفي الجانب الآخر وقد تقاربت المجتمعات وتتداخلت، فنبغي ألا تُؤخذ هذه الأمور بشيءٍ
من الشِّدَّة والانتقاص والمطالبة وإرادة الفسخ، خاصة وأنَّ القول بعدم اعتبار هذه
الخِصال مؤثرة في النِّكاح قول وجيه وقوي، ودلائل ذلك في السُّنن كثيرة، وتزويج
القرشيات اللاتي هن أشرف العرب وأرفعهن؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا
مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي
هَاشِمٍ» ، فكانوا هم المصطفين وغيرهم دونهم في ذلك بكثير، وبينهم درجات؛ ومع ذلك
لم يكن ذلك مانعًا أن تُزوَّج بنات قريشٍ ممن دونهم، فإذا كان الأمر كذلك فغيرهم من
باب أولى ألا يكون لهم فضل على مَن سواهم.
هذا كله يحملنا إلى أن نتداعى إلى هذا الأمر بشيءٍ من السهولة واليُسر، فإذا حصلت
إشكاليَّة في هذا فينبغي أن يُجعل في ميدانه، فله جهةٌ ترصده وتحكم فيه، وينبغي أن
يُنتهى فيه إلى المصالحة، وليست المحاققة والمنازعة، فإن هذا من الأمور التي
تتألَّب فيها النفوس، ولا فائدة من وراء ذلك.
هذا ما يتعلق باعتبار الكفاءة على ما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَاْلعَرَبُ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاء، وَلَيْسَ اْلعَبْدُ كُفُءَ اْلحُرَّةِ، وَلاَ
اْلفَاجِرُ كُفُءَ اْلعَفِيْفَةِ)، على ما تقدم، وقلنا: إنَّ اليسار والصنعة دخلت
في هذا، ولذلك لما كان أبا هند حجَّامًا من بني بياضة، قال النَّبي -صلى الله عليه
وسلم: «أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ» ، أو كما جاء عَن النَّبي -صلى الله عليه وسلم .
{قال -رحمه الله: (وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً هُوَ وَلِيُّهَا، فَلَهُ
أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهَا بِإِذْنِهَ)}.
هذا عند الفقهاء يُسمى بـ "تولي طرفي العقد" بأن يكون الإنسان مُوجبًا للنِّكاح
وقابلًا له، فهذا يجوز في بعض الأحوال إذا تُصوِّر أن يصحَّ منه نكاح موليَّته،
وهذا فيما إذا كانت موليَّته بنت عمِّه، أو كان وصيًّا، لكن إذا كان أبًا أو عمًّا
أو أخًا فإنَّه لا يتزوجها، وهذا جاء عن عبد الرحمن بن عوف لمَّا ولَّته أم حكيم
نفسها، فطلبت أن يختار، فقال: "قد تزوجتكِ"، فيجوز أن يُوجب النِّكاح ويقبله بلفظٍ
واحدٍ على ما جاء عن عبد الرحمن -رضي الله عنه وأرضاه.
{قال -رحمه الله: (وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيْرَ، فَلَهُ أَنْ
يَتَوَلىَّ طَرْفَـيْ اْلعَقْدِ)}.
إِذَا زوَّج أمته عبدَه، وهذا بالنسبة للسَّيد، فإنَّ السَّيد هو ولي أمته -كما
قلنا سابقًا- وعبده أيضًا له ولاية عليه إذا كان صغيرًا، أمَّا إذا كان كبيرًا فهو
يلي نفسه في أمر النِّكاح، فيجوز أن يتولى طرفي العقد، فيقول: "زوجتك يا بلال من
خديجة" على سبيل المثال، ولا يحتاج أن يعيد ويقول: قبلتُ هذا النِّكاح لخديجة من
بلال! فإذا قال: "زوجت بلالًا من خديجة" فيكفيه ذلك، وكان صحيحًا.
{قال: (وَإِنْ قَالَ لأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُكَ وَجَعَلْتُ عِتْقَكَ صَدَاقَكَ
بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، ثَبَتَ اْلعِتْقُ وَالنِّكاح؛ لأَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَ)}.
هذا في صورة خاصة، وهو أن يكون تزوُّج الإنسان من أمته إذا أراد أن يعتقها، وهذه
الصورة مخصوصة عند الحنابلة، فلو تذكرون أنهم ذكروا في أول كتاب النِّكاح أنه لابد
من لفظ الإنكاح والتزويج، فلم يُصحِّحوا نكاحًا إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج لمن
يعرف العربية، وقد تقدم الكلام في ذلك.
فهنا استثنوا إذا أراد الإنسان أن يتزوج مِن أمته التي أراد أن يعتقها، فكانهم
استثنوا هذا لمجيء الحديث، لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أعتق صفية، وجعل
عتقها صداقها، فقالوا: هذه الصورة مستثناة لمجيء النص بها.
فنقول: مَن تَزَوَّجَ أَمَتَه بإعتاقها، أو جعل مَهرها عِتقها، فإنَّ ذلك صحيح،
ويكون على نحوِ ما جاء عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: "أعتقكِ وجعلت
عتقكِ صداقكِ" فتكمل بذلك الشروط بوجود الشاهدين، ويصح النِّكاح لما جاء عن النَّبي
-صلى الله عليه وسلم.
{قال -رحمه الله: (فَصْلٌ فِيْ نِكَاحِ اْلعَبِيْدِ وَاْلإِمَاء
وَلِلسَّيِّدِ تَزْوِيْجُ إِمَائِهِ كُلِّهِنَّ، وَعَبِيْدِهِ الصِّغَارِ بِغَيْرِ
إِذْنٍ، وَلَهُ تَزْوِيْجُ أَمَةِ مُوَلِّيَتِهِ بِإِذْنِ سَيِّدَتِهَ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- متعلق بتزويج الإماء والعبيد، وهذا
-كما قلنا سابقًا في كتاب العتق- أن العبيد لهم حقوق، ولهم اعتبار، وأن قيام
الأسياد على عبيدهم وإمائهم كقيامهم على أولادهم وبناتهم، بل هو أعظم وأوجب، وذكرنا
لذلك أمثلة لا نحتاج إلى إعادتها.
فيقول المؤلف -رحمه الله: (وَلِلسَّيِّدِ تَزْوِيْجُ إِمَائِهِ كُلِّهِنَّ)، حتى لو
كان أبوها حاضرًا أو ابنها؛ لأنَّ السَّيد مالك لها، والمِلك قاضٍ على كل ولاية،
وهو أقوى من الولاية، لأنه يملك المرأة، ويملك الاستمتاع ببضعها، ويملك كل شيءٍ
فيها، فبناء على ذلك كان أولى بولاية النِّكاح فيها.
وقوله: (كُلِّهِنَّ)، تشمل ما إذا كانت صغيرة أو كبيرة، كانت ثيِّبًا أو بكرًا،
كانت معتوهة أو عاقلة؛ ففي كل هذه الأحوال للسيد تزويجهن.
قال: (وَعَبِيْدِهِ الصِّغَارِ بِغَيْرِ إِذْنٍ)، إذا كان العبد صغيرًا، وأراد أن
يزوجه لأي سبب من الأسباب، إما إكرامًا له، وإما خوفًا من ألا يجد أحدًا بعد ذلك
إذا فاتت هذه الأمة التي عنده فلا يزوجه أحد، فزوَّجه؛ فيكون ذلك صحيحًا بغير إذنه،
لأن الصغير لا إذن له.
أمَّا لو كان كبيرًا -كما سياتي- فلا يُزوِّجه إلا بإذنه، لأن مردَّ هذه الأمور على
الرغبات، وما دام بالغًا فإنَّ له رغبة، فلا يُمكن أن يُحمل على شيءٍ لا رغبة له
فيه.
قال: (وَلَهُ تَزْوِيْجُ أَمَةِ مُوَلِّيَتِهِ بِإِذْنِ سَيِّدَتِهَ)، يعني: لو
كانت هذه الأمة لامرأة -يعني مالكتها امرأة- فإن المراة لا تلي أمر النِّكاح، فبناء
على ذلك موليُّ هذه الأمة سواء كان ابنًا أو أبًا أو نحو ذلك هو الذي يُزوجها، لأن
عائشة -رضي الله عنها- قالت: "اعقدوا النِّكاح، فإن النساء لا يلين أمر النِّكاح"،
ولما تقدَّم من الإشارة إلى ما يتعلق بذلك.
فبناء على هذا؛ هي سيدته، والنِّكاح بإذنها، ولكن الذي يُجري ويُمضي العقد هو أحد
أوليائها.
قال: (وَلاَ يَمْلِكُ إِجْبَارَ عَبْدِهِ اْلكَبِيْرِ عَلى النِّكاح)، لما ذكرناه،
لأن الأصل أن مرد هذا إلى الرغبة، والكبير عاقلٌ يُحسن مصلحته ويعرفها، فلا يُحمَل
على شيءٍ لا يوافق طباعه، فإن كان له رغبة فيُزوجه سيده، وإلا فلا يُجبره.
وفي المقابل: أنَّ العبد الكبير ليس له أن يتزوج بدون إذن سيده، لقول النَّبي -صلى
الله عليه وسلم: «وَأَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَّيدِهِ فَهُوَ
عَاهِرٌ» يعني زانٍ؛ لأنَّ العبد محكوم بالسيد، ومنافعه لسيده مملوكة، وزواجه يعني
أنه ستذهب على سيده بعض المنافع، فلا يكون ذلك إلا بإذنه ورضاه، ويُحمَل السيِّد
إذا امتنع عن تزويج عبده إن كان محتاجًا للنكاح حفظًا لحقه ومصلحته.
قال: (فَإِنْ دَخَلَ بِهَ)، الكلام هنا في العبد الذي تزوَّج أمةً أو امرأة ولم
يأذن له سيده، فمهرها في رقبته، لأن النِّكاح لم يصح، فكان الجماع الإيلاج منه
جناية، فالأمر دائر بين أن نتركه، أو أن نلزمه بما جنى في استباحة هذا البُضع
والدخول على هذه المرأة، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (فَمَهْرُهَا فِيْ
رَقَبَتِهِ)، وهذه مسألة لطيفة وقد تقدم الكلام على مثيلاتها، العبد لا يملك،
والمرأة جُنيَ عليها، فالأمر دائر بين أن يفوت حق المرأة، فلا شيء لها لأن العبد لا
يملك شيئًا، أو نُلزِم السيد بالدفع، وهذا إلزام مَن لم يجنِ ولم يكن منه إثم، أو
تقحُّمٌ لشرٍّ، فكان الخيار الثالث وهو أن تلزم العبد ولكن تكون متعلقة برقبته،
يعني بذاته، بمعنى أنه يُباع ويؤخذ المهر ويُعطى لهذه المرأة، وما بقي يكون لسيده،
ولذلك قال: (فَمَهْرُهَا فِيْ رَقَبَتِهِ كَجِنَايَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَفْدِيَهُ
سَيِّدُهُ بِاْلأَقَلِّ مِنْ قِيْمَتِهِ أَوِ الْمَهْرِ).
بمعنى أنَّه لو كان مهرها ستين ألفًا -على سبيل المثال- فنبيع العبد، فإذا صارت
قيمته ثمانين ألفًا، فنعطي المرأة ستين ألفًا ونرد لسيده عشرين ألفًا، وإذا كانت
قيمته أربعين ألفًا، فإننا نعطي المرأة أربعين ألفًا وانتهى، وليس لها إلا ذاك، لأن
هذا لا يساوي أكثر من هذا، ولا يُمكن ان نلزم السيد بشيءٍ لم يفعله.
فإن قال السيد: أنا أحتاج عبدي؛ فقنلو: يلزمك أن تفديه بالأقل، فإن كانت قيمته
أربعين ألفًا فتعطيها أربعين ألفًا، ويبقى العبد عندك، وإن كان قيمته ثماني ألفًا
فأنت تعطيها مهرها كاملًا.
{قال -رحمه الله: (وَمَنْ نَكَحَ أَمَةً عَلى أَنَّهَا حُرَّةً ثُمَّ عَلِمَ فَلَهُ
فَسْخُ النِّكاح وَلاَ مَهْرَ عَلَيْهِ إِنْ فَسَخَ قَبْلَ الدِّخُولِ، وَإِنْ
أَصَابَهَا، فَلَهَا مَهْرُهَا، وَإِنْ أَوْلَدَهَا، فَوَلَدُهُ حُرٌّ يَفْدِيْهِ
بِقِيْمَتِهِ، وَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ عَلى مَنْ غَرَّهُ، وَيُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَجُوْزُ لَهُ نِكَاحُ اْلإِمَاءِ، وَإِنْ
كَانَ مِمَّنْ يَجُوْزُ لَهُ ذلِكَ فَرَضِيَ بِهَا، فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ
الرِّضَا، فَهُوَ رَقِيْقٌ)}.
هذه مسائل دقيقة في مسائل الإماء ، قال: (وَمَنْ نَكَحَ أَمَةً عَلى أَنَّهَا
حُرَّةً)، فبناء على ذلك له فسخ النِّكاح؛ لأنَّ الأَمَةَ إِذَا وَلَدت فولدها
رقيق؛ لأنَّ القاعدةَ -كما قُلنا فيما مَضى تقول: إنَّ الابن يتبع الأب في نَسَبِه،
وَيَتْبَع الأم في رقِّها وحرَّيتها، ويتبع أحسنهما دينًا، فإن كان مُسلمًا فالولد
مسلم، وإذا كان أحدهما كتابي والآخر وثني فيكون الولد كتابيًّا، فيتبع أرفعهما
دينًا.
ولذا نقول: له فسخ النِّكاح، ولا مهر عليه إن فسخ قبل الدخول، إذا تبيَّن له قبل
الدخول فلا مهر عليه؛ لأنَّ الفُرقَة جاءت من قِبَلها، فلا شيء لها، وهو غُرَّ على
هذا، وهي لم يفُتْ عليها شيء، يعني لم يدخل بها أو يُذهب بكارتها إن كانت بكرًا، أو
يستبح بُضعها إن كانت ثيِّبًا.
قال: (وَإِنْ أَصَابَهَا، فَلَهَا مَهْرُهَ)، يعني: سواء كانت بكرًا بأن أزال
بكارتها.
هل لها أرش البكارة؟
نقول: لا؛ لأنَّ المهر يختلف مِنَ البِكر إلى الثَّيب، فالغالب أنَّ مَهر البكر
أكثر من مهر الثَّيب، فيكون مُشتملًا على ما فات عليها من بكارتها.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَإِنْ أَوْلَدَهَا، فَوَلَدُهُ حُرٌّ)، خلافًا
للأصل؛ لأنَّ الأصل أن ولد الأمة رقيق، لكن هذا ولده يكون حرًّا؛ لأنَّه غُرَّ في
هذا، ولا يفوت عليه ولده بأن يُسترق، ولكن نقول: عليه أن يفديه بقيمته.
نأتي إلى سيده، ونقول: هذا الولد ظُلِمَ، وغُرَّ، وظنَّها حرَّة فبانت أمة؛ فبناء
على ذلك الولد يكون حرًّا، ويُعطَى القيمة، إذا كان السيد أيضًا غُرَّ، كأن يأتيه
رجل ويقول: إن فلانًا سيتزوج أمتك ولم يقل له أنه حر أو عبد، ولم يدرِ السَّيد أنهم
قد غروا به، فيُعطَى القيمة عشرين ألفًان ثلاثين ألفًا؛ ثم بعد ذلك يرجع بما غرِمَ
على مَن غرَّه، سواء كان ذلك من قيمة الولد، أو كان ذلك بما دفع من المهر، فأيُّ
شيءٍ قد دفعه فيرجع على من غرَّه، وهذا حكم أصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وهو
الحكم العدل؛ لأنَّه لا يكون الغُرم عليه؛ لأنَّه لم يجنِ، وهو مغرور به، وأيضًا لا
يفوت حق المرأة التي استُبيحَ بُضعها، ولا السيد الذي وُلد له وكان هذا الولد يُمكن
أن ينتفع منه بكونه رقيقًا فيبيعه، فنقول من أنه ليس برقيق، وبناء على ذلك يدفع
قيمته له، ويرجع على مَن غرَّه.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ
يَجُوْزُ لَهُ نِكَاحُ اْلإِمَاءِ).
إن كان قد أصابها يُفرق بينهما، لأن الحر لا يجوز له أن يتزوج الأمة إلا بشرطين:
- أن يخاف العنت.
- وألا يجد طول الحرة، يعني: مهر الحرة.
فلا يجوز له نكاح الإماء على ما جاء في الآية: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ
طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النساء:25]، وهذا أمر ظاهر،
وربما تأتي الإشارة إليه لاحقًا.
إذن نقول: إذا كان ممن يجوز له نكاح الإماء لتوافر الشرطين فيه فيُقرُّ عليه إن
أراد، أمَّا إذا لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء فنفسخ النِّكاح مباشرة.
إذا كان ممن يجوز له نكاح الإماء فنقول: هو أيضًا بالخيار، فإذا رغب في البقاء معها
واستحسنها وهو ممن يُقرُّ على نكاح الإماء فنُقرِّه على ذلك بحقِّه، ثم بعد ذلك
يكون ولده ثانيًا أو ثالثًا أو رابعًا عبدٌ لأن رضيَ بنكاح الأمة، ومن رضي بنكاح
الأمة يعلم أن أولاده منها عبيد، فيلحقون بأمهم في العبودية، ويلحقون بأبيهم في
النَّسب، وهذا ظاهر بيِّن.
{قال المؤلف -رحمه الله: (باَبُ اْلمُحَرَّماَتُ فِيْ النِّكاح)}.
لِمَ أورد المؤلف هذا الباب هنا؟
لأنه على حدِّ قول القائل: وبضدها تتبين الأشياء.
فلمَّا كانت المحرمات هنَّ الأقلُّ؛ فإذا ذكرت المحرمات عُرف أن مَن سواها يحل
للإنسان نكاحها، فهذا بيان ذكر المحرمات في النِّكاح.
والمحرمات في النِّكاح:
- محرمات على جهة التأبيد.
- ومحرمات على جهة التوقيت، يعني على على غير جهة التأبيد.
فالمحرمات على جهة التأبيد ذكرهنَّ الله -عز وجل- في الآية سبع، يُوردهنَّ المؤلف
واحدة بعد واحدة، ثم بعد ذلك ننتقل إلى المحرمات على جهة التأبيد بوجهٍ آخرٍ، ثم
ننتقل إلى المحرمات إلى أمدٍ -أو محدد من الوقت- على اختلاف ما سيأتي من الأسباب،
إما لكونه لا يحل الجمع، أو لانتظار لانتهاء العدَّة، أو نحو ذلك من الأسباب.
{قال -رحمه الله: (وَهُنَّ اْلأُمُّهَاتُ، وَاْلبَنَاتُ، وَاْلأَخَــوَاتُ،
وَبَنَــاتُ اْلإِخْــوَةِ، وَبَنَـــاتُ اْلأَخَــــوَاتِ، وَاْلعَمَّــاتُ،
وَاْلخَالاَتُ، وَأُمُّهَاتُ النِّسَاءِ، وَحَلاَئِلُ اْلآبَاءِ، وَالرَّبَائِبُ
اْلمَدْخُوْلُ بِأُمَّهَاتِهِنَّ)}.
نبدأ بالمحرمات على جهة التَّأبيد:
ذكر المؤلف أولهنَّ: الأمَّهـــات.
كلُّ أمٍّ لك فهي محرمٌ عليك نكاحها، سواء كانت أمك الصُّلبيَّة، أو أمّ أمِّك، أو
أمُّ أبيكَ، أو أم أم أبيك، أو أم أم أمك، أو أم أم أبي أمك، أو نحوها؛ فكل هؤلاء
الأمهات لا يجوز للإنسان نكاحهنَّ، لأن الله -عز وجل- قال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء:23].
وهل المُحرَّم ذواتهنَّ؟
المحرم ليس ذواتهنَّ، ولكن المحرم هو نكاهنَّ، فهذا من العموم الذي أريد به الخصوص.
قال: (وَاْلبَنَاتُ)، أيضًا بنات الإنسان لا يحل له نكاهنَّ، سواء كانت بنته، أو
بنت بنته، أو بنت ابنه، أو بنت ابن ابنه، أو بنت ابن بنته، أو بنت بنت بنته، أو نحو
ذلك وإن نزلنَ.
وكذلك: (واْلأَخَــوَاتُ)، فأخوات الإنسان لا يجوز له نكاحهنَّ، سواء كنَّ أخوات
شقيقات، أو كنَّ أخواتٍ لأبٍ، أو كنَّ أخواتٍ لأمٍّ؛ كلهنَّ يدخلنَ في ذلك، فلا
يجوز للإنسان أن ينحكهنَّ بوجهٍ من الوجوه.
بنات الإخوة كذلك: فبنت أخيك، سواء كان الأخ شقيقًا، أو لأبٍ أو لأمٍّ؛ كلهنَّ لا
يجوز لك نكاحهنَّ، لأنَّك عمَّهنَّ.
ومثل ذلك بنات الأخوات: فبنت أختك سواء كانت أختك الشقيقة ، أو أختك لأب، أو أختك
لأم؛ فانت خالها، فلا يجوز لك نكاحها بوجهٍ من الوجوه.
العــــمَّات: سواء كانت عمَّاتك اللاتي هنَّ أخوات أبيك، أو عمَّات أبيك اللاتي
هنَّ أخوات جدِّك، أو عمَّات جدِّكَ اللاتي هن أخواتي أبي جدِّكَ، او كنَّ عمَّات
أمِّك، أو عمَّات أبي أمِّك، أو عمَّات أم أمِّك؛ كلهنَّ يدخلن في ذلك، سواء كانت
أختًا لأبيك شقيقة، أو أختًا لأبٍ، أو أختًا لأمٍّ، فما دامت عمَّةً فلا يجوز
نكاحها.
ومثل ذلك: الخــــالات، فخالاتك اللاتي هنَّ أخوات أمك، أو خالات أبيك، أو خالات
جدك، أو خالات أبي جدك، أو خالات أمك، أو خالات أم أمك، كلهن لا يجوز للإنسان
نكاحهنَّ.
ويمكنكم مراجعة هذا الدرس عبر قناة يوتيوب أو غيرها، وأسأل الله لي ولكم التوفيق
والسداد، وأن يزيدنا من العلم والهدى، وأن يدلنا على الخير والرَّشدِ، وأن يُبقينا
في العلم، وأن يثظهر بنا ماره، وأن يجعله حجَّة وذخرصا يوم لقائه، وألا يكون حجَّة
علينا، إن ربنا جواد كريم.
وشكر الله لأخينا المقدم، والإخوة القائمين على هذا البناء العلمي، وشكر الله لكم،
أسأل الله أن يجزيكم خيرًا، وأن يزيدكم من العلم والهدى، وأن ينفعكم به في الدنيا
وفي الأخرى.
{أشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وهذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى
أن نلقاكم في حلقة قادة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13396 33
-
17105 27
-
23747 18
-
78673 18
-
5037 6
-
2908 22
-
2730 24
-
2683 12
-
5748 12
-
8845 12
-
10684 24
-
11542 13