الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2072 11
الدرس التاسع

العقيدة الطحاوية (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكُم إخواني وأخواتي المُشَاهدين الأَعِزَّاء في حَلقةٍ جَديدةٍ مِن حَلقاتِ البناء العلميِّ، وأُرحبُ بفضيلة الشَّيخ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{نقرأ -بإذن الله- من عِندِ قولِ أبي جَعفر الطَّحاوي -رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنْهَا خُرُوجُ الدَّجَّال، وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّمَاءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الْأَرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آلِهِ وأصحَابِه ومَن اهتدَى بهداه، أمَّا بعدُ:
فهذا موضوعٌ عظيمٌ، يتعلَّق بالإيمانِ باليومِ الآخرِ، فالإيمانُ باليومِ الآخرِ يتضمَّن الإيمانَ بكلِّ ما أخبرَ به النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممَّا يكون بعدَ الموتِ، والإيمانُ باليومِ الآخرِ مِن أركانِ الإيمانِ السِّتَّةِ التي لا يصحُّ إيمانُ عبدٍ إلا إذا أتَى بها، وهي أن يُؤمنَ باللهِ، وملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، والإيمانِ بالقدرِ خيرهِ وشرِّهِ.
ومن جُملة ما ثبتَ في القُرآنِ وفي سنَّةِ الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإيمانُ بأشراط السَّاعةِ، والأشراط: جمعُ شرط، والشَّرطُ هو العَلامة.
وعلامات السَّاعة تدلُّ على قُربها، وأنَّه قد اقتربَ قيامها، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 1]، وقال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: 1]، فعلاماتُ السَّاعةِ مِنها علاماتٌ كبُرى -وذكرً المصنِّف الطَّحاوي منها أربعٌ هنا- ومنها علاماتٌ صُغرَى. فالعَلاماتُ الصُّغرى وَقَعَت، ولا تزال تقع.
وبعضهم يقول: هناك علاماتٌ وُسطَى، وهي التي لم تَقع بعدُ، أو التي وَقعَت الآن.
وأمَّا العلامات الكُبرى: فهي التي تَقَع في آخرِ الزَّمانِ عندَ قُربِ قِيامِ السَّاعةِ.
وذكر النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العلامات الصغرى: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»[97]، وذكرَ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشياءَ أخرى كثيرةً تُعتَبر مِن أشراطِ السَّاعة الصُّغرى؛ لأنَّها وقعَت وانقضَت، وبعضُها لا يزال يقع، وذكرَ منها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يَتَقَارَب الزَّمان، وأن يَكثُر الهَرج[98]، والهرج: هو القتل. وذكر أشياء أخرى -عليه الصَّلاة والسَّلام.
فمِن أشرَاطِ السَّاعة التي يجبُ الإيمان بها مَا وردَ في الكتابِ والسُّنَّة، ومِن ذلك تِلكَ الأمور التي ذَكرها الطَّحاوي هنا، قال: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنْهَا خُرُوجُ الدَّجَّال، وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّمَاءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الْأَرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَ).
في حديث عوف بن مالك الأشجعي -عَزَّ وَجَلَّ- أن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له: «اُعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ»، اللهم صلِّ وسلم عليه. «مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مَوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَعُقَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ فِيكُمْ، حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ، فَيَغْدُرونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةٍ، اثْنَا عَشَرَ أَلْفً»[99]. وهذا الحديثُ في صحيح البُخاري.
وفي حديثِ حذيفةَ بن أسيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (اطَّلَعَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ)، يعني يومَ القَيامَة، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ الاستعدادَ ليومِ القيامةِ وتذكُّرَ هذا اليوم والإشفاقَ منه مِن علاماتِ المؤمنينَ، فالصَّحابة كانُوا يتذاكَرون السَّاعةَ، وهذا علامةُ خُلقٍ مِن أخلاقِ المسلمِ، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشورى: 18]، ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ [الطور26 - 28]، فيُشرَع تَذَاكر هذا الأمر، وأن يُذكَّر الأولاد وتُذكَّر الزَّوجة بيوم القيامة والاستعدادِ ليومِ المعَادِ، فقالَ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للصَّحابة: «مَا تَذَاكَرُونَ؟». قالوا: (نَذْكُرُ السَّاعَةَ). فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ»، وهذه تُسمَّى الآيات الكبرى -أو الأشراط الكبرى، أو علامات الساعة الكبرى- قال: «الدُّخَانَ وَالدَّجَّال وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ»[100]، رواه مسلم في صحيحه.
فهذا الخبرُ عن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدلُّ على أنَّ هذه العَشرَ آياتٍ الكبرى هي علاماتُ السَّاعةِ الكَبرى، وإذا وقعت تَسَلْسَلت سريعًا، ووقعَ بعضُها إثرَ بعضٍ، نسأل الله -جل وعلا- أن يرحمَنا يومَ القيامة وجميعَ إخواننا المسلمين.
والنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكرَ الدَّجَّال، وهو أعظمُ فتنةٍ على مرِّ التَّاريخ منذُ أُنزِلَ آدم إلى الأرضِ وإلى أن تقومَ القِيامَة، فأعظمُ فتنةٍ هي فتنةُ المسيحِ الدَّجَّال، وقد جاءت الأخبارُ عن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التَّحذيرِ من المسيحِ الدَّجَّال، وبيانِ صفتِهِ، وبيانِ ما عليهِ من خوارق العادات التي معه، والفتنةِ التي معه، وكثرةُ مَن يهلك بسببه -نسأل الله أن يعافينا وإياكم وجميع المسلمين منه ومن شرِّه.
ولهذا أُمرَ كلُّ مسلمٍ أن يقولَ في آخرِ التَّشهُّدِ الأخيرِ في الصَّلاةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّال»[101].
وفي حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَمَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كـ فـ ر»[102]، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
وقوله: «أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»، لأنَّ هذا الدَّجَّال يدَّعِي الرُّبوبيَّة، فيدَّعي أنَّه ربُّ العالميَن، فيأمرُ السَّماءَ فتُمطر، ويأمرُ الأرضَ فتُنبت، ويأمرُ القَريةَ فتُخرِج كنوزَها، وتتبعُه كيعاسيب النَّحلِ، ويأتيه بعضُ الأعرابِ ويقول له: إنَّ أبي وأمي قد ماتا. فيقول: إني أحييهما، فيأمر شيطانًا فيتمثَّل له في صورة أبيه وشيطَانة تتمثَّل بصورة أمِّه؛ فيفتن الناس فتنة عظيمة، حتى يهلك بسببه خَلقٌ عظيم[103].
وقد ذكرَ العلماء أنَّه وردَ أنَّ المؤمنين يربِطُون النِّساءَ والأطفالَ خشيةَ اللِّحاق به واتِّباع هذا الدَّجَّال الأكبر، وهذا الدَّجَّال أعورُ العينِ اليُمنى كما قالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعينه كأنَّها عِنبةٌ طافية -يعني بارزة- قبيحةُ المنظَرِ، وأمَرنا النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خرجَ الدَّجَّال أن نقرأ العشر آيات الأوَل من سُورة الكهفِ، وفي رواية أخرى العشر الأخير من سورة الكهف، فجاءت الرِّوايات بهذا وهذا، فلو قرأ هذا وهذا فهو حسنٌ[104].
وكذلك لا يدخلُ الدَّجَّالُ مكَّةَ ولا المدينةَ، وقالَ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّال فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ»[105] لما يُبعَث معه من الشُّبهات -نسألُ اللهَ العافيةَ والسَّلامَة- يعني يأتِيه بعضُ النَّاس وهو مؤمنٌ، فينقلبُ على عقبيهِ، يبيعُ دينَه ويتَّبع هذا الدَّجَّال ويكفُرُ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ.
ومِن الأشياء التي مع الدَّجَّالِ: جنَّة ونار، يغري بهما النَّاس، ويرهبهم بهما، فالنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ»[106]، فلو ابتُليَ العبد ولقيَهُ فليدخل فيما يزعمُ أنها نار فإنها جنة، كما قال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن العلامات: أنَّه مكتوب في جبينه "كــ فــ ر" أو "كافر" يقرؤها كل مؤمن، كان يقرأ أو لا يقرأ، حتى الأمي الذي لا يقرأ يُعلمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا، وهذا من فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- على أهل الإيمان. فالواجبُ الحذرُ منه والبُعد عنه والهَربُ مِنه.
والدَّجَّال يمكُثُ في الأرض أربعين يومًا:
اليوم الأول: أطولها وأشدُّها، فيطول هذا اليوم طولًا عجيبًا حتى يبلغ مدَّة سنة، فسأل الصَّحابة الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟"، يعني: في اليوم الذي كالسَّنَةِ، يعني اثنا عشر شهرًا، وكل شهر ثلاثين يومًا، وكل يوم خمس صلوات. قال: «لَا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ»[107]، يعني هذا اليوم الذي طالَ صلُّوا فيه صلاة السَّنَةِ، واحتجَّ العلماء بهذا الحديث في فتوى يحتاجها المسلمون اليوم في البلدان التي لا تغيب فيها الشَّمس، أو التي لا تظهر فيها الشمس، أن يُقدَّر له قدره بأقرب المُدن أو بمكَّة -على قولين.
فأخبار الدَّجَّال جاءت في البُخاري ومسلم وفي السُّنن، وقد جمعَها ابن كثير في كتابه الماتع النَّافع العظيم "النِّهـــاية"، وكذلك هناكَ مِن أهلِ العلمِ مَن جمَعَ أخبارَ الدَّجَّال فيما يُسمَّى بالفتن وأشراط السَّاعة والملاحم، فهناك كُتبٌ أُلِّفَت في هذا، ولكن على طَالبِ العلم -وعلى كلِّ مسلمٍ أيضًا- أن يلتمَّسَ الحديثَ الصَّحيحَ والثَّابتَ عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيُؤمنُ به، ويعمل به، وأمَّا الأحاديث الضَّعيفة أو المكذُوبَة أو الموضُوعَة فلا يَلتفت إليها، ولا يَنشرها بينَ النَّاس، وإذا أشكلَ عليه شيءٌ سألَ أهل العلمِ بالحديثِ.
فهذا المسيح الدَّجَّال يُسمَّى "مَسيح الضَّلالة"، أمَّا المسيح عيسى بن مريم فهو "مسيح الهُدَى".
لماذا سُمِّيَ الدَّجَّال بــ "المسيح الدَّجَّال"؟
لأنَّ عينَه ممسوحة، فهو أعورُ العين -نسأل الله العافية والسلامة.
وكلُّ نبيٍّ قد حذَّرَ أمَّته الدَّجَّال مِن شدَّة فتنَتِهِ.
وقد يقولُ بعضُ النَّاس: الدَّجَّال ما خرج الآن؟
نقول:
أولًا: حتى ولو لم يَخرج الآن، فتحذيرُ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتحذيرُ الأنبياء مِن قبلُ يدلُّ على عِظَم أمرِهِ عِظَمًا شديدًا.
ثانيًا: أنَّ مَن صدَقَ مع الله -عَزَّ وَجَلَّ- ودَعَا اللهَ بصدقٍ ويقينٍ أنَّ الله يصرفُ عنه فتنةَ المسيحِ الدَّجَّال، واستجابَ الله له دعاءَه؛ فإنَّه يُصرَفُ عنه فِتنةَ الدَّجَاجِلة الصِّغار الذين هم أصغر من الدَّجَّال الأكبر، فلمَّا تدعو ربَّك -عَزَّ وَجَلَّ- أن يصرفَ عنك فتنةَ المسيحِ الدَّجَّال ويعيذك منها، ويستجيبُ الله لك؛ فإنَّ هذا سبببٌ لأن يُصرَف عنكَ فتنةَ الدَّجاجلة الذين هم أقل منه، ولكن لا يُستهان بشرِّهم، فشَياطِينُ الإنسِ وشَياطِينُ الجنِّ وأهلُ الفتنِ والبدعِ وأهلُ الضَّلالات وأهلُ الشَّهوات وأهلُ المعاصي والفجور؛ هؤلاء دَجَاجِلة يَقلِبُون الحقَّ، ويُدجِّلونَ عليكَ ويكذبُونَ عليكَ، يُريدونَ أن يجرُّوكَ إلى النَّار، فما أخطرهم!
فإذا دعوتَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- بصدقٍ أن يصرَف عنكَ فتنةَ المسيحِ الدَّجَّال واستجاب الله لك -وهو أعظم شرًّا منهم- كانَ ذلك سببًا لأن تُحمَى ممَّن دونِه -بإذنِ الله عزَّ وجل.
اليوم الثَّاني: يبقى كشهرٍ، أي مدَّة شهر.
واليوم الثَّالث: أسبوع.
ثم بقيَّة الأيام: كأيَّامكم.
ويُسرع في الأرض كإسراعِ الرِّيح، يدخلُ القُرَى ويدخلُ المُدُن، ويفتنُ النَّاسَ، ويَضلُّ بسببِهِ الآلاف المؤلَّفة مِن البشرِ، وأكثر مَن يضل ويتبعه هم يهودُ أصبهان -إيران اليوم- وغيرهم من الأعرابِ والنِّساء -نسألُ الله أن يحفظنا ويحفظ نساءنا وجميعَ إخواننا المسلمينَ من ذريَّاتنا.
ثم إذا أَذِنَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بهلاكه أنزلَ اللهُ المسيحَ عيسى بن مريم، فينزل بباب لُدٍّ بدمشق بين مهرودتين، يكتنفه ويحمله مَلَكان ينزلانِ بهِ، فيطلبُ الدَّجَّال ويبحثُ عنه، فيهرب الدَّجَّال، فإذا رآهُ ذابَ كما يذوبُ الملحُ في الماء، ثم يقتلُ المسيحُ عيسى بن مريم الدَّجَّال، وتنتهي فتنةُ المسيحِ الدَّجَّال، ويحكمُ عيسى بن مريم بحكمِ الإسلام، وبشريعةِ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُصلِّي خلفَ إمام المسلمين، كما صحَّ عن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ: لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ»[108]، فيصلي خلف المسلمين.
فهذا يدلُّ على أنَّه ليسَ بعدَ نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبي ولا رسول، حتى إذا نزلَ عيسى آمنَ بالرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واتَّبعَهُ وانقادَ لشرعِ الإسلام -عليه الصَّلاة والسَّلام.
ثم يخرجُ في وقتِ عيسى بن مريم يأجوجُ ومأجوج الذين ذُكروا في هذا الحديث.
قال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [الأنبياء: 96]، وهم الذين دُونَ السَّدِّ الذي بناهُ ذو القرنين، الذي قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- عمَّن دونه: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبً﴾ [الكهف: 97]، فإذا جاءَ أمرُ الله نقبوا هذا السَّدَّ وأسقطُوه كما أخبرَ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيخرجون ويملؤون الأرضَ، ويُعيثون فيها فسادًا، فيحتَمِي نبيُّ الله عيسى والمؤمنُون والمسلمُون ويتحرَّزون منهم، وبعدما يعيثون في الأرض فسادًا يُرسل الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم آفةً تأكلهم، ويموتون جميعًا، فإنَّ عيسى ومَن معه من المسلمين يدعون الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيرسل الله عليهم النُّغف في أنوفهم، فيأكلها الدود حتى يهلكون كلهم، أو كما جاء عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[109].
ثم بعدَ هذا يُمطر الله -عَزَّ وَجَلَّ- الأرضَ ويكثر الخير، وتكثر النِّعَم وتكبُر وتعظُم، فيبقون ما شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثم يُرسل الله ريحًا تأخذ روحَ كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى في الأرض من يقول "الله" الله أكبـــر!
وتطلُع الشَّمس مِن مغربها، ولا إلله إلا الله!
فكلُّ يوم تغرب الشَّمس في المغرب، وتشرقُ مِن المشرق، فإذا جاء ذلك اليوم خرجت الشَّمسُ وأشرقَت من المغرب، فلا إله إلا الله!
وهذا هو المذكور في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ [الأنعام: 158].
فقوله ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ ، يعني: طلوع الشمس من مغربها، كا جاء عن نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وتحدثُ هذه الآيات الأخرى، وهي: الخسوف، ثم بعد ذلك نارٌ تخرج من اليَمن تطرد النَّاسَ إلى محشرهم، فاللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كلَّ شيءٍ.
هذه أشراط السَّاعة، نُؤمن بها، ونُقرُّ بها، ونُثبتُها كما جاءت مِن غيرِ تحريفٍ، ولا نُحرِّفها تحريفَ العقلانيين، ولا نُنكرُها إنكارَ الجاهلينَ المُبطلين، ولا نغلُوا فيها فنُمثِّل، أو نجعلها بعقولنا، يقع كذا...، وكذا...؛ فهذه أمورٌ قدَّرها الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأخبرَنا عنها، وأخبرَنا عنها رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنؤمِنُ بها كما جاءت مِن غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ.
{قال -رحمه الله: (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافًا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ)}.
لمَّا ذكر المصنِّف -رحمه الله- الكَرامات، وذكرَ الأولياء؛ ذكرَ ما يُضادها، فما يُضادها من الكِهانة والعِرَافة أو السِّحر والشَّعوذة؛ فهذه الأمُور لا يُصدَّق أصحابها، ولا يُلتفت إليها، فالكرامات حقٌّ ونؤمن بها، أمَّا السِّحر والشَّعوذة والكِهَانة والتَّنجِيم والضَّرب بالحَصى والخَطُّ في الرَّمل، أو القراءة في الفِنجان، أو القراءة في الكفِّ، أو النَّظر في النُّجوم؛ فكلُّها حرَّمها الإسلام وأبطَلَها، وهي أمورٌ بَاطلة لا حقيقة لها، ولا يجوزُ الاعتماد عليها، فلا يجوزُ أن نعتَمِد على قول المنجِّمين كالذي يقول: أنتَ بُرجُكَ الحَمَل، أو وُلدتَّ في بُرجِ السَّرطان، أو وُلدتَّ في بُرجِ الدَّلو، أو بٌرجِ كذا...، فأنتَ يقع منكَ في هذا الشَّهر كذا، لأنَّكَ وُلدتَّ في هذا النَّجم أو هذا البُرج؛ فهؤلاء المنجِّمون أو العرَّافون أو الكُهَّان كلُّهم مفترُون الكَذِب، فيفترون على الله الكَذِب، ويدَّعونَ عِلمَ الغيب، ومَن ادَّعى عِلم الغَيب فقد كَفَر، قالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65]، وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأشرف خلقه وهو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ [الأنعام: 50].
والنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»[110]، هذا إذا سأله فقط لن تُقبَل له صلاة أربعين ليلة عقوبة، فيجب عليه أن يُصلي ولا يترك الصلاة، ولكن صلاته لا تُقبَل، وثوابها لا يُرفَع بسبب أنَّه سأل عرَّافًا -نسأل الله السلامة.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»[111]، فهذا أشدّ، فإذا صدَّقَه بما يقول فقد كَفَر بما أُنزلَ على محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمُنجِّم من جنسِ العرَّافينَ، ولهذا بعضُ الجهلَة اليوم من الشَّباب والشَّابات يقول: ما بُرجك؟ برجك كذا؟ وما بَرجك هذا اليوم؟ ما بُرجك هذا الأسبوع؟ أو ينظرون في البرامج التي تتكلم عن علم الأبراج ويصدقونهم! وبعضهم يقول: أنا أتسلَّى وما أصدقهم!
نقول: إذا كنتَ لا تصدِّقهم فلن تَقبل لكَ صَلاة أربعينَ يومًا -نسألُ الله العافية والسَّلامة- وهذا وسيلةٌ إلى تصدِيقِهم، أمَّا إذا صدَّقتهم فقد قالَ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وهل ترضى يا مسلم بهذا ؟!
وكذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ زَادَ»[112]، وقالَ قتادة -رحمه الله: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ"[113]، والله ما عِلمُ هذا النَّجم وهذه البَهيمَة بشيء! النَّجمُ، والنُّجوم، والأبراج، والشَّمس، والقمر؛ كلُّ أولئك لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا، وليسَ بيدهم شيء، وليس عندهم تدبير، ولا يُربَط بهذه النُّجوم ما يحدث في الكونِ، فالتَّنجيم الكفري الضَّال هو: الاستدلال بالأحوال الفَلكيَّة على الحوادث الأرضيَّة، فيستدلون باجتماع النُّجوم وافتراقها أو تحركها من برجٍ إلى بُرج على وقع الحربِ أو السِّلم، أو الغلاء، أو الأعاصير، أو غير ذلك من الأمرو؛ وكل هذا أبطله الإسلام، وهي عقائد جاهليَّة كفريَّة باطلة لا يجوز ترويجها، مهما زُيِّنَت أو غُيِّرَت أسماؤها.
قال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ»[114]، فكانوا يقولون في الجاهليَّة: إذا انكسفَت الشَّمس وُلِدَ مَلِك، ماتَ مَلِك، مُلِّك مَلِك؛ فأبطلَ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا، لأنَّه غير صحيح، فإذا انكسفَت الشَّمس أو خَسَف القَمر فليس علامة على ولادة مَلِك، ولا على تمليك مَلِك، ولا على موتِ مَلِك، فكل هذا باطل، ولا يجوز اعتقاده.
والمنجِّمون كذَّابون دجَّالون، يأكلونَ أموالَ النَّاسِ بالباطلِ، وكذلك الكهَّان، وجاء حديث في الصَّحيحين عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: "سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»"، وهذه الجملة احفظها يا مُسلم، فلا تعتدَّ بهم، وهذه الجملةُ من النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عظيمةٌ جدًّا، فالنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوتيَ جَوامِع الكَلِم، فهم ليسوا بشيءٍ البتَّةَ، ألْغِهِم تمامًا عن حياتكَ، وألْغِهِم عن تفكيرك، لا تعتمدْ عليهم، لا تنظُرْ إليهم، لا تأبَهْ بهم، لا تَبني أموركَ عليهم، ولا تسأَلْهم، فهؤلاء دجَّالون.
فقال الصحابة: "فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا!"، يعني قد يقع أحيانًا. فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ»[115]، يقرقرها: يعني يُردِّدها الجني، فيخطفها من السماء، وهذا من ابتلاء العباد.
وقوله «فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ»، الوليُّ: هو الكَاهِنُ، أو المنجِّمُ، أو العرَّافُ، أو السَّاحرُ.
ولهذا فإنَّ الكهَّان كانَ أمرُهم منتشرٌ في الجاهليَّة، وكذلك المنجِّمون، والمتطيِّرون؛ فكانوا يتشائَمُون ويتطيَّرون بالأشياء، ويستقسمون بالأزلام، ويطلبُونَ الخيرة مِن هذه الأشياء؛ فهذه الأمور الجاهليَّة أبطلها الإسلام لا زالت موجودةٌ عند كفَرة اليَهود، وكفَرة النَّصارى، وكفَرة المجوس، وكفَرة البوذيين، حتى الملاحدة عندَهم بعض الأشياء يُعيدونها ويُكرِّرُونها كما هي.
ولهذا يجبُ على أهلِ الإسلام أن يحذروا منها حتى لو تغيَّرت أسماءها وتجدَّدت أشكالها، ونتوَّعت صُورَها المعاصِرة، فيُلحِقُون النَّظيرَ بنظيرِه، ولا يَنطَلِي عليهم تخليطُ هؤلاء، فمعروف أنَّ السَّحرة يقضُون بخطوطِ " أبج دهز..." ويضعون مُسدَّساتٍ وتَربيعاتٍ ومُثلَّثاتِ؛ ثم يأخذون اسم الشَّخص الذي يُريدون أن يَسحرُوه، فيضعونَه في هذه الأشياء، ويستغيثُون بالجنِّ ويطلبونَ منهم، فيَعْقِدُون العُقَد، ويقعُ السَّحر بقدرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ، فهذا شيء مقدَّر قد قدَّره الله -عَزَّ وَجَلَّ.
فلو قال الكَاهِن كلمةً ووقعت، فهل يعني هذا أنَّه حقٌّ؟
الجواب: لا. فقد فسَّر النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنا وقال: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ».
أيضًا مِن الأشياء المعروفة عندَ النَّاس أنَّ الكَاهِنَ أو المنجِّمَ أو الرَّمَّالَ أو غيرهم ممَّن يتكلَّم في هذه الأمور؛ هؤلاء يضرِبُون ضربًا عشوائيًّا، ويخبطونَ خبطًا عشوائيًّا، فيأتي واحد مثلًا يقول: أنتَ زوجتك حامل بِذَكر، ولابدَّ أن يكون ذكرًا أو أُنثى، فيقع هذا، فيتهوَّل من هذا الشيء، وهم «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» كما قال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن الأشياء الخَطيرة اليوم: انتشارُ هذه المظاهر الشِّركيَّة، انتشارُ هذه المظاهر الكفريَّة، انتشارُ هذه المظَاهِر الجاهليَّة بأسماءٍ جديدة وربَّما بنفسِ الأسماء القديمة، وقد سَمعتُ مِن بعضِ الناس أنَّهم يقولون فيما يتعلَّق بالتَّنجيم والاسِتنَاد على الأبراج أنَّه ينتَشِرُ بين فئة الشَّباب والشَّابات، فيسأَلُونَ عن أبراجهم، ويستنبِطُونَ منه أمورًا؛ فهذا كلُّه مِن أمورِ العِرَافة التي حرَّمها الإسلام، وأمورُ الجاهليَّة التي أبطَلَها النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فمن بحثَ عنها أو أخذَ بها وصدَّق بها؛ فإنَّه كافر بما أنزلَ على النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وبعضُهم يأخذُ ثمنًا على هذه الكَهَانة، وقديمًا في الجاهليَّة كانوا يأخذون أموالًا، وهذا حُلوان الكاهن، وقد قال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ»[116].
ومن ذلك أيضًا: نسبة المطر إلى النُّجوم أو الأنواء، وفي حديث زيد بن خالد الجُهني -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ)"، يعني على إثر مطرٍ. قال: "فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ»"، الله أكبر! انظر إلى نعمة المطر في تلك الليلة التي حدَّثَ بها النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّحابة؛ ففيه أناس كقروا وفيه أُناس آمنوا في تلك الليلة، فقال: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ»[117]، ولهذا نحن لا نعتمد على التَّنبُّوءات ونقول: يقينًا أنَّه سيقع مطر، فهذا أمرُ الله، لو شاءَ أرسلَ الرِّيح ففرَّقَت السُّحُب، فالأمر بيدِ الله.
مَن الذي أجرَى هذه السُّحب الثَّقيلَة المليئة بهذا الماء الذي نَزَلَ على العبادِ! هل يُطيقونَ حملَه؟ لو تأتي جيوش العالم كلُّها تَحملُ هذه المياه ما تستطع!
فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يُجريها فوقَ رؤوس العبادِ، ويُرسلها إلى الصَّحاري، وينزلُ عليها المطر، ثم ينسبونه لغيره؟!
فهذا من كفر النِّعمة، قال: «كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ»، حتى لو كان يقول: هذه الرَّدارات، أو هذه أماكن...، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ [الرعد: 12]، فالله تَعالى هو الذي يَخلقُ السُّحُبَ من موادٍ، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- على كلِّ شيءٍ قديرِ، فكلُّ شيءٍ له سببٌ، وهذه المواد التي يخلقُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- منها الرِّياح والهواءَ والماءَ والبحار؛ يخلقها الله -عَزَّ وَجَلَّ- حيثُ يشاء، ثم يُرسلها إلى مَن شاء، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورً﴾ [الفرقان: 50]، صرَّفه الله تعالى، فيُنزلُ على هؤلاء مطر، ثم يُنزل على هؤلاء مطر...، ثم أبى أكثرُ النَّاس إلا كفورًا، ولا ينسبون فضلًا لربِّهم -عَزَّ وَجَلَّ- بل ينسبونه لغيره، وينشغلونَ بغيره، ويتركُونَ شُكرَه، قال تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82]، بدلَ أن تشكروا الله -عَزَّ وَجَلَّ- تُكذِّبون! فهذا مِن الأشياء التي يجب الحذر منها!
كذلك النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حرَّمَ السِّحرَ ونَهى عنه، وهذا يدخلُ في قوله (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافًا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ)، لأنَّ هذه الأمور يفعلها بعضُ المشعوذينَ لِيأكلُوا أموالَ النَّاسِ بالباطلِ، فإذا فَعَلوا شيئًا مخالفًا للكتابِ والسُّنَة عرفنَا بطلانه، مِثل السِّحر، فالسِّحر هو الجِبت، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 51]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: 69]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102]، فتعلُّمه وتعليمه كفر، قال: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ ، وقال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ، قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ»[118]، إلى آخره. فجعل السِّحر بعد الشِّرك، لأنَّه من الشِّرك، ولأنَّ السَّاحر لا يكونُ ساحرًا إلا بأمرين:
الأوَّل: ادِّعاءُ علمِ الغَيبِ.
الثَّاني: الاستغاثةُ بغيرِ الله.
ولا يقعُ سحرَه إلا بهذين، فلا ينفكُّ ساحرٌ عن هذين، وكلٌّ منهما كُفرٌ مستقلٌّ، مُخرِجٌ من ملَّة الإسلام.
وأمَّا الذي يدَّعي أنَّ الحوادثَ الأرضيَّة تَحدثُ بسببِ تحرُّكِ الأفلاكِ، والمزجِ بين القوَّة الفلكيَّة والغوائرِ الأرضيَّة؛ فهؤلاء هم المنجِّمونَ، فالمنجِّم غير السَّاحر، ولكن أحيانًا يجتمع هذا مع هذا، فيُخاطبونَ النُّجومَ، ويستغيثونَ بالنُّجومِ، وهم إنَّما يُخاطبهم شَياطين، مثل الذين في زمن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كفَّار قريش، فكانوا يُخاطبون الأصنام ويُنادونها، ويسمعون أصواتًا وهي من الشَّياطين، تتكلَّم وتنطق حتى تفتنهم! نسأل الله العافية والسلامة.
فهذه الأمور كلُّها مِن أمورِ الجاهليَّة، وهي ممَّا اتَّفقَ عليه علماءُ الإسلام قَاطبةً على تحريمها، وتحريمِ مزاولتها، بل قتل السَّاحر، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ»[119]، وقد كتبَ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى الأمصار -يعني البلدان التي تحت الخلافة: "اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلاثَ سَوَاحِرَ"[120].
وأَمرت حفصة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- بقتل جارية لها سحرتها، فقُتِلَت[121]، وجندب بن عبد الله البجلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أمرَ بقتلِ ساحرٍ، وقتلَ ساحرًا، قال الإمام أحمد: "صحَّ قتلُ السَّاحر عن ثلاثة من أصحاب النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بالإضافة للحديث الذي في الترمذي: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ».
فيجبُ على ولاةِ أمور المسلمين، ويجبُ على أمراءِ ورؤساء الدُّولِ والولاةِ الذين يتولَّونَ أمور المسلمين كالشُّرَط وإمَارات المناطِقِ، ورؤساءِ القبائلِ، فبعضُ البلدان عندهم رئيس القبيلة هو الذي يُسيطر على كلِّ شيء؛ فكلُّ مَن له قدرَةٌ يجب عليه أن يُزيل هؤلاء المنجِّمينَ والرَّمَّالينَ والسَّحرة والكُهَّان، والمشعوذينَ، وأن يمنَعهم مِن الجلوس في الطُّرقات وخداع النَّاس، وأكلِ أموال النَّاس بالباطل، فلا يجوز أن يُسمَح لهم بفتحِ الدَّكاكين والحوانيت واستقبال النَّاس، ففي بعض البلدان -للأسف- يوجد هذا، فالواجب على ولاةِ الأمورِ جميعًا في كلِّ بلدٍ مسلمٍ منع هؤلاء منعًا باتًّا، فإنَّ هذا أمرٌ قد اتَّفقَ عليه علماء الإسلام قاطبة، ولا يجوز تمكينهم، فإنَّ هؤلاء شرٌّ محضٌ وفساد عريض في البلاد وبينَ العِبَاد.
ومن أسباب غضب الله على العباد عدمُ التَّناهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 79]، فهؤلاء السَّحرة والمنجِّمون والرَّمَّالون والكُهَّان مستحقُّون لِلَعنةِ الله، ومستحقُّون للعقوبَة الشَّرعيَّة الرَّادعة، لأنَّهم يأكلون السُّحت، وهذا بإجماع علماء المسلمين، فيجبُ منعهم، ويجب الأخذ على أيديهم.
بقيَ نوعٌ آخر، وهم: أهلُ الحِيَل، وأهلُ التَّلبيسِ والخداعِ، فبعضهم يدَّعي مثلًا أنَّه يجلس على الهواء، وهو جالس على عصا مخفيَّة! وبعضهم يأكلُ الحيَّات، أو يجعل الحيَّة ترقُص إذا زمَّرَ له، وبعضهم يُظهر أشياءً مِن هذا القبيل حتى يجتمع النَّاس عليه، ويأخذ منهم الأموال، فهؤلاء نصَّابون وكذَّابون ومكَّارون، ويجبُ أن يُعاقَبوا العُقوبَة البَلِيغة، وأن يُردَعوا -كما أفتى أهل العلم.
وأذكرُ الطَّائفة الأحمديَّة الرِّفاعيَّة لمَّا ناظرَهم شيخُ الإسلام ابن تيمية مناظرَةً عظيمةً، موجودة ضمن مجموع الفتاوى، وقد طُبِعَت مستقلَّة، وذكر ابن كثير أيضًا من حال هؤلاء في كتاب "البداية والنهاية" في التَّاريخ: أنَّ هؤلاء كانوا يُظهرونَ أنَّهم مجاذيب -وهو مصطلح صوفي، يعني أنَّه مجذوب إلى الله، وأنَّه له عَلاقة مع الله- وكانوا يُظهرون أشياءَ مخالِفة للشريعة، مثل تركِ الصَّلوات، ما يحضرون الجُمَع، ويصيحون ويرفعون أصواتهم، ويتصرَّفون بتصرِّفَاتٍ غريبة، وبعضهم تَطِير به الجنّ فوق، فيتعجَّب النَّاس منهم ويخافون منهم، ويقولون: لنا حالٌ مع الله، لا تعترِضُون علينا، اتركونا. حتى كانَ ولاة الأمر يصدِّقونهم في زمنِ ابن تيمية، فناظرهم ابن تيمية، وقالوا: إنَّ عندنا كرامة ليست عندكم! وهم كذَّابون. وقالُوا: نحنُ ندخل في النَّار ونمشي على الجَمر، وأنت ما تسطيع!
فقال ابن تيمية: أتحدَّاكم. والمنَاظرة جيدة لو يُراجعها طالب العلم.
فقال ابن تيمية: أنا أتحدَّاكم، وأدخل أنا وإيَّاكم النَّار، ولكن بشرط.
قالوا: ما هذا الشَّرط؟
قال: أغتسل أنا وإيَّاكم بالأشنان -الصَّابون- ونتنظَّف.
قال الأمير: لماذا تقول هذا؟
قال: لأنَّهم يدهنون أنفسهم بدَهَانٍ يمنع تأثير النَّار، حتى إذا لمست جلودهم النَّار لا تؤثِّر فيها تأثيرًا بالغًا، فيُظهرون هذا الشَّيء كأنَّه خارق، وهم كذَّابون!
فلمَّا قيل لهم هذا انفضحوا، ثم قالَ ابن تيمية للأمير: أنتَ معك سيف الشَّرع، سيف محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذ السَّيف الذي بيد الأمير، ورفعَ ابن تيمية يد الأمير، وقال: هذا سيف محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالذي يخرج منكم عن شرع الله يُعاقَب بسيف محمد، يجب عليكم المحافظة على الصَّلوات، والجُمَع، وتتركوا كل ما خالَفَ الشَّريعة؛ فخافوا خوفًا عظيمًا من السُّلطان.
وهذا من حِكمَة ابن تيمية، بعضُ النَّاس يأتي يقول: أنتم أيها الحُكَّام مجرمين وكذا...، صار السُّلطان معهم؛ لكن ابن تيمية أتى للأمير بحكمةٍ وأدب، وجعله هو الذي يتبنَّى عقوبة هؤلاء، وقال: هؤلاء يضرُّون ملكك ويضرُّون إمارتك، ويضرُّون النَّاس، فكانوا إذا صلَّى النَّاس في المسجد يجلسون يصيحون في المسجد، فيزعجون حتى الأئمَّة القراء، يُصلِّي الإمام بالنَّاس، وهذا يصيح ويقول: أنا عندَ حال مع الله!
فالحمد لله ارتاح النَّاس منهم -كما قال ابن كثير- وبعد هذه المناظرة وهذه العقوبة مِن الأمير خافوا خوفًا عظيمًا، وصار كثير منهم إمَّا أنَّه تابَ، وإمَّا أنَّه التزم بالأمر خوفًا من السُّلطان.
فيجب أن نضبط أنفسنا ونضبط الناس بشرع الله، ويجب على ولاة الأمور والقضاة والمفتين وغيرهم أن يحملوا الناس على الشَّرع، وأن يجتنبوا هذه الطُّرق، قال: (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافًا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ). هذا ما يتعلق بهذه الجملة.
{شيخ.. أحسن الله إليكم.
ما يتعلَّق بخفَّة اليد في الألعاب. ما حكمها؟}.
هذا يجب أن يُحذَر منها، فهناك مَن يحتال، فيما يسمَّى بالسِّيرك، وخفَّة اليد، فيفعل أفعال المشعوذين، وتعريفهم عند فقهاء الشَّريعة أنَّ هؤلاء هم المشعوذين، ففيه سَحَرَة وفيه مشعوِذ.
المشعوذ: الذي يخدَع عينيك، فيسمَّى مشعوذًا أو مشعبذًا، وكلاهما اسمٌ صحيح، فيُدخل حمامةً حيَّةً من هنا، ويُخرجها من هنا، أو نحو ذلك، أو يأخذ ورقًا وفيه رقم معيَّن، ويعطيك إيَّاه ثم يقول: هذا الذي معك غيَّرته، فهذا تلاعب، ويخدعون النَّاس بخدعٍ؛ وهؤلاء حالهم كما تقدَّم في الفقرة السَّابقة أنَّه يجب أن يُمنَعوا من هذا، لأنَّ هذا مِن أكلِ أموالِ النَّاس بالباطلِ.
وهناك مَن يذهب إلى بعضِ البُلدان الأوربيَّة إلى اليهود ليدرس هذه الأشياء، فيدرس أنواع الخِدَعِ ليَخدَعَ النَّاسَ، وهذا ليسَ مِن طريقةِ أهلِ الإسلامِ، وبالعكسِ فهذا مِن التَّعاطي لِما يضرُّ، ويجبُ منعه.
كذلك ممَّا يُخالف الشَّريعة: السَّماع الصُّوفي، الإنشاد الذي يتضمَّن سماعَ القَصَائد المُلحَّنة، والأنغام المُطرَّبة، ويقول: إنَّنا نتقرَّبُ إلى الله بهذا؛ فهذا كلُّه ممَّا يُخالف الشَّريعة.
والسَّماع الذي يُحبُّه الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو سماع القرآن وتلاوته، وكذلك سماع أحاديث النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتَّفقُّه فيها، وكذلك أحكام الشَّريعة، ويُباح الغِناء للنِّساء في الأعراس، كما يعرف النَّاس أنَّ النَّساء يغنِّينَ بالكلام الطِّيب في مدحِ الزَّوجةِ أو مدحِ الزَّوج،ِ ويكنَّ معهنَّ الدُّف، أمَّا المعازف فلا يجوزُ استعمالها بأيِّ حالٍ مِن الأحوالِ، كالطَّبلِ والنَّاي والعودِ والقيثارة، وما أشبه ذلك؛ فكلُّ هذا محرَّمٌ ولا يجوزُ بأيِّ حالٍ مِن الأحوالِ، لأنَّ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ»[122]، فنهى عنه النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا البابُ ليسَ بابًا تعبُّديًّا، أمَّا السَّماع المُحرَّم أو المبتدَع يتعبَّدون بالإنشاد به، ويظنُّونَ أنَّ هذا إنشادٌ إسلاميٌّ، وأنَّه ابنتهالات، وأن هذه أشياء تقربهم إلى الله، وأنَّه من باب الدعوة إلى الله!
لا، إنَّما إذا أنشدوا فإنَّهم يُنشِدونَ من باب الرَّاحة، واستجمام النَّفس، أو التَّشجيع على العمل، مثلما كان الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يُنشدون لما حفروا الخندق:
وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ** وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فكانوا يتعبون، فيحتاجون إلى نوعٍ من التَّشجيعِ بالإنشادِ، فهذا لا بأسِ به، أو في السَّفرِ مثلما أنشدَ أَنْشَجَة لمَّا كان يحدو الإبل، والحداء هو الصَّوت الشَّجي الجميل، فتشد الإبل ظهورها وتسرع في السَيرِ، فهذا لا بأسَ به، ولكن ما يتعبَّدون بهذا، ما جاءَ أنجشة يتعبَّد بهذا! ولكن هذا مباح.
وكذلك إنشادُ النِّساء في العُرسِ فهذا مباحٌ، وليسَ بعبادةٍ، فهذا ممَّا وسَّعَ الله به علينا -ولله الحمد- وكذلك في العيدين، فيفرح النِّساء بالدُّفِّ ويغنينَ وكذلك الأطفال، فلا بأسَ بذلك، وكذلك عندَ استقبالِ القَادمِ من السَّفرِ، فلا بأسَ بذلك، ولكن لا يُتوسَّع في هذا، لأنَّ هذا من أسبابِ الانحراف.
وعلى كلِّ حالٍ لا يجوز تَعاطِي ما يُخالفُ الشَّريعة، كتركِ الصَّلاة، وتركِ الجُمَع والجماعات، أو غيرِ ذلك؛ فكلُّ هذا لا ينبغي.
والقَاعِدةُ الكَبِيرةُ: إذا رأينا الشَّخصَ وقعَ في شَيءٍ مخالفٍ لشَرعِ الله ولو كانَ قليلًا؛ فإنَّ هذا علامةُ انحرافه، وأنَّ ما لديه غلط، ولا يُصدَّق، ولا يُتابَع في عَمِلِه، لأنَّه قد خَالَف الشَّريعة.
فهذه المسألةُ مهمَّةٌ جدًّا، وهي: أنَّنا لا نُصدِّق الكُهَّان ولا العرَّافينَ، ونحاربهم، ونسعى في القَضَاءِ عليهم معَ ولاةِ أمورنا، ولا نصدِّق مَن يدَّعي شيئًا يُخالِف الكتابَ والسُّنَّة وإجماع الأمَّة.
نسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن يحفظ المسلمين جميعًا مِن شُرور هؤلاء الدَّجَّالينَ أعداء الملَّة والدِّين.
{وفي الختام نشكُركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونه، أسألُ اللهَ أن يجعلَ ذلكَ في مَوازينِ حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عَطِرَةٌ مِن فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكُم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[97] سنن أبي داود (4077).
[98] جاء في صحيح البخاري " يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ" (5604).
[99] صحيح البخاري (3176).
[100] صحيح مسلم (2901)
[101] صحيح مسلم (929).
[102] صحيح البخاري (6625)، صحيح مسلم (5223)، واللفظ لمسلم.
[103] جامع الترمذي من حديث النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلَابِيِّ، ذكر من حديث النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "...فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ كَأَطْوَلِ مَا كَانَتْ ذُرًى وَأَمَدِّهِ خَوَاصِرَ وَأَدَرِّهِ ضُرُوعًا، قَالَ: ثُمَّ يَأْتِي الْخَرِبَةَ، فَيَقُولُ: لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَيَنْصَرِفُ مِنْهَا فَتَتْبَعُهُ كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ...".
[104] المصدر السابق، وفيه: "... فَمَنْ رَآهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ سُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ...".
[105] صحيح من حديث عمران بن حصين، وصححه الشيخ الألباني، كما في صحيح سنن أبي داود.
[106] صحيح مسلم (5222).
[107] مسند أحمد (17289)
[108] صحيح مسلم (156).
[109] جامع الترمذي، وفيه "... فَيَرْغَبُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِلَى اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: فَيُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى مَوْتَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ".
[110] صحيح مسلم (4144).
[111] مسند أحمد (9331).
[112] أخرجه أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وأحمد (2000) باختلاف يسير.
[113] رواه البخاري عن قتادة في صحيحه: كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ: بَاب فِي النُّجُومِ.
[114] صحيح البخاري (995).
[115] صحيح البخاري (7029).
[116] رواه النووي في المجموع وصححه (9: 229)، ورواه أبو داود في السنن (3484)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، واللفظ: " لا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ".
[117] صحيح البخاري (804).
[118] صحيح البخاري (2573).
[119] جامع الترمذي (1376). ضعَّفه الألباني في ضعيف الترمذي، وضعيف الجامع، والسلسلة الضعيفة، وضعفه البيهقي، وقال البخاري في العلل: "ليس بشيء".
[120] أخرجه البخاري (3156)، وأبو داود (3043)، الترمذي (1586)، والنسائي في «السنن الكبرى» (8768)، وأحمد (1657) باختلاف يسير، والبيهقي (17580) واللفظ له.
[121] رواه البيهقي في السنن الصغير، صحَّحه ابن باز في مجموع الفتاوى (79: 7).
[122] صحيح البخاري (5187).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك