الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

5748 12
الدرس الرابع

عمدة الفقه (5)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
أُرَحب بِكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِنْ حَلَقَات البناء العلمي.
وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{في الحلقة الماضية شَرَعنا في قراءة كتاب النِّكاح في أوَّله، ولم يتسنَّ لنا التَّعليق على بعضِ المسائلِ، ولعلنا نقرأها.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (كتاب النِّكاَحِ.
النِّكَاحُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّيْ لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُوْنٍ التَّبَتُّلَ، وقال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ اْلبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجَ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ،وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابهِ وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فأسألُ الله -جَلَّ وعَلَا- أن يُجنِّبنا الفتن مَا ظَهرَ منها ومَا بطنَ، وأن يحفظ العِباد والبلاد، وأن يحفظ الولاية والجماعة، وأن يُعيذنا مِن مُضلات الفتن، وأن يدفع عنَّا تَسلُّط المتسلطين، وعدوان الظَّالمين، وأن يجعلنا وإيَّاكم في خير حالٍ يَا رَبِّ العَالمين.
كُنَّا في الدَّرسِ الماضي استهللنا بما يتعلَّق بأول الكلام على كتاب النِّكاح، وربما لم ندرك أن نذكر فيه شيئًا مما يتعلَّق بالولوج في مسائله، ولكن أظنَّ أنَّها كانت إشارةٍ عابرةٍ إلى مُقدِّماتٍ تتعلَّق بهذا الكتاب، وأظنُّ أنَّ كثيرًا من الطُّلاب ربما تحرَّكت نفوسهم؛ لأنَّنا انتهينا من كتاب فيه بعض الوعورة والصُّعوبة، ثم عَقِبه بابٌ تلحق النفوسُ فيه أنسٌ، وتقْرُب منه القلوب، وتهواه النُّفوس، لكن مع ذلك يجب أن نَستحضر أنَّ دِراسة مثل كتاب النِّكاح وما يتعلق بالعِشرة الزَّوجية ونحوها، أحيانًا تُدرَس على أنَّها هوًى يهواه الإنسان، وهذا لا يُفيد الإنسان شيئًا عند الله -جلَّ وعَلَا- وإمَّا أن يَدرسها الطَّالب على أنَّها مِنَ العِلم والكتاب والسُّنَّة والفقه فيهما، ومما يحتاج إليه المرء، ومما يطلب به رضا الله -جَلَّ وعَلَا- فإنَّ النيَّة في هذا تكون أعظم، من جهة أنها نيَّة لطلب العلم، وأنها ممَّا يتعلق به الإنسان في خاصَّته، فيكون أوجب عليه تعلمه وإدراكه. هذا من جهة الأصل.
الحقيقة لو نحونا منحا الكلام على النِّكاح من النَّواحي الاجتماعية وغيرها لربما طَالَ بنا الحديث، والحديث في ذلك مُهم جدًّا، وذلك لما ذكرناه من إنحرافاتٍ كثيرة فيما يتعلق بالنِّكاح، ومن تشويهاتٍ عظيمة أدركت هذا الباب فأفسدت على النَّاس بيوتها، وأفسدت على النَّاس ما يتعلق بأُنسِها بأزواجِها، شوَّهت المقصود الأعظم من النِّكاح، فلأجل ذلك كان الطَّلاق كثيرًا، ووقعت الفُرقة والنِّزاع بين الأزواج من أوَّلِ الأيَّام.
صار النِّكاح عند كثيرٍ مِن النَّاس مظاهر وقشور لا حقائق لها، وصار الزوجان يتنازعان ويتحاقَّانِ، كلٌّ يقول: حقي حقي؛ والأولى بالأزواج أن يتواضعا، وكلٌّ يحمل عن صاحبه، وكلٌّ يحتسب الأجر في زوجه، ولا يكون الأمر بينهما على المشاحَّة والمطالبة، وَشُحِّ النِّفوس والمنازعة.
ولكن -كما قلت- ربما نجعل لذلك وقتًا سواء كان في ميدان البناء العلمي، أو كان ذلك من الأنشطة التي تكون مُكمِّلة لهذا البناء، ولهذا المنهاج، ولهذا الطريق العظيم، وهو أولى من أن نقتطع ما نحن فيه من دراسة الأحكام الفقهية.
إذا أردنا أن نتكلم على النِّكاح من جهة اللغة: النِّكاح في الأصل بمعنى الضَّمِّ، ومنه يُقال: تناكحت الأشجار إذا انضمت أغصان بعضها إلى بعضٍ. وهذا فيه قربٌ من المعنى الاصطلاحي وذلك أنَّ الزَّوجان يتضامَّانِ إلى بعض، ولذلك هو في الاصطلاح: عقد الزَّوجيَّة الصَّحيح بلفظِ إنكاحٍ وتزويج. أو ما يكون من ترجمتها إن احتاجوا إلى الترجمة؛ لأنَّه لا يُلجَأُ إلى التَّرجمَةِ إلَّا عندَ الحاجةِ إلى ذلك.
وبالمناسبة فإنَّ أوَّل الكلام على كتاب النِّكاح عند كثيرٍ مِن الفُقهاء كفقهاء الحنابلة وغيرهم، يذكرون خصائص النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- ويُفيضون فيها، وذلك لأنَّه لمَّا كان من خصائصه أنه تزوَّج أكثر مِن أربع نساء، وكان ذلك شيئًا لا يشترك فيه أحد من أمته -صلوت ربي وسلامه عليه- فإنَّ الفقهاء ذكروا هذه المسألة، ثم أعقبوها بما يماثلها من الأشياء التي اختُصَّ بها النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم.
والدخول في هذا الميدان من التَّعرض لسيرته -صلى الله عليه وسلم- من أحسن ما يكون به أنس النُّفوس واقتداؤها وصلاحها، وتطيب بذلك الحياة، ويتغير للإنسان نظره في أمور دنياه، ويعرف حال النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في تقلله مِنَ الدُّنيا في طيب خُلقه، مع حُسن معاشرته لأهله، وفي أدائه لحق ربه، وفي تنوع حياته ما بين عزمٍ وجدٍّ، وما بين عملٍ ودعوةٍ، وما بين عبادة وذكرٍ، وما بين أنسٍ ومزاح مع زوجة أو ولدٍ، وما بين إعطاء خادمٍ أو غيره حقَّه، وذلك باب عظيم، ومن أحسن ما يكون في هذا كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد، حيث أتى إلى حياة النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: هديه في البكاء، هديه في الضحك، هديه مع أهله...، وأفاض في ذلك في أبواب نفسية.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (النِّكَاحُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّيْ لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ).
ما حكم النِّكاح؟
النِّكاح عند أهل العلم من حيث الأصل: هو سنَّة، ومرغَّبٌ فيه، وذلك لأنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث ابن مسعود الذي ذكره المؤلف هنا: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ اْلبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجَ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ». الباءة: القُدرة على النِّكاح، سواء كان في ذلك ما يتعلق بالقُدرة على تبعاته، وما يستوجبه النِّكاح من إعطاء الزوجة حقَّها وما يتعلق بذلك من المعاشرة والمجامعة. هذا من حيث الأصل.
ولكن هل حكم النكاح في كل الأحوال على هذا النحو أو يختلف حكمه؟
ذكر بعض أهل العلم أنَّه ربما تحتَّم ووجب، حتى قالوا: إنَّه يُقدَّم على الحجِّ إذا خاف الإنسان على نفسه الوقوع في الحرام.
ولذلك نقول: النكاح واجب على مَن خاف الوقوع في الحرام؛ لأنَّه لا يتأتَّى للإنسان الامتناع مِنَ الحرام إلَّا به، فلمَّا كان الامتناع عن الحرام واجبٌ فإنَّ ما لا يتم الواجب إلَّا به فهو واجب، ويجب على الإنسان أن يحفظ نفسه، وأن يحفظ دينه، فإنه ما تلطخ الإنسان بشيءٍ أعظم من الوقوع في الحرام، والدخول في الفواحش وولوج بابها، وكسر جلبابها، والتَّعري من باب العفاف والنَّزاهة وما يكون في حال المرء مما يجب عليه مِنَ البُعدِ عن تلك المسالك المشينة، فعند ذلك نقول: إنَّه واجب.

وقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّيْ لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ)، هذا بالنسبة للحال المُستحبة، وذلك أنَّ بعضَ أهل العلم يقول: هل الأولى لمن لا يخاف الزِّنا أن يتخلص مِنَ النِّكاح ليكون أكثر إقبالًا على العبادة، وأفرغ من الانشغال بزوجة وبولدٍ وبتوابع ذلك من نفقة وغيرها؟ أم أنَّ النِّكاح أفضل؟
بعض النَّاس لا يعرف تبعات النِّكاح، وإِلَّا فإنَّ السَّلف يقولون: مَن تزوج فقد ركب البحر يعني: ينشغل، فالذي رَكِبَ البحر حتى لو استقرت به السَّفينة فباله مشغول.
قالوا: ومن وُلد له فقد غَرِق؛ لأنَّه لم يَعُد يستطيع؛ لأنَّه شُغل بأشياءٍ كثيرة، ومع ذلك فإنَّه أفضل مِنَ التَّخلي لنوافل العبادة.

الدليل على ذلك: أنَّ الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال أحدهم: إني أقوم فلا أنام. والثاني قال: أصوم فلا أفطر. والثالث: أمَّا أنا فلا أتزوج النِّساء –يعني: للتفرغ للعبادة.
فقال النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .
ونهى عن التَّبتُّل في حديث عثمان بن مظعون، وهذا ظاهر في هذا الأمر، والتَّبتُّل هو ترك النِّكاح، ولأجل هذا جاء في حديث عند أبي داود بمعنى حديث عثمان «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» ، والصرورة: هو ترك النِّكاح في تفسير جماعة من أهل العلم.
ولذلك جاء عن الصَّحابة الترغيب في ذلك، فقد جاء عن عبد الله مسود قوله: "لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجْلِي إِلا عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا، لِي فِيهِنَّ طَوْلُ النِّكَاحِ، لَتَزَوَّجْتُ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ" ، أو خشية أن ألقى الله عزبًا"، أو كما جاء عنه-رضي الله عنه.
وابن عباس قال لسعيد بن جبير: "فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً" .
والإمام أحمد يقول: "لَيْسَتْ العُزُوبَةُ مِنْ أَمْرِ الإِسْلَام فِي شَيْءٍ" .

لماذا نقول مثل هذا الكلام؟
ولماذا ندخل هذا المدخل مع أنه ربما نكتفي بالإيجاز كعادتنا؟
أولًا: لكثرة مَا جَرَى مِنَ الفتن في هذا الزَّمان، وما يتعرض له النَّاس من أنواع البلاء، يبدأ الإنسان من هاتفه، وينتهي في كل ميادين حياته، إن ذهب إلى عملٍ، أو كان في طريق وضعفت ديانات الناس، وكثر إظهار المفاتن والتَّعرُّض لها، وتنافست في ذلك الشَّاشات إلى غير ذلك.
وحصل للنَّاس من الفتنة من هو شر عظيم، ثم صُدَّ النَّاس عن ذلك بالحرص على المستقبل أو غيره، ونحو ذلك، والحقيقة أنَّ بعض أهل العلم قالوا: حتى لمن كان لا يجد النَّفقة فإنَّ الأولى له النِّكاح ما دام يستطيع، فإنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَ رجلًا على خَاتم من حديد، والذي لا يجد إلَّا خاتمًا من حديد فإنَّه لا يجد النَّفقة.
ولذلك قال الإمام أحمد: "إن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يومًا يجد طعامًا، ويومًا لا يجد طعامًا"، فدل ذلك على أنَّ عدم وجود النَّفقة ليس بمانع للنِّكاح ما دام أنَّ الإنسان يجد أصله، وكل من دخل باب النِّكاح فإنَّ الله –جَلَّ وَعَلا- يُعينه، وييسر له، ويفتح له من الخيرات، وليس بلازم ذلك أن يكون غنيًّا ثريًّا كما يفهم بعض الناس، لكن حسبك أن يُعانَ بما تمشي به حياته، وبما تندفع عنه الشُّرور التي تُفسد عليه دينه وقد تُوبِقَه، والملحوظ أنَّ مَن تزوج فهو أكثر استقرارًا، وأحسن حالًا، وأهنأ حياةً ممن لم يتزوج، وربما كان غير المتزوج أشحَّ في يده، وأقل في كسبه، ولم يَستفد مما يحصله شيئًا. فهو إذن أفضل مِنَ التَّخلي لنوافل العبادة.

تبقى مسألة واحدة، وهي: مَن لا شهوة له، مثل العنِّين أو كبير السن أو نحوه، ولذا قال بعض أَهل العلم: يُباح له النِّكاح، ولكن عدم النِّكاح له أولى إذا كانت حياته تقوم ولا يحتاج إلى النِّكاح، لئلا يشغل ذمَّته بتبعات النَّفقة وما يتبع ذلك من لوازم، وأيضًا ليكون متفرغًا للعبادة ومن ثَمَّ الإقبال على الله-جلَّ وعَلَا.
وأظنُّ أنَّه من الأهمية بمكانٍ قبل أن ندخل في أحكام الخِطبة، نبين أنَّ الفقهاء ذكروا مسائل مُهمة تتعلق بما يُطلب في الزوجة من شروط، من كونها حسيبة، يعني: طيبة الأصل، فإنَّ ذلك أنجب لولدها، وأطيب لمعدنها، وأمنع من حصول البلاء عند الاختلاف أو المشاقة والنِّزاع، أو الاختلاف على الولاد لو حصل الطَّلاق، وما يتبع ذلك من حُسن المعاملة، إن كان في الحب والمقاربة، أو كان في البغض والمباعدة، فإنه لا تختلف من أن تكون في الحالين على نحوٍ يُوافق الشرع، ويحصل به الخير، ويمتنع به الشر عن الأولاد وعن بيت الزوجية، وربما كُشِفت أسرار ممن لا حسب لها، وربما أُظهرت عيوب، ويتبع ذلك أشياء كثيرة.
وأيضًا يُستحب أن تكون جميلة، والجمال هنا شيء نسبي، ولا ينبغي أن يُبَالَغ في ذلك، وكونها جميلة فَإنَّه أعف للإنسان، لكن لا يُظن أنَّ كل واحدٍ لابد له أن يتزوج أحسن الناس، أو ما يُسميه بعبارة العصر "ملكة جمال" فإنَّ هذا مما تداعى إليه الإعلام؛ لأنَّه ماديٌّ في نظرته.
أمَّا حياة الزوجية فليس مقصود النِّكاح "صورة وبرواز"، وشكل يُنظر إليه، وإنما هي حياة ومعاشرة، وأخلاق، وتمر بهم الضَّوائق، وتنزل بهم العظائم، ويمرض، وتسقم هي، ويحصل بينهما من أمور الإيثار والإحسان والتكامل شيء عظيم.
وعلى كل حال نقول: إنَّ الجمال يكون في وجهها وفي ظاهرها، وجمال في باطنها ومخبرها، وإن كان كثير من الناس يعلق الأمور بظاهرها، فإنَّ مما يتعلق بالبواطن أعظم، وكم من النَّاس الذين تزوجوا حسناوات فكان أمرهم إلى وبال، وكم من الذين كان اختيارهم أقل في جانب الجمال الظاهر فأعقبوا خيرًا وأنسًا، وسكنًا في حياتهم الزوجية بلا منتهى له.
قبل أن ننتهي من هذا نذكر كلامًا لبعض الفقهاء الحنابلة: قالوا: يُستَحَبُّ أن يَتَزَوَّجَ امرأة بلا أُم.
وهذا الكلام في الحقيقة ليس الرأي الذي استقر عند فقهاء الحنابلة، بل هو قول لبعض متأخريهم جرى به ركبان المتأخرين، وليس في أصل المذهب، وليس هذا بمقصود صحيح؛ لأنَّ هذا ربما كان مأخذه من كون بعض الأمهات ربما تحمل ابنتها على ما لا يحسن في النِّكاح، ولكن هذا ليس بالأكثر، وليس بظاهر، فلأجل ذلك لا ينبغي إطلاق مثل هذه المسألة، ولا إعادتها، ولا البناء عليها؛ بل كل امرأة بحسب حالها، فإن كان بيتها طيبًا فالغالب أنَّ أُمَّها وَأَبَاها وأخواتها وإخوانها يحملونها على الخير ويدعونها إليه.
الثاني: كونها بكرًا، هذا مما ذكره الفقهاء، لحديث: «فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» ، وهذا صحيح، لكن ليس بلازم أن تكون البكر أولى، فإنَّه وإن كان هذا باعتبار الأصل، لكن ربما توجد بعض الأمور التي يجب أن تُغلَّب فيها جانب الثَّيب كما في قصَّة جابر لما قال: إن أبي ترك بناتًا وأريد ثيِّبًا تقوم عليهن، فإنَّ الثَّيب ربما كانت أحن على الولد، وأحسن في العقل، وأتم في تدبير المنزل، وغير ذلك.
وكون البكر مُفضلة في حال لا يعني ذلك أنَّ الثيب مذمومة من كل وجهٍ، فبعض الناس يظن أنَّ هذه مفضَّلة يعني: أنَّ الزواج مِنَ الثَّيب مَذموم، ولذلك ربما يحصل عند النَّاس ازدراء لمن يأخذ ثيبًا، وهذا ليس بصحيح، فالنَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- كل نسائه ثيِّبات إلا عائشة، والله -جلَّ وعَلَا- قال في كتابه: ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارً﴾ [التحريم: 5]، فبدأ بالثيبات قبل الأبكار، فينبغي أن تذهب هذه النظرة عن الناس، لأنَّ البعض يظن أن تزوُّج الثيب إنما هو في حالٍ خاصَّةٍ، كأن يكون قد طلق، أو أن يكون فيه عيب ظاهر، أو أن يكون فيه كذا وكذا...، فهذا ليس بوجيهٍ في كل حال، وهذا من الأمور التي ينبغي لنا أن نتنبَّه لها.
ما دام أننا دخلنا في بعض المسائل، فهل يتزوج واحدة أو أكثر؟
أكثر الفقهاء يقولون: يقتصر على واحدة لعِظَم التَّبعة التي تتعلق به، وأيًّا قلنا، سواء قلنا يتزوج واحدة، أو أكثر من واحدة؛ فإنَّ هذا الباب ليس هو باب المفاخرة، بعض الناس يقول: أنا تزوجت بكذا...، ويستنقصون من لم يتزوج، أو يظن أنه فعل شيئًا، وليس الأمر كذلك، إنما الأمر يتعلق بالأحكام الشرعية، فإن كان للإنسان قدرة على ذلك، ويستطيع أن يُعطيه حقَّه، ويخاف الله -جلَّ وعَلَا- ويؤدي لكل ذي حقٍّ حقَّه، فحيَّ هلَا، وهو باب مأذون فيه ومشروع، وإن كان غير ذلك فلا يكون الدخول في هذا الباب جيدًا، ولا التكثر بهذا الكلام صحيحًا، فإنَّ هذا إنما شُرع ليزداد الإنسان من الخير، لا أن يُفاخر ولا أن يُنافس، ولا أن يستحقر من يترك ذلك، ولأجل هذا قلنا: إنَّه عند جمعٍ من الفقهاء يقتصر على واحدةٍ إلا أن يحتاج إلى غيرها، وإن كان بعض الفقهاء يقولون: إنَّ الله بدأ بالتَّعدُّدِ فكان أولى.
ولكن على كل حالٍ نقول: هي بحسب حال المرء، وما يقوم به من حاجة إلى ذلك، واستعدادٍ لأداء الواجبات المترتبة عليها.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ، فَلَهُ النَّظَرُ مِنْهَا إِلى مَا ظَهَرَ عَادَةً، كَوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا، وَلاَ يَخْطِبُ الرَّجُلُ عَلى خِطْبَةِ أَخِيْهِ إِلاَّ أَنْ لاَ يُسْكَنَ إِلَيْهِ)}.
هنا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- مسألتين كبيرتين:
أولهما: ما يتعلق بالنظر إلى المخطوبة.
الثانية: ما يتعلق بالخِطبة على الخِطبة.
والفقهاء في الكتب التي هي أوسع من هذا المتن يذكرون أحكام النظر، وأحكام النظر مهمَّة للغاية، وذكر الفقهاء ثمانية أحكام:
 النظر إلى المحارم.
 النظرإلى غير المحارم.
 النظر إلى من دون السابعة.
 النظر إلى ما فوق السابعة.
 نظر الطبيب.
 النظر عند الشهادة والمعاملة.
وغير ذلك، ولن ندخل هنا في هذه الأحكام لطولها وتشعبها، ولكن ينبغي أن يُعلم أنَّ الفُقهاء لمَّا تكلموا في هذا تكلموا بيانًا لما يحل وما لا يحل للإنسان، أمَّا تجاسر الناس في هذا الزمان على النظر، وإطلاق البصر، وما يتعلق بذلك من تعلق القلوب، وفساد الإيمان، والإعجاب بالصور، والعشق لها، والغرام فيها؛ هو باب سوءٍ وشرٍّ كبير، ويتعلق به من المفاتن والبلاء والشر ما الله به عليم.
وحينما يتكلم أهل العلم عن كشف المرأة وجهها، أو عدم كشفها لوجهها؛ فإنه ليس معنى أن تكشف وجهها أن تتزين، ولا أن تلبس الضيِّق، ولا أن تكشف وجهها لتخرج في شاشات التلفاز، ولا أن تُعري قدميها، ولا أن تُظهر مفاتن صدرها؛ لو قلنا إنَّ ذلك مستقر وراجح، فكيف إذا كانت الفتنة غالبة، والنفوس ضعيفة، ودواعي الشر كبيرة، فإنَّ مِن أهم ما يجب هو صرف النفس عن إطلاق النظر، والتعلق بالمنظور، وما يتبع ذلك من الحرام.

فإن النار بالعودين تُذكى ... وإن الحرب مبدؤها كلام

كم من بلاء بدأ بنظرة، وكم من شر تعلق بخطوة، وما يتبع ذلك من الشر.
إذن النظر في مثل هذه المسائل والرجوع إليها والاستمساك بها لنعلم أنهم إنما أباحوا النظر إلى مواضع في حاجة، كحاجة إلى الطبيب ونحو ذلك، مع قيودٍ قيدوها، وأحكام ذكروها، فينبغي أن يعلم أن هذا باب خطرٍ، وأنه باب محكوم بالشرع، وأن من أراد النجاة والسلامة لدينه فعليه أن يحفظ نفسه.
وذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "روضة المحبين" لما تكلم عن حديث الكسوف، وبين أنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ» ، وقال: إنَّ النظر وما يتبعه من إطلاق الشهوة هو من أعظم ما يحصل به انكساف نور الإيمان، كما يحصل انكساف ضوء الشمس والقمر، وحصول الظلمة، فكما يحصل في الكون من الظلمة وذهاب الضوء والنور، فإنه يحصل للإيمان من ذهاب حياته وفقدان لذَّته، ويحصل على صاحبه من يُبسِ إيمانه وبلائه شيء كثير، فينغي أن يحفظ الإنسان نفسة.
و المؤلف -رحمه الله تعالى- قال: (وَمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ، فَلَهُ النَّظَرُ مِنْهَا إِلى مَا ظَهَرَ عَادَةً).
لَه النظر على سبيل الإباحة أو على سبيل الاستحباب؟
قال بعض أهل العلم: إنَّ ذلك مباح، باعتبار أنَّ أصل النَّظر محرم، والأمر بعد الحظر يدل على الإباحة.
وبعضهم يقول –ولعلَّ هذا أظهر وأليق بالحال: أن ذلك سنة مستحبَّة، والنَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أمر الصحابي فقال: «انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَ» ، يعني يحصل من المحبة والائتلاف والاجتماع، فالقول من أن ذلك مستحبٌّ وجيه، وليس الأمر متعلق فقط بنظرة إلى الوجه وسلامة الظاهر ونحوه؛ وإنما يتبع ذلك من أنس النفس، وإقبالها، وارتياحها بالمنظور إليه.
وإذا تكلمنا عن أحكام النظر هنا: فإن النظر من الرجل للمرأة، وكذلك من المرأة إلى الرجل، فإنها يعجبها من الرجل ما يعجبه منها، والأمر فيهما سواء.
وتوجه الحكم للرجال؛ لأنَّهم أجرأ على ذلك، ولأنَّ ابتداء الخطبة منهم ونحو ذلك، وإلا فالحكم فيهما سواء، ولذلك بَيَّنَ ابن الجوزي -رحمه الله تعالى- أنَّ على الولي أن يستحسن لموليَّته رجلًا طيبًا أو حسن الخلقة، ونحو ذلك.
إذا قلنا بجواز النظر، فإنَّ النَّظر هنا إلى ما يظهر عادة، أي: ما تظهره المرأة في بيتها عند إخوانها وأخواتها ومحارمها، فإذا كانت تظهر وجهها، يديها، أطراف قدميها، فهو ذلك، وهذا هو الذي ذكره المؤلف، فكأنها لا تظهر شعرها، وهذا محلٌّ للنظر، وإن كانت الفتوى وجريان العمل على أنَّ ذلك مما يظهر غالبًا، وهو داخل في عموم الحديث، خاصة أنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في حديث المغيرة لما أمر له أن يترصدها، والغالب أنه يراها على غرَّة، وإذا كانت على غرَّة فالغالب أنها تكون خالعة حجابها، أو يظهر شعرها، فيدل ذلك على أن ذلك مما يكون محلًّا للنظر.
وإذا قلنا: إنَّ محل الخطبة هو إباحة النظر سواء كان بعلمها أو بدون علمها، فقد يُقال: إنَّ رؤية الصور تقوم مقامها، وإن كانت الصور لا نرغِّبُ فيها، ولا نسوِّق لها، لكن لو رأى الصورة فإنَّ ذلك قد يكون مقرب، وإن كانت الآن الصور تختلف عن الوقائع، فيكون فهيا نوع تغرير، فلذلك ينبغي أن يُحتاط في هذا الجانب.
وقيَّدوا النظر بقيد وهو: أن يُظنُّ إجابته، أما إذا كان في الغالب أن هذا وهؤلاء لا يتوافقون، أو لا يتقاربون، فلا يجوز له النظر في مثل تلك الحال، وأن يعلم من نفسه إقبالًا، فلا يصح إلا أن يعلم أنه مُقبل وقاصد وراغب في النِّكاح، وليس بمتفرِّجٍ ومريدٍ للعب والتهوُّك.
بقيت مسألة، ولنا أن نذكرها في العشرة الزوجية، وأن نذكرها هنا، وهي: لما ذَكَرَ الفقهاء أحكام النظر ما بين الزوجين، قالوا: ينظر كل واحد منهما من الآخر إلى كل شيء حتى الفرج.
لماذا نحتاج إلى مثل هذا الكلام؟
مثلما قلت لكم: إنه كلام دقيق، كان الناس فيما مضي يحصل إعفافهم بأسهل الأمور وايسرها، وذلك لأن البيوتات والناس والمجتمعات محتشمة، وكل مشغول بعمله، أمَّا الآن وقد هاج بركان الشَّهوات المحرَّمة وقام سوقها، وقُرِّبَ بلاؤها، وظهر أهل الحرام في أحسن حُلَّة، فإنه مما ينبغي للأزواج فيما بينهم أن يحصل من كل واحدٍ منهما لصاحبه من الإعفاف وكمال الأنس، وتمام تحصيل قضاء الوطر وإفراغ الشهوة ونحو ذلك بقدر ما يدفعه عن الحرام، ويمنعه من السوء، ونحن وإن كنَّا في زمن ماضٍ لا نحتاج لأن نذكر مثل هذه التفاصيل- ولكن لما كانت متوقفة عليها استقرار الحياة، والحلال والبعد عن الحرام، وقطع النفس أن تطلع إلى الشر والسوء؛ كان ذلك مهمًّا، حتى قال القاضي: "وإنه يجوز له تقبيل الفرج قبل الجماع لا بعده" لأنَّ بعد الجماع ربما يكون فيه بعض القذر أو الفضلة التي يترفع عنها الإنسان، وكل ذلك نقوله لأهميته بقدر ما يدفع عن الناس باب الشر، ويمنع عنهم الوقوع في السوء والحرام.
هذه إشارة عُجلى إلى ما يتعلق بأحكام النظر إلى المخطوبة.
ومن الواقع الآن ما يتبع ذلك أحيانًا من محادثات، والحقيقة الكلام في الهاتف أو التواصلات إن كان بقدرٍ يُحتاج إليه كأن يسألها عن شيءٍ أو يطمئن على أمرٍ، أو شيء لا يستطيع أن يسأل عنه أباها أو أخاها فلا بأس، أمَّا ما يكون من تحريك الغرائز، وإظهار الحب والميل ونحوه؛ فإنَّ هذا داعٍ إلى الحرام، وقد يحملهم على السوء ولا تزال المرأة اجنبية، فربما وقع في الحرام قبل أن يحصل الحلال، وربما كان ذلك مانعًا من إتمام هذا الأمر وتكميله.
ثم أيضًا بالنظر إلى الواقع: كل من كان بينهما تواصل في زمن الخطبة، سواء كان عبرَ الهاتف، أو تطور إلى أن يكون لقاءاتٍ متكرِّرَة فإنه في الغالب يؤول الأمر إلى انقطاع، ولا تتم الأمور على وجهٍ صحيحٍ.
ووجه ذلك -وهذا أمر دقيق، وهو ليس فقهيًّا، ولكنه يتعلق به: أنه أحيانًا تنشب خلافات، حتى ولو كان خلافًا لفظيًا يسيرًا، ولكن إذا بدأت النُّفرة وكل عظَّم ذلك، فتسفد الحياة، بينما لو حصل هذا بعد النِّكاح فإن بينهما من التوادِّ والجماع وغير ذلك ما يكسر ويُرطِّبُ ما يكون من الجفوة فأسرع ما يذهب، بخلاف ما يكون قبل الإملاك، فيقع بذلك الشر، فيُتنبَّه له.
ننتقل إلى القسم الثاني من قول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَلاَ يَخْطِبُ الرَّجُلُ عَلى خِطْبَةِ أَخِيْهِ إِلاَّ أَنْ لاَ يُسْكَنَ إِلَيْهِ).
هذا ما يتعلق بالخِطبة على الخِطبة.
والخِطبة -بكسر الخاء: هي خِطبة النِّكاح.
وأما بضمِّها -خُطبة: فهي خطبة الجمعة.
فإذا قيل: (وَلاَ يَخْطِبُ)، يعني: خِطبة نكاح.

وهنا (وَلاَ يَخْطِبُ الرَّجُلُ عَلى خِطْبَةِ أَخِيْهِ)، هذا حديث آتٍ في فرع من المسائل على أصلٍ جاء به الشرع، وهو حفظ ما بين النُّفوس من أن يقع فيها الشَّحناء، أو أن يلحق بها البغضاء، فإنه لما كان البيع على بيع أخيه والخطبة على خطبة أخيه، وما يكون من الغيبة وما يكون من النميمة هي سبب للتنافر وزرع البغضاء، وحصول الشر بينهما؛ قطع الشارع دابر ذلك كله، وما يحصل من أنس النفوس أعظم مما يكون من التنافس على امرأة، وربما يُجعل الخير للإنسان في الانصراف إلى غيرها، وفي ذلك حديث مشهور في قول النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح: «لا يَخْطُبْ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ» ، أو كما جاء عن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم.
وهنا ينبغي أن يُعلم أنَّ النَّهي عن خطب المرء على خطبة أخيه، فلو كان خطبة على خطبة غير المسلم كما لو كان قد خطب كتابيَّة، فلا يدخل في ذلك الحكم.
ومحل الكلام هنا إذا عَلِمَ، أمَّا إذا خطب على خطبة أخيه وهو لا يعلم، ثم مال إلى الثاني وترك الأول؛ فليس عليه في ذلك شيء، لقصَّة معاوية وأبا جهم لَمَّا خطبا فاطمة بنت قيس، وذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ» ، فذكر النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- ما فيهما، فدل ذلك على أنهما خطبا في حال واحدة. إذن إذا كان ذلك بالعلم.

ما محل المنع؟
قال أهل العلم: إذا حصل له الإجابة الصريحة، يعني: وافقوا عليه، وعلم أنهم يرضوا به، ثم يأتي ويخطب، وقد يكون له حال أتم ونحو ذلك، فقد يميلوا إليه ويعرضوا عن الأول، أو يحصل منهم سكنٌ إليه، فأحيانًا ما يصرحوا أنهم قبلوا به، لكن يحصل السَّكن كأن يقولوا: مثلك لا يُرد، والحمد لله، ولكننا نحتاج إلى كذا أو كذا، أو أن نشاور أخاها، أو بعض الكلام؛ ولكن مقدمات القبول قد ظهرت.
فيقولون: ما يكون من السكون والركون إليه هو كالتصريح بقبوله، فبناء على ذلك لا يخطب.
أما لو خطب هذا، ولم يكن منهم إقبال عليه ولا نحوه، ثم تقدم آخر مع علمه بالخطبة الأولى فلا بأس، ومن باب أولى لو رُدَّ أو ظهر منهم أنه لم يركنوا إليه، فلو قالوا: متقدم لنا فلان ولكننا ما نظننا نوافق! فهذا لم يُركن إليه، فلو تقدم فلا شيء.
أو أن مَن تقدَّم، فلو قال لفلان: أنا أعلم أن لك رغبة في فلانة، أو سبق أنك ذكرتها، والذي يكتبه الله لي أو لك خير.
وهنا يذكر بعض أهل العلم مسألة: هل للمرأة أن تعرض عن هذا أو لا؟
المرأة ووليها لهما أن يُعرضا، إن كان بسبب فلا إشكال، وإن كان حتى بلا سبب، ولو تقدَّم إليهم واحد ورضوا به، ثم تقدم إليهم من هو خير منه، وأرادوا أن ينتقلوا فإن ذلك لهم، ما دام أن الأمر لم يتعلق به قبول أو عقد وإنهاء، مادام في المقدمات فإن الأمر في ذلك يسير.
بقيت مسألة: في حال الخطبة ربما يحصل في البيوتات من الخلاف شيء كثير، فالأم تقول: نخطب لك فلانة، ويقول: أنا لا أريد إلا فلانة. أو لا أريد أن أتزوج؛ فيحصل به النزاع، أو الأب كذلك.
فنقول أولًا: إذا أمرت الأم أو الأب بالنِّكاح، فذكر بعض أهل العلم أنه يجب على الولد طاعتهما، لكن لا يجب عليه الطاعة في اختيار امرأة بعينها؛ لأنَّ ذلك ممَّا تميل إليه النفوس، وليس محلًّا للطاعة والبر، فربما يتزوج امراة وهو لا يميل إليه فيظلمها، أو يطلقها، أو يحصل بذلك تعاسة في حياته ونحوها، فمع أنه ينبغي للإنسان أن يعتبر قول والديه، وأن الخير له فيهما، وألا يتجاوزهما، لكن إذا تيقَّنَ لأمر يتعلق بذاته، أو لأمرٍ شرعي أنه لا يُناسب من اختاراه له، أو مال به إليه؛ فينبغي له أن يتلطف في الانتقال إلى سواه وطلب غيره، ويكون في ذلك مستحضرًا لأن هذا من أعظم ما يكون به الإحسان والبر إلى الوالدين، خاصة وأن الوالدين إنما يطلبان للإنسان ما يكون فيه الخير لولدهما.
هذا ما يتعلق بالخطبة على الخطبة، وأظن أننا أخذنا فيها قدرًا لا بأس، وفيه مسائل أخرى، لكن ما نريد أن نطيل، فنأخذ ما ذكرهالمؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك.

{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَلاَ يَجُوْزُ التَّصْرِيْحُ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ، وَيَجُوْزُ التَّعْرِيْضُ بِخِطْبَةِ اْلبَائِنِ خَاصَّةً، فَيَقُوْلُ: لاَ تُفَوِّتِيْنِيْ بِنَفْسِكِ، وَإِنِّيْ فِيْ مِثْلِكِ لَرَاغِبٌ، وَنَحْوَ ذلِكَ)}.
قوله: (وَلاَ يَجُوْزُ التَّصْرِيْحُ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ).
التَّصريح: هو طلب النِّكاح صريحًا بما لا يحتمل سواه، كأن يقول: أريد أن أتزوجك، أو: أريد أن أنكحك، أو ما ماثلها من الكلمات التي لا تحتمل غير النِّكاح.
فهنا نقول: إنَّ التصريح بخطبة مُعتدة غير جائزٍ البتَّة، سواء كانت هذه المطلقة بائنًا أو رجعيَّة.
فامَّا الرجعية: فلأنها زوجة، لا يجوز لا تصريح ولا تعريض.
وأمَّا البائن: فإنَّ التصريح يحملها على الإسراع بقضاء عدتها، ولربما أشارت إلى انقضائها ولو لم تنقضِ، فيحملها على الوقوع في الحرام، والله -جلَّ وعَلَا- قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ [البقرة: 235]، فَدَلَّ هذا على أنَّ التَّصريح ممنوع، وأنَّ الجُنَاحَ إنما رُفعَ في التَّعريض لا في التَّصريح.

ثم قال: (وَيَجُوْزُ التَّعْرِيْضُ بِخِطْبَةِ اْلبَائِنِ خَاصَّةً)، قوله: (اْلبَائِنِ)، لما ذكرناه قبل قليل أنَّ الرجعية لا يجوز في حقها لا تصريح ولا تعريض؛ لأنها زوجة، وهي لازالت في عِصمة زوجها، فلو مات ورثته، ولو ماتت ورثها زوجها.
أمَّا بالنسبة للتعريض، فالتَّعريض هو الذي يحتمل الشيء ويحتمل غيره، فإذا قال مثلًا: أنتِ امرأة طُلِّقتِ ومثلكِ لا يُطلَّق ولا يُرغَب عنها. فكأنه يذكر رغبته، فقد يكون هذا صريحًا وقد لا يكون، فهذا لا بأس به.
ولذلك قال: (لاَ تُفَوِّتِيْنِيْ بِنَفْسِكِ)، قد يكون المعنى: أخبريني، أريد أن أتزوجك، وقد يكون أنه أنه أن يقول أريد أن أُشير عليكِ بشخص لا يُفوَّت مثله، أونحو ذلك، فهي ليست بكلام صريح يدلُّ على إرادته النِّكاح، فلأجل ذلك لم يكن فيه غضاضة، وقد رُفع في الحرج، أو يقول: أنا فِيْ مِثْلِكِ لَرَاغِبٌ، ونحو ذلك.
ويقول الفقهاء: كما أنه يجوز تعريض الرجل بخطبة المعتدَّة، فكذلك يجوز لها الإجابة تعريضًا، فتقول مثلًا: مَن يجد خيرًا مِنكَ؟ أو مَن يَرُدُّكَ أو من يرغب عنك؟
فإذا قالت نحوًا من ذلك فهو مما أباح الله له في هذا الباب يكون مُباحًا لها أن تقوله وتتكلم به.
هذا ما يتعلق بالمسألة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- بالتصريح بخطبة المعتدة أو التعريض بها.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلاَّ بِإِيْجَابٍ مِنَ اْلوَلِيِّ أَوْ نَائِبِهِ، فَيَقُوْلُ: أَنْكَحْتُكَ أَوْ زَوَّجْتُكَ، وَقَبُوْلِ الزَّوْجِ أَوْ نَائِبِهِ، فَيَقُوْلُ: قَبَلْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ).
قوله: (وَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلاَّ بِإِيْجَابٍ)، انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى ما يتعلق بصيغة العقد، وإيجاب النِّكاح والقبول فيه، وما تُملك به العصمة ويحصل به الإنكاح، فكل ما يتعلق بالخطبة ونحوها إنما هي مقدِّمات، لا تدخل في صلب وأصل النِّكاح حتى يحصل الإيجاب والقبول.
والإيجاب عند الفقهاء: هو اللفظ الصادر من الولي بإيجاب النِّكاح، كأن يقول: زوجتك ابنتي، أو زوجتك موليتي، أو زوجتك أختي، وهكذا...
والقبول: هو اللفظ الصادر من الزوج بقبول ذلك، والرغبة فيه، كأن يقول: قبلت النِّكاح، أو قبلته لموكلي -إذا كان وكيلًا ولم يحضر الأصيل لسبب من الأسباب.
فهنا يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلاَّ بِإِيْجَابٍمِنَ اْلوَلِيِّ أَوْ نَائِبِهِ، فَيَقُوْلُ: أَنْكَحْتُكَ أَوْ زَوَّجْتُكَ، وَقَبُوْلِ)، فَدلَّ ذلك على أنه لابد فيه من الصِيغة القولية، وأن باب النِّكاح أضيق من باب البيوع، فباب البيوع يحصل بالصيغة القولية، ويحصل بالصيغة الفعلية، لكن لما كان النِّكاح فيه استحلال الأبضاع، وتعظيم هذا العقد، والشَّرع جعل له سياجًا ومنزلةً؛ فإنه لا يُتساهل في حصوله بالأفعال، فلابد فيه من الصيغة القولية.
وحتى القول فإنما هو قول مخصوص، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (فَيَقُوْلُ: أَنْكَحْتُكَ أَوْ زَوَّجْتُكَ)، وهذا مشهور من مذهب الحنابلة، أنه لابد من هذين اللفظين، لا يجوز سواهما، ولا يحصل النِّكاح بدونهما، حتى يُعلم عظم أمر النِّكاح، وحتى لا يقول: والله أنا فهمت كذا، أو فهمت كذا، أو ما قصدت، أو نحو ذلك؛ فدفعًا للأوهام، ومنعًا للشكوك ونحوها أغلق الشَّارع هذا الباب باعتبار ألفاظ النِّكاح، وتعظيمًا لهذا العقد وتكبيرًا له.
بعض الألفاظ غير ألفاظ "الإنكاح والتزويج" مثل: "ملَّكتكَ ابنتي"، خاصَّة وأنه قد جاء في بعض رواية الصحيح «قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»، فبعض الفُقَهَاء قالوا: إنَّ هذا اللفظ تبعه أن قال: «أنكحتك»، وجاؤوا برواية أخرى، وربما نقول: إن الإملاك هو مثل لفظ "الإنكاح والتزويج" فيدخل فيه، ويُفهم منه أيضًا أنَّ مَن يُحسن العربية فإنه لا ينعقد له بغيرها، وأمَّا من لا يحسن العربية فإنه ينعقد النِّكاح بلغته، سواء كانت اللغة النيجيرية، أو الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الإندونيسية، أو سواها.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ قَبْلَ اْلعَقْدِ بِخِطْبَةِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رضي الله عنه الَّتِيْ قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- التَّشَهُّدَ فِيْ الْحَاجَةِ: «إِنَّ اْلحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِيْنُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئاَتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فَلاَ هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلاَثَ آيَاتٍ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران:102]، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [النساء:1]، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [الأحزاب: 7071]»)}.
استحباب أن يخطب قبل العقد بخطبة ابن مسعود وهذا ما جاءت بها السُّنَّة، ولأنها هي خطبة الحاجة التي كان يستهلُّ بها النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الخطب ونحوها، فإنَّ من أعظم ما ينبغي أن يُحمد الله عليه، ويستهل فيه بالوصية بالتقوى ما يتعلق بعقد النِّكاح، فإنه لما كان من الأهمية بمكان، ولما تترتب عليه من المصالح، ولما تتعلق به من الأحكام، ولما يجب به على كل واحد من الزوجين من القيام بحق الزوج والوفاء له، واستنفاد الوسع في القيام بحقه؛ كان استهلال هذا العقد بالثناء على الله وحمده، وتهليله، وتحميده، والوصية بتوقى الله -جلَّ وعَلَا- من أحسن ما يكون في ذلك.
ولهذا جاء عن الصَّحابة أنهم كانوا يعقدون بها، ويستفتحون عقد النِّكاح بذلك، فينبغي للعاقد أن يجعل من ضمن عقد النِّكاح ما يتعلق بها، ولأنَّ هَذا أَهْيَبُ للنُّفوس، وأعلم بعظم قدر النِّكاح، فإذا سمع ذلك علم أنه مُقْدِم على أَمرٍ عظيم، ليس كشراء آله أو سيارة أو بيت أو نحوها، شريت..، وبعت...، ونحوها؛ فهذا أعظم، ولذا ابتُدِئَ فيه بمثل هذا التحميد وهذا التَّعظيم، وهذه الوصية بالتقوى للحاجة إليها في هذا العقد ولطوله، ولما يترتب عليه؛ لأنه إلى الأبد، وإلى أن يموتا، وأيضًا ما يكون بينهما من الأولاد والتوارث، وسائر الأحكام التي تتعلق بذلك.
ولأجل هذا ذكر بعض الفقهاء، وجاء بذلك آثار كما عند ابن أبي شيبة وغيره: أنه يستحب أن يكون العقد يوم الجمعة بعد العصر في المسجد، فإنه أنسب، ويكون ذلك في ساعة مستجابة، ويُرجى فيه إجابة الدُّعاء فيها، فيكون أعظم لهذا العقد.
فعلى كل حال؛ كل هذه مُستحبَّات إذا تسنَّت فهو أولى لما ذكرناه من أهمية هذا العقد وما ينبغي له من التعظيم والإجلال، والتَّكبير الذي يزيد من علم كل واحد من الزوجين بحق الآخر، وقيام به.
وددنا أن دخلنا في باب الولاية في النِّكاح، ولعل فيما ذكرناه كفاية، وأرجو ألا أكون استطردت في بعض المسائل، ولكن لمزيد الحاجة إليها دخلنا فيها، وأرجو أن يوفقنا الله لما يكون فيه النفع والفائدة.
{أشكركم فضيلة الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم، وفي الختام هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومنِّي لكم أيُّها المشاهدون، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة.
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك