الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

5748 12
الدرس الأول

عمدة الفقه (5)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في درسٍ جديدٍ مِن دُروسِ البناء العلمي، وأرحب باسمي واسمكم جميعًا بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان؛ والذي سيتولى درس متن عُمدة الفقه للموفق ابن قدامة المقدسي -رحمه الله.
أهلا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحياك الله.
{سنبدأُ في هذا الفصل -بإذن الله تعالى- من قول المؤلف: (باَبُ اْلوَلاَءِ)
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باَبُ اْلوَلاَءِ
اْلوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنِ اخْتَلَفَ دِيْنُهُمَا؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا اْلوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنِ اخْتَلَفَ دِيْنُهُمَ»، وَإِنْ عَتَقَ عَلَيْهِ بِرَحِمٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ تَدْبِيْرٍ أَوِ اسْتِيْلاَدٍ، فَلَهُ عَلَيْهِ اْلوَلاَءُ، وَعَلى أَوْلاَدِهِ مِنْ حُرَّةٍ مُعْتَقَةٍ أَوْ مِنْ أَمَتِهِ)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى اله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد: فأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزدنا مِنَ العِلم والهُدى وَمِن البر والتُّقى، وأن يعقبنا العمل والتعليم، وأن يجعل ذلك خالصًا لوجهه الكريم.

أولًا: بادئ ذي بدء أقول: من رحمة الله -جلَّ وعَلا- أن جعل للعمل منارة، وجعل للعلم بابًا يلجه الناس وَيَرِدُونَ إليه، وينتفعون منه، وينهلون منه، ومن ذلك هذا المنهل العذب الصافي -بإذن الله جل وعلا- أسأل الله أن يرفع لواءه وأن يُظهر أثره، وأن يُبقيَ العلم فيه، وجذوة ناره دائمة هادية للخلق كما يكون فيه صلاح العلم والعمل، واقتفاء سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتوسع بالأحكام، وهداية لِسُنَّةِ خير الأنام -عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا: من الأهمية بمكان أن نقدم بمقدمة في باب الولاء.
ربما يستغرب كثير من الناس هذا الباب، وربما لم يكونوا قد سمعوا به من قبل، وربما لا يحتاجون إليه كثيرًا في الواقع.
فلماذا ندرسه؟
ولماذا نخصص له هذا الوقت مع هذين الاعتبارين -قلة الحاجة إليه، وعدم المعرفة به فيما سبق؟
هذا من ابتلاء الله -جلَّ وعَلا- لعباده، أن جعل من الأحكام ما هو ظاهر يُعالجه الناس ويحتاجون إليه في أيامهم ولياليهم، فكانت النفوس منبعثة إلى تعلمه والعمل به، إلى مراجعته ومداولته وما يتبع ذلك من أشياء.
وثَمَّ أبوابٌ من العلم قليل حصولها، أو قليل ورودها، فكان تعلم هذا العلم لا تتحرك إليه النفوس إلا مَن اصطفاهم الله -جلَّ وعَلا- حتى يُبقوا العلم فيهم، وحتى لا تختفي هذه السنن، وحتى لا يضيع هذا الخير، وما علماء الإسلام الذين تتابعوا باختلاف مذاهبهم وأماكنهم وقرونهم على مرِّ التأريخ وما لحق بهم من أعباء، وما احتفَّ بهم من بلاء، وما اشتدَّ عليهم من أمر؛ لأنَّ العلم في طبعه صعب، ولا يُعطاه إلا من انقطع إليه، ومَن انقطع إليه فات عليه كثير من المصالح الدنيوية، إلا أنهم حملوا هذا العلم واستبقوه، ونقَّحوه وحفظوه لنا حتى وصل إلينا، وحقٌّ علينا أن نوصله إلى من بعدنا، وحق علينا أن نجعله صافيًا غير مُتَعَكِّر، وأن نبقي هذا النهر الزلال يمشي على ما رسمه الأولون، وعلى ما سطَّره العلماء المتقدمون، إن كانوا من مذهب الحنابلة، أو من مذهب الشافعية، أو المالكية، أو الحنفية، على حدٍّ سوء.
فلأجل ذلك دراسة هذا الباب من هذا الأصل؛ باعتبار أنَّ علماء الإسلام قد حفظوه، وجاءت به السنن، وإن لم نحتج إليه كثير؛ لكنه داخل في فروض الكفايات التي لابد من دراستها والعلم بها واستبقائها حتى لا يدخل إليها الخلل، ولا يأتي إليها شيءٌ من الزلل، وهذا يظهر في أبواب كـ "باب الولاء"، ويظهر في مسائل من أبواب أُخر، فربما درستَ في بعض الأبواب مسائل يقل وقوعها، ويظن النَّاس أنَّ العلماء تكلفوا في إيرادها، وليس الأمر كذلك، ولكن العلماء يعلمون أنه ربما تتابع على النَّاس في زمان مِنَ الحاجة إلى هذه المسألة أو تلك، وإن كانوا لم يحتاجوا إليها، فيبقوها حتى مَن احتاج إليها وجدها، ومَن بحث عنها عَلِمَ بها على أصولٍ صحيحة، فلأجل ذلك كان هذا التنبيه مهمًّا لطلبة العلم؛ لأنَّ الإنسان لو كان لا يدرس من العلم إلا ما يحتاج إليه في نفسه ما درس عُشر معشار العلم!
مثلًا: كثيرٌ من أبواب أو مسائل الطهارة لا يحتاج إليها، وكثير من أحكام الجنازة ما يحتاج إليها، ربما باب الزكاة أكثره لا يحتاج إلى العلم به، كثير من المعاملات مثل: السَّلِم والحوالة والعَارية يحتاج منها إلى مسألة أو مسألتين فقط؛ لكنَّ العلم مبناه على تحمل فرض الكفاية الذي جعله الله -جلَّ وعَلا- وظيفة أهل العلم والعلماء وطلبة العلم ومَن سار على طريقتهم، فلأجل ذلك كان إحياء هذا الباب ودراسته.
من جهة أخرى: لما كان الأمر بهذا الحال فأرجو أن نجمع بين الأمرين، فنجعل الأمر مبنيًا على شيء من الاختصار والإجمال للعلم بأصل الباب وبأمهات المسائل فيه، وترك تفاصيل ذلك لضيق الوقت وللحاجة إلى مسائل أهم من ذلك.
هذه مقدمة بين يدي الكلام على هذا الباب.
ما دام أنك قرأت "باب الولاء"؛ فالأصل أنَّ البابَ هو ما يجمع فصول ومسائل.
والولاء له تعريف لُغوي واصطلاحي عند الفقهاء -رحمهم لله- وأهل الفرائض.
الوَلاء (بفتح الواو) في اللغة يعني: المِلك.
وحقيقته في اصطلاح الفقهاء وأهل الفرائض: أنه حكم شرعي يَثبت بالعتق أو تعاطي سببه.
ما معنى "حكم شرعي"؟
يعني: أنَّ مَن استحق الولاء فقد حكم له الشرع بأحكام سيأتي بيانها.
كيف يحصل له إثبات هذا الحكم الشرعي؟
إذا تعاطى العتق. فمن أعتق عبدًا فإنه يثبت له الولاء، سواء أعتقه بفعله أو بتعاطي سببه.
ما معنى "بتعاطي سببه"؟ لأنها كلمة فيها شيء من الخفاء.
نعني بها: أنَّ مَن أعتق عبدًا استحق ولاءه، فلو أنَّ هذا العبد الذي أُعتق اغتنى ومَلَكَ عبدًا فأعتقه؛ فولاء عتيق المعتَقِ لمعتقه الأول. هذا معنى قولنا: "أو بتعاطي سببه".
بمَ ثبت الولاء في الشرع؟
بالكتاب والسنة، كما قال الله -جلَّ وعَلا: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ [الأحزاب:5]، هذا معنى ما يحصل به الولاء وما يترتب عليه من آثار.
والأحاديث في ذلك كثيرة، النبي -صلى الله عليه وسلم- في أَشْهَرِ هذه الأحاديث وأظهر ما تدل عليه من المعنى أنه قال: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ، فكما أنَّ النَّسبَ لُحمة لا تنفك، فلا يمكن أن يقول واحد لأخيه: هذا ليس أخي! أو يقول لأبيه: ليس أبي!
فكذلك الولاء حكم ثابت كثبوت النَّسب لا يتغير ولا يزول، وستأتي الإشارة إلى ذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حكم بالولاء فقال: «فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وقال: «لعن الله من انتسب إلى غير مواليه» ، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على ذلك، وهذا اتفاق الصحابة وإجماع أهل العلم، لا يختلفون في الحكم به والقول بما جاءت به دلالات هذه النصوص من الكتاب والسنة.
وهنا أشار المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى الولاء في قوله: (اْلوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)، سيأتي كيفية الحكم بالولاء لمن أعتق، ونرجؤها قليلًا حتى نأخذ أول المسائل المتعلقة بذلك.
قال: (وَإِنِ اخْتَلَفَ دِيْنُهُمَ). ما أثر الولاء؟
الولاء له أثر واسع، وأثره مختص بهذا الباب؛ لأنَّ باب الولاء داخل في كتاب الفرائض، فأكثر كلام المؤلف مُنْصَب فيما يتعلق بكتاب الفرائض.
فنقول: إذا ثبت الولاء، فهذا يعني أنَّ هذا المولى صار عُصبة للمولى عليه أو المعتق كعصبة النسب في الولاية، وفي الإحسان، وفي استحقاق الإرث، وفي النفقة، وفي أشياء كثيرة.

{حتى في وجوب النفقة؟}
نعم حتى في وجوب النفقة.
ويدخل في ذلك: الإرث الذي هو محل الكلام، ولذلك فلو رجعنا إلى ما مضى فيما درستموه أنَّ أسباب الميراث ثلاثة:

أسبـابُ ميــراثِ الـوَرَى ثَلاثَةْ *** كُـــلٌّ يُـفِـيــــــــدُ رَبـَّهُ الوِراثةْ
وهْــي نكــاحٌ ووَلاءٌ ونَـسَــبْ *** ما بَـعْـدَهُـنَّ للمواريثِ سَـبَـبْ

كما قال ذلك الإمام الرحبي -رحمه الله تعالى.
وتقدم الكلام على النكاح والنسب، وبقي الكلام على الولاء وهو هنا، ولذلك ذكر تفاصيل المسائل المتعلقة به يذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
إذن «إِنَّمَا اْلوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، على ما جاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم.
نعيد القراءة في قوله: (وَإِنْ عَتَقَ عَلَيْهِ بِرَحِمٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ تَدْبِيْرٍ).
كيف يعتق عليه برحم؟
أحيانا العتق يبتدئه الإنسان فيعتق شخصًا، لكن في بعض الأحيان يملك الإنسان عبدًا، فيكون هذا العبد ممَّن يعتُق عليه.
مَن الذي يَعتُق عليه؟
إذا كان من والده أو ولده، أو كما يجعل لذلك الحنابلة والفقهاء ضابطًا؛ فيقولون: كل مَن لو كان أحدهما أنثى والآخر ذكرًا لم يصح أن يتزوجه.
فلو افترضنا أنَّ أحدهما أنثى والآخر ذكرًا لم يصح الزواج بينهما؛ فإنه يعتق عليه بمجرد المِلك.
مثال: لو اشترى من السوق من لا يدري أنه ابن أخت ابنه؛ فصار عتيقًا بمجرد الملك. فهذا العتيق هو لم يعتقه حقيقة ابتداءً، ولكنه عتق عليه.
فنقول: حتى ولو عتق عليه في هذه الحال، فولاؤه له صحيح.
إذن كل شخص مُحَرَّم بالنَّسب فإنه يعتق عليه إذا ملكه، وهذا معنى قول المصنف: (برحمٍ).
قوله: (أو بكتابة)، الكتابة: أن يأتي السيد إلى العبد فيقول: تعطيني مدة سنتين أو أقل أو أكثر، كل شهر خمسة آلاف؛ فهذا كاتبه السيد، فإذا أدى ما عليه عتُقَ، ويكون ولاؤه لسيده.
فإذا قلتَ: إن سيده أخذ مال!
نعم، ولكن سيده أنعم عليه بهذه الكتابة، وإِلَّا فإنَّ العبد وخدمته مِلك للسيد، فإنه كان باستطاعته أن يقول: اعمل في السوق الذي كان يستحق به الأموال.
قوله: (أَوْ تَدْبِيْرٍ).
التدبير: هو أن يعلق عتقه بدبر حياته، فيقول: أنت حر لوجه الله بعد موتي، وستأتي الإشارة إلى تفاصيل ذلك.
فسواء إذا أعتقه إعتاقًا مُطلقا فقال: أنت حر لوجه الله. أو عتق عليه بواحدة من هذه الأسباب؛ فإنه في كل المسائل يَستحق الولاء عليه.
قال: (أَوِ اسْتِيْلاَدٍ).
يعني: لو ولدت الأمة من سيدها ثم مات السيد فإنها تعتق عليه، فهذه الأمة التي ولدت لسيدها وعتقت عليه؛ مولاها هو سيدها الذي مات عنها، فيكون عصبته أولياء لها، ويستحقون بذلك الولاء.
لقائل أن يقول: لو كان قد أعتقها في كفارة ظهار أو كفارة جماع في نهار رمضان، أو كفارة قتل أو غيرها؟!
أشهر القولين عند الفقهاء: أنه يكون مُستحقًا لولائه كما لو أعتقه ابتداءً.
بعض الفقهاء يقولون: لو قال: أنت حر لوجه الله ولا أريد منك ولاءً؛ فإنَّ رفعه للولاء لا يرتفع، وحقه في ذلك ثابت.
ومثل ذلك لو قال: أنت حر سائبة؛ هذا مِثل الذي يترك الشيء لله، كأنه لا يريد شيئًا من ذلك؛ ففي مثل هذه المسألة نقول: هو حر لوجه الله -جلَّ وعَلا- ويكون له حق الولاء.
لو قال له أنت حر بشرط أن تخدمني سنتين؟ فهو استحق الحرية، ولكن عاوضه العبدُ.
فيقولون في هذه المسألة: يكون السيد مولى، ويكون الولاء له في هذه الحال.

قال: (فَلَهُ عَلَيْهِ اْلوَلاَءُ، وَعَلى أَوْلاَدِهِ مِنْ حُرَّةٍ مُعْتَقَةٍ أَوْ مِنْ أَمَتِهِ، وَعَلى مُعْتِقِيْهِ وَمُعْتَقِيْ أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِهِمْ وَمُعْتِقِهِمْ، أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوْ).
يعني: أولاد هذا العبد الذي أُعتق يكون ولاؤهم للسيد؛ لأنه أعتق والدهم فكانت نعمته متعدية عليهم.
قال: (وَيَرِثُهُمْ إِذاَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ مِيْرَاثِهِمْ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ مِنْ بَعْدِهِ).
لو أنَّ هذا العبدُ الذي أُعتِقَ أَعتَقَ شخصًا، فهذا الشخص ولاؤه لسيده، وعبد العبد لو أُعتِقَ أيضًا فولاؤه سيده، ولذلك قال: (أَبَدً).
ويثبت له الإرث، والإرث -كماذكر المؤلف- في أول المسألة حتى مع اختلاف الدين، يعني: لو افترضنا أنَّ مُسلمًا أعتق كافرًا فله ولاؤه، مع أنَّ الأصل في باب المواريث أن لا توارث بين مسلم وكافر، وهذا بإجماع أهل العلم إِلَّا في هذه المسألة.
أو العكس: لو أنَّ الكافر أعتق هذا المسلم، فله ولاؤه؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ»، وحَكَمَ الصَّحابة وغيرهم بأنه ثابت حتى مع اختلاف الدين.
إذا قلنا بثبوت الإرث فإنه يدخل في باب المواريث، وباب المواريث في الاستحقاق وفي الحجب وفي تقديم المقدَّم وتأخيره له أحكام مرَّ بيانها، فليس معنى كونه يرث أنه يرث بكل حال؛ لا، إنما كما قال المؤلف: (وَيَرِثُهُمْ إِذاَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ)، فتقدم معنا أنَّ الورثة بالنَّسَبِ مُقدَّمون على الورثة بالولاءِ.
فبناءً على ذلك لو تُوفي هذا العبد العتيق وله ابن ومولى مُعتِق؛ فنقول: إنَّ العُصبة للابن، فهذا المولى مُستحق للإرث، ولكن وُجدَ مَن يحجبه، ولذلك قال: (وَيَرِثُهُمْ إِذاَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ مِيْرَاثِهِمْ).
قال: (ثُمَّ عَصَبَاتُهُ مِنْ بَعْدِهِ)، لو أنَّ هذا السيد الذي أعتقَ العتيق، ثم مات العتيق عن زوجة حرَّة وابن المولى، فنقول: بعد أن تأخذ الزوجة فرضها يكون الباقي لابن السيد -أو المولى- لأنه يرثه أو عصبته المتعصبون بأنفسهم.
وهنا ينبغي أن يُعلم أن مَن ينتقل إليهم الميراث من عصبته إنما هم الذكور المتعصبون بأنفسهم، فلا يدخل في ذلك الإناث.
فلو أنَّ هذا السيد له ابن وبنت، لا نقول: إن الابن والبنت يُشتركان هنا في ميراث العتيق؛ بل ينفرد بذلك الابن دون الأنثى.
قال: (وَمَنْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّيْ وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ فَفَعَلَ، فَعَلى اْلآمِرِ ثَمَنُهُ، وَلَهُ وَلاَؤُهُ).
هذه مسائل متأرجحة بين اثنين لهم مدخل في العتق، أيهما يكون له الولاء؟
كأن المعتق حقيقة هو الآمر؛ لأنه أمره بذلك، وهو الذي دفع الثمن، فهو المعتق حقيقة، فبناء على ذلك كأنه اشتراه وأعتقه، فلذلك قال: (وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ فَفَعَلَ، فَعَلى اْلآمِرِ ثَمَنُهُ، وَلَهُ وَلاَؤُهُ)، يعني الآمر، وهذا بشرط أن يقول: "أعتق عبدك عني وعليَّ ثمنه"، فأما إذا لم يقل هذه العبارة فسيبين المؤلف -رحمه الله- حكمه في الجملة التي تلحقها.
قال: (وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: عَنِّيْ، فَالثَّمَنُ عَلَيْهِ وَاْلوَلاَءُ لِلْمُعْتِقِ)، أمَّا إذا قال: "أعتق عبدك وعلي ثمنه" فإنَّ المعتق هو السيد حتى لو دفع هذا الثمن، فكأنه أعتقه عنه، فبناء على ذلك يختلف الحكم بهذه اللفظ "عني" أمَّا إذا قال: "أعتق عبدك عندك" فهذه لا إشكال في أنَّ الولاء يكون للمعتق لا لدافع الثمن.
قال: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ حَيٍّ بِلاَ أَمْرِهِ أَوْ عَنْ مَيِّتٍ، فَاْلوَلاَءُ لِلْمُعْتِقِ).
قال: (حَيٍّ بِلاَ أَمْرِهِ)، مثل: رجل أراد أن يُحسن إلى والدته فقال: هذا عبدي حر عن والدتي، أو أمتي هذه حرة عن والدي.
فيقول المؤلف: يكون الولاء للمعتق.
فكأن المسألة لها متعلقان:
أولهما: ما يتعلق بثواب الإعتاق: فهذا هو الذي تصدق به المعتق عن والده أو والدته.
المسار الثاني: حصل من المالك، والمالك هو السيد؛ إذن يكون له الولاء، فيكون الولاء متعلق بمَن جرى منه الإعتاق.
فنقول: هذه الأم، أو هذا الأب، أو سواهم...، أُهديَ إليه ثواب الإعتاق -وهو كبير- كما جاء في الحديث «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ» ، وفيه أحاديث كثيرة.
فنقول: هؤلاء الذين أُعتِقَ عنهم ينالون الأجر، ولكن من جهة ترتب آثار الإعتاق فيكون لمن أجرى العتق وهو السيد.
قال المؤلف: (وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَاْلوَلاَءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ).
مثل: إن قالت الوالدة لولدها: أَعتِق عبدك عني؛ فكأن العتق جرى منها، ومثل ذلك لو قال الأب هذا، أو كانت وصية للأب "إذا متُّ فأعتق عبدكَ قُربة لله عني"، أو نحو ذلك.
فنقول في هذه الحالة: كأنه هو المعتق، فيكون الأجر له.
قال المؤلف: (وَإِذاَ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ اْلحُرَّيْنِ حُرَّ اْلأَصْلِ، فَلاَ وَلاَءَ عَلى وَلَدِهَمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيْقًا، تَبِعَ اْلوَلَدُ اْلأُمَّ فِيْ حُرِّيَّتِهَا أَوْ رِقِّهَا، فَإِنْ كَانَتِ اْلأُمُّ رَقِيْقَةً، فَإِنْ أَعْتَقَهُمْ فَوَلاَؤُهُمْ لَهُ وَلاَ يَنْجَرُّ عَنْهُ بِحَالٍ).
هذه مجموعة من المسائل، وسأبسِّطها للإخوة المشاهدين:
أولًا عند الفقهاء قاعدة، وهي: أنَّ الولد بالنسبة للأبوين يتبع لأب في نسبه دائمًا، فلا يمكن أن يُنسَب الولد إلى أمه إلا في مسائل مستثناة كالمُلاعنة.
الثانية: الابن يتبع أمه في الحرية والعبودية. فلو افترضنا مثلًا أنَّ شخصًا تزوج أَمَةً، سواء كان هو حر أو عبد؛ فولده من هذه الزوجة لا علاقة له به في الحرية والعبودية.
إذن نقول: نرى حال هذه الزوجة:
- إن كانت الزوجة حرَّة: فالولد حر.
- وإن كانت الزوجة أمةً: فالولد عبد حتى ولو كان الأب حر.
إذن الولد يتبع أمه في الحرية والرِّق.
الثالث: الولد يتبع خير الوالدين دينًا: فلو كان أحدهما نصرانيًّا والآخر مسلمًا؛ فالولد مسلمًا -أيًّا كان أحدهما النصراني والمسلم.
المسألة الثانية التي ذكرها المؤلف: إذا كان أحد الزوجين الحرين حرَّ الأصل؛ فلا ولاء على ولدهما.
هذه مسألة معروفة في باب الولاء -أو الفرائض- بــ "انجرار الولاء" فهل ينجر الولاء أو لا؟
إن كان أحد الزوجين حرًّا فلا يمكن أن ينجر الأولاد على أحد أبويهم من الولاء، فينقطع بكل حال، فيتعلق الولاء فيمن أعتق فقط؛ لأنَّ الأب الآخر حر -أو الأم حرة- فبناءً على ذلك ينقطع حكم الولاء بالنسبة للأبناء بكل حال.
قال: (فَإِنْ كَانَتِ اْلأُمُّ رَقِيْقَةً، فَإِنْ أَعْتَقَهُمْ فَوَلاَؤُهُمْ لَهُ وَلاَ يَنْجَرُّ عَنْهُ بِحَالٍ).
إذا افترضنا أنَّ السيد له أمة، وهذه الأمة مُزوَّجة، فوُلدَ لها من زوجها، فأولادها مِلكٌ لسيدها، حتى لو كان زوجها حر؛ فبناء على ذلك إذا أعتقها السيد وأعتقهم فولاؤهم له، ولذلك قال: (فَإِنْ أَعْتَقَهُمْ فَوَلاَؤُهُمْ لَهُ وَلاَ يَنْجَرُّ عَنْهُ بِحَالٍ).
قال: (وَإِنْ كَانَ اْلأَبُ رَقِيْقًا وَاْلأُمُّ مُعْتَقَةً، فَوَلَدُهَا أَحْرَارٌ وَعَلَيْهِمُ اْلوَلاَءُ لِمَوْلىَ أُمِّهِمْ).
الأم أُعتِقَت، ثم وُلدَ لها من زوج عبدٍ؛ فأولادها أحرار -لأنهم تبع لأمهم- وعليهم الولاء لموالي أمهم، أنه هو سبب الإحسان إليهم، فلذلك قلنا: إنه ينجر إليهم الولاء.
قال: (فَإِنْ أَعتَقَ اْلعَبْدَ سَيِّدُه ثَبَت له عَلَيه الولاء، وجرَّ إِلَيهِ وَلاَءَ أَوْلاَدِهِ).
هذه المسائل فيها إشكال، فمن أحسنها فالحمد لله، ومَن فاتت عليه فحسبه أنه عرف أن في مسائل الانجرار شيء من الإشكال.
الأصل -كما قلنا: أنَّ الأولاد يتبعون أمهم، لكن يقول المؤلف: لو أنَّ أباهم أُعتِقَ بعد ذلك، فبعد أن كان ولاؤهم لسيِّد أمهم رجعوا فكان ولاؤهم لمعتِقِ أبيهم، بشرط أن يكون أبوهم حين الولادة عبدًا –يعني: لم يُعتَق بعد- فإذا أعتق فينتقل ولاء الأبناء -الذين كان ولاؤهم لأمهم- إلى مولى أبيهم.
وفيها قصة جرت بين الصحابة: رأى الزبير أولادًا وأعجبه حالهم، فسأل فإذا هم موالي لرافع بن خديج، فإنَّ أمهم كانت مولاة له فأعتقها وأعتقها، فصاروا موالي له.
فقام الزبير فسأل عن أبيهم فإذا هو عبدٌ لآل فلان، فقام واشترى أباهم وأعتقه، فقال: أنتم مواليَّ الآن.
فاختصموا إلى أحد الخلفاء؛ فحكم بهم للزبير، فانتقل ولاؤهم له، واستقر حكم الصحابة على ذلك، فكان هذا حكمًا مستقرًا في انجرار الولاء من سيد الأمة إلى سيد أبيهم إذا تمَّت الشروط بأن أُعتقوا وأُعتِقَ الأب، وكان الأب والأم كلاهما رقيقين.
قال: (وَإِنْ كَانَ اْلأَبُ رَقِيْقًا وَاْلأُمُّ مُعْتَقَةً، فَوَلَدُهَا أَحْرَارٌ).
وهذا ذكرناه في أن الأبناء يتبعون الأم حرية ورقًّا.
قال: (وَعَلَيْهِمُ اْلوَلاَءُ لِمَوْلىَ أُمِّهِمْ)، فيبقى ولاؤهم لموالي أمهم.
قال: (فَإِنْ أَعتَقَ اْلعَبْدَ سَيِّدُه ثَبَت له عَلَيه الولاء، وجرَّ إِلَيهِ وَلاَءَ أَوْلاَدِهِ، وَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُ اْلأَوْلاَدِ أَباَهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَهُ وَلاَؤُهُ وَوَلاَءُ إِخْوَتِهِ،وَيَبْقَى وَلاَؤُهُ لِمَوْلىَ أُمِّهِ، لأنَّه لا يجرُّ ولاءَ نفْسِهِ).
فيه لفظ تُنطَق كثير "عَتُقَ" والصواب أنها "عَتَقَ" بالفتح؛ لأنَّ الفرق بينهما أن:
"عَتَقَ": من العِتْقِ.
أما "عَتُقَ": من القِدَمِ.
والكلام هنا في باب العتق فتكون اللفظة "عَتَقَ"، ولكن شائع نطقها بالضم، وليس الأمر كذلك.
هنا قال المؤلف: (فَإِنْ أَعتَقَ اْلعَبْدَ سَيِّدُه ثَبَت له عَلَيه الولاء، وجرَّ إِلَيهِ وَلاَءَ أَوْلاَدِهِ)، يعني: إذا أعتق العبد فإن هذا العبد وأولاده ولاؤهم لسيد هذا العتيق.
إذا اشترى الإنسان أباه فأعتقه؛ فإنه يكون ولاؤه له، وولاء أبناء أبيه له، فينجر الولاء إليه.
قال: (لأنَّه لا يجرُّ ولاءَ نفْسِهِ فَإِنْ اشْتَرَى أَبُوْهُمْ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ اْلأَبُ فَمِيْرَاثُهُ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اْلأُنْثَيَيْنِ).
هو اشترى عبدًا فأعتقه، ثم مات الأب، فميراثه بين أولاده للذكر من حظ الأنثيين، هذا باعتبار أنها من سائر المسائل.
قال: (فَإِذاَ مَاتَ عَتِيْقُهُ بَعْدَهُ، فَمِيْرَاثُهُ لِلذُّكُوْرِ دُوْنَ اْلإِنَاثِ).
يقول: (فَإِنْ اشْتَرَى أَبُوْهُمْ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ اْلأَبُ فَمِيْرَاثُهُ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اْلأُنْثَيَيْنِ)، هذا بيان لأصل المسألة، فلو أن شخص اشترى عبد، وأعتق العبد ثم مات، فنقول: أيها الأبناء والبنات لكم ميراث أبيكم.
وهذا العبد الذي أُعتِق لو مات بعد ذلك، يكون ولاؤه للذكور دون الإناث، لأن الولاء إنما هو للعصبة المتعصبين بأنفسهم، فلا ينتقل إلى العصبة بالغير أو مع الغير مطلقًا.
فبناءً على ذلك فإن بناته لا يدخلن في ميراث الولاء من هذا العتيق الذي أعتقه أبوهم.
ولذلك يقول الفقهاء -وسيأتي في باب الميراث بالولاء: إنَّ النساء لا يدخلن في الإرث بالولاء إلا أن تكون هي المعتقة، أو عتيقها قد أعتق شخصًا؛ فيكون ولاؤه لها.
قال: (وَلَوِ اشْتَرَى الذُّكُوْرُ وَاْلإِناَثُ أَبَاهُمْ فَعَتَقَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ اشْتَرَى أَبُوْهُمْ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ مَاتَ اْلأَبُ، ثُمَّ مَاتَ عَتِيْقُهُ، فَمِيْرَاثُهُمَا عَلى مَا ذَكَرْناَ فِي الَّتِيْ قَبْلَهَ).
هذه المسألة من المسائل الصعبة جدًا، والإمام مالك -رحمه الله تعالى- يقول: "سألت عنها سبعين، فكلهم استشكلها".
المسألة: يقول: (وَلَوِ اشْتَرَى الذُّكُوْرُ وَاْلإِناَثُ أَبَاهُمْ فَعَتَقَ عَلَيْهِمْ)، إذن ولاء أبيهم لهم جميعًا البنات والبنين.
بعد ذلك أبوهم اشترى عبدًا فأعتقه، فالعبد عتيق عتيقهم؛ لأنَّ أباهم عتيقهم، والأب هو الذي أعتق هذا العبد؛ فهذا العتيق له ولاء؛ فهل يكون ولاؤه للذكور والإناث باعتبار أنه عتيق عتيقهم؟
نقول: لا، لأن هنا له مأخذان:
- مأخذ فيه عصبة بالنفس الذين هم أبناء هذا الأب، فالأصل أن الأب هو المولى، هو الذي يأخذ، فما دام أن الأبناء وُجدوا فهم عصبة المولى بالنفس قبل مولى المولى؛ فبناء على ذلك تخرج النساء من هذه المسألة لهذا السبب.
وكما قلت لكم: إن كل هذه المسائل فيها خفاء، فنذكرها على سبيل الاستعجال حتى لا نغرق فيها.
قال: (وَإِنْ مَاتَ الذُّكُوْرُ قَبْلَ مَوْتِ اْلعَتِيْقِ، وَرِثَ اْلإِنَاثُ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقْنَ مِنْ أَبِيْهِنَّ).
أما إذا مات الذكور قبل الإناث؛ فهنَّ صِرنَ مولي المولى؛ فيستحققنَ الولاء بذلك.
قال المؤلف: (ثُمَّ يُقْسَمُ اْلبَاقِيْ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ مُعْتِقِ اْلأُمِّ، فَإِنِ اشْتَرَيْنَ نِصْفَ اْلأَبِ، وَكَانُوْا ذَكَرَيْنِ وَأُنْثَيَيْنِ، فَلَهُنَّ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمِيْرَاثِ، وَلِمُعِتِقِ اْلأُمِّ سُدُسُهُ؛ لِأَنَّ لَهُنَّ نِصْفَ اْلوَلاَءِ، وَاْلبَاقِيْ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ مُعْتِقِ اْلأُمِّ أَثْلاَث).
هذه المسألة تحتاج إلى سبورة، ولكن على كل حال -كما قلت لكم- هي من دقائق المسائل وخفية، فيمكن أن نمر عليها ونكتفي بما سُمع مما قرَّره المؤلف -رحمه الله.
قال: (وَإِنِ اشْتَرَى ابْنُ اْلمُعْتَقَةِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى اْلعَبْدُ أَبَا مُعْتِقِهِ، فَأَعْتَقَهُ جَرَّ وَلاَءَ مُعْتِقِهِ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُا مَوْلىَ اْلآخَرِ).
هو اشترى عبدًا فأعتقه، ثم هذا العبد اشترى أبا معتقه، فكل واحد منهما صار منعم على الآخر، فبناء على ذلك صارت هذه المسألة فيها هذا مولى هذا، فإن مات ورثه بذلك.
قال: (وَلَوْ أَعْتَقَ اْلحَرْبِيُّ عَبْدًا، فَسَبَاهُ اْلعَبْدُ وَأَخْرَجَهُ إِلى دَارِ اْلإِسْلاَمِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ، صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلى اْلآخَرِ).
هي مثل المسألة السابقة: هذا الحربي أعتق هذا العبد، فصار مولًى له، واستحق الولاء؛ لأننا قلنا: إنَّ الولاء لا يُشترط
فيه اتِّفاق الدين، ثم إنَّ هذا المولى رجع لبلاد المسلمين، ولما حصلت معركة بين المسلمين والكفار، وسُبيَ الكفار كان هذا الحربي من نصيب هذا الإنسان -الذي هو عتيق له- فأعتقه، هنا هذا أعتقه وهذا مُعتِقٌ له سابق؛ فكل منها مولًى للآخر، فلو مات أحدهما فإنه يرثه الآخر باعتبار أنه مولاه.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باَبُ اْلمِيْرَاثِ بِالْوَلاَءِ).
انتقل المؤلف لتفاصيل متعلقة باب التوريث بالولاء، وذكر تفاصيل أحكامه والكلام عليه.
قال: (اْلوَلاَءُ لاَ يُوْرَثُ، وَإِنَّمَا يَرِثُ بِهِ أَقْرَبُ عَصَبَةِ اْلمُعْتِقِ).
الولاء لا يُورَث، فلو أن شخصًا الآن أعتق خمسة أعبُد، ثم مات، وورثه بنتان وثلاث أولاد وزوجة، ما نقول أن الولاء حق لهذا الأب فينتقل للورثة؛ لا، الولاء لا يورث، وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث فيه.
قال المؤلف: (وَإِنَّمَا يَرِثُ بِهِ )، كما حكم بذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- وهو محل اتفاق، أن الأب الذي أعتق ومات، فكما أنه يرث بالولاء هو، فعصبته المتعصبون بأنفسهم وهم أبناؤه يرثون بما ورث به أبيهم، فهو سبب يُدلي به الأبناء إلى هؤلاء العتقاء فيستحقون الميراث فيه بشرطه، وشرطه ألا يكون أحد مقدم عليهم في الميراث، وإلا سقطوا.
قال المؤلف: (وَلاَ يَرِثُ النِّسَاءُ مِنَ اْلوَلاَءِ، إِلاَ مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، وَكَذلِكَ كُلُّ ذِيْ فَرْضٍ).
إذن النساء لا مدخل لهن في باب الولاء إلا في صورة واحدة، وهي: أن تكون المرأة هي التي أعتقت، أو أن عتيقها قد أعتق، فهي مولى لهذا العتيق ومولى لعتيق مولاها.
قال المؤلف: (لَهُمَا السُّدُسُ مَعَ اْلاِبْنِ وَابْنِهِ، وَاْلوَلاَءُ لِلْكُبْرِ).
أصحاب الفروض الأصل أنهم لا مدخل لهم في الولاء، إلا الأب والجد فهم يرثون بالفرض وهم من أصحاب الولاء باعتبار أنهم عصبة متعصبون بانفسهم.
قوله: (وَاْلوَلاَءُ لِلْكُبْرِ)، يعني لو افترضنا أن شخصًا أعتق عبدًا فصار ولاؤه له، ثم مات -لأنه لو مات هو ومات عبده سيرثه هو- لكن هو ما، ثم مات عتيقه، وهذا المولى له ابن وابن ابن، لا نقول إن الابن وابن الابن يشتركان في الميراث؛ لا، بل الابن مُسقِطٌ لابن الابن، فهو يكون المولى ويأخذ الميراث.
قال المؤلف: (فَلَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ وَعَتِيْقَهُ، فَمَاتَ أَحَدُ اْلاِبْنَيْنِ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ عَتِيْقُهُ، فَمَالُهُ لاِبْنِ اْلمُعْتِقِ).
مثل ما قلنا الآن:
مات المعتق -هو الأب- وخلَّف ابنين وعتيقه، فمات أحد الابنين عن ابن، فصار عندنا (ابن وابن ابن وعتيق)، فمات العتيق، فالابن يرثه، أما ابن الابن فإنه يسقط؛ لأنَّ الولاء -كما قال المؤلف- لِلْكُبْرِ -أو للأكبر- كما جاء ذلك عن الصحابة.
على كل حال بقيت تتمَّة هذه المسألة، ويمكن أن نجعلها في إطلالة اللقاء القادم.

{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم، ونشكركم أيها الإخوة المشاهدون على استماعكم وحسن إنصاتكم، إلى أن نلتقيكم في الحلقة القادمة، إلى ذلك الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك