الدرس الخامس
فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأُرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان؛ فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
حياك الله، وأهلًا وسهلًا.
{في الحلقة الماضية بدأنا كتاب النِّكاح من كتاب "عمدة الفقه" للإمام الموفق ابن
قدامة، وتبقى معنا مسألة ضرب الدُّفِّ في إعلان النِّكاح}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رَبِّ العَالمين، وَصَلَّى الله وَسَلَّم وَبَارك على نبينا محمدٍ، وعلى
آله وأصحابه وَسَلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعلنا وإيَّاكم مِن عباده الشَّاكرين الْمُتَّقين،
الذين إذا أُعطُوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نَسوا تَذَكَّروا، وأن يدفع
عنَّا الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، وأن يكفينا تسلُّطَ المتسلطين، واعتداء
المعتدين، وَظُلمَ الظَّالمين، إنَّ ربنا جواد كريم.
كُنَّا -كما ذكرتَ حفظك الله- قد استهللنا الكلام في أَوَّل كتاب النِّكاح، فالكلام
كان في مُقدمة النِّكاح، وتعريفه، وما يتعلق بأصله، والمسائل المتعلقة بخطبةِ
النِّكاح التي كما يُقال هي مقدمات النِّكاح.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَيُسْتَحَبُّ إِعْلاَنُ النِّكاح، وَالضَّرْبُ
عَلَيْهِ بِالدُّفِّ).
إعلان النِّكاح هذا ظاهر ومستقر ولا اختلاف فيه عند أهل العلم، لقوله -صَلَّى اللهُ
عَليهِ وَسَلَّمَ: «فَصْلٌ مَا بَيْنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ،
وَالصَّوْتُ فِي النِّكاح» ، وتكاثرت بذلك الأحاديث عن النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَليهِ وَسَلَّمَ- ولذلك كان ضرب الدُّفِّ هو طريق من طُرِقِ إعلان النِّكاح، وهو
مُستحبٌّ عِندَ عَامَّة أهل العلم لا يختلفون في ذلك، وتكاثرت به الأحاديث عن النبي
-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا
عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ» ، وأذن لهم حتى كانوا يُرددون بعض الأشعار مثل:
أتيناكم أتيناكم *** فيحيينا نحييكم.
ولذلك يقول أهل العلم: ولا بأس أن يكون في الإعلان عن النكاح أبيات فيها غزلٌ ونحوه
من الغزل العفيف الذي ليس فيه وصفٌ للمحرمات، وتشبُّهٌ بالعفيفات.
هذه المسألة من حيث أصلها ظاهرة، ومحلها في الجملة باب الوليمة، يذكرونها هناك،
وكما تعرفون أنَّ كتاب "عمدة الفقه" جَرَىَ فيه الموفق ابن قدامة في بعض المسائل
على ترتيب خاصٍّ به، فما دام أنه ذكره هنا وإن كان سياتينا هناك، لكن نذكره في أول
ذكر المؤلف له على طريقة الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
فإذا جئنا لضرب الدفِّ في النِّكاح: فهذه سنَّةٌ مستقرَّة -كما قلنا- وهو قول
عامَّة أهل العلم لا يختلفون في ذلك، وهو طريق من طرائق إعلانه.
متعلق الحكم هو: الإملاك والدخول، فيذكر الفقهاء ذلك حين الإملاك، ويذكرون أنه يكون
حين الدخول، وما دام أنه متعلق بالنِّكاح وإعلانه فالأمر فيه متقاربٌ، سواء كان في
وليمة الإملاك، أو كان في وليمة الدخول التي هي الأصل، وهي التي تتم بها الفرحة،
ويكتمل بها النِّكاح، ويحصل بها دخول الزوج على زوجته.
والدُّفُّ نوعٌ مِن أنواع المعازف، وهو إطار من جلد له جهةٌ واحدةٌ، وإذا كان
مُغطًّى من الجهتين فهو طبلٌ، والقاعدة عند الفقهاء تقول: إنَّ آلات اللهو كلها
مُحرَّمة، لم يستثنِ الشَّارع من ذلك شيء إلا الدُّف فقط، وما سوى ذلك من الصنوج أو
الطبل أو آلة العود الموجودة الآن، أو البيانو، أو غيرها من الآلات التي تستجد من
هذه المُلهيَّات فهي محرمة، ولا إذن ففيها، وقد ذكر أهل العلم الإجماع على حُرْمَة
المعازف وعدم حِلِّها، وما يذكر من أقوال أهل الشذوذ ويَقتنصون بعض ما ليس فيه
مستمسك فإنه لا يُغنيهم عند الله -جلَّ وعَلا- شيئًا.
هذا إذا تكلمنا عن المعازف مِن حيث أصلها، فإذا تكلمنا مِن حيث واقعها وما انضمَّ
إلى ذلك من الفُحش ودعاوى السُّفورِ والفجور، وما انضمَّ إلى ذلك من الاختلاط
وتَعَرِّي النِّساء والرقص وغيره؛ فهذه ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وبلاءٌ كثير، وشرٌّ
مستطير ابتُليَ به النَّاس، فلا ينبغي أن يُسهَّل فيه، ولا أن يُظنَّ أنَّ ذلك فيه
نوع رخصة ولا قريبًا منها، ولا أنَّ الشَّريعة تأتي بحلِّ شيءٍ من ذلك أو التَّسهيل
فيه، فإنها مواطن الشيطان، ودعوة العُري والفجورِ والبلاء، فينبغي أن يُحذَر من ذلك
ويُتنبَّه.
إذا رجعنا إلى أصل المسألة، فالدُّفُّ -كما قلنا- هو للنِّساء، هل ينتقل الحل إلى
الرجال؟
الأصل -كما ذكره المؤلف- أنَّه للنِّساء، وهذا واضحٌ أنَّه على التَّخصيص، وهو
القول المشهور عند الحنابلة، وأيضًا هو قولٌ لجمعٍ من الفقهاء -أو للجمهور- وإن كان
عند بعض الفقهاء وهو قول عن أحمد -رحمه الله- أنه يُسوَّى فيه بين الرِّجال
ِوالنِّساء.
فعلى كل حالٍ فالأصل أنَّه للنِّساء، وأنَّ هذا اللهو توابعه إنما تُعرَف به
النِّساء، وتألفه النِّساء، ولذلك جُعل لهنَّ لا لغيرهنَّ، وينبغي ألا يُتوسَّع في
ذلك، خاصَّة أنَّ دواعي الشَّر والشيطان في هذه الأبواب قد كثُرَت.
هل الدُّفّ يكون في غير النِّكاح؟
مِنَ العُلماء مَن قَصَرَه على النِّكاح، ولكن مِنهم مَن قَال: في نكاحٍ ونحوه
كفرحِ أو عيدٍ، أو نحوها، ودلَّت الدلائل على نحوٍ من ذلك لمَّا دَخَلَ النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- وجاريتين تغنيان، فلم يَنْهَيهُمَا النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- ودخل أبو بكر فكأنه نهرهما، فقال: «إِنَّ لِكُلِّ
قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَ» ، كما عند البخاري في صحيحه، فدلَّ ذلك على أنهما
كان من نحوِ فرحٍ وسرورٍ؛ فيُمكن أن يُسهَّل فيه للنساء.
وإذا كان الأمر مُتعلقًا بالدُّفِّ فالأمر في ذلك يسير، خاصة لما كثُرت أبواب
الحرام والإثم والعُدوان؛ فينبغي أن لا يُوسَّع فيما جاء الشَّرع بحلِّه، ويُحذَّر
ممَّا جاء الشرع بمنعه وتحريمه.
إذن يتقرر معنا:
- أنَّ إعلان النِّكاح سُنَّة.
- وأنَّ من وسائله ضرب الدُّفِّ عليه، وقد جاءت بذلك السُّنة عن النَّبي -صَلَّى
اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- وأن متعلقه الدخول، وقد يكون في الإملاك -يعني وقت كتابة
العقد.
- وأنَّه يُلحق به ما يكون من أوقات الفرح والسُّرور
- أنَّ متعلَّق الحكم للنساء، ويُتوقَّف ولا يُقال بانتقاله إلى الرجال.
- ما سوى الدُّفِّ من آلات اللهو فمحرَّمٌ مُطلقًا، لا في عُرسٍ ولا في سواه.
إذا قلنا بجواز الدف في النِّكاح؛ فإذا استُئجِرَ لذلك مَن يضربه فلا غضاضة، ولكن
بشرط أَلَّا يكون فيه سَرف، وألَّا يُدْعَى فيه أهل الفجور، ومَن يُعرف بالطَّرَبِ
والفِسقِ والفجور؛ لأنَّ هذا كأنه تسويق لمثل أولئك، وتقديم لما عند النَّاس، فيكون
بسبب ذلك تقريب الشَّرِّ إلى النَّاس، وتسهيله في قلوبهم.
{قال -رحمه الله: (باَبُ وِلاَيَة ِالنِّكاح: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ،
وَشَاهِدَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ)}.
لمَّا قال المؤلف (باَبُ وِلاَيَة ِالنِّكاح)، كأنَّه أَرَادَ بذلك أن يُشيرَ إِلى
مَسائل الشُّروط في النِّكاح، فشروط النِّكاح:
أولها: تعيين الزوجين: ويحصل التَّعيين بالإشارة، بالاسم، أو بما تتعيَّن به كوصفٍ
تتميَّز به، ولم يُعرِّج المؤلف على شيءٍ من ذلك؛ لأنَّ مَبنى هذا الكتاب (أي: عمدة
الفقه) على الاختصار؛ ولأنَّ هذا ظاهر، ولكن لمَّا كان أحيانًا يحصل في مثل هذه
المسائل شيءٌ من التَّلاعب أو التَّدليس ونحوه؛ حسُنَ الإشارة إلى ذلك.
ثانيها: الرضا، هل يكون النِّكاح إجبارًا أو لا؟ ستأتينا هذه المسألة.
ثالثها: الولاية.
والولاية في النِّكاح ظاهرة مُستقرة، ودلائل الشَّرع على ذلك مُتوافرة، وإجماعُ
الصَّحابة على ذلك حاصل، فإنه نُقلَ عن أكثر مِن ثلاثة عشر من أصحاب النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- كما نَقَلَ ذلك ابن المنذر وغيره؛ ولم يُعرف عن
أحد منهم أنَّه خالفَ في أنَّ النِّكاح لابد فيه من وليٍّ يليه، وقائم عليه يقوم
به، ولذلك عائشة -رضي الله تعالى عنها- لمَّا كانت تتعاهد أبناء أخيها وتعالج أَمر
نِكاح بناته، فلمَّا وصل الأمر إلى النِّكاح قالت: "اعْقِدُوا فَإِنَّ النِّسَاءَ
لَا يَعْقِدْنَ" .
ومما يدل لذلك: تضافر الأدلة بالخطاب في النِّكاح للأولياء، قال تعالى:
﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ
إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ﴾ [النور:32]، ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ [النساء:19]، إلى
غير ذلك من الآيات التي فيها الخطاب إلى الأولياء، مما يدلُّ على تعيُّنه، والنبي
-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- في حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وعمران بن
حصين، وغيره؛ أنه قال: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، و"لا" هنا نافية، والنَّفي
هُنا نفي للحقيقة الشَّرعية؛ لأنَّه قد يوجد في الحقيقة نكاح بدون ولي، ولكن نحن
نقول: هذا نكاح في الحقيقة، ولكنه في الشَّرع لا يُعَدُّ نكاحًا، ولا يتحقق فيه اسم
النِّكاح، وبناء على ذلك لا يكون النِّكاح نكاحًا إلا بولي.
هذا هو مذهب الحنابلة وقول الجماهير، خلافًا لأبي حنيفة، وإن كان صاحب أبي حنيفة
-رحمه الله تعالى ورحم فقهاء المسلمين- قال باعتبار الولاية في النِّكاح.
وعند قولنا من أنه نُقلَ عن أبي حنيفة عدم اشتراط الولاية؛ لا يعني ذلك أنَّه لا
يعتبرها، ولا يعني ذلك أنه لا يُعوِّل عليها، ولا يعني ذلك أنَّ الأنكحة تتخلع من
ذلك؛ ولكن لو وُجد ما يَستدعي عَقد النِّكاح بدون ولي فإنه لا يَفسد العقد ولا
يُحكم ببطلانه.
ومع ذلك نقول: إنَّ العبرة بما تكاثرت به الأدلة، وتتابع عليه أهل العلم، وظهر لهم
من المعنى والأثر؛ بل لو قلنا: إنَّ النِّكاح بدون ولي فيما مضى له وجه صحيح؛ فلا
يمكن أن نقول الآن من أنَّ له وجه، وذلك لمَّا نُظِرَ ورُؤِيَ من تكاثر حصول البلاء
بتجاسر النِّساء على النِّكاح وعقدهنَّ لأنفسهن وما ترتب على ذلك مِن مَفَاسد وما
حصل في ذلك من تلاعب بهنّ، وما عقب ذلك من طلاق، وما تعلق بذلك من زيجاتٍ ممن لا
يستحقون أن يُزوَّجوا لسوء أخلاقهم، ولعدم قيامهم على أزواجهم، ولتفريطهم في حق
الله -جلَّ وعَلا- وحق من جعل الله لهم الولاية عليهم، فينبغي أن يُتنبَّه لذلك.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي التنبه لها: أنَّ التَّسويق لعدم الولاية إنَّما هي
طرائق أهل الغرب، ولُبِّسَت بعض المسلسلات والمسارح ونحوها تكريه النَّاس في هذا،
وحُكيت قصص فيها مغامرة المرأة وهي تُخالف أولياءها وتهرب مع صاحبها ونحو ذلك، حتى
يُقللوا أمر الولاية في النِّكاح مع عِظَمِها وَعِظَم ما يترتب عليها، وكبير أثرها.
وسأقول كلمة فاصلة في هذا لا يُحتاج بعدها إلى دليل: لو كان النِّكاح بدون وليٍّ
يُفضي إلى خير؛ لرأيتَ هؤلاء الممثلين أنفسهم وَمَن عَلى شَاكلتهم ممن يُشيعون ذلك
ويُظهرونه، لو نظرت في أحوالهم الأسرية وفي مقابلاتهم ومكاشفاتهم لرأيتَ أنهم أسوأ
النَّاس حياة اجتماعيَّة، وفيها من الطلاق والتَّشتت والتَّناحر والاختلاف، وما أن
تأتي في مقابلة من المقابلات على الأمور الاجتماعية حتى ترى أنَّ ذلك الشخص تتغير
معالم وجهه ويظهر بلاؤه، وفي ذلك من القصص ما لا يُحتاج معه إلى بيانٍ ولا دليلٍ.
فينبغي أن يُعلم أنَّ الولي قائمٌ على مَصلحةِ المرأة؛ لأنَّ المرأة قد تَجلبها
العاطقة، وقد تستهويها الرغبة، وقد يفوت عليها النظر في الكفاءة وحصول الرَّشدِ في
النِّكاح، وما يتعلق بقيام المصالح، فما جُعل الولي إلا لمصلحتها، وما أقامه
الشَّرع إلا لحصول الخير لها، فليُتنبَّه! فإنما ذلك قول الله، وقول رسوله، والله
-سبحانه وتعالى- بما يتعلق بمصالح البشرية أعرف وأعلم وبه يتحقق الخير، وينتفي
الشر، ولا خير إِلا في اتِّباع الكتاب والسُّنة، وترك ما سواهما، ولذلك جاء عن
النبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- قوله: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ
نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» ،
وفي بعض الروايات «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَ».
ويكثر السؤال على أنواع من الزيجات، كزواج عرفي، وزواج مسيار، وزواج مسفار؟
أولًا: ينبغي ألا يُدخل في تسويقها؛ لأنَّها ألفاظ فيها شيء مِنَ الدناءة، وهذا
عقدٌ رفيع ينبغي أن يُحفظ له كيانه، ويُحفظ له قدره.
ولا نحتاج أن نقول حُكم كل نوع من أنواع هذه الزيجات؛ بل نقول: أيُّ زواج ونكاح
اجتمعت فيه الشروط الصَّحيحة واكتملت على نحو ما نذكر الآن فهو صحيح، سواء سمَّيته
مسيارًا، أو عرفيًّا، أو غير ذلك، أو ما شئت من الأسماء.
وأي نكاح اختلَّ فيه واحدٌ من هذه الشُّروط فإنَّه ليس بنكاح شرعي، ولا يترتب عليه
آثاره، وبقاء المرأة في مثل تلك الحال مع الرجل بقاء على وجهٍ غير شرعي.
وهنا ينبغي أن يُعلم أنَّ بعض النَّاس يقول: إنَّ هذه المسألة على مذهب أبي حنيفة
-يريد بذلك النِّكاح بدون ولي!
نقول: لو قال بهذا أبو حنيفة، أو مَن على مذهبه، وهو في ذلك مُريد للحق طالب للهدى،
يعلم أنَّ هذا الإمام هو الإمام الأحق بالتقليد؛ فلا غضاضة عليه؛ ولكن من كان يعلم
من نفسه أنه إنما ذهب إلى ذلك لهوى يريد تحصيله، ولرغبة يريد إقامتها، وإن لم يكن
بذلك مُستمسكًا ولا معتقدًا؛ فإنه لا يجوز له.
ولذلك لو أنَّ واحدًا مِن هؤلاء الذين يَدَّعون أنَّه على مذهب أبي حنيفة في
النِّكاح بدون ولي قد تزوَّجت ابنته أو أخته بدون ولي؛ لرأيته يُولول ويرفع ويخفض،
فإمَّا أن يكون مُعتقدًا فكما يُصحح لنفسه فليصحح لابنته أو أخته، وإمَّا أن يكون
مُعتقدًا أنَّ الولي معتبر في النِّكاح فلا يُجيز لنفسه، ولا يرضى لبنات المسلمين،
كما أنَّه لا يرضى لبناته وأخواته أن يتزوجن بدون ولي ويحصل في ذلك عَليهنَّ من
التَّبِعَة أو البلاء، أو يُغرهن مَن ليس أهلًا للنكاح، فيحصل بسبب ذلك الشر
الكثير.
إذن اعتبار الولي ظاهر، والدلالة عليه من الكتاب والسنَّة وإجماع الصَّحابة وقول
أهل العلم، والمصلحة الظاهرة في ذلك جليَّة.
قال: (لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، وَشَاهِدَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ).
الشرط الرابع من شروط النِّكاح هو: الشهادة، فلابد مِن شاهدٍ يقوم على النِّكاح،
والشَّاهد يعتبر فيه رجلان، فلابد أن يشهدا على النِّكاح؛ لأنَّه يترتب عليه آثار
كبيرة، فيُمكن أن يحصل إنكار للنِّكاح من الزوج حتى لا ترثه، ويُمكن أن يريد بذلك
التَّخلص من بعض النَّفقات والتَّبعات، فجاء الشَّارع بالشهادة حتى يُحفظ لكل واحدٍ
مِنَ الزَّوجين حَقه، ولذلك جاء في بعض ألفاظ الحديث أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ
عَليهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» ، وإذا
حصلت الشهادة انتفى الكتمان وذهبت السرية، وحصل الحق.
وفي بعض الأحوال قد يكون للإنسان مأخذ أَلَّا يُعلم كُلَّ أَحد، أو قد يكون للإنسان
ظروف أَلَّا يُظهره للملأ، فإذا حصلت على ذلك الشهادة كفى، وإن كان الشهادة
والإعلان هو أتم شيء وأحسنه كما ذكر ذلك ابن تيمية -رحمه الله تعالى.
وقوله: (وَشَاهِدَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ)، لابد أن يكون الشَّاهد عدلا، وغير
المسلم لا يكون عدلًا.
إذن الشروط التي تعتبر في النِّكاح -كما ذكرنا:
- تعيين الزوجين.
- رضاهما.
- الولي.
- الشهادة.
فهذه الشروط المعتبرة، وسنأتي إلى تفاصيل الكلام على الرضا -بإذن الله جل وعلا.
{قال -رحمه الله: (وَأَوْلى النَّاسِ بِتَزْوِيْجِ اْلحُرَّةِ أَبُوْهَا، ثُمَّ
أَبُوْهُ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ ابْنُهَا ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ نَزَلُوْا، ثُمَّ
اْلأَقْرَبُ فَاْلأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهَا، ثُمَّ مُعْتِقُهَا، ثُمَّ
اْلأَقْرَبُ فَاْلأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهِ، ثُمَّ السُّلْطَانُ)}.
لما قرَّر أنَّ الولاية في النِّكاح مُعتبرة، وأنها شرط يقوم به النِّكاح ويصح، وبه
تحفظ المصالح وتتحقق المنافع الشرعية والدنيوية؛ فلابد أن يُعرف من هو الولي؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَأَوْلى النَّاسِ بِتَزْوِيْجِ اْلحُرَّةِ
أَبُوْهَ)، أمَّا الأَمَةُ فإنما يُزوجها سيدها؛ لأنَّه هو مالك منفعتها وبضعها،
فله سلطانه عليها، أمَّا الحُرَّة فيزوجها أبوها.
قال: (ثُمَّ أَبُوْهُ)؛ لأنَّ أبا الأبِ أبٌ، قال تعالى: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج:78].
أمَّا كون الأب هو المقدم، فإنَّ هذا ظاهرٌ لأمور:
أولًا: لأنَّ ولايته سابقة، فإنَّ ولايته قبل ولاية الابن، فإذا كان لها ابن فإنَّ
الذي زَوَّجَها قبل أن يكون لها ابن هو والدها.
ثانيًا: أنه أكثر شفقة.
ثالثًا: أهل العلم أجمعوا على ولايته، أمَّا الابن فبعضهم ذكر فيه خلافًا
كالشَّافعية.
فبناءً على ذلك نقول: إنَّ الأب مُقدم في الولاية على النِّكاح.
فإن قال قائل: لماذا تقدموه في النِّكاح وأنتم في العَصبات في باب الفرائض تقدمون
الابن؟
نقول: الجواب ما ذكرنا من أنَّ ولايته سابقة على ولاية الابن، وأنَّ شفقته أظهر،
فإنَّ رعايته لمصلحة المرأة أكثر من رعاية ابنها؛ بل يلحق أحيانًا بالابن من عدم
الرغبة في تزويج أمه ما قد يمنعه من أن يستنفذ الوسع في استجلاب المصلحة لها في
إنكاحها من فلانٍ أو فلان.
ثم الجد؛ لأنَّه يقوم مقام الأب، ثم الابن، وأمَّا الابن فكونه وليًّا فهذا ظاهر في
المشهور من المذهب عند الحنابلة، وهو قول جماهير أهل العلم خِلافًا للشَّافعية،
ولذلك قلنا: إنَّ الابن فيه خلاف في ولايته.
هل الابن بعد الجدِّ؟ أو نقول: إنَّ الابن بعد الأب؟
تقديم الابن على الجد ليس ببعيد؛ لأنَّ عصبة الابن أقوى، وهو أقرب، فالأمر فيهما
مُتَجاذب، فالجد من جهة كمال الشَّفقة والعِلم بالمصلحة أكثر بكثير، ولكن الابن
أقرب في العصبة، فطريقة المذهب عند الحنابلة وما اختاره المؤلف هنا أنَّ الجدَّ
مُقدَّم على الابن لا يخلو من وجاهةٍ ظاهرة، وإن قيل بالثاني فالأمر مُتردد بينهما،
لما ذكرناه من أنَّ بعض الفقهاء لا يرى ولايته، وإن كانَ الدَّليلُ قَد دَلَّ على
ذلك؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- لمَّا أراد الزواج بأم سلمة،
قَالَتْ لِابْنِهَا عُمَرَ: "قُمْ فَزَوّجْ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ
وَسَلَّمَ فَزَوّجَهُ"
فَأَخَذَ أهلُ العلمِ مِن هَذا أنَّ الابن له ولاية في النِّكاح، وأيضًا لعموم
دخوله في العصبات، وإن كان الحديث تكلم فيه بعض العلماء، ونُقل فيه عن الإمام أحمد
-رحمه الله تعالى- شيء من الكلام، ولكن لا يمنع من الاستشهاد به والاعتضاد.
قال المؤلف: (ابْنُهُ وَإِنْ نَزَلُوْا، ثُمَّ اْلأَقْرَبُ)، يعني: الأب، ثم الجد،
ثم الابن، وابنه وإن نزل، والأقرب مثل: الأخ، وبعضهم قدَّم الأخ، أو جعله بمنزلة
الجد.
بخصوص الكلام في الجَدِّ والإخوة، نسأل: هل الجَدُّ مُقدم على الإخوة، أو هو
مُشاركٌ لهم؟
الأمر في ذلك يسير، لكن لا شك -عند قول أهل التحقيق- أنَّ الجَدَّ ولايته مُقدمة،
وشفقته ظاهرة، وأنَّه أحق في النِّكاح بالولاية.
قال: (ثُمَّ اْلأَقْرَبُ فَاْلأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهَ)، الأخ الشقيق، الأخ لأب،
العَمُّ الشَّقيق، العَمُّ لأب، ابن العَمِّ الشَّقيق، ابن العَمِّ لأب، وهكذا..
قال: (ثُمَّ مُعْتِقُهَا، ثُمَّ اْلأَقْرَبُ فَاْلأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهِ)،
المتعصبون بأنفسهم، يعني: ابن المعتق، ابن ابن المعتق، وهكذا..
والعصبة إنما سُميت عصبة لأنَّ الإنسان يتعصب ويتقوى بها، كالعصابة التي تجتمع على
الشيء وتتكاتف، ولذلك تكون العِمامة عصابة لأنها تلتف وتقوى بذلك، فهذا في أصل معنى
العصبة، وهم قراباته الذين يرثون ويتحملونه -على ما تقدم تفصيله فيما مضى.
قال: (ثُمَّ السُّلْطَانُ).
ولاية السُّلطان ظاهرة، فهو وَلي مَن لا ولي له، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ
عَليهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِ اشْتَجَرُوا - أَوْ قَالَ اخْتَلَفُوا - فَالسُّلْطَانُ
وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ»، فولايته ظاهرة باعتبار الولاية العامة، وباعتبار
ما جاء في هذا الحديث، فأي امرأة لا ولي لها قريب ولا بعيد يُحفظ؛ فإنَّ السُّلطان
يلي نكاحها، فإمَّا أن يتولى ذلك بنفسه، وإمَّا أن يُنيب عنه مَن يقوم به، فإذا
أُنيب كما هو المعتاد والعمل عليه في المحاكم ونحوها، أي: أنَّ السلطان أَوكَلَ ذلك
إلى القُضاة كلٌّ بحسبِ ولايته، وكل في حدود ولايته وقضائه؛ فيكون الأمر إليه في
ولاية النِّكاح.
{أحسن الله إليكم..
في البلاد غير الإسلامية امرأة تُسلم، وأَبَوَاهَا غَير مُسلمين، فلمن تكون
الولاية؟}.
يقول أهل العلم: إذا كانوا في بلد غير مُسلم، أو كانت في قافلة فمات وليها، أو لم
يكن لها ولي، أو نحو ذلك؛ فإنَّ أرشد القوم يكون لها وليًّا، مثلًا رئيس القافلة،
أو رئيس المركز الإسلامي ومَن في حكمهم ممن يُعرف بصلاحه، وتحفظ ديانته، ويؤمن على
القيام عليها، وهذه الولايات موكولة إلى الأرشد فالأرشد بحسب الحال، ففي بعض
الحالات يكون الأرشد ضعيفًا، ولكن حسبك أن يكون وجوده أحسن من عدمه، لكن لا ينبغي
أن يستسهل في هذه الأمور، ولا أن يضيع حق هؤلاء النِّسوة اللاتي وُليِّتم عليهنَّ،
سواء كانت الولاية في مركز إسلامي ونحوه، وأن يتقيَ الله -جلَّ وعَلا- في أن يقوم
عليهنَّ كما يقوم على بناته حفظًا لهنَّ، ورعاية لمصالحهنَّ.
قال -رحمه الله: (وَوَكِيْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ يَقُوْمُ مَقَامَهُ).
يعني: لو أنَّ الأَبَّ وَكَّل شَخصًا فهو يَقوم مَقام الأب في الولاية في النِّكاح،
وهو مُقدم على مَن بعده، ولو أنَّ الابن له وكيل فإنَّ وكيل الابن مُقدَّمٌ على
الأخ، ومُقدم على ابن الأخ، ومُقدم على العَمِّ الشقيق، ومقدم على العَمِّ لأب،
وهكذا.
إذن الوكيل قائم مقام الأصيل، والأصيل مُقدمٌ على غيره، فيكون الوكيل كذلك مُقدم
على مَن سواه.
قال -رحمه الله: (وَلاَ يَصِحُّ تَزْوِيْجُ اْلأَبْعَدِ مَعَ وُجُوْدِ اْلأَقْرَبِ
مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ صَبِيًّا، أَوْ زَائِلَ اْلعَقْلِ، أَوْ مُخَالِفًا
لِدِيْنِهَا، أَوْ عَاضِلاً لَهَا، أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً بَعِيْدَةً).
كأنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- لما رتَّبَ ولاية النِّكاح أراد أن يُبين أنَّ
الأحق فالأحق هو الأقرب فالأقرب، وأنه لا يُنتقل من الأقرب إلى الأبعد إِلَّا في
أحوالٍ خاصة، بمعنى أنَّه لو زوَّج الأبعد مع وجود الأقرب وعدم وجود المانع فإنَّ
ولايته ليست بصحيحه، ونكاحه ليس بمعتبر.
أمَّا إذا كان الأبعد قد زوَّجَ بوجهٍ صحيح فإنَّه يصح، ولذلك قال: (وَلاَ يَصِحُّ
تَزْوِيْجُ اْلأَبْعَدِ مَعَ وُجُوْدِ اْلأَقْرَبِ مِنْهُ)، فالولاية للأقرب، ومن
سواه لا ولاية له، فوجود الأقرب نافٍ لولاية الأبعد مُطلقًا، إلا أن يكون صبيًّا،
أي أنه: لو كان الأقرب صبيًّا صغيرًا لا يُحسن ولاية النِّكاح فلا فائدة من ولايته؛
لأنَّ الفُقَهاء يشترطون في الولي أن يكون ذكرًا حُرًّا عَاقلًا بالغًا عَدلًا
رَشيدًا في أمر النِّكاح، يعني: رشيدًا في معرفة الكفء ومصالح النِّكاح.
ويقولون: إنَّ الرشيد في النِّكاح يختلف عن الرشيد في المال، فالرشيد في المال قد
يكون فاسقًا في أشياء أخر، ولكنه يُحسن البيع والشراء وإدارة المال ونحوه، لكن
الرشيد في النِّكاح هو الذي يَعرف الأكفاء، ويُؤَمَّن في أن يُزوج المرأة بمن يحصل
به الخير لها.
قال المؤلف: (إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ صَبِيًّا، أَوْ زَائِلَ اْلعَقْلِ)، فلو كان
مجنونًا فلا فائدة في ولايته، ولذلك لابد أن يكون بالغًا عاقلًا.
آخر الشروط في الولي: اتِّفاق الدِّين، فلابد أن يكون مُسلمًا، وغير المسلم لا يكون
وليًّا للمسلمة، والمسلم لا يكون وليًّا للكافرة؛ لأن الله -جلَّ وعَلا- يقول:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال:73]، وهذه المسألة
فيها خلاف، ولكن لن نذكر دقائق المسائل والدخول في تفاصيلها.
قال: (أَوْ مُخَالِفًا لِدِيْنِهَ)، فلو كان مخالفًا لدينها فإنه لا ولاية له، كما
قلنا: لا ولاية للمسلم على الكافرة، ولا ولاية للكافر على المسلمة.
قال: (أَوْ عَاضِلاً لَهَ).
العاضل: هو الذي يمنع المرأة من النِّكاح، فإذا كان يمنعها من الأكفاء فإنَّه يفسق
بذلك، وتنتقل الولاية إلى من بعده ولو كان أبًا.
وهذه المسألة من المسائل التي قد تقع، ويحصل فيها حرج كثير، وسبب الحرج أنَّ المرأة
دائر أمرها بين أن تسكت على عيبتها ومنع أبيها أو أخيها لنكاحها، وبين أن تظهر ذلك
فيحصل به من قطيعة الرحم، ومن اللجاج، ومن أن يُدار الكلام على والدها!
فنقول: إذا رأت المرأة مِن والدها عَضلًا ومنعًا فينبغي لها أن تتلطَّف في طريقة
يُمكن أن يحصل بها منع ذلك العضل، كأن تتحدث مع بعض أقاربها الذين لهم جاه عند
والدها، ولها أن تكلم مَن له ولاية شرعية كإمام مسجد بجوارهم، أو نحو ذلك، أو جارًا
يكون ذا عَقل وَنَظر، وأيضًا له جاه يقبل منه والدها، أو في بعض الأحوال قد تُدخل
القاضي بغير طريق مباشرة أو نحوه، فحسنٌ.
فإذا تعذَّرت عليها هذه الأبواب، واستفتت ورأت أنَّ ما يحصل من والدها عضل -لأن بعض
النساء قد يمنعها ممن ليس كُفئًا فتظن أنَّ ذلك عضلًا- فنقول: إذا تأكدت أنَّ
والدها عاضل، وأنَّ الأبواب قد سُدَّت في وجهها لمعالجة الموضوع من حيث لا يشعر؛
فلا غضاضة عليها أن تطلب مَصلحتها، خاصة إذا كانت تعلم من نفسها أنها لا تصبر بدون
نكاح، وأنها تخاف على نفسها، وأنَّ تَقَدم الأيام قد يُفضي بها إلى بلاءٍ، أو يُفوت
عليها النِّكاح ونحو ذلك؛ فهذا حق لها قد أحقه الله -جلَّ وعَلا، والخصومة في مثل
هذا لا يكون عليها فيه ذمٌّ، ولا يلحقها في ذلك تبعة عند الله -جلَّ وعَلا- بل هي
مَأجورة إذا كان لها مَطلب صحيح، وإذا استنفذت كل الأمور التي قد يَحسن بها
استنفاذها وبذلها.
قال: (أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً بَعِيْدَةً).
هذه من الأحوال التي تنتقل فيها الولاية من الأقرب إلى الأبعد.
ضابط الغيبة البعيدة: فيما مضى ذكر الفقهاء ضابطها بأن تكون الغيبة في مكان لا تصل
إليه القوافل إلا مَرَّة في السَّنة، أو الذي إذا وصل إليه الخطاب لا يرد الجواب،
وبعضهم قال مسافة قصر.
أيًّا كان؛ فقد اختلف الحال الآن، فنقول: الغيبة البعيدة هي التي يتعذر معها تحصيل
الولاية، وحصول النِّكاح بالولي، وإجراءه له.
هل يمكن استعمال الآلات الحديثة في إجراءات النِّكاح؟
من حيث الأصل: ينبغي أَلَّا يُلجأ إلى ذلك، حتى ولو كان قد أمكن من الوالد مثلًا أن
يدخل عبر سكايب أو غيره من هذه المواقع التي يكون فيها صوت وصورة، فيعقد للنكاح،
ولكن مع ذلك لا يحسن؛ لأنَّ التقنية كثيرة، ويُمكن أن يأتي من الأمور مَن لا يوثق
به في أنَّ هذا حقيقة واقعة، فيأتي على هذا العقد من الشكوك ونحوها ما يحصل، فيمكن
أن يكون ذلك بالوكالات، والوكالات أضبط، وإن كان توصيلها أسهل عبر السفارات، وعبر
الإرساليات السريعة ونحوها.
أيضًا الذهاب والمجيء متحصِّلٌ بسرعة، فإذا انقطعت هذه وتلك وغيرها، فتنتقل الولاية
إلى الأبعد.
ولو عُقد بهذه الأجهزة -مثل اسكايب ونحوه- فنقول: إذا أمكن أن يُوثق من أنَّ ذلك
كالحقيقة المشاهَدة فإنَّه يصح؛ لأنَّ الشهادة لابد أن تحصل على أنَّ الولي قال:
"زوجتك"، وسمعوه ورأوه وهو يزوج هذا، ثم رأوا الزوج وهو يقول: "قد قبلت"، وإلا فعلى
أي شيء يشهدون؟!
ولذلك إذا انتفت الصورة فالعقد هنا فيه إشكال، ولذلك قد يشترط الفقهاء في عقد
النِّكاح أَلَّا يكون أعمى؛ لأنَّه قد لا يقطع بعين الذي وقع مِنه النِّكاح، والولي
الذي أجرى الزواج.
قال -رحمه الله: (وَلاَ وِلاَيَةَ لأَحَدٍ عَلى مُخَالَفَةٍ لِدِيْنِهِ إِلاَّ
الْمُسْلِمُ إِذاَ كَانَ سُلْطَانًا، أَوْ سَيِّدَ أَمَةٍ).
الأصل أنَّه لا ولاية لَه إذا خالف الدين، فلو أنَّ شخصًا أسلم وبقيَت ابنته كافرة،
فمع كمال شفقته ونحوه فلا ولاية له عليها لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال:73]، وهذه فيها شيء من الخلاف، لكن هي
قليلة، ولذلك فنحن نقول في المسائل القليلة نادرة الوقوع: يُنظر فيها بحسبها،
فيرتفع إلى القاضي، أو يرتفع إلى العالم، أو يُراسل أحدًا قريبًا منه فينظر في
الحكم الذي يتعلق بذلك.
قال: (إِلاَّ الْمُسْلِمُ إِذاَ كَانَ سُلْطَانً).
السُّلطان المسلم إذا كان تحت ولايته بعض أهل الذِّمة ونحوهم فله ولاية عليهم حتى
ولو كانوا كفرة.
كذلك لو كان عندنا مَن يعمل من الكفرة ونحوهم، ثم أرادوا عقد النكاح وليس للمرأة
ولي حاضر، ولا ولي يقيم النكاح لها أو يعتد بذلك، فإذا ذهبت إلى القاضي فإنه يقوم
مقام السلطان في إجراء النِّكاح في تلك الحال.
قال: (أَوْ سَيِّدَ أَمَةٍ).
الأمة إذا كانت كافرة فإنَّ سيدها مالكٌ لها، ومن تمام ملكه أن يعقد نكاحها، سواء
لعبدٍ مثلها، أو لسواه.
قال -رحمه الله: (فَصْلٌ فِيْ اْلاِسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ: وَلِلأَبِ
تَزْوِيْجُ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ، ذُكُوْرِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَبَنَاتِهِ
اْلأَبْكَارِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُ اْلبَالِغَةِ،
وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيْجُ اْلبَالِغِ مِنْ بَنِيْهِ وَبَنَاتِهِ الثُّيَّبِ إِلاَّ
بِإِذْنِهِمْ).
هذا الفصل عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في اعتبار الرضا، ثم ذكر مَن له ولاية
إجبار، ولا يلزمه النظر إلى رضا الموليَّة، أو رضا الزوجة في النكاح.
ذكرنا قبل قليل أنَّ الرِّضا مُعتبر لا إشكال فيه، وأنَّ هذا هو الأصل في النِّكاح،
وأنَّه لا تُزوَّج امرأة إِلَّا برضاها، وهذا محل إجماع، واختلفوا في الأب هل يزوج
المرأة بدون رضاها أو لا؟
وهذه من المسائل التي قامت لها الدُّنيا وقعدت، وأنا أختصر لكم سبب الإشكال:
سبب الإشكال أنَّ كثيرًا ممن يتكلمون في هذه المسائل يبنون على واقعهم، وواقعهم
إنما هو الواقع الغربي الذي تفلتت فيه الأسر، فلمَّا رأوا أن الآباء لا يَعنون
ببناتهم، ولا يَحرصون عليهن، ولا يُنفقون عليهن، ولا يَغارون، ولا يَقومون على
مصالحهنَّ؛ قالوا: كيف له أن يُجبرها؟!
فعلقت هذه الفكرة، وانتقلت إلى بلاد المسلمين، ولحق بهم ما لحق بغيرهم، فتشربوا هذه
الفكرة، ولكن الكلام عند أهل العلم والفقهاء في الأب الشرعي الذي هو محلٌّ للولاية،
ومحلٌّ للقيام والعناية، وقائم بأمور بناته، حفظًا لهنَّ، وإنفاقًا عليهنَّ، وكل ما
يجب عليه من الناحية الشرعية في القيام بهذه البنت، فهذا الأب لو نظرت إلى رعايته
لمصلحتها أكثر من رعايتها لمصلحة نفسها، وهذا أمر ظاهر وحاصل، ولذلك تجد أنَّ الأب
يتغرب عن بلده سنوات ليُحسِّن نفقة أولاده والقيام على بناته، وتحصيل مآربهنَّ
وحاجتهنَّ، فمثل ذلك الأب لا يأتي على الذِّهن أنه يُمكن أن يُجبرها إلا لمَّا علم
أنَّ مصلحتها في ذلك قائمة، ولمَّا كان للأب ولاية الإجبار؛ فلم يكن ذلك على
الإطلاق، فليس له أن يأتي بابنته كما يأتي بالدَّابة أو البهيمة ليجعلها تحت هذا
الزوج، وإنما كان ذلك مع ما ذُكر من الاشتراط في الولي أن يكون رشيدًا وأن يكون
عدلًا، فإذا كان فَاسقًا أو شخصًا لا يُؤمن في حاله، أو ليس ممن لا يعرف الأكفاء
ولا يقوم على أمر النساء؛ فلا يمكن أن تكون له ولاية، ناهيك أن يكون له إجبار
عليها!
فإذا تقرر هذا انتفت عنَّا كثير من الإشكالات، ولذلك فأنا سأقابل الأمر بما
يُقابله: هاتوا بما يتعلق بالولايات التي كان من الآباء إجبار فيهنَّ، وائتوا بما
حصل من تفلت النساء وإنكاحهنَّ لأنفسهنَّ، وانظروا كم حصل في هذا من الرزيَّة أو
الإشكال! وأيهما أعظم! فستجدون أنَّ تزويج النِّساء أنفسهن والاسترسال والانطلاق في
ذلك أكثر بلاءً بأضعافٍ مُضاعفةٍ كثيرة مما قد يكون في إجبار الأب لابنته!
فلأجل ذلك ينبغي أن يُنظر إلى المسألة مِن أَصلها، وأن تُعرف المسألةُ بكمالها،
وأنَّ ذِكرَ الفقهاء لهذه المسألة ليس ذِكْرًا مُنْبَتًّا في عَرض البحر؛ وإنما هو
مكتملًا مع عِقدٍ ظاهرٍ يُحفَظ فيه الأمانة، ويُقام بعد تمام الرِّعاية لهذه
المَوليَّة، وحرص الأب وولاية الشرع وما جُعل إليه أكثر بكثير من قِيامها على
نفسها، ورعايتها لمصلحتها، فهذا من الأهمية بمكانٍ، والوقوف عليه من المسائل المهمة
في هذا الزمان.
وليت شعري! هل تفقه النساء ذلك؟ أم أنهنَّ يتلقينَ ما يأتي عليهنَّ من كُلِّ ناعقٍ
ومتكلمٍ ومريدٍ للشَّرِّ ومريدٍ للتفلُّت والانفلات للمسلمين!
وكم حصل بسبب هذا الانفلات من البلاء الكبير، والشر المستطير، كان الناس في شيءٍ من
التُّؤدة وضيق العيش، لكن كانوا في حَالٍ هنيَّة، تتزوج النساء ويُزوَّجنَ،
ويأنسنَ، وتستقر البيوت، وتُعْمَرُ الأُسَر، ولكن في هذا الزمان قد فُتحت الأشياء،
وانفتحت الأمور، وتغيَّرت الأيام، وصارت النساء يمشين كما يمشي الرجال، ذاهباتٍ
آتياتٍ، ويحصل بذلك أشياء كثيرة، والنتيجة أنَّ البيوت قد تهدَّمت، وأنَّ كثيرًا من
الأُسَرِ قد تفكَّكت، وأنَّ قضايا الفُحش والفجور قد كثُرَت، والعزوف عن الزَّواج
قد حصل، وما يتبع ذلك مِن أُمور يُستحيَى مِن ذكرها ممَّا يتبع الحرام والوقوع فيه،
ونحو ذلك شيءٌ كثير.
فلأجل ذلك حينما نتكلم عن ولاية الإجبار فنحن نتكلم عن معنًى شرعي جاء بدلالة
الكتاب والسُّنَّة، وجاء على أصلٍ صحيحٍ، فينبغي أن يُجعل في مضماره، وأن يُساق في
ميدانه، وألا يُنظَر إلى الوقائع ويُحكم بها عند الفُقهاء على ذلك، فكيف إذا
انضمَّت هذه الهجمة الشعواء على الإسلام وأهله التي يُراد منها تفلُّت المسلمين من
أحكام دينهم وبُعدهم عمَّا أمرهم الله -جلَّ وعَلا- وأمرهم به نبيهم -صَلَّى اللهُ
عَليهِ وَسَلَّمَ- وسنأتي إلى تفاصيل مسائل الإجبار ونحوه.
قال المؤلف -رحمه الله: (وَلِلأَبِ تَزْوِيْجُ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ،
ذُكُوْرِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ).
يُزوِّج ابنه الصغير إذا رأى المصلحة في ذلك، وهذا عند الحنابلة مبني على أصل جاء
عن ابن عمر أنه زوَّج بعض أبنائه، والأب في الغالب ما يحرص على تزويج ابنه الصغير
إِلَّا لِعِلمه أنَّ المصلحة له في ذلك، إمَّا لكونه لا أُمَّ له ولم يجد من يقوم
عليه ويرعاه، ومن ثَمَّ يخشى عليه الضياع، ورأى في تلك المرأة -أو أن المرأة أظهرت
وأبدت- أنها ستقوم عليه، فيُمكن أن يُتصوَّر هذا في أوجه كثيرة، أو يكون الولد فيه
نوع سذاجة، فهو لا يصل إلى الجنون، ولكن قد لا يخلو من خفَّة في العقل، وضعف في
تدابير الأمور، فيحتاج إلى مَن يُعينه ويقرب منه، وجرِّبت أشياء كثيرة فلم تنفع،
فرؤيَ أنه يُزوَّج، فللأب تزويجه لأنه يرى المصلحة في ذلمك، فقد يكون لهذا أو لغيره
من الأسباب.
الابن الكبير إن كان بالغًا عاقلًا فليس للأب عليه طريق، وهو الذي يُزوِّج نفسه
ويقوم عليها، وأمَّا إذا كان الابن البالغ مجنونًا أو مَعتوهًا ومَن في حُكمه فللأب
ولاية عليه في تزويجه؛ لأنَّ المصلحة له في ذلك. هذا ما يتعلق بتزويج الأبناء.
أمَّا تزويج الأب للبنات فالحديث فيه يطول، فأمَّا الثَّيب والكبيرة فالإجماع
مُنعقد على أنَّها تُزوَّج إِلَّا برضاها، فإذا كانت ثيبًا -مُزوَّجة ثم طُلِّقت،
وهي التي فقدت بكارتها بنكاح- فلا تُزوَّج إلا برضاها.
أمَّا غير الثَّيب مِنَ الأبكار سواء كانت صغيرة أو بالغة، أو ثيبًا صغيرة، فأحكام
ذلك وتفاصيله نجعلها في مستهل اللقاء القادم -بإذن الله جل وعلا.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على تقدمونه}.
الشكر لك وللإخوة جميعًا، وأستبيحكم عذرًا على الإطالة.
{بل كنَّا مستمتعين، نسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وهذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن عمر، إلى أن نلقاكم
في حلقة قادمة.
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13396 33
-
17105 27
-
23747 18
-
78670 18
-
5036 6
-
2908 22
-
2730 24
-
2682 12
-
5748 12
-
8845 12
-
10684 24
-
11542 13