الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

5748 12
الدرس التاسع

عمدة الفقه (5)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاءِ في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{في الحلقة الماضية توقفنا في نهاية باب الرَّضاع، وبقي معنا مسألة لبن البهيمة، والرَّجُل والْخُنْثى المُشكِل}.
أحسنت بارك الله فيك.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فأسال الله-جَلَّ وَعَلا- أن يَجعلنا وإيَّاكم مِن العَالمينالعَاملين، وأن يَعقبنا الفقه في الدِّين، وأن يجعله ذُخرًا لنا يومَ لِقاه، ونجاةً لنا عند عرضنا على الله، وأن يحفظنا من الزَّيغ والضَّلال، وأن يُثبتنا على الهُدى والصَّواب، إنَّ ربنا جوادٌ كريم.
أيُّها الإخوة والأخوات، ليس شيءٌ أنعم للإنسان مِن العِلم، فإنَّ إرادة الله -جَلَّ وَعَلا- بالخير ليس أن يَمدَّ له مِنَ الدُّنيا، ولا أن يُمَتِّعَهُ بالشَّهوات، ولا أن يَزيده من تحصيل حُظوظِ النَّفسِ والأَهواء والوظائف وغيرها مِن مُتَعِ الدُّنيا؛ ولكن أن يُبصَّرَ بدينه، وأن يُعانَ على اقتفاء سُنَّة نبيِّه، وأن يُوفقه للحق، وأن يُعان على الهُدى، فالدُّنيا مَراحل، وما هي إلا أيام قلائل حتى ينتقل منها، فيذهب كَدَرُها، ويذهب بَلاؤها، ويذهب ما فيها، ولا يبقى للإنسان إِلَّا صلاةً صلَّاها على هدًى وسُنَّةً وعمل برٍّ وطاعة، ومجلس مِن مجالس العِلم والهُدى وتبصرة للعباد وموعظة للخلق، وتعليمًا للجاهل، وإعانة للغير، فهذه مِن أعظم ما يُنعِمُ الله-جَلَّ وَعَلا- به علينا.
أخذنا في الدَّرسِ المَاضي بداية باب الرضاع، وذكرنا الشُّروط المتعلقة به، وأظنُّ أنَّه قد فاتت علينا جُملة في قول المؤلف لما ذكر أنَّ اللبن لابدَّ أن يكونَ لبنَ امرأة بكرًا كانت أو ثيِّبًا، قال: (فأَمَّا لَبنُ البَهِيمَة)، يعني: لو أنَّ طفلين اشتركا في الشُّربِ والرَّضاع مِن بَهيمة، سواء التقماثديها، أو أنهما يُحلب لهما منه؛ كانت عنزة أو بقرة أو غير ذلك مما يُحلَب؛ فإنهما لا يكونا أخوان، ولا تنتشر بذلك المحرميَّة.
قال أهل العلم: لأنَّه لم يثبت به الدَّليل، وقد جرى سببه ومحفِّزه ولم يُذكَر عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدلَّ على أنَّ مَا وُجدَ سببه ولم يُوجد له حكمٌ فلا يثبت له شيء من ذلك.
وقالوا: إنَّ لبن البهيمة لا يُساوي لبن الأم، لا في النَّفع ولا في الفائدة ولا في إنبات العظم، ولا في ظهور أثره على الإنسان.
قال: (أَو الرَّجُل)، فبعض الرِّجال ربما حصلَ له أنَّ صَدْرَه درَّ لبنًا، فلو افترضنا حصول ذلك فألقم هذا الرجل الصَّبي فأرضعه، أو مصَّ وشربَ مِن صَدره حتى ولو اكتملت مائة رضعة؛ فإنَّه لا يكون أبًا له مِن الرَّضاع؛ لأنَّه ليس محلًّا للرَّضاع، وليس عادة أن يُرضع، فلا حُكم لمثل ذلك اللبن.
ومثل ذلك الْخُنْثى المُشكِل، وإذا ذكر الفقهاء الْخُنْثى المُشكل فبعض النَّاس يَظُنون أنَّ المقصود مَن لَه آَلَتَان؛ وهذا خطأ؛ بل إنَّ مَنْ لَه آلتان إذا عُلِمَ أنَّه أُنثى أو رجل فإنَّه على ما عُلِمَ، وهذه الآلة الزائدة كالأصبع السَّادسة لا حُكم لها.
وفي هذه الأوقاتِ يَقِل أن يَكون الْخُنْثى مُشكِل لتجدُّدِ الاختبارات وطرائق العلم بكونه رجلًا أو امرأة، ولكن فيما مضى كانوا يَحكمون بالظَّاهر، ففي بعض الأحيان لا يتبيَّن، فكانوا يحكمون بالمكان الذي يبول منه، فإذا بالَ من هذا كان ذكرًا، وإذا بالَ من هذا كان أُنثى، ثُمَّ إذا لم يتبين ذلك وكان يبول منهما أو نحو ذلك؛ فإنَّه إذا أَنبت شعر وجهه علموا أنَّه رجل، وإذا حاضعلموا أنَّه أنثى.
وقد يُشكل عليهم الأمر فيبلغ ولم يبدُ لهم شيء من هذا ولا ذاك! وفي الواقع قد يوجد شيء من هذا، وأظن أنِّي قد وقفتُ على أحوالٍ لذلك.
والنَّاس الآن ما عادوا يَعرفون الْخُنْثى المشكل؛ لأنَّ الحال صار يُعرف مُبكرًا، فلا ينكشف حاله، ولكن من الأول لابدَّ أن يتشهر أنَّ هذا خُنثى ثُمَّ يتبين له ما إذا كان رجلًا أو أنثى.
إذن محلُّ الكلام في الْخُنْثى المُشكل الذي لم يَتبيَّن أنَّه رجل أو امرأة، فإنَّه إذا رضعَ منه صبيٌّ فقد يكون رجلًا ولا تحصل الرَّضاعة إِلَّا بيقين، فلمَّا كان الأمر دائرًا بينَ أن يكونَ ارتضع رضاعة مُحَرِّمة أو غير مُحَرِّمة؛ فلا نحكم بأنَّها رضاعة مُحَرِّمة إلَّا بدليلٍ، ولذلك قال المؤلف: (فَلَا يُحرِّمُ شيئً)
{قال المؤلف: (وَلَوْ أَرْضَعَتْ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ الطِّفْلَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، ثَلاَثاً مِنْ لَبَنِهِ، وَاثْنَتَيْنِ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهِ، صَارَتْ أُمًّا لَهَا وَحَرُمَتَا عَلَيْهِ، وَحَرُمَتِ الطِّفْلَةُ عَلى الرَّجُلِ الآخر عَلى التَّأْبِيْدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الطِّفْلَةُ امْرَأَةً لَهُ، لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُ الْمُرْضِعَةِ)}.
لو أرضعت إحدى امرأتيه طفلًا خمس رضعاتٍ، ثلاثًا من لَبَنِه واثنتين من لَبَنِ غيره، فالمرأة صارت أمًّا لهذا المرتضع بلا شك، ولكن ثابَ لبنها من الزَّوج الأول، ثمَّ طُلِّقَت وكانت قد أرضعته ثلاث رضعات، فتزوَّجت زوجًا آخرًا فحملت منه فأرضعت هذه الصَّبي، فصارت هي أمه من الرَّضاع، وأمَّا الرَّجلان فليسا أبوان له؛ لأنَّ الخمس رضاعات لم تكتمل من أحدهما، فبناءً على ذلك يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (ثَلاَثاً مِنْ لَبَنِهِ، وَاثْنَتَيْنِ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهِ، صَارَتْ أُمًّا لَهَ)، هي اكتملت لها الرَّضاعات الخمس من المرأة؛ فصارت المرأة أمًّا لهذه الْمُرتَضِعَة، أمَّا الرَّجلانفلا يُعَدُّ هذا أو ذاك أبًا لها؛ لأنَّه لم يكتمل لواحدٍ منهما خمس رضعاتٍ من لَبَنِه الذي ثَابَ مِن فُحُولَته وَمِن لِقَاحِه.
يقول: (وَحَرُمَتَا عَلَيْهِ)، أي: حَرُمَت عَليه الأم الْمُرضِعَة والبنت الرَّضيعة.
لماذا حرمت عليه الرضيعة؟
لأنَّها صارت ربيبته تحت زوجته، وَحَرُمَت عليه زوجته؛ لأنَّها صارت أمًّا لِزَوجته، بأن يكون تزوَّج امرأة صغيرة.
قال: (وَحَرُمَتِ الطِّفْلَةُ عَلى الرَّجُلِ الآخر عَلى التَّأْبِيْدِ)؛ لأنَّها صارت ربيبة للزوج الأول، باعتبار أنَّ الزوج الأول لأمها، فهي بنت زوجته من الرَّضاع، فتكون مُحَرَّمة عليه على التَّأبيد.
قال: (وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الطِّفْلَةُ امْرَأَةً لَهُ)، يعني:إن كانت هذه الطفلة التي سُقيَت لم تكن زوجة للرَّجل فلا ينفسخ نكاح الْمُرضعة؛ لأنَّها ليست أم زوجته، فلم يؤثر في ذلك تحريمًا.
ربما يقول قائل: إنَّ هذه المسائل لا تقع!
صحيح أَنَّها قليلةُ الوقوع، ولكن وقوعها ممكن، ثُمَّ إنَّ الفُقَهَاء -رحمهم الله- قصدوا بذلك تمرين الذِّهن على فَهم الحوادث المتنوعة والمتداخلة فيما بينها في أحكام الرَّضاع والتَّحريم وعدمه، وانتشار المحرمية مِن سِواها؛ فلابدَّ أن تكثر في ذلك المسائل.
لماذا يُكثر الفقهاء الأمثلة في باب الرَّضاع، وكذلك في باب الطلاق والوصايا؟
لأنَّ وقائع النَّاس في ذلك كثيرة، ولمَّا كانت كثيرة احتاج الفقهيه أن تتنوع درايته ومعرفته بالمسائلِ المتنوعة حَتَّى إِذَا وَقَعَت الواقعة فإمَّا أن تكون مِن ضمن مَا ذَكَرَه الفقهاء، وإمَّا أن تكون على مثاليُحتذَى ممَّا ذكره الفقهاء، فيكون سهل عليه توضيح ذلك وتبيينه.
{قال -رحمه الله: (وَلَوْ تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ الْمُرْضِعَةُ طِفْلاً، فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَحَرُمَتْ عَلى صَاحِبِ اللَّبَنِ تَحْرِيْمًا مُؤَبَّدًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ حَلاَئِلِ أَبْنَائِهِ)}.
لو أنَّ امرأةً تزوَّجت طفلًا، على ما قُلنا مِن أنَّ تَزويج الطِّفل صحيح عند الحنابلة، وجاء عن ابن عمر-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد تقدَّم ما يتعلق بذلك.
المهم أنَّهم زوجوه هذه المرأة، وكانَ لها لَبَنٌ ثَاب مِن زوجها الأول، فلمَّا أرضعتهخمسَ رضعات صارت أمًّا له من الرَّضاع فيسنفسخ نِكَاحُهَا، ثُمَّ إنَّ هذا الولد صار ابنًا لذلك الرَّجُل الذي ثَابَ لَبَنُها مِنه، وهذه المرأة صارت زوجة ابنه؛ فبناء على ذلك فلا يجوز لذلك الأب مِنَ الرَّضاعِ أن يَعود فيتزوج المرأة مَرَّة ثانية؛ لأنَّها صارت مُحَرَّمةً عليه مِن جهة أنَّها زوجة ابنه -حليلة ابنه- فلا يجوز له أن يتزوجها.
{قال -رحمه الله: (فَصْلٌ فِيْ تَحْرِيْمِ النِّكاَحِ وَفَسْخِهِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ كَبِيْرَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَصَغِيْرَةً، فَأَرْضَعَتِ اْلكَبِيْرَةُ الصَّغِيْرَةَ، حَرُمَتِ اْلكَبِيْرَةُ، وَثَبَتَ نِكَاحُ الصّغِيْرَةِ)
}.
لم يزل المؤلف في نحو الأمثلة المتقدمة.
يقول: رجلٌ تَزَوَّج بامرأتين، إحداهما كبيرة، والأخرى صغيرة، ولم يدخل بواحدةٍ منهما، فقامت الكبيرة وأرضعت الصَّغيرة، حرُمَت الكبيرة؛ لأنَّها صارت أمَّ زوجته، وثبت نكاح الصغيرة؛ لأنَّها وإن كانت بنت زوجته ولكنها لن تحرم إِلَّا بالدُّخول بِأُمِّها، فكما تقدَّم معنا في الْمُحَرَّمَات أنَّ الْمُحَرَّمَات بالْمُصَاهَرة أربع:
- ثلاثٌ يحرمنَ بِمُجَردِ العَقد.
- وواحدةٌ تُحرَّم بالدُّخول.
فالرَّبيبة لا تحرم على الإنسان إِلا إِذَا دخل بأُمِّها، فهذا لم يدخل بالكبيرة، فبناءً على ذلك لم تحرم عليه هذه الصَّغيرة وإن كانت بنت زوجته.

{قال: (وَإِنْ كَانَتَا صَغِيْرَتَيْنِ، فَأَرْضَعَتْهُمَا اْلكُبْرى، حَرُمَتِ اْلكُبْرى، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الصَّغِيْرَتَيْنِ، وَلَهُ نِكَاحُ مَن شَاءَ مِنَ الصَّغيرَتَين).
هذه المسألة فيها حذلقة أو شيء من المعاياه أو الإلغاز!
لو كانتا صغيرتين فأرضعتهما الكبرى، ففي هذه المسألة تحرم الكبرى لِمَا ذكرنا في المسألة السابقة أنها صارت أمًّا لزوجاته.
أمَّا لو أرضعت زوجتين صغيرتين، فيحرما عليه؛ لأنَّهنَّ سَيَكُنَّ أخوات من الرَّضاع، وإذا كنَّ أخوات من الرَّضاع فإنهنَّ تحت زوجٍ واحدٍ، ولا يجوز الجمعُ بين أختين لا مِنَ النَّسبِ ولا مِنَ الرَّضاع، وبناء على ذلك ينفسخ نكاحهما.
ولذلك قال: (وَلَهُ نِكَاحُ مَن شَاءَ مِنَ الصَّغيرَتَينِ)؛ لأنَّ الْمُحَرَّم هُو الجمعُ بينهما، فإذِا تَزَوَّجَ بعد ذلك واحدة منهما جازَ.

{(وَإِنْ كُنَّ ثَلاَثاً فَأَرْضَعَتْهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ، حَرُمَتِ اْلكُبْرى، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْمُرْضَعَتَيْنِ أَوَّلاً، وَثَبَتَ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ)}.
يعني لو كانت قد أرضعت ثلاث، فسيكنَّ أخوات من الرَّضاع، ولكن لمَّا أرضعت الاثنتين الأوليين انفسخ النِّكاح، فلمَّا انفسخ النِّكاح وَقَعَ رَضَاع الثَّالثة حال كونها مُنفردة وليس لها أخت من الرَّضاع زوجة له، فبناء على ذلك يصح نكاحه من الثَّالثة؛ لأنَّه حينَ رضاعها لم يكن قد جمع بين أختين من الرَّضاع باعتبار أنَّهما لمَّا أُرضِعتَا وأكملت الرَّضعات الخمس انفسخ نكاحهما، فوقع رضاع الأخيرة التي كانت بنتًا لهذه الأم التي هي زوجته وانفسخ نكاحها، فصارت زوجة له؛ لأنَّه لم يدخل بِأُمِّها، ولأنَّ اللاتي معها قد انفسخ نكاحهنَّ، فلم يجتمع في حقه أنه جمعَ بين أخواتٍ مِنَ الرَّضاعة.
وهذه المسائل فيها شيءٌ مِن الصُّعوبة، ولكن سأقول لكم شيئًا:
ليس بالضَّرورة أن تفهموا كل المسائل على دقَّةٍ كاملة، ولكن حسبكم أنَّكم فهمتم أصل الباب، وطريقة نظر الفقهاء، ثُمَّ بعد ذلك قد يكون في المسائل شيء مِن الصعوبة، وقبل الحلقة فتحت الكتاب وقرأت مسألة، فانغلقت عليَّ سبحان الله! ولكن لمَّا تأمَّلناها قليلًا اتَّضحت، وأنا أقصد بهذا أنَّ هذه المسائل فيها شيءٌ من الوعورة وشيءٌ مِن الفُروقات الدَّقيقة جدًّا، فإذا فاتت على المتعلم في أوَّلِ وهلةٍ فلا يَقلق، فإنَّما هذا هو العلم، وقد يكون منه ظاهرٌ جليٌّ يُفهَم لأول وهلة، وقد يكون منه دقيقٌ خفي يُفهم في المرَّةِ الثَّانية أو الثَّالثة، أو يُفهَم فَهمًا مُتوسِّطًا -يعني مُتعرضًا للإشكال- لا يستطيع الإنسان أن يحكم به، ثُمَّ يتبيَّن له، ومثل هذه الشَّاشة، فهذه الشَّاشة أول ما تبدأ يكون اللون أبيضًا وأسودًا، ثُمَّ بعد ذلك تكون بالصَّفاء الكامل، فأحيانًا تكون بعض المسائل عندك مثل الشَّاشة التي فيها شيء من عدم الوضوح.
ومسائل الرَّضاع كثيرة الوقوع، فيحتاج النَّاس لبياناها، ولكن هذه الصُّور بخصوصها، كأن يتزوج شخص صغيرة، ثم ترضع هذه الصغيرة...، هذه قليلة الوقوع، ولكن مِثْلَمَا قلت لكم:إنَّ فائدتها عظيمة، فهي تقوي ملَكَة الطالب الفقهيَّة، وتفتق ذهنه.
ثُمَّ أيضًا من المهم جدًّا أنَّ طالب الفقه والعلم ينبغي أَلَّا يحصر نفسه بالوقائع التي يراها في مجتمعه؛ لأنَّ الفقه لم يوجَد لمجتمع مِصر أو المغرب أو إندونيسيا أو السعودية؛ الفقه جاء للمسلمين أجمعين على اختلاف بُلدانهم، واختلاف أزمانهم، فما لا تجده أو تعالجه في مجتمعك قد يكون في مجتمعٍ آخر ظاهرًا جليًّا، فلابدَّ أن يَتَّسِع فهمك لتلك الصورة، ولو ذكر الفقهاء صورة من الصور لا تقرنها بالصورة التي عندك فيضيق فهمك ويُخطئ حكمك في مثل هذه المسائل.
{قال -رحمه الله: (وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكُبْرى، حَرُمَ اْلكُلُّ عَلَيْهِ عَلى اْلأَبَدِ)}.
إذا دخل بالكبرى التي أرضعت هؤلاء الثَّلاث أو الثنتين أو الواحدة -في المسائل المتقدمة- فإنهنَّ سيكنَّ ربائبه من زوجته، فإذا دخل بأمِّهنَّ فلا يجوز له أن ينكحهنَّ بعد ذلك فيبطل النكاح.
{(وَلاَ مَهْرَ لِلْكُبْرى إِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَ)}.
لا مهرَ لها؛ لأنَّها هي التي تسبَّبت في إفساد نكاحها، هي الآن انفسخ نكاحها باعتبار أنَّها أرضعت زوجاته، فصارت أمًّا لزوجاته، ولكن هي التي تسببت وأرضعت، فلا مَهر لها، والقاعدة عند الفقهاء -على ما سيأتي في باب الصداق: "أن الفسخ إذا كان قبل الدُّخول فإن كان مِن الزَّوجة فلا مَهر لها، وإن كان من الزَّوج فلها نصف المهر".

{(وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا مَهْرُهَا، وَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ اْلأَصَاغِرِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلى اْلكُبْرى)}.
إذا كان قد دخل بها فلها المهر كاملًا مُستقرًّا؛ لأنَّه لَمَّا دَخَلَ بِهَا استحلَّ فرجها، فلها المهر بما استحلَّ مِن فَرجها، والشَّارع قد عظَّمَ أمرَ النِّساء، واستحلال هذه الفروج، ولذلك جاءفي أحاديث كثيرة تعظيم هذا الأمر «وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» ، وقوله: «فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَ» ، ليُعلَم أنَّ ما يُقابل ذلك شيئًا عظيمًا؛ لأنَّ هذه المرأة لها كيانها، ولها احترامها، ولها منزلتها؛ فكان الشَّرع أعظم ما يكون تحريمًا لذلك، وتعظيمًا لهذه المنزلة، وإبقاءً عليها.
إذن؛ لو دخل بالكبرى فلها المهر بما استحلَّ من فرجها.
أمَّا الصُّغريات اللاتي لم يدخلن بهنَّ؛ لأنَّه لا يُتصوَّر أنَّه دخل بهنَّ؛ فلهنَّ نصف المهر؛ لأنَّ الفُرقة لمتأتِ منهنَّ، وكما قلنا:إن القاعدة "إذا حصل الطَّلاق بين الزَّوجين قبل الدُّخول بها، وكانت الفِراق ليس من جهة المرأة؛ فإنَّ على الزَّوج نصف المهر"، ولما كانت الكُبرى هي التي تسبَّبت عليه بهذه المشكلة فله أن يرجع عليها فيُطالبها بما دفع لهنَّ من أنصاف تلك المهور.
{قال -رحمه الله: (وَلَوْ دَبَّتِ الصُّغْرى إِلى اْلكُبْرى وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَارْتَضَعَتْ مِنْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، حَرَّمَتْهَا عَلى الزَّوْجِ، وَلَهَا نِصْفُ مَهْرِهَا عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلى الصُّغْرى، إِنْ كاَنَ قَبْلَ الدُّخُوْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَهَــا مَهْرُهَــا كُلُّـهُ، لاَ يَرْجِـــعُ بِــهِ عَلى أَحَدٍ، وَلاَ مَهْــــرَ لِلصُّغْرى)}.
كأنَّه أرادَ أن يُبيِّن أنَّه إذا لم يكن مِن الكُبرى فِعل، فلو أنَّ هذه الصغيرة دبَّت فالتقمت ثديَ هذه الكبيرة فرضعت منه؛ فإنَّها إذا رضعت خمس رضعات فسيثبت أنَّها أمها مِن الرَّضاع، فننظر إلى هذه الكبرى:
 إن كانت قبل الدخول: فستكون أمَّ زوجته، فلها نِصف المهر.
 إن كان بعد الدخول: فلها المهر بما استحلَّ من فرجها.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله: (لاَ يَرْجِـــعُ بِــهِ عَلى أَحَدٍ)؛ لأنَّ هذه صغيرة، ولم يكن من الكبيرة فعل أو إرادة لأفساد النِّكاح، فلم يكن عليها شيء.
أمَّا الصُّغرى فسيفسد نكاحها إن كان دخل بالكبرى، ولكن لا مهر لها، وطبعًا هو لم يدخل بالصغرى؛ لأنَّه لا يُتصوَّر ذلك، ولا مهر لها؛ لأنَّ الفُرقة جاءت من قِبَلها، فهي التي أفسدت على نفسها هذا النِّكاح بالتقامها الثَّدي، وكونها مُرضعة لهذا الرجل.
{قال: (وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً، ثُمَّ قَالَ: هِيَ أُخْتِيْ مِنَ الرَّضَاعِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُ وَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، أَوْ نِصْفُهُ إِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ تُصَدِّقْهُ، وإن صدَّقَتْه قبَلَ الدُّخولِ فَلَا شيءَ لَهَ)}.
لو نكح امرأة ثم قال: هي أختي من الرضاع، فيقول الفقهاء: إنَّه اعترف على نفسه أنَّه لا نِكاح بينهما؛ لأنَّ مُقتضى أن تكون أخته مِن الرَّضاع أنَّ بينهما مَحرميَّة، وإذا كان بينهما محرميَّة فلا يكون بينهما نكاح، ولا يجوز له أن يدخل بها، ولا أن يُعاشرها، ولا أن تكون زوجة له، فكأنَّه اعترف على نفسه أو أَقَرَّ على نفسه بأنَّها ليست له بزوجة، فبناء على ذلك نقول: انفسخ نكاحها.
قال المؤلف: (وَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَ)؛ لأنَّ الفُرقة جاءت مِن جهته، فهو الذي قال إنَّها أخته من الرَّضاع.
قال: (أَوْ نِصْفُهُ إِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَ)؛ لأنَّ الفُرقة جاءت من قبله،﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة:237]، فجعل الله -جَلَّ وَعَلا- لها النِّصف في هذه الحال إن كانت الفُرقة منه، بشرط أَلَّا تصدقه.
أمَّا إذا صدَّقته فقالت: نعم، هو أخي من الرَّضاع؛ فإنَّ الفُرقة جاءت منهما جميعًا، فلا يكون لها مهرٌ في مثل هذه الحال.
قال: (وَإِنْ صَدَّقَتْه قبَلَ الدُّخولِ فَلَا شيءَ لَهَ)؛ لأنَّه لم تتمحَّض الفُرقَة من جِهته.
{قال: (وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِيْ قَالَتْ: هُوَ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعِ، فَأَكْذَبَهَا وَلاَ بَيِّنَةَ لَهَا، فَهِيَ امْرَأَتُهُ فِي اْلحُكْمِ)}.
هذه مسألة فيها شيء من الإشكال كثير، والإشكال ليس في وضوحها أو حكمها، ولكن في حقيقتها أو واقعها، وهذا ممكن!
فلو قالت: هو أخي من الرَّضاع، فأكذبها وقال: لستِ أختي من الرَّضاع ولا أعرف شيئًا من ذلك، ولم يكن بيننا وبينكم صلة، ولم أعرفكِ لا من قريبٍ ولا من بعيد، ونحو ذلك!
فنقول: هي من جِهة الحُكم هي زوجته، ولا نصدقها؛ لأنَّها تدَّعي بفوات حقٍّ عليها، فالحق عليها الآن أنَّها زوجته، وأن تُمكِّنَه من نفسها، وأن يستمتع بها ونحو ذلك، فكأنَّها تُريد أن تتخلص من الحق.
ومثال ذلك:
واحد يقول: عليَّ دينٌ؛ فنصدِّقه، ونقول: نعم عليك دين، فمثل ذلك في المسألة الأولى لما قال هي أختي مِنَ الرَّضاع، فكأنَّه اعترف على نفسه بشيءٍ فصدَّقناه.
ولكن هذه تقول: ليَ دَين، فلا يُمكن أن نُصدقها بدون بيِّننة.
فبناء على ذلك نقول: لا، إلا أن يصدقها، فإن صدَّقها وقال: نعم، فلو قالت له: تذكر فلانة جارتكم هذه أرضعتني أو أرضعت أمي أو نحو ذلك؛ فصدَّقها، فلا نكاح بينهما ولا مهر لها إن لم يكون دخل بها.
ولكن إذا كذبها، فنقول: هي امرأته في الحكم؛ لأنَّها تدعي تخلصها من تبعَة، ولا يجوز لها إلا أن يكون ذلك ببينة.
ولكن يقول الفقهاء: إن كانت مُتيقنة بهذه الحال فلا يجوز لها أن تُمكِّنه مِن نفسها؛ لأنَّها تعلم أنها أخته مِنَ الرَّضاع، فلذلك يقولون: هي هاربة وهو طالب، هو يطلبها لأنه يرى أنَّ له حق ولأنها زوجته، ولكن هي لا تُمَكِّنه مِن نَفسها أبدًا، وإن استطاعت أن تفسخ نفسهاأو تطلب الخلع في ذلك فيجب عليها؛ لأنَّها لو مكَنته من نفسها لكأنَّها مكَّنته من الزِّنا، وطاوعته على وقوعِ الفاحشة، وهو مَعذور مِن جهة أنَّه لم يعلم ذلك بيقين، وأنَّها زوجته في الأصل بعقدٍ صحيح، فلم يكن عليه في ذلك شيء.
فمحل الإشكال: أنها ستكون في حيصَ بيص، فهو لم يصدقها فيفترقان، ولم يجز لها أن تبقى معها؛ فلم تزل في هربٍ وهو في طلبٍ، وهكذا حتى يقضي الله بينهما أمرًا.
ولأجل ذلك نحن قلنا:إنَّه لابد مِن توثيق أمور الرَّضاع، فكل مَن أرضع شخصًا أو ارتضع وأهله على علم بذلك سجَّلوا ذلك وبيَّنوه، وبيَّنوا نسبها واسمها ووصفها، ولقبها إذا كان لها لقب؛ لأنَّ الأيام تذهب، فيفترقون عشرين سنة أو ثلاثين سنة، ثُمَّ يلتقون فيتزوج هذا، ثُمَّ يتبيَّن أنَّ هذه كانت جارةً لهم، أو كانت هناك جارة لأولئك أرضعت هذا وأرضعت ذاك؛ فيحصل الإشكال خاصة إذا كانوا قد أنجبوا أطفالًا، ثُمَّ تبين أَنَّهم إخوة من الرَّضاع، فيحصل بسبب ذلك إشكال شديد، فينبغي تثبيت ذلك دفعًا للإشكال، ومنعًا للاشتباه، وحتى لا يحصل على الناس ما يكرهون.

{قال -رحمه الله: (باَبُ نِكاَحِ اْلكُفاَّرِ
لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمَةٍ نِكَاحُ كَافِرٍ بِحَالٍ، وَلاَ لِمُسْلِمٍ نِكَاحُ كَافِرَةٍ، إِلاَّ اْلحُرَّةَ اْلكِتَابِيَّةَ)
}.
الكلام في أنكحة الكفار من حيث أصلها، وحكمها، وكيف يتعامل معه المسلمون، وأيضًا ما يدخل في ذلك من نكاح المسلم للكافرة، أو نكاح الكافر للمسلمة، فأراد المؤلف -رحمه الله تعالى- أن يُبيِّن ذلك كله.
أمَّا نِكاح المسلم للكافرة، ونكاح الكافر للمسلمة؛ فهذا ظاهر وسنأتي عليه.
ونحتاج إلى دراسة أنكحة الكفار من جهتين:
أولًا: إذا أسلم الكافر، فهل نقرُّه على ذلك النِّكاح، ربَّما كان boyfriend أو girlfriend وهذه من الأسماء الشَّائعة في هذا الزَّمن ويعترفون بأنَّه نكاح، فهل نقول افترقا، أو جدِّدا النِّكاح أو غير ذلك، وهذا كمثال، وثَمَّ أشياء كثيرة، ما يكون قد أصدقها عليه من مَهرٍ محرَّم، إلى غير ذلك من الأشياء.
إذن نحتاج إلى إليها، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسلم أناس كثير من الكفار فلم يأمرهم بتجديد النِّكاح، ولم ينظر في ذلك بشيء، فدلَّ على اعتبارها من حيث الأصل، وسيأتي تفصيله.
ثانيًا: أنَّ هذه الشَّريعة شريعة عظيمة وشاملة وعامَّة، فلا تختصُّ بأهلِ الإسلام، فلو ارتفع إلى القاضي كافران وطلبا الحُكم في أمرٍ يتعلق بنكاحهما أو الصَّداق في النِّكاح؛ للزمه أن ينظر وأن يحكم بينهما بحكم أهل الإسلام، وأن يُبيِّن لهما، ولكن ليس علينا أن نتتبع الكفار في أحوالهم، فنقول: تعالَ، أنت فعلت كذا أو كذا؛ لا نتعرض لهم، ولكن إذا ارتفعوا إلينا وجب علينا أن ننظر إليهم بحكم الشَّريعة، وأن نحكم عليهم بحكم الإسلام، فلو ارتفع إلينا الكافر لِقِسمة المواريث فنقسم مَواريثهم على قسمة الشَّريعة الإسلامية، وهكذا في سائر ما يتعلق ذبلك من الأحكام.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمَةٍ نِكَاحُ كَافِرٍ بِحَالٍ)، وهذا محل اتفاق وإجماعٍ بينَ أهل العلم، أنَّ المسلمة لا تُقرُّ تحت كافرٍ، لدلالة النصوص، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ﴾ [البقرة:221]، وأعجب شيء في هذا أنَّ قارئًا قرأ "ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكِينَ" وكان بجواره أحد المشايخ فقال: حتى ولو آمن! فالتفت إليه، فعرف أنَّه أخطأ!
فالآية ﴿وَلَا تَنكِحُوا.. ﴾ يعني: لا تُزوِّجوا المشركين، فلا يُزوَّج الكافرُ من مُسلمةٍ البتَّة. هذا من جهة، وهو محل إجماع، سواء كان يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو بوذيًّا، أو أي ديانةٍ كان، فمادام أنَّه ليس بمسلمٍ فلا.
ولأنَّه من جهة المعنى: أنَّ الزوجيَّة تقتضي علو الزَّوجِ على الزَّوجة، والكافرُ لا يعلو على المسملة، فالإسلام يعلو ولا يَعلو عليه.
أمَّا المسلم مع الكافرة فكذلك، فالأصل أنَّ المسلم لا يتزوَّج كافرة البتَّة، إِلَّا ما استثناه الدَّليل، والذي استثناه الدليل هو الحرَّة الكتابية، فقال الله -جَلَّ وَعَلا:﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة:221]، وقال في نساء أهل الكتاب:﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة:5]، فهذه الآية دالَّة على أنَّ المسلم يتزوج الحرَّة الكتابية، أمَّا الأُمَّة الكتابية فلا تحل، وكذلك غير الكتابية.
والمقصود بالكتابيَّة: هي اليهودية والنَّصرانيَّة.
فلو تزوج مجوسيَّة أو مُشركة، أو بُوذيَّة، أو مُلحدة، أو غير ذلك؛ فلا يجوز، ولو تزوج نصرانية أمةً، أو يهوديَّة أمةً؛ فلا يجوز. إذن لم يبقَ إلا أنَّه لا يحل له إلا أن ينكح الحُرَّة الكتابية، وهذا بنصِّ كتاب الله -جَلَّ وَعَلا.
هل يُحبُّها؟
المحبَّة من الله -جَلَّ وَعَلا- ولكنَّ حبَّ الزَّوجة الكتابية لا يُنافي أصل الدين، والولاية التي جاءت في الآيات لا يُقصَد بها الحب الطبيعي للزوجيَّة أو للقرابة كأن يكون ابنًا أو أخًا، أو جارًا، أو صديقًا، أو شريكًا، أو مُعاملًا، أو حسنَ إليك في أمر؛ فكل ذلك لا يمنع من التَّواصل والمحبة، ولكن المقصود من الوِلاية هي الولاية في الدين، والولاية في عقيدتهم، وتصحيح ما هم عليه، الرضا بشركهم وموافقتهم على ذلك، فهذا هو الذي يكون معارضًا لأصل الملَّة أو لكمالها بحسبِ ما وقع فيه الإنسان من ذلك، لكن لأن هذه المسألة كثير ما يحصل فيها شيءٌ من الإشكال، ويظن أنه لا يجوز له أن يحب الكتابية!
فنقول: مُقتضى الزوجيَّة المحبة والمودة، وأن تنتشر بينهما، وقد يحصل بينهما في ذلك شيء كثير، فهذا ليس بمعارضٍ لأصل الدَّين.
{قال -رحمه الله: (وَمَتَى أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ، أَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ اْلكَافِرَانِ مَعًا، فَهُمَا عَلى نِكَاحِهِمَ)}.
متى أسلم زوجُ الكتابيَّة فهما على نكاحهما؛ لأنَّه يُقرُّ للمسلم أن يبتدئ نكاح كتابيَّة، فمن باب أولى أن يَصح له استدامة نكاح زوجته الكتابيَّة.
فلو كانا نصرانيين، فأسلم الزَّوج وبقيت الزَّوجة، فنقول: يُقرَّانِ على نكاحهما، ولا يجب التَّفرقة بينهما؛ لأنَّه لو أراد المسلم ابتداءً أن يتزوج هذه النَّصرانية لجازَ له، فلمَّا أسلم هذا النَّصراني جاز له من بَابِ أولى أن يُقرَّ على زوجته الكتابيَّة؛ لأنَّ الابتداء أشد من الاستدامة.
وكذلك لو كانايهوديين، فأسلم الزوج، فيُقرَّان على زواجهما، لو كان غير يهودي فهذه مُشكلة؛ هل يُقرّ زواج غير الكتابي للكتابيَّة؟ فنحن لا نتعرَّض لهم.
فلو كان هو بوذي فأسلم أو ملحد فأسلم، وهي كتابيَّة تحته؛ فيجوز نكاحهما، لأنه يجوز للمسلم أن يُقرَّ على الكتابية في تزوجها.

قال: (أَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ اْلكَافِرَانِ مَعًا، فَهُمَا عَلى نِكَاحِهِمَ).
صورة إسلامهما معًا عند الفقهاء: بأن ينطقا بالشَّهادة في آنٍ واحدٍ، فلا يتقدَّم أحدهما على الآخر، فيُقال لهما: "قولا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله" وقرَّرا عقيدة أهل الإسلام وعقدا عليها قلبهما، فيجوز ذلك، ويكونا مُسلمين، سواء كان هذا قبل دخولهما، أو بعد دخولهما؛ باعتبار أنَّهما أسلما مَعًا، فلم يحصل بينهما تباين في الدِّيانة.
وقوله: (مَعً)، هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وهو قول جمع من أهل العلم، وإن كان بعضهم يقول: المعية حتى لو كانا في مجلسٍ واحدٍ، فالمجلس الواحد بمثابة الحال الواحدة، فيكونا كما لو أسلما معًا، ولكن ظاهر كلام المؤلف هو حصول النَّطق منهما في آنٍ واحدٍ.

{قال: (وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، أَوِ ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ اْلمُسْلِمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ ذلِكَ بَعْدَ الدُّخُوْلِ، فَأَسْلَمَ اْلكَافِرُ مِنْهُمَا فِيْ عِدَّتِهَا، فَهُمَا عَلى نِكَاحِهِمَا، وَإِلاَّ تَبَيَّنَا أَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ مُنْذُ اخْتَلَفَ دِيْنُهُمُ)}.
قوله: (وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَ)، يعني غير زوج الكتابية، يعني غير المسائل المتقدمة، بأن كانا بوذيين أو مجوسيين، أو من الأديان الأخرى التي لا أصل لها؛ فبناء على ذلك نقول: لو كانا مجوسيين وأسلم الزوج أو أسلمت الزوجة وبقيَ الزوج مجوسيًّا..
قال: (أَوِ ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ اْلمُسْلِمَيْنِ)، نسأل الله السلامة والعافية، فإن ارتدَّ أحد الزوجين -كان مسلمًا فأصبح كافرًا- أو عاد مشركًا، فلو حصل ذلك قبل الدُّخول انفسخ النِّكاح في الحال.
أمَّا إذا كان المسلم غير الزوج من الزوجة الكتابية، فلا يخلو:
 إن كان ذلك قبل الدخول: فينفسخ نكاحهما، فإذا أسلم المجوسي وتحته مجوسيَّة لم يدخل بها انفسخ النكاح، وكذلك لو أسلمت هي.
 قال: (وَإِنْ كَانَ ذلِكَ بَعْدَ الدُّخُوْلِ، فَأَسْلَمَ اْلكَافِرُ مِنْهُمَا فِيْ عِدَّتِهَا، فَهُمَا عَلى نِكَاحِهِمَ)، يعني يثنتظر قدرَ العدة، وأصل ذلك القصص الكثيرة عن الصحابة، فصفوان بن أمية أسلم بعد زوجه بشهر، وكانت وجته بنت المغيرة بن الوليد، وكذلك أم حكيم زوجة عكرمة بن أبي جهل وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أباح دمه، فجاءت إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأعطاها ما طلبت، فجاء مسلمًا بعدَ ذلك، فكانا على نكاحهما، ومثل ذلك احوال كثيرة، فدلَّ هذا على أنه إذا أسلم أحد الزوجين وبقيَ الآخر، فإن لحقه في العدة فهما على نكاحهما، وإن لم يلحقه وبقيَ على شركه، فيقول المؤلف: (وَإِلاَّ تَبَيَّنَا أَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ مُنْذُ اخْتَلَفَ دِيْنُهُمُ)، يعني لا نقول أن بعد انتهاء العدة يُفرَّق بينهما، وإنما نقول إن الفرقة حاصلة قبل ذلك، ولكننا لم نتبيَّن أو كان ذلك الوقت وقتٌ مُراعى، فننتظر حتى ننظر إن أسلم بقي على نكاحهما، وإن لم يسلم حكمنا بانتهاء النِّكاح وحصول الفرقَة منذ أسلم الأول منهما.
هذا ما أمكن به الوقت، وتمنيت لو اننا انتهينا من الشُّروطفي النِّكاح، ولكن ربما نستعجل في اللقاءات القادمة حتى نصل إلى كتاب الطَّلاق، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وأسأل الله أن يُبصِّركم وأن يزيد فهمكم، وأن يُعينكم على الخير والهدى، وشكر الله للإخوة جميعًا، ولهذا البناء العلمي، جعله الله عامرًا مباركًا.

{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله ان يجعل ذلك في موازين حسناتكم، هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذكلم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك