الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

3309 12
الدرس الثاني

عمدة الفقه (5)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي الأعزاء في حلقة جديدة من حلقات البناء العلمي، وأرحب باسمي واسمكم بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان.
توقفنا في الدرس الماضي عند باب: الميراث بالولاء، والآن نشرع في باب: العتق.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باَبُ اْلعِتْقِ.
وَهُوَ: تَحْرِيْرُ اْلعَبْدِ، وَيَحْصُلُ بِاْلقَوْلِ وَاْلفِعْلِ، فَأَمَّا اْلقَوْلُ، فَصَرِيْحُهُ لَفْظُ اْلعِتْقِ وَالتَّحْرِيْرِ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا، فَمَتَى أَتَى بِذلِكَ، حَصَلَ اْلعِتْقُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَمَا عَدَا هَذَا مِنَ اْلأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْعِتْقِ كِنَايَةٌ، لاَ يَعْتِقُ بِهِ إِلاَّ إِذاَ نَوَى)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رَبِّ العَالمين، وَصَلَّى الله وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فيا أيُّها الإخوة المشاهدون والمشاهدات، أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرفعنا بالعلم، وأن يجعلنا من أهله، وأن يُحيي بنا مَناره، وأن يُحيي قُلُوبنا به، وأن يُميتنا على ذلك غير زائغين ولا مُنحرفين، إنَّ ربنا جَوَادٌ كريم.
بين يدي البداءة في هذا المجلس لابد من التوطئة بمسألة مُهمة، وكُنُّا قد تبادلنا الحديث قبل الحلقة، وقلنا: إنَّ هذه الأبواب وإن كان قليل وقوعها، ولا يكثر معالجتها في الواقع لعدم وجود العتق أو ندرته أو انقطاعه، لكن ينبغي أن يُعلم أنَّ التَّفقه في هذه الأبواب هو تفقه في الكتاب والسنة؛ وذلك لأنَّ دلالات الكتاب والسُّنة قد جاءت بذلك، فكانت الدراسة والعلم دراسة لكتاب الله -جلَّ وعَلا- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم إنَّ ذلك فيه إبقاء لهذا العلم، ولا ينفك من أن الناس قد يحتاجون إليه فيما يأتي من الزمان المستقبلي، فإذا أهملوه وتركوه فربما يكون قد فات عليهم العلم، وانقطعت المسألة فتختلط على النَّاس الأحكام في ذلك، ويحصل بسبب ذلك الشر الكثير.
ثانيًا: كُنَّا انتهينا إلى آخر مسألة من مسائل الولاء، وذكرنا أنَّ الإرث بالولاء للكُبرِ كما جاء بذلك الأثر، وكان المؤلف قد ذكر مسألة، وهي: إذا مات المولى المعتِق، ثم مات بعده العتيق وكان له ابنان توفيَ أحدهما عن ابن والآخر عن تسعة أبناء.
في هذه المسألة: نجد أنَّ ابن الابن هو ابن ابن المعتق، وكذلك التسعة أبناء؛ فهم في درجة واحدة، فبناء على ذلك يكون الإرث بينهما على التساوي ويتقاسمون الميراث في ذلك.
بخلاف المسألة التي قبلها، وهي: إذا مات العتيق عن ابن للمعتق، وابن ابن المعتق.
فيكون الإرث لابن المعتق؛ لأنَّه أقرب في العصوبة وأحق بها، على ما ذكره الفَرَضيون في ذلك، وقد تقدم ذكر أصل هذه المسألة في باب العصبات. هذا يكون به ختام باب الولاء.
ننتقل إلى: باب العتق.
والعتق في أصل اللغة: من الخلوص، إذا خلص الشّيء وكان خالصًا، ومنه سُمي البيت الحرام بالبيت العتيق، قال أهل العلم: لِتَخَلُّصِه مِن تَسَلُّطِ ظَالمٍ أو جبارٍ عليه، فلا يتسلط عليه ظالمٌ ولا جبارٌ، وإن كان قد يُنسب العتيق إلى القِدم وتباعد الزَّمان، لكن هذا من أحد أسباب التسمية في هذا.
أمَّا العتق في الاصطلاح: فهو تحرير العبد وتخليصه من الرِّق -كما عَرَّفه بذلك كثيرٌ من أهل العلم.
ومما يُحتاج إلى الحديث عنه هنا: أن يُعرَف ما حال العتق في أدلة الشريعة -أو في ملة الإسلام- أو ما دَلَّت عليه دلالة الكتاب والسُّنة، وما موقف الشريعة من العتق -أو من الرِّق؟.
فهذه مسألة دقيقة يكثر الكلام عليها، ويكثر إلحاق الشُّبَه بها، ويُراد التَّنقص من شريعة الإسلام، ومن دلالة الكتاب والسُّنة في مثل هذه المسائل.
وينبغي أن نعلم أننا أمة مُسلِّمة لكتاب الله -جلَّ وعَلا- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- متَّبعون لما جاء فيهما، وقد جاء تحرير هذه المسائل على أحسن وجه وأكمل طريق، فنحن لذلك متَّبعون وبه مهتدون، ولله ولرسوله مسلِّمون. فهذا أول ما ينبغي أن يُقال.
ثانيًا: موقف الإسلام من الرِّق هو من أحسن ما يكون في النَّظرة إلى الأرقاء، وتضييق بابه، والحث والتحفيز إلى العتق والخلاص منه، وحفظ حقوق الأرقاء حال رِقْهم وبعد عتقهم، وعدم التطاول على أحدٍ وإدخاله في هذا الباب وهو ليس كذلك.
فمما يدل على هذا ويوضحه: أنَّ الإسلام لم يأت بالرِّق، بل كان موجودًا قبل الإسلام، وإلى سُنيَّات قريبة، ويجب أن يعرف من يقرأ في التاريخ كيف كان الأوربيون والغربيون يَفِدُون إلى أفريقيا ويأخذون ما يُذكر من الطرائق وأسوأ ما يكون من المعاملات، وأفظع ما يُذكر فيها من الحقائق التي دونتها كتب التاريخ.
إذن هو موجود قبل وبعد الإسلام، كان موجودًا عند المسلمين، وعند غيرهم، لكن كيف كان حالهم عند أهل الإسلام؟
الإسلام أغلق أبواب الرق من كل وجه، ولذلك جاء في الحديث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ» ، يعني: جعله رقيقًا، فالتَّسلط على النَّاس لاسترقاقهم هذا مُغلق في باب الشريعة وعند أهل الإسلام.
فلم يبقَ إلَّا طريقٌ واحد يحصل به الاسترقاق وهو ما يكون في الحرب بين المسلمين والكفار، ولا شكَّ أنَّ الرَّق في هذا هو أرحم لهم من أن يبقوا على هذه الملة الفاسدة، فاسترقاق قلوبهم للمخلوقات أفظع وأشد من أن يسترقوا في أوقاتهم وأعمالهم، وهم في ذلك كله محفوظة لهم حقوقهم، وما لهم وما عليهم، وما يطلب منهم، وألا يُكلَّفون ما لا يطيقون، وأن يقوم السيد بحقوقهم.
ولأجل هذا لِتعلموا أيُّها الإخوة -وتتبعوا ذلك على مَرِّ التاريخ- أنَّ في ذهنية كثير من النَّاس -وإن كان هذا الكلام ليس فقهيًّا، لكن مما يُحتاج إليه- يظن بعض الناس أنَّ علاقة السيد بعبده كانت من أسوأ ما يكون، وهذا ليس بصحيح، وهذا مما أخذه الناس من وقائع غير المسلمين مع الأرقاء وغيرهم، أمَّا عند أهل الإسلام فربما كان العبد عند سيده أقرب إليه من ولده، وذلك حتى في الشريعة الإسلامية فإنَّ نفقة العبد مُقدمة على نفقة الولد، فلو أنَّ شخصًا ليس عنده إلا نفقة قليلة وشحيحة فإنه يبدأ بنفسه ثم زوجه ثم عبده ثم ولده.
كما أنَّ السيد مُطالبٌ بأن لا يشق عليه، ومطالب بأن يُزوجه، ومطالب بأن يعفَّه، ومطالب بأن يقوم بحقه؛ كل ذلك مما جاءت به الشريعة، وأن يكاتبه إذا طلب -كما سيأتينا.
أشياء كثيرة جاءت بها الشريعة، ثم انظر إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: «إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» ، للدلالة على نفي الفوارق بينهم، ثم لما كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في حال احتضاره قال: «الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ، يعني: الزموا الصلاة، وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم، وقوموا بحقوقهم؛ لأنهم لما كانوا في الضعف بمكان أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تكون أعظم وصية له وآخر وصية من وصاياه هي العناية بهم وعدم انتقاصهم.
ولذا لَمَّا رَأى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أبا مسعود البدري وقد رفع يده ليضرب عبده، قال مقولته المشهورة: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»، فما كان منه إِلَّا أن أعتقه.
هذا موقف الإسلام من الرق، وسيأتي أنَّ أكثر الكَفَّارات فيها إعتاق الرقيق حتى يحصل تخليص من الرِّق.
والعِتقُ يكون بأي لفظ -على ما سيأتينا- فبمجرد أن تخرج لفظة العتق فيتحقق العتق ولا يجوز له أن يرجع فيه، وسيأتينا أيضًا ما يتعلق بالمكاتبة والتدبير وغيرها، وكلها مما جاء به الشرع في تعجيل إعتاق العبيد والحث على ذلك.
ولأجل ذلك جاء في الشريعة وما قرره الفقهاء في أول هذا الباب من كون أنَّ العتق يعد من أفضل القربات، «أيما رجل أعتق عبده كان فكاكه من النار، أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار، وأيما امرأة أعتقت أمتها -أو عبدها- كان فكاكها من النار، أو أعتق الله بكل عضو منها عضوًا من النار».
هذا ما يتعلق بمقدمة في هذا الباب مهمَّة، لا ينفك الطالب من الحاجة إليها.
قال: (تَحْرِيْرُ اْلعَبْدِ)، قلنا: هو تخليصه من الرق.
قال: (وَيَحْصُلُ بِاْلقَوْلِ وَاْلفِعْلِ)، يعني: إذا قال بالقول: "أعتقك" أو "أنت حر لوجه الله -جلَّ وعَلا" فإنه يكون حرًّا.
والقول -كما ذكر المؤلف- إمَّا أن يكون صريحًا: وهو لفظ العتق والحرية، يقول: "أنت حر، أو حررتك. أو أنت مُحرَّر -على اسم المفعول" كُلُّ ذلك يُعدُّ صحيحًا.
وظاهر كلام المؤلف أنه قال: (وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَ)، أي لفظ. وليس كذلك، فإنهم قد قيَّدوا هذا في بعض كتب الفقهاء، من أنَّ الأمر منه كقول: "حرِّرْه" لا يحصل به عتق؛ لأنه ليس فيه إيقاع العتق.
ومثل ذلك لو قال: "أنت محرِّرٌ" اسم الفاعل؛ لا يحصل به إعتاق.
وكذلك صيغة المضارع، مثل: "أُحرِّرُه"، فلا يحصل به العتق في هذه الحال، وهذا يُذكر في كتاب البيع.
لكن ينبغي أن يُقال: إنَّ الفقهاء نظروا إلى هذه الألفاظ من حيث كونها ألفاظًا، وإن كان بعض أهل العلم مثل الرواية الثانية عند الحنابلة -واختارها بعض المحققين، وهي طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، أنهم نصوا وقالوا: إنَّ العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، وذكر في كتابه "القواعد النورانية" أنه يحصل بكل ما يدل عليه، فهذا إذا انضمَّ إليه إرادة، أما الفقهاء فيتكلمون من حيث هو لفظ صالح لذلك أو لا.
قال: (وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ)، أي إذا قال: "أنت حر لوجه الله" فإنه يُعتق حتى لو قال: أنا ما قصدت، أنا أردت غير ذلك!
نقول: لا يُقبل؛ لأنَّ هذا لفظ مختص بالحرية، فقد تحرر، وفات عليك رقه.
قال: (وَمَا عَدَا هَذَا مِنَ اْلأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْعِتْقِ كِنَايَةٌ، لاَ يَعْتِقُ بِهِ إِلاَّ إِذاَ نَوَى)، يعني: أن القول إمَّا أن يكون صريحًا، وإمَّا أن يكون كناية.
الكناية: أي لفظ يدل على ذلك، فإذا قال مثلًا: "لا سلطان لي عليك، انتهى سلطاني عليك، جعلتك لله -جلَّ وعَلا- اذهب إلى أهلك" ونوى في هذا العتق؛ فإنه يحصل له بذلك.
هذا بالنسبة للفظ، نأتي بعد ذلك إلى الفعل.
{قال المؤلف: (وَأَمَّا اْلفِعْلُ، فَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْه، وَمَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ، مُشَاعًا أَوْ مُعَيَّنًا، عَتَقَ كُلُّهُ، وَإِنْ أَعْتَقَ ذلِكَ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، وَهُوَ مُوْسِرٌ بِقِيْمَةِ نَصِيْبِ شَرِيْكِهِ، عَتَقَ كُلُّهُ وَلَهُ وَلاَؤُهُ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيْبُ شَرِيْكِهِ، وَإِنْ كاَنَ مُعْسِرًا، لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ إِلاَّ حِصَّتُهُ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِيْ عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ اْلعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيْمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ اْلعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»)}.
ذكر الفقهاء -كما ذكر المؤلف هنا- أنَّ العتق يحصل بالفعل في صورة واحدة: وهو أن يكون ذا رحم محرم، وذكرنا ذلك في الدَّرس الماضي، وهو أنه لو تُصوِّرَ أنَّ أحدهما أنثى والآخر رجل لم يصح التزاوج بينهما فإنَّ هذا يكون ذا رحم محرم، فإذا ملك ابن أخيه أو ابن أخته، أو عمته، أو خالته، أو عمه، أو خاله، أو أباه، أو جدَّه، أو جدته، أو نحو ذلك ممن يحرمون عليه؛ ففي هذه الحالة يعتق عليه.
إذن فعله للشراء حقيقته إعتاق؛ لأنه مَن ملك ذا رَحِمٍ عَليهِ عُتِقَ عَليه، كما جاء بذلك الحديث، وحكم بذلك أهل العلم.
إذن الفِعلُ يحصلُ به العِتق، فكأنه لمَّا اشتراه وهو "ذا رحم محرم عليه"، كأنه قَصَدَ عِتقَه؛ لأنَّه لا يُقرُّ أن يكون للإنسان سلطان على ابن أخيه أو ابن أخته؛ لأنَّ القرابة وما فيها من وشيجةٍ وتقاربٍ وتساوٍ؛ يُمنع ما يكون بين العبد وسيده من سلطة وحق واستخدام، فلأجل ذلك لما تعارضتا فإنه إذا مَلَكَ؛ فمن حِكمَةِ الشَّريعة أنَّه يُعتق عليه، فمن اشترى أمه أو أباه أو ابن أخيه أو ابن أخته؛ سواء علم أنه ابن أخيه أو ابن أخته أو لم يعلم بذلك؛ فما دام أنه ظهر هذا فإنه يُحكم بالعتق في مثل تلك الحال.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله- إنَّ من صور العتق بالفعل: (وَمَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ، مُشَاعًا أَوْ مُعَيَّنًا، عَتَقَ كُلُّهُ)، لا يخلو إمَّا أن يكون العبد كله له، وإمَّا أن يكون بينه وبينه شركاء، فإذا أعتق العبد وقال: "يدك حرٌّ لله" فإذا أعتق بعضه فإنه يسري إلى جميعه ويعتق عليه؛ لأنه إذا كان يعتق عليه وهو معه شركاء فمن باب أولى أنه يعتق عليه إذا لم يكن معه شركاء.
فهذا الذي يُسمى في باب العتق بـ "السِّراية" فيسري إلى جميعه، ويكون عتيقًا لله -جلَّ وعَلا- وإن لم يقصد إلى عتق بعضه أو جزءًا من أجزائه.
والحال الثانية: إذا كان عبد مشترك بينه وبين غيره: فإذا كان يملك هو نصفه، ويملك صاحبُه النصفَ الآخر، ثم قال: "نصيبي -أو شقصي- حر لله جلَّ وعَلا" فنقول هنا: لما أعتق نصيبه عتقَ، ثم تسري الحرية إلى جميعه؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث البخاري: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي عَبْدٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ» ، واللفظ المتفق عليه الذي أورده المؤلف أظهر في هذا من كل وجه «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِيْ عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ اْلعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيْمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ اْلعَبْدُ» .
إذن من أعتق شقصه -النصف- فنقول: إن كان عنده مالٌ يكفي لشراء النِّصف الثَّاني، فنذهب إلى السوق وننظر كم يساوي هذا العبد لو بيعَ، فإذا قالوا مثلًا: يساوي ستة عشر ألفًا وخمسمائه، فمعنى ذلك أنَّ نصيبه هو ثمانية آلاف ومائتان وخمسين، فبناء على ذلك يُعطي شريكه نصيبه، ويعتق العبد لله -جلَّ وعَلا.
أمَّا إذا لم يكن مُوسرًا، أو ما عنده متعلق بحاجاته الأصلية التي هي قضاء النفقة ونحو ذلك؛ ففي مثل ذلك نقول: عُتِقَ مِنَ العبدِ بقدر ما أُعتق، وفي هذه الحال يُسمى عند الفقهاء "المُبعَّض"، يعني: فيه حريَّة وفيه عتق، وتأتي عليه الأحكام من الجهتين، أحيانًا يتعاطى أحكام الحرية، وأحيانًا يتعاطى أحكام الرقيق، فيستخدمه سيده بقدر ما فيه من الرِّق، سواء يوم ويوم -إذا كان له النصف- أو يوم ويتركه يومين إذا كان له الثلث فقط، وهكذا، ولها تفاصيل وأحكام ذكرها الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
{قال -رحمه الله: (وَإِنْ مَلَكَ جُزْءًا مِنْ ذِيْ رَحِمِهِ، عَتَقَ عَلَيْهِ بَاقِيْهِ إِنْ كَانَ مُوْسِرًا، إِلاَّ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْمِيْرَاثِ، فَلاَ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلاَّ مَا مَلَكَ)}.
هذه مسألة قريبة من المسألة الماضية، وهي: لو أنَّ شخصًا الآن رأى شخصًا يبيع في السوق نصيبه في العبد، فقال: "من يشتري نصيبي في هذا العبد". كم نصيبك في هذا العبد؟ قال: (10 %)
فهذه النسبة (10 %) تساوي خمسة عشر ألفًا لكون هذا العبد قويًّا وحاذقًا في الأعمال ونحوها، فأعطاه خمسة عشر ألفًا.
هنا إذا ملك ذا رحم يُعتق عليه، فهنا كأنه جزءه عتق عليه، فكأنه قصد إعتاق بعضه، فبناء على ذلك يسري العتاق إلى جميع.
ونقول في مثل هذه الحال: إنه يعتق الباقي، فيُنظر أيضًا إن كان موسرًا يعطي الآخرين حقهم (90 %) يعني: مائة وخمسة وثلاثين في مثل هذه الصورة، فيعطيهم حقهم ويعتق عليه العبد.
أمَّا إذا لم يكن قادر، فيكون مثل مسألة المبعَّض، ففيه بعض الحرية بهذا القدر، وفيه بعض الرِّق بقدر ما بقي فيه -على ما ذكرنا.
قال: (إِلاَّ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْمِيْرَاثِ، فَلاَ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلاَّ مَا مَلَكَ)، يقولون: إنَّ الملك بالميراث هو ملك قهريّ وليس اختياري، فكأنَّ هذا الذي ملك جزءًا من هذا العبد ملكَه بغير اختياره، فلم يكن منه فعل لإرادة إعتاقه، فإذا كان اشتراه -حتى لو اشترى جزءًا- وهو يعرف أنه لا يملك ذا رحمه فكأنه قصد إعتاقه، ولكن هنا يقول: أنا لا أدري أصلًا أنه دخل في ملكي؛ لأن الملك في الميراث قهري، بمجرد موت الميت يستحق الورثة الميراث.
صورته: لو كان الذي مات يرثه ابن عمه، وله عبد، وهذا العبد بالنسبة له ابن أمه؛ فالابن لأم لا علاقة له بهذا، فيكون ملك منه جزءًا ليس داخلًا فيما يعتق عليه.
{قال -رحمه الله: (فَصْلٌ فِيْ تَعْلِيْقِ اْلعِتْقِ عَلى شَرْطٍ وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ،فِيْ وَقْتٍ سَمَّاهُ، أَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلى شَرْطٍ، عَتَقَ إِذاَ جَاءَ اْلوَقْتُ أَوْ وُجِدَ الشَّرْطُ، وَلَمْ يَعْتِقْ قَبْلَهُ وَلاَ يَمْلِكُ إِبْطَالَهُ بِاْلقَوْلِ، وَلَهُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيْهِ، وَمَتَى عَادَ إِلَيْهِ، عَادَ الشَّرْطُ)}.
هذا الفصل في تعليق العتق بالشرط.
وهنا لابد أن نعرف الحديث: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، الطلاق، والعتاق، والنكاح» ، عند أهل السنن، وقوَّاه جماعة من أهل العلم، والعمل عليه عند أهل العلم.
فمتى ما قال: "أنت طالق" لزوجته طُلِّقَت، هازلًا، جادًّا، قاصدًا، غير قاصد؛ فإنها تُطَلَّق في كل الأحوال - وسيأتي الكلام عن هذا مفصَّلًا.
وكذلك لو قال لعبد: "أنت حر لوجه الله"، وكذلك إذا كان على وجه التعليق، فإذا قال لعبده: "أنت حر" في وقت سمَّاه، كأن يقول: "أنت حر في رمضان، أو أنت حر في وقت الحج، أو أنت حر في يوم الخميس"، أو نحو ذلك، فالعتيق في زمان واحد عتيق في جميع الأزمنة؛ لأنه لا يتصور أن يكون عتيقًا في وقتٍ دون وقت.
كما لو قال: "أنتِ طالق في شهر"، لا نقول: إنها تطلق في هذا الشهر ثم تعود إليه، فإذا وقع الطلاق لم يرتفع، وكذلك إذا وقع العتق لم يرتفع.
وكذلك لو قال: "أنتِ حرة في مكان كذا، أو في هذه القرية"، فنقول: كانت في هذه القرية أو في غيرها فهي حرة لله -جلَّ وعَلا- في كل حال.
إذن لو قال لعبده أو أمته: "أنتَ حرٌّ، أو أنتِ حرَّة في وقت سمَّاه"؛ عتق في جميع الأوقات والأحوال.
قال: (أَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلى شَرْطٍ)، لو قال: "إذا جاء زيد من السفر فأنت حرٌّ، أو: إذا جاء أبي من سفره ورجع فأنتِ حرة لوجه الله -جلَّ وعَلا؛ ففي مثل هذه الحال نقول: متى ما وقع المشروط وقع العتق.
المشروط هو: مجيء والده، وحضوره بعد غيابه، وانتهاء سفره.
وهنا ينبغي أن يُعلم أنه إذا وقع العتق معلَّقًا على شرطٍ -أو وقع الطلاق- فإنه لا يُرفع، فلا يأتي واحد ويقول: أنا قلت: "إذا جاءت أمي من الحج فأنتِ حرة لوجه الله"، وأنا رَجعت!
العتق خرج، وإذا خرج لم يَرجع، لكن متى ما صادف المحل الصحيح وقع، فإذا كان مُعلَّقًا بهذا الشرط فإنه ينتظر متى يحصل الشرط، فإذا حصل الشَّرط وقع، وهذا يُسمى عند الفقهاء بـ "الإيقاع والوقوع"، فإذا حصل الإيقاع -الذي هو القول- انتهى الأمر، ثم يُحتاج إلى الوقوع، فإمَّا أن يقعا في آنٍ واحدٍ كأن يقول: "أنت حر لوجه الله" هذا إيقاع للحريَّة ووقع لها في آنٍ واحدٍ.
أمَّا إذا قال: "أنت حر لوجه الله بعد رمضان" فهذا إيقاع. والوقوع يحصل بعد رمضان.
إذن إذا علَّق عِتقه على شرط يُعتق إذا جاء ذلك الوقت، أو وُجدَ الشرط ولم يعتق قبله، فقبل وقوع الشرط هو عبدٌ عنده يتعلق به سائر ما يتعلق بالعبيد من أحكام، فله أن يطأ الجارية، وله أن يبيع العبد، وله أن يستخدمه، وله أن يفعل به ما يُفعل بالعبيد.
قال: (لاَ يَمْلِكُ إِبْطَالَهُ بِاْلقَوْلِ)، كما قلنا قبل قليل: إنه إذا خرج الإيقاع لم يكن للإنسان أن يرده، وإنما متى ما وافق الإيقاع محلًّا صحيحًا وقع، وإلا فلا.
ولذلك قال هنا: (وَلَهُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيْهِ)، لو قال مثلًا: "أنت حرٌّ لوجه الله إن دخلت زوجتي من هذا الباب"، فخاف أن تدخل فيذهب عليه العبد فباعه، فنقول هنا: باعه قبل أن تدخل زوجته صحَّ؛ لأنه باع عبدًا يملكه، فلمَّا صحَّ ملكه صحَّ تصرفه فيه.
فبناء على ذلك لو دخلت زوجته بعد أن بيع؛ فما صادف محلًّا صحيحًا، فنقول: فات عتقه.
لكن لو ملكه بعد ذلك بأي حال من الأحوال، سواء بإرث، أو ببيع، أو بإهداء، ثم دخلت زوجته؛ وقع العتق، فالعتق يقع متى ما توافرت شروطه وحصل وقوعه.
أيضًا من جهة كونه عبدًا الآن يتصرف فيه كما يتصرف في سائر العبيد، فله بيعه، وهبته، والتصرف فيه، ومتى عاد إليه عاد الشَّرط، فلو باعه فرجع، أو لو وهبه لوالده ثم ورث والده، فدخلت زوجته من الباب -أو نحو ذلك من الشروط- فيعتق عليه في تلك الحال.
{قال -رحمه الله: (وَإِنْ كَانَتْ اْلأَمَةُ حَامِلاً حِيْنَ التَّعْلِيْقِ وَوُجِدَ الشَّرْطُ،عَتَقَ حَمْلُهَا وَإِنْ حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ فِيْمَا بَيْنَهُمَا، لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَ)}.
يعني: إن كانت اْلأَمَةُ حاملًا حين التَّعْلِيْقِ، فإنه تضمَّن التعليق كل أجزائها، وولدها جزء من أجزائها فتناوله الحكم، فبناء على ذلك إذا دخلت الزوجة عتق الأمة، وعتق ولدها، وإذا لم يوجد الحمل قبل ذلك فلا.
قال: (وَإِنْ حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ فِيْمَا بَيْنَهُمَا، لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَ)، يعني أنه قال: "إن دخلت زوجتي فأنتِ حرة لوجه الله"، ثم حملت بعد ذلك ووضعت، ثم دخلت زوجته، فنقول في مثل هذه الحالة: إنما تعتق هي ولا يعتق ولدها.
طبعًا ودَّنا نستعجل، كي نعطي هذه الأبواب قدرًا من الاهتمام، ونوفر كثيرًا من الأوقات والتفصيلات إلى الأبواب التي أكثر حاجة في النكاح، فلا نتركها فتهمل هذه الأبواب وتنسى، ولا نزيد في تفصيلٍ وغيرها أهم منها والحاجة داعية إليه أكثر في ذلك.
{قال -رحمه الله: (باَبُ التَّدْبِيْرِ
إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِيْ، أَوْ قَدْ دَبَّرْتُكَ، أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ صَارَ مُدَبَّرًا، يَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، إِنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ وَلاَ يَعْتِقُ مَا زَادَ إِلاَّ بِإِجَازَةِ اْلوَرَثَةِ، وَلِسَيِّدِهِ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَوَطْءُ اْلجَارِيَةِ وَمَتَى مَلَكَهُ بَعْدُ، عَادَ تَدْبِيْرُهُ)
}.
التدبير: بابٌ مِن أبواب العتق، وهو مختص به، والتدبير أصله من دابرَ الرجل يدابر مدابرة، وهو اسم للموت، دابر الرجل أي: مات، ومنه سُمِّيَ التَّدبير تدبيرًا باعتبار أنَّ السيد يُعلق عتق عبده بموته، الذي هو المدابرة، وهو إدبار حياته وإقبال آخرته.
وينبغي أن يُعلم أنَّ هذا اللفظ من الألفاظ المختصة بالعتق، فلا يُطلق التدبير على شيءٍ آخر، فالوصية هي دبر الحياة، ومع ذلك تختلف عن التدبير، فالتدبير يتعلق بالعتق لا غير، وأمَّا الوصية فلها باب آخر. فهذا هو أصل معنى هذه الكلمة.
أمَّا المراد بها في اصطلاح الفقهاء: فهو أن يقول السيد لعبده: "أنت حر دبر حياتي، أو بعد موتي"، سواء جاء بلفظ التدبير الذي هو لفظ صريح في ذلك، أو جاء بما يدل عليه وهو قوله: "أنت حر بعد موتي"، فقوله: "بعد موتي" هو لفظ من ألفاظ التدبير، فيكون هذا العبد مدبرًا، وإذا كان مدبرًا فمعنى ذلك أنه بمجرد موت السيد يعتق بالشرط على ما سيذكر المؤلف -رحمه الله تعالى.
هذا بالنسبة له بعد موت سيده؛ قبل الموت هو عبد من العبيد، وهذا سيتبين معنا بما قاله المؤلف.
فإذا قال: "دبَّرتك، أو أنت مدبَّر" صار مدبَّرًا يعتق بعد موته.
قال: (إِنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ)، هذا هو الشرط، إذا كان يخرج من ثلثه، فإذا كان هذا السيد ليس عنده إلا هذا العبد، ففي مثل هذه الحال نقول: لا يعتق منه إلا بقدر الثلث، ويبقى الباقي للورثة، فيكون هذا العبد المدبّر مبعَّضًا.
أمَّا إذا كان عنده مال كثير ويخرج من ثلثه؛ فبناء على ذلك يعتق كله، ويكون حرًّا لوجه الله -جلَّ وعَلا؛ لأنَّه خرج من ثُلث ماله؛ لأنَّ التَّدبير داخل في التصرفات بعد الموت، وهي إنما تنفذ للإنسان في ثلث ماله، قال -صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ» ، فلم يكن التبرع بعد الموت إلا بالثُّلث، سواء كان ذلك بتدبير، أو كان بوصيَّة أو بغيرها.
قال: (وَلاَ يَعْتِقُ مَا زَادَ إِلاَّ بِإِجَازَةِ اْلوَرَثَةِ).
إذن إذا كان الثُّلث يحمله انتهى الأمر، أمَّا إذا لم يكن يحمله الثُّلث وأجاز ذلك الورثة أيضًا عتق العبد، فإن لم يكن قد حمله الثلث ولم يجز الورثة ذلك؛ ففي مثل هذه الحال يعتق ثلثه وبقي ثلثاه إرثٌ يتوارثه هؤلاء الورثة.
ثم يقول: (وَلِسَيِّدِهِ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ)، مثلما قلنا في المعلَّق، إذا قال: "أنت حر دبر حياتي" فالعتق إنما يكون بعد الموت، فبناءً على ذلك حال حياة السيد هو عبد من العبيد يتعلق به سائر الأحكام، ومن ذلك أنه يجوز للسيد أن يبيعه، وأن يهبه، وأن يعتقه، وأن يقضي به دينًا، وسائر التصرفات.
قال: (وَلِسَيِّدِهِ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَوَطْءُ اْلجَارِيَةِ)، لو كانت المُدبَّرة أمةً فوطئها فله منفعة بُضعها؛ لأنه مالك لرقبتها وعينها، فلو ملك عينها ملك الانتفاع ببضعها.
قال: (وَمَتَى مَلَكَهُ بَعْدُ، عَادَ تَدْبِيْرُهُ)، لو أنَّه باعه انتهى التدبير، فإذا مات سيده الثاني لا نقول: إن هذا مدبَّر؛ لأنَّ الذي دبَّره هو السيد الأول، فالحكم منوطٌ به ومتعلق به، لكن لو أنَّه حنَّ إلى عبده الأول، أو كان يرى منه حسنًا في المعاملة لم يراها من غيره، أو أنَّ العبد يحب سيده الأول أكثر من غيره، فبناءً على ذلك اشتراه مرة أخرى؛ فنقول: يعود معه التدبير.
وهنا أذكر لطيفة حتى يعرف الناس كيف العلاقة بين العبد والسيد: أنا أعرف -من هو موجود الآن- أنَّ عبدًا كان عنده فأعتقه وزوجه ابنته، وأعرف مَن كانت له أَمَةً فأعتقها وتزوجها وولد له منها.
قال -رحمه الله: (وَمَا وَلَدَتِ الْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ اْلوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا، فَلَهُ حُكْمُهَ)}.
الأمة إمَّا أن يستمتع بها سيدها، فهذا له حكم، فإذا ولدت تكون أم ولد، لا يجوز بيعها، وتعتق بموت سيدها من كل ماله لا ثلثه -وسيأتي الكلام على ذلك.
لكن لو أَنَّها ولدت من غير السيد لكونها زُوِّجت لشخص آخر؛ لأنَّ الأَمَة إمَّا أنَّ سيدها لا يستمتع بها لكونه لا يرغب فيها، أو لكونه لا يقدر، أو لغير ذلك، وهي شبقة بها رغبة إلى النِّكاح والشَّهوة؛ فيلزم سيدها أن يزوجها، فلو زوجها -سواء زوجها عبدًا أو حرًّا بشرطه وهو أن يكون عادمًا طَول الحُرَّة، ويخاف على نفسه الزنا كما سيأتي في باب النكاح فيجوز له أن يتزوج الأمة- فإنه إذا وُلدَ له منها ولد، فهذا الولد هو نتاج مِلكهن فيكون عبدًا للسيد، فلأجل ذلك قال: (وَمَا وَلَدَتِ الْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ اْلوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا، فَلَهُ حُكْمُهَ)، يعني: أنَّ البنت أمة لهذا السيد، أو الولد عبد للسيد أيضًا.
قال -رحمه الله: (وَيَجُوْزُ تَدْبِيْرُ اْلمُكَاتَبُ وَكِتَابَةُ اْلمُدَبَّرِ، فَإِنْ أَدَّى، عَتَقَ، وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ، عَتَقَ إِنْ حَمَلَ الثُّلُثُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَإِلاَّ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَسَقَطَ مِنَ اْلكِتَابَةِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ، وَهُوَ عَلى اْلكِتَابَةِ بِمَا بَقِيَ)}.
في المسألة الماضية في قوله: (وَمَا وَلَدَتِ الْمُدَبَّرَةُ)، يعني: إذا كانت مدبَّرة ثم عتقت عتق معها ولدها، وكذلك المكاتبة إذا أدت الأقساط كلها ومعها ولد من غير السيد فتعتق، أمَّا أحكامها إذا كان ولد لها من السيد فالولد حر، وأم الولد لا يجوز بيعها وتعتق، وسيأتي فصل خاص في ذلك.
قوله بعد هذا: (وَيَجُوْزُ تَدْبِيْرُ اْلمُكَاتَبُ)، المكاتب: مَن كاتب سيده على العتق، يعطيه أقساطًا في شهرين فأكثر؛ فيجوز أن يدبره، فأيهما حصل له به العتق أولا فالحمد لله؛ لأنَّ الشرع يتشوف إلى عتقه في أقرب وقت، فإذا مات السيد قبل أن تنتهي الكتابة عتق إن حمله الثلث -كما قلنا فيما مضى- وإن انتهت أقساط الكتابة قبل موت السيد فيعتق، ولا يحتاج إلى التدبير.
وكتابة المدبر كذلك، فله أن يكاتَب؛ لأنه قد ينتهي من الكتابة في حال الحياة، فيستفيد من ذلك سرعة العتق التي يصبو إليه.
قال: (فَإِنْ أَدَّى، عَتَقَ، وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ، عَتَقَ إِنْ حَمَلَ الثُّلُثُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ)، يعني: لو كان مكاتبًا وهو مدبَّر، لما يموت السيد سيُعتق من الثلث، فلو افترضنا أنه بقي من دين الكتاب مائة وستين ألفًا، والثالث أكثر من ذلك، ثلاثمائة ألفا -على سبيل المثال- فقنل: عتق؛ لأن الثالث يحمل المائة وستين وزيادة.
لكن لو كان العكس، بأن كان الثلث مائة ألفًا، والذي بقي عليه من دين الكتابة مائة وستين ألفًا؛ فنقول: يعتق منه بقدر الثلث الذي هو مائة ألفًا، وتبقى الستين ألفًا دينًا على كتابته يؤديها لورثته حتى ينتهي، فيعتق بعد ذلك.
ولهذا قال: (وَإِلاَّ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَسَقَطَ مِنَ اْلكِتَابَةِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ، وَهُوَ عَلى اْلكِتَابَةِ بِمَا بَقِيَ).
قال -رحمه الله: (وَإِنِ اسْتَوْلَدَ مُدَبَّرَتَهُ بَطَلَ تَدْبِيْرُهَ)}.
إن استولدها: يعني: جعلها أم ولد بأن جامعها فَوُلِدَ له منها، فتكون أم ولد، وأم الولد لها أحكام تختلف عن التدبير، كلهم يُعتَقون بالموت، ولكن ما الفرق؟
المدبر: يجوز بيعه، أمَّا أمُّ الولد: فلا يجوز بيعها.
المدبر: يعتق من ثُلث المال. أمَّا أم الولد: فتعتق من جميع المال. واعتبارها أم ولد هو أنفع لها، والولد حرٌّ من أول ولادته.
قال -رحمه الله: {(وَإِنْ أَسْلَمَ مُدَبَّرُ اْلكَافِرِ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ، حِيْلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مِنْ كَسْبِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا كَسْبٌ، أُجِبرَ عَلى نَفَقَتِهِمَا، فَإِنْ أَسْلَمَ، رُدَّا إِلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ عُتِقَ)}.
الكلام هنا عن الكافر الذي في بلادنا وهو تحت حكم المسلمين، فالكافر لو كان عنده عبد مسلم لا يقر عليه؛ لأنَّ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، ولكن لو كان مدبرًا فنحن نعرف أنه يؤول أمره إلى العتق، فنبقيه على ما هو عليه، ولا ننزع يد الكافر منه؛ لأنه قد يأخذ الشخص ولا يدبره، فيبقى عبدًا مدة أطول من ذلك، فنقول: يبقى عند الكافر في حال أنه دبَّره، ولكن لا تُجعَل للكافر يدًا عليه.
ولذلك قال: (حِيْلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَ)، أي: بينه وبين المدبر أو أم الولد.
قال: (وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مِنْ كَسْبِهِمَ)، إن كان لهما كسبٌ فينفق عليهما من الكسب، لأنه الآن حيل بينه وبينه فيستفيد منه، فبناء على ذلك ينفق عليهما من كسبهما.
وإذا لم يكن لهما كسب فالأصل أن هذا العبد عبدٌ لهذا الكافر، وأن أم الولد أمة له، والأمة والعبد ييلزم السيد النفقة في ذلك.
قال: (فَإِنْ أَسْلَمَ، رُدَّا إِلَيْهِ)؛ لأنَّ الحيلولة بينه وبين كفره، لئلا يتسلط كافر على مسلم، فإذا أسلم انتفى المانع من أجل ذلك.
قال: (وَإِنْ مَاتَ عُتِقَ)، لأن المدبر يعتق بموت سيده، وكذلك أم الولد.
{قال -رحمه الله: (وَإِنْ دَبَّرَ شِرْكًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ وَهُوَ مُوْسِرٌ، لَمْ يَعْتِقْ سِوَى مَا أَعْتَقَهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ فِيْ مَرَضِ مَوْتِهِ وَثُلُثُهُ يَحْتَمِلُ بَاقِيَهُ، عَتَقَ جَمِيْعُهُ)}.
يعني: لو كان قد دبَّر شِركًا له في عبدٍ فقال: "أنت حر دبر حياتي"، فالسراية لا تحصل في مثل هذا؛ لأنَّ السِّراية تتعلق بالذِّمَّة، والميِّت قد مات فلا ذمَّة له، فبناء على ذلك لا يعتق منه إلا بقدر نصيبه إذا كان نصيبه يحتمل الثالث، وإلا فلا.
أمَّا إذا كان أعتقه في مرض الموت فهو يسري بالشرط إن كان مُوسرًا ويُمكن إعطاء الشركاء بقدر ما لهم من النصيب في هذا العبد.
{قال -رحمه الله: (باَبُ اْلمُكاَتَبِ
اْلمُكَاتَبَةُ: شِرَاءُ اْلعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ فِيْ ذِمَّتِهِ، وَإِذَا ابْتَغَاهَا اْلعَبْدُ اْلمُكْتَسِبُ الصَّدُوْقُ مِنْ سَيِّدِهِ)
}.
المُكاتَب: هو عبد وُصِفَ بالكتابة، باعتبار أنه كاتب سيده على أن يعمل ويعطيه أقساطًا مدَّة معيَّنة، متى ما وفَّى وكمَّل المبلغ الذي طُلبَ مه فإنه يحصل له العتق، وهذه الكتابة قد أمر الله -جلَّ وعَلا- بها في كتابه، قال تعالى: ﴿والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خير﴾ [النور:33]، والسنة دالَّة على ذلك، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر من الثلاثة الذي حقٌّ على الله عونهم «وَالمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ» ، أو كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
إذن المكاتب: هو العبد الذي كاتبه سيده، فهو عبد، ولكنه اتَّصف بصفة -وهي مكاتبة السيد- فمآله إلى العتق.
لكن ينبغي أن يُعلم -كما سيأتي- أنه عبدٌ حتى يؤدي جميع ما عليه، ولهذا جاء في الحديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» .
وحقيقة المكاتبة كما قال المؤلف: (شِرَاءُ اْلعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ فِيْ ذِمَّتِهِ، وَإِذَا ابْتَغَاهَا اْلعَبْدُ اْلمُكْتَسِبُ الصَّدُوْقُ)، وتكون على ؟؟؟ كما سيأتي، ويؤدي عليه.
والأصل أنَّ العبد وما عمل وما اكتسب هو لسيده، إلا في هذه المسألة فإنه يكتسب لذمته، ويجمع المال له، وله أن يتَّجر ويعمل، ويؤدي لسيده من ذلك.
{قال -رحمه الله: (اسْتُحِبَّ لَهُ إِجَابَتُهُ إِلَيْهَا؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالى: ﴿وَالَّذِيْنَ يَبْتَغُوْنَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوْهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْرً﴾ )}.
الأصل في حكم المكاتبة: أنها مستحبة في قول جماهير أهل العلم لهذه الآية ﴿فَكَاتِبُوْهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْرً﴾ .
ومحل الاستحباب عند الحنابلة وعند جمع من الفقهاء: أن ذلك منوط بالقيد وهو قوله: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْرً﴾ ، كأن يكون صالحًا، وألا يظن أنه يعود إلى بلاد الكفر فيكون في مثل هذه الحال مكروهًا، وأن يكون ذا كسبٍ؛ لأنَّه لو لم يكن ذا كسب فإنَّ بقاءه على سيده أحسن له حتى ينفق عليه؛ ولأنَّه لو ذهب لن يجد نفقة فيكون ذلك وبالًا عليه.
إذن الأصل أنها تُستحب بهذا القيد الذي ذكره الله -جلَّ وعَلا- في كتابه.
لعلَّ أن يكون للحديث بقية، أسأل الله لي ولكم دوام التوفيق والسداد، والإعانةوالرشاد، وجزى الله القائمين على هذه المنظومة المباركة والبناء العلمي الرصين، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يعيننا على اتباع ما جاءت به أدلة الكتاب والسن، والله تعالى الموفق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

{وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم، جزاكم الله خيرًا على هذه الإفادة، وإن كانت المسائل فيها نوع من الإشكال، لكن إن شاء الله تتيسر في الحلقات القادمة}.
أي إشكال عند أحد الإخوة يمكن التراسل عبر الموقع.
{ولا أنسى أن أشكركم أنتم أيها المشاهدون على حسن إنصاتكم واستماعكم، إلى أن نلقاكم في الحلقات القادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع دائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك