الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2072 11
الدرس الثامن

العقيدة الطحاوية (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاءِ في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- نقرأ مِن قول أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله: (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ، فَقَدَ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آلهِ وأصحابِهِ ومَن اهتدَى بِهُداه، أمَّا بعدُ:
فبعدما ذَكَرَ أبو جعفر الطَّحاوي –رحمه الله- فَضَائِلَ الصَّحابةِ ومكانَتِهِم ومَنزلَتِهِم، والخلفاءَ الرَّاشدين، والعشَرةَ المبشَّرينَ بالجنَّةِ، ووجوبَ الإمساكِ عمَّا شَجرَ بينَ الصَّحابةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- نبَّهَ على مَسألةٍ مُهمَّةٍ، وهي أنَّ:
علامَة الإيمان وعلامَة البراءة من النِّفاق هي: ذِكْرُ الصَّحابةِ بالخيرِ والحسن.
وعلامة النِّفاق هي: الكلام في الصَّحابةِ بالقدحِ فيهم.
وهذا مأخوذ من الحديث الذي مَرَّ معنا في صحيح البخاري: أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ»[82]، فإذا أحسنَ القولَ في أصحابِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي أزواجِه وفي ذرِّيَّاته؛ فقد برئ من النِّفاق، وأمَّا إذا أساءَ القول في أَحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ أو واحدةٍ مِن أمهاتِ المؤمنينَ أو مِن ذريَّةِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو مُنَافقٌ -نسأل الله العافية والسَّلامة.
وأصحابُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجبُ إحسان القول فيهم؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أَثْنَى عليهم؛ ولأنَّ الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَثْنَى عليهم؛ ولأنَّهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- خير القُرون.
قال المؤلف عن أُمَّهَاتِ المُؤمنين أزواج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ).
قال الله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾ [الأحزاب: 33]، فالله -عَزَّ وَجلَّ- أرادَ أن يُذهب عنهم الرِّجسَ، وَيُطهرَهم بما أنزلَ عليهم مِنَ الشَّرائع والوحي والخير الذي جاء به الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: 34]، هؤلاء هُنَّ أمهات المؤمنين، أزواج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرً﴾ [الأحزاب: 34].
إذن أوَّلُ مَن يدخل في هذا الوصف: أمهات المؤمنين أزواج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا فإنَّ مَن قَدَحَ في أَحدٍ من نِساءِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كعائشة أو غيرها؛ فهذا زنديقٌ كافرٌ مُرتدٌّ بإجماعِ المسلمين، وقد حكى الإجماع جمعٌ غفيرٌ من أهلِ العلمِ، مثل:
ابن كثير الدمشقي في تفسيره المشهور "تفسير ابن كثير"، حيث ذكر هذه المسألة في سورة النور عند قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور: 26]، فالله -عَزَّ وَجلَّ- جعل أطيب البَشَر وأزكاهم محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يكون مَعَهُ إِلَّا طَيِّبَة، قال تعالى: ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ .
الذين يَقدحون في الصَّحابةِ أصنافٌ، أشهرهم الرَّافضة، ولهذا كثُرَ فيهم القَدح في أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولهذا يقول أهل العلم: "يكثر فيهم النِّفاق"، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فَإِنَّ رُؤَسَاءَهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً"[83] نسأل الله العافية والسلامة.
وذكر الشَّارح ابن أبي العز الحنفي بعدما أورد حديثًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا، بِمَاءٍ يُدْعَى: خُمًّا، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي، فأجيب، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، ثَلَاثً»[84]، بل جاء عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ"[85].
والشَّاهدُ: أنَّ الشَّارحَ أوردَ هذا، ثم قال: "لِأَنَّ أَصْلَ الرَّفْضِ إِنَّمَا أَحْدَثَهُ مُنَافِقٌ زِنْدِيقٌ، قَصْدُهُ إِبْطَالُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْقَدْحُ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ"، وذكر قصَّة عبد الله بن سبأ فقال: "فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِمَكْرِهِ وخبثه، كما فعل بولس بِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَظْهَرَ التَّنَسُّكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ -وهذا يُستمال به كثير من الأغرار- حَتَّى سَعَى فِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ وَقَتْلِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ أَظْهَرَ الْغُلُوَّ فِي عَلِيٍّ وَالنَّصْرَ لَهُ، لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فطلب قتله، فهرب منه إلى قرقيس، وخبره معروف في التاريخ"، وبقيت في نفوس المبطلين خمائر بدعة الخوارج من الحروريَّة والشيعة.
قال: "وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ بَابُ الزَّنْدَقَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بكر ابن الطَّيِّبِ عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ"، الباقلاني له لكتاب عن الباطنية، وبيان مَكرهم وأساليبهم.
قال: "وَكَيْفِيَّةِ إِفْسَادِهِمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَقَالُوا لِلدَّاعِي"، يعني: الباطنية إذا أراد يعينوا داعٍ يُفسد المجتمع -يُسمونه الدَّاعي: "يَجِبُ عَلَيْكَ إِذَا وَجَدْتَ مَنْ تَدْعُوهُ مُسْلِمًا أَنْ تَجْعَلَ التَّشَيُّعَ عِنْدَهُ دِينَكَ وَشِعَارَكَ"، يعني أظهِر التَّشيُّع وأنَّك من شِيعة علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
 قال: "وَاجْعَلِ الْمَدْخَلَ مِنْ جِهَةِ ظُلْمِ السلف لعليّ وقتلهم الحسين، والتبري من تيم وعدي، وبني أمية وبني العباس، وقل بالرجعة، وَأَنَّ عَلِيًّا يَعْلَمُ الْغَيْبَ! يُفَوَّضُ إِلَيْهِ خَلْقُ الْعَالَمِ!! وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَعَاجِيبَ الشِّيعَةِ وجهلهم، فإِذَا أَنِسْتَ مِنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِجَابَةً وَرَشَدًا، أَوْقَفْتَهُ عَلَى مَثَالِبِ عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ"، انظر! حتى علي بن أبي طالب والذي يُظهرون محبَّته، إلا أنَّ الباطنية في الحقيقة لا يُحبونه.
ولهذا قال الشارح: "وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُ مِنْ سَبِّ الصَّحَابَةِ إِلَى سَبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ، ثُمَّ إِلَى سَبِّ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ مِثْلُ هؤلاء عندالفاعلين الضالين"، يعني: الذين تكلموا في الصَّحابة ظلموا عليًّا؛ فحقيقة هؤلاء يعلمون علم اليقين أنَّ هذا كلام غير صحيح، فيتطرق سبهم للصَّحابة إلى سبِّهم هم لأنفسهم لمن يدَّعون حبه والغلو فيه.
فالمقصود: أنَّ البراءة من النِّفاق أعظمها بالسَّلامة مِن الكلام في الصَّحابة، فإذا رأيت الرجل يتكلم في الصحابة فاعلم أنه قد أتى بابًا عظيمًا من أبواب النِّفاق في الدِّين -النِّفاق الاعتقادي.
وهذا مَوجود في الرَّافضة، وفي الباطنية الآن، وكذلك بعض المعتزلة، والخوارج والإباضية يتكلمون في "علي" أو "معاوية" أو "عثمان"، وكذلك مَن يسمون أنفسهم بالتَّنويريين والعقلانيين والعلمانيين والليبراليين؛ تجد لهم كلامًا في خير القرون، يسبُّونهم ويرمونهم بالتُّهم جزافًا تقليدًا أعمى، أو ميلًا لبعض البدع القديمة -نسأل الله العافية والسَّلامة- ولهذا يُلازمهم النِّفاق، فنسأل الله أن يُعافينا وإيَّاكم إخواننا الكرام.
وهذا أصل عظيم عند السلف، وهو وجوب حفظ حق الصَّحابة ومعرفة مكانتهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
 
نأخذ الجملة التي بعدها..
{قال -رحمه الله: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ، لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ)}.
هذه المسألة الثَّانية، بعد الفراغ مِن بيانِ حُقوقِ الصَّحابةِ ومكانةِ أهل البيت، وحفظ مكانتهم ومنزلتهم، ومحبتهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- انتقل لمن جاء بعدهم وهم التَّابعون، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100]، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[86]، فهؤلاء الذين يَلونهم لم يرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل قال: «وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي».
فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟
قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي»[87].
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ »[88].
فعلماءُ التَّابعين هُم أفضل هذه الأُمَّة بعد الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وأتباع التَّابعين، وأتباع تابعي التَّابعين وهكذا.
قال: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ)، يعني أنَّ بعض العُلماء اشتغل بحفظ حديث الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وروايته، ومعرفة طرقه وأسانيده، وبعضهم اعتنى بالفقه والفهم والدِّراية أكثر من الحفظ، وبعضهم جمع بين الأمرين ويُسمون "فُقَهَاءُ أهلِ الحَدِيثِ"، فبعضهم مُشتغلٌ بالفقه، وبعضهم مُشتغلٌ بالحديثِ، وبعضُهم جمعَ بينَ الأمرينِ كالإمامِ أحمد، والشَّافعي، ومالك، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، ونحوهم؛ وكلُّ هؤلاء -سواء مِن أهلِ الفقه، أو أهلِ الحديث، أو مَن جمَعَ بيَنَ الأمرين- على خيرٍ عظيمٍ، نعرف لهم مكانتهم، ونحفظ لهم حقهم، ونعرف منزلتهم، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، كم قدموا للمسلمين مِن خَيرٍ مِن حفظِ للسنَّة، وحفظٍ للدين، وأبعدوا عن هذا الدين الكذب والإفك والافتراء والأقاويل الفاسدة، والظنون الباطلة؛ فجزاهم الله عنَّا وعن المسلمين خير الجزاء.
ولهذا قال: (لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ)، فلا يجوز الطَّعن في أهلِ العِلم والتَّنقُّص منهم، وليس هذا معناه أنهم معصومون؛ بل الخطأ يرد على أحدهم، فليسوا بمعصومين، ولكن لا يجتمعون على خطأ؛ لأنَّ إجماعهم يدل على أنَّهم أصابوا الحق؛ لأنَّ إجماعهم حجَّة.
أَمَّا إذا اجتهدوا فأخطأوا؛ فالخطأ مغفور، ولهم أجر واحد، وإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران -رحمة الله عليهم وجزاهم الله عنَّا وعن المسلمين خير لجزاء.
وإذا وقع الخلافُ بين العلماء في مَسألةٍ مِن مَسَائِلِ الفقه فنعتذر لهم، ولكن نأخذ بالصَّحيح، ونأخذ بالرَّاجح الذي تدلُّ عليه الأدلَّة الشَّرعيَّة، فإذا جهلنا وعجزنا أخذنَا بقولِ مَن نثقُ في عِلمِه، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] .
ويُقصد بالعلماء هنا: العلماء الصادقون النَّاصحون الرَّاسخون في العِلم، أمَّا الذين يأكلون الدُّنيَّا بالدِّين، ومن عُرف عنهم التَّلاعب؛ فهؤلاء لا يُسمون عُلماء حتى لو لبسوا لباس العُلماء، إنَّما الكلامُ عَن العُلماء الرَّاسخين في العِلم، المعروفين بالسُّنَّة والاتباع، والمعروفين بالاستقامة على الشَّريعة، فهؤلاء العُلماء نحفظ لهم مكانتهم، ونعرف أنَّ لهم عذرًا إذا خالفوا الصَّواب.
وألَّف الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- رسالة جميلة في أعذار يُعتَذر بها لأهل العلم إذا وقع أحد منهم في خلاف الراجح أو خلاف الصواب.
وجِماع هذه الأعذار ترجع إلى:
العذرُ الأوَّل: عدم اعتقاد بعضهم أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال هذا الحديث، فيظنُّ أنَّ هذا الحديث ضعيف، أو لم يثبت عنده، أو لم يبلغه.
العذر الثَّاني: عدم اعتقاد أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرادَ هذه المسألة على هذا المعنى، يعني: الاختلاف في الفَهمِ، وضرب لذلك مثال: «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ»[89]، ما المراد بالإغلاق؟ بعضُهم يًفسِّره بمعنى، وبعضُهم يُفسِّره بمعنًى آخر؛ فتجدهم يختلفونَ في الحكمِ؛ لأنَّهم فَهِمُوا الكلامَ على حسبِ ما أعطاهم اللهُ مِن عِلمٍ في اللَّغةِ العربيَّةِ، ولذا فيتفاوتُ الحكم.
العذرُ الثَّالث: اعتقاده أنَّ هذا الحكم مَنسوخ، فهذا مِن الأشياء التي يقع بين أهل العلم بسببها خلافٌ، وإذا اختلف العلماء في مسألة يأخذ بالأقرب للتَّقوى، والأتقى والأعلم فيما يظنُّه هو في نفسه، ولا يكون مُتلاعبًا ومحتالًا.
وعلى كلِّ حالٍ فموضوع حديثنا هو أن نعرف فضل العلماء الرَّاسخين في العلم، ونحفظ مكانتهم، ونحفظ منزلتهم، ونعرف مَن هم العلماء الرَّاسخون في العلم، فهم الذين عرفوا السُّنَّة، وعرفوا الكتاب، ولزموا طريق السَّلف الصَّالح -رحمة الله عليهم- ونسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعلنا وإيَّاكم وجميع إخواننا المسلمين ممَّن يسلك مسالكهم ويقتفي أثرهم.
هذه هي الجملة الأولى التي بين أيدينا، قال: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ)، الفقه والنَّظر يعني: القياس والاستدلال والفهم. قال: (لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ)، مثلًا أنت رجَّحت قولًا وتجد أنَّ الإمام الشَّافعي لم يأخذ بهذا القول، هل تقول: إنَّ الشافعي لا يفهم!!
هذه كلمة بشعة ولا تجوز، فأنت على غيرِ السَّبيل إذا قلتَ هذا الكلام، الشَّافعي إمامٌ عظيمٌ، والأئمة مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم؛ نحفظُ حقَّهم ولا نذكرهم بسوءٍ أبدًا، حتى لو لم نُرجِّح قولهم، أو أخذنا بقول غيرهم؛ بل نحبهم ونعرف منزلتهم، ونعرف فضلهم على هذه الأمَّة، هُم وسائرِ أهلِ العلم مِن أهلِ الحديث والفقه -رحمة الله عليهم جميعًا؛ ولذا قال: (وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ).
{قال -رحمه الله: (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ)}.
هذه مسألة كبيرة ومهمَّة، لمَّا انتقل إلى ذكر العلماء ناسَبَ أن يذكرَ أهل العبادة والتَّقوى وأهل الصَّلاح، فكلُّ مؤمنٍ تَقيٍّ فهو وليٌّ، قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62]، فَمَن كانَ مُؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا.
ولهذا فإنَّ الكلام حولَ موضوعِ الولاية والأولياء كلام له عدَّة جوانب يحتاجها المسلم، ويحتاجها أيضًا طالب العلم، ويحتاجها كل مَن ابتُلي ببعض الفتن، وبعض الضَّلالات، وبعض الطَّوائف الضالَّة؛ لأنَّ هذه المسألة مَسألةٌ خطيرةٌ، وهي مسألة الأولياء والولاية.
الولي: مأخوذ من الولاية، والولاية: القُرب والمحبَّة، هذا يلي هذا، أي: قريب منه.
وأنتَ إذا قُمتَ بأمر الله -عَزَّ وَجلَّ- وآمنتَ بالله ورسوله، وعملتَ الأعمال الصَّالحة، واتقيتَ الله؛ اقتربتَ من الله، ومن ثَمَّ أحبك الله -عَزَّ وَجلَّ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، وفي الحديث: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ»[90]، وفي رواية «فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»[91]، لكن الأولياء على درجات، ونقصد بالأولياء هنا المؤمنين، فالمؤمنين ليسوا على درجةٍ واحدةٍ.
القسم الأوَّل: أكمل النَّاس ولاية هم الذين أخلَصوا وصدقوا في الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ والتَّقوى، فأعظمُ النَّاسِ مَقامًا في هذا هم الملائكة والأنبياء والرُّسل، والصَّحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والصِّديقون والشُّهداء، وحسنُ أولئك رفيقًا، ومَن جاء بعدهم ممَّن التزم هذا المنهج وسلكَ هذا المسلك واتقى الله -عَزَّ وَجلَّ- في كلِّ حياته حتى لقيَ ربه.
القسم الثَّاني: هم عكس هؤلاء، وهم أعداء الله -عَزَّ وَجلَّ- وفي مُقدمتهم إبليس عدو الله وجنده وأحزابه وأشياعه وذريَّته، فهؤلاء الأبالسة والشَّياطين، وكذلك الكفَّار مِن الملاحدة والمُشركين واليهود والنَّصارى والمجوس، وغيرهم؛ فكلُّ هؤلاء هم أعداء الله -عَزَّ وَجلَّ- ما داموا على الكفر فهم أعداء الله، وأعداء رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويجب البراءة منهم، ويجب معاداتهم في الله، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: 22]، وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]، وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 51]، ونحو ذلك مِن الآيات.
وبهذا يُعلَم أنَّ مَن وقعَ في هذه الضَّلالات كالملاحدة أو الاتِّحاديَّة والباطنيَّة، فلا يجوز أن يُظَنُّ فيهم الولاية كما يَعتقدُ بعضُ الصُّوفيَّة، تجدهم يقولون: هذا وليٌّ، بالرغم من أنَّه يتركُ الصَّلاةَ ويفعلُ المنكراتِ، ويتعرَّى ويفعلُ الفواحش! ومَن اعتقد فيهِ الولايةَ فهو زنديقٌ وكافرٌ مثلُه، فلا يُمكن أن يكونَ وليًّا إلا مَن كانَ مؤمنًا بالله تقيًّا للهِ -عَزَّ وَجلَّ.
القسم الثَّالث: هُم مَن فيهم ولايةٌ مِن وجهٍ، وعداوةٌ للهِ من وجهٍ، وهم المؤمنون العُصَاة، فهؤلاء بإيمانهم قد صاروا أولياءً لله -عَزَّ وَجلَّ- ولرسوله ولدينه، ولكن لَمَّا حصلَ منهم تقصير ونقص ومعصية؛ حصل عندهم من العداوة، مثل:
المسلم الذي يقع في الرِّبا -نسأل الله العافية والسَّلامة- فهو مِن وجهٍ مسلم قد وَالَى الله -عَزَّ وَجلَّ- وأسلم وتبرأ من الشِّرك، وحافظ على الصَّلاة، فهو وليٌ من هذا الوجه، ومن وجهٍ آخرٍ هو عدوّ؛ٌ لأنَّه وقع في الرِّبا، قال الله -عَزَّ وَجلَّ- في أكلةِ الربا: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 279].
إذن بهذا التَّقسيم نعرف مقامات النَّاس في الأولياء، أو كونهم أعداء لله، أو يجمع بين الأمرين وهم العُصَاة الموحِّدين، فمَن كان مِن السَّحرة أو الكُهَّان أو المشعوذين وادُّعيَت فيه الولاية؛ فهذه الدَّعوى كاذبةٌ ولا يجوز متابعة مَن يفعل هذا، ولا تصديق هؤلاء، وقد كثُرَ في الصُّوفيَّة مَن يفعل هذا الشيء، وحتى في الشِّيعة، فتجدهم يزاولون السِّحر، وربما يترك الصَّلاة ويترك الجماعة ويفعل المنكرات ويأكلُ أموالَ النَّاسِ بالباطلِ؛ ثم يقولون هذا ولي!! نعم هو وليٌّ للشيطانِ.
 
ولهذا فإنَّ مِن الكتب المفيدة النَّافعة لطالبِ العلم ولكلِّ مسلمٍ، وأحيلُ الإخوةَ عليها، وهي: رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية بعنوان: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، بَسَطَ هذا الموضوعَ لمسيسِ الحاجة إليه، ولا شكَّ أنَّه موضوعٌ يحتاجه النَّاس اليوم؛ لأنَّ هناك بعض الشُّبهات، مثل خوارق للعادة تحدثُ عند بعض هؤلاء الدَّجالين والمشعوذين، مثل:
-       أن يرونه طائرًا، ويقولون هو ذهب يحجُّ بالطَّيران، وهو قد طارَ به الجنُّ.
-       ويقولون: إنَّه ينظر في اللوح المحفوظ.
-       أو أنَّ مَن لاذَ به أو احتمى به لم يدخل النَّار، ونحو ذلك مما يدَّعونه في بعض هؤلاء.
فهؤلاء يجب أن نعتقد أنهم أولياء للشيطان، وليسوا أولياء للرحمن، ويجب أن نبرأ إلى الله منهم، ويجب على ولاة أمور المسلمين في كل بلدٍ مُسلم منع هؤلاء المشعوذين والدَّجالين حتى لو ادعوا الولاية؛ لأنَّ الولاية هي الإيمان والتَّقوى، وهي المحافظة على الإسلام الذي جاء به الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإسلام واضح، وما فيه هذه الأشياء والخزعبلات والخرافات، ما فيه رقص ولا تطبيل ولا طيران، وترك للصَّلوات، وأكل أموال الناس بالباطل، ومُزاولة السِّحر؛ وكذلك الذي يأكل الحيَّات والعقارب، أو يبلع المسامير، أو يدخل في جسمه السِّكِّين؛ فكل هؤلاء دجَّالون محتالون أولياء للشَّيطان، وليسوا أولياء للرحمن، ويجب البراءة منهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
بعضهم يخدع النَّاس بخدع كثيرة، مثل: أن يُخفي مالًا ويقول: إنَّه ولي، وأنَّ هذا المكان لو حفرتم فيه لوجدتُّم مالًا أو طعامًا، وقد سبقَ أن ذكرنا أمثلةً على هذا فيما أذكر.
ووقد ذكر أهل العلم أمثلة على هذا، في أنهم يحتَالُون بحِيَلٍ تنكشفُ أحيانًا، وأحيانًا لا تنكشف، حتى ذكروا أن ابن تومرت وكان زعيمًا في بلاد الموحِّدين -كما يسمُّونهم- وتوحِيدُهم تَوحِيدُ الجَهْميَّة وليسَ توحيدَ أهل السُّنَّة، ولكن يُقال: إنَّ له خوارق وكرامات، قالوا: إنه كان يُحيي الموتى، فكان يأمر بعض جنده يدخل في القبر، ويقول: أنا سأُحيي هذا الآن، ويقول: له اخرج من قبرك، فيخرج، وهو يُخادع الناس!
ولما خشي أن ينكشف أمره قتل بعضهم ودفنهم حتى لا ينكشف أمره.
وذكرَ أهلُ العلمِ أمثلةً على هؤلاء الدَّجالين، وإلى اليوم وهم في كثيرٍ من بلدان المسلمين يفعلون هذه الأفاعيل ويخدعون السُّذَّج والجَهَلَة حتى يأكلون أموال النَّاس بالباطل -نسأل الله العافية والسَّلامة.
هذا ما يتعلَّق بالجملة الأولى: (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ).
ومِن ضلالاتِ بعضِ الصوفيَّة وعلى وجهِ الخصوصِ ابن عربي وله أتباع، قالوا هذا الكلام الإجرامي الكفري، فقالوا: إنَّ الولي أعلى من النَّبي وأعلى مِن الرَّسول. اللهمَّ صلِّ وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حتى أنهم يقولون: "إن مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي"، فالولي عندهم أعلى.
فقولهم: "والنبي مقامه في برزخٍ وسط فويق الرسول"، يعني النبي صار فوق الرسول، و"دون الولي"، يعني الولي أعلى شيء، ثم النبي، ثم الرسول؛ عَكَسُوا الحقيقة!
والله -عَزَّ وَجلَّ- قال: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]، ما قال "الله يصطفي الأولياء"، فهو اصطفى الرُّسلَ، فهم خيرة البشرِ، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، وقال: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، فالرسل هم أفضل خلق الله، ولكن هؤلاء طواغيت الصوفية عَكَسُوا؛ فجعلوا هذا الولي بزعمهم أنَّه خير من النبي.
ويقول ابن عربي -كما ذكر الشَّارح: إنَّه جعلَ نَفْسَه خاتَمَ الأولياء، كما أنَّ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاتمُ الأنبياء، فهو خشي أن يقولَ للنَّاس إنَّه نبيٌّ فاحتال بحيلة أن يكون الولي أحسن من النَّبي وأعلى، ثم يجعل نفسه خاتم الأولياء، يعني: هو أفضل واحد في الدنيا وأفضل واحد في البشر! وهذا من الطُّغيانِ العظيمِ الذي دَخَلَ في نفسِهِ وهو لا يشعرُ أو يشعر! وهذا مبثوث في كتبه الخطيرة.
ولهذا فإنَّ الذين يُبجِّلونَ ابن عربي في هذه الأزمِنَة المتأخِّرة مع أنَّه قد انفضح -ولله الحمد- وتولَّى فضحه مئات العلماء، وقد أُلِّفَت رسالة ضخمة جدًّا في جمعِ أقوال العلماء في كلامهم في ابن عربي؛ إلا أنَّ هناكَ مِن المجرمين مَن يُريد اليومَ إحياءَ مذهبَ ابن عربي على وجهِ الخصوصِ، ومذهبه يقوم على الإلحاد، على أنَّ الخالقَ والمخلوقَ شيءٌ واحدٌ -نسأل الله العافية والسلامة- فحذاري حذاري من هؤلاء!
يقول: (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ)، وهذا حقٌّ، فالأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- هم خَيرُ البشر؛ بل إنَّ الأولياء مِن أَولهم إلى آَخِرِهم لو جُمِعُوا لا يُعادلون نبِيًّا واحدًا، فالأنبياء خير من الأولياء.
وأفضل الأولياء على الإطلاق: هو أبو بكر الصديق، ومع ذلك فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعلى منه، ومَن فضَّل أبا بكرٍ على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو كافر.
 
وبهذا نعرف أنَّ ابنَ عربي وجماعتَه وكلَّ مَن يُروِّجُ لمذهبِهِ يسلكونَ مسالكَ الضَّلالة، وأنَّهم خرجوا عن طريقِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -نسأل الله العافية والسلامة- وما أخبث هذا الحال! وما أخبث هذا المنهج وهذا المسلك! أنَّ الإنسان يَدَّعِي الإسلامَ ويَدَّعي أنَّه مسلم ثم يسلك مسلك هذا الطَّاغوت ويُفضِّل ابن عربي وجماعته على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
بعضهم يقول: هذا مدسوسٌ عليهم وما قالوه!
مدسوسٌ وتُعيدون طباعة الكتب نفسها! وإلى اليوم تُعيدون نفس الطباعة، وتجمِّلونها وتنشرونها مجَّانًا! أتُخادع نفسك أنت؟!
أنتَ دَسَسْتَ في نفسِك النِّفاقَ وأنت ما تشعر بتعاونك مع هؤلاء الذين ماتوا وهلكوا، وقد حذَّر العلماءُ منهم، فحذاري حذاري إخواني المسلمين في جميع مشارق الأرض ومغاربها من هذا الضَّلال العظيم، ولهذا يجب على أهلِ الإسلام أن يعظِّمُوا النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يعظِّموا الأنبياء والرُّسل التَّعظيم اللائق بهم، وأن يَدْحَروا مذاهبَ هؤلاء الذين يَصلُح أن نَصِفَهم بالزَّندقةِ والنِّفاقِ؛ لأنَّهم فضَّلوا شخصًا مَعروفًا بالضَّلالِ على النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نسأل الله العافية والسلامة.
وأحيلكم يا إخواني إلى شرح ابن أبي العز، وقد ذكر كلامَ ابن عربي وعلَّقَ عليه، فقال: "فَمَنْ أَكْفُرُ مِمَّنْ ضَرَبَ لِنَفْسِهِ الْمَثَلَ بِلَبِنَةِ ذَهَبٍ" يعني: ابن العربي وصف نفسه بأنه لبنة ذهب.
قال: "وَلِلرُّسُلِ الْمَثَلَ بِلَبِنَةِ فِضَّةٍ"، يعني: أنَّ الذَّهبَ أعلى.
قال: "فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ مِنَ الرُّسُلِ؟! تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ: ﴿إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ [غَافِرٍ: 56]. وَكَيْفَ يَخْفَى كُفْرُ مَنْ هَذَا كَلَامُهُ؟ وَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ أَمْثَالُ هَذَا، وَفِيهِ مَا يَخْفَى مِنْهُ الْكُفْرُ، وَمِنْهُ مَا يظهر، فلهذا يحتاج إلى نقد جَيِّدٍ"، وما أشبه هؤلاء بمَن قال: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 124]"، إلى آخر كلامه.
فهذا الموضوعُ موضوعٌ مهمٌّ جدًّا، وهو معرفةُ أنَّ الأولياءَ لا يُمكنُ أبدًا إلا أن يكونوا مؤمنين أتقياء، ولا يُمكن أن يكونَ وليًّا معاندًا للهِ ورسولهِ، ولا يُمكن أن يكون وليًّا وهو يعمل خلاف الشَّريعة، أو يعتقد الضَّلالات، بل هؤلاء الذين يعملونه هو خلاف الشَّرعِ، ويدعون للضلالات؛ فهؤلاء أولياء للشَّيطان وليسوا أولياء للرَّحمن.
بعد هذا يأتي الحديث عن موضوع الكرامات، نجعله -إن شاء الله تعالى- في الدَّرسِ القادمِ، ونسألُ الله -جلَّ وعَلا- للجميعِ التَّوفيقَ والسَّدادَ، ونسألُ اللهَ أن يثبِّتنا وإيَّاكم على سنَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطريقة الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان، ويُعيذنا وإيَّاكم مِن طرائق أهل النِّفاق والزَّندقةِ وأعداء الله ورسوله، وأن يجنِّبنا مسالِكَهُم، وأن يهدينا صراطه المستقيم، صراطَ الذين أنعمَ عليهم، غيرِ المغضوب عليهم ولا الضَّالين، إنه سبحانه وتعالى سميعٌ مجيبُ الدُّعاءِ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
 
{وفي الختامِ نشكُركم فضيلةَ الشَّيخ على مَا تَكبَّدتُّم به، هذه تحيَّةٌ عطرةٌ مِن فريقِ البرنامجِ، ومنِّي أنا محدِّثُكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، نستودعكم الله في حلقة قادمة إلى ذلكم الحين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[82]صحيح البخاري (16)
[83] مجموع الفتاوى: كتاب مجمل اعتقاد السلف.
[84]صحيح، ورواه ابن أبي عاصم أيضا في "السنة" "1550 و1551 و1555".
[85]صحيح البخاري "3713 و3751".
[86]صحيح البخاري (2471)، صحيح مسلم (4607).
[87]مسند أحمد (12339).
[88]صحيح مسلم (2832).
[89]ضعفه الألباني في التعليقات الرضية (262/2).
[90]سنن البيهقي الكبرى (19325).
[91]صحيح البخاري (6048).
 

         


 
الْعَقيدَةُ الطحاوية (3)
الدَّرسُ الثَّامِنُ (8)
فضيلة الشَّيخ/ د.  فهد بن سليمان الفهيد
 
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
الله يحييك، ويحيي الإخوة جميعًا.
{نبتدئ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كلام أبي جعفر الطَّحاوي -رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بِهُداه.
أمَّا بعد: فبعدما فرَغَ -رحمه الله- من ذكر شأن الصَّحابة ومنزلتهم العظيمة، ثُمَّ منزلة العلماء والتَّابعين للصَّحابة بإحسان، ثُمَّ ذَكَرَ مسألة عدم تفضيل الأولياء على الأنبياء، وأنَّ هذا مِن ضلالات الصُّوفيَّة، وأنَّ أهل السُّنَّة والجماعة لا يُفضِّلون الوليَّ على النبيِّ؛ انتقل إلى ما يتعلق بالأولياء وكراماتهم.
سبق قولنا أنَّ الولي هو: المؤمن التَّقي، كما قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62]، فمَن كان مُؤمنًا تقيًّا كان لله وليَّا. أمَّا مَن لم يكن مؤمنًا ولم يكن تقيًّا فليس من أولياء الله بأيِّ حالٍ من الأحوال.
ومما يتعلَّق بالأولياء: الإيمان بالكرامات التي يُجريها الله -عزَّ وجل- على أيدي الأولياء، فنؤمن بهذه الكرامات، وبما صحَّ عن الثِّقات مِن رُواياتهم.
وقد ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- في القُرآن شيئًا من هذه الكرامات التي وقعت لبعض أولياء الله، مثل: مريم بنت عمران، وهي ليست نبيَّة؛ بل هي امرأةٌ صالحةٌ من أولياءِ الله، فهي وَليَّةٌ لله -عَزَّ وَجَلَّ- أثنى الله عليها وعلى صلاحها، وقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]، فهذا يدلُّ على أنَّ أولياء الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد يَرزقهم بهذا الأمر، وهذا شيءٌ في القُرآن نُؤمنُ به.
كذلك ما جرى لأصحاب الكهف، وهم فتيةٌ آمنوا بربهم، قال الله -عَزَّ وَجَلّ: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: 13]، وهؤلاء ليسوا أنبياءً وليسوا رسلًا؛ بل هم فتيةٌ صالحون متقون لله موحَّدون، تبرؤوا من الشِّرك وأهله، وهربوا منه، واعتزلوا قومهم، ولجؤوا إلى هذا الكهف، فألقى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم النَّوم، ولبثوا في هذا الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، وهذا -لا شكَّ- أنَّه آية وعلامة على قُدرةِ الرَّب -سبحانه وتعالى- وكرامة لهؤلاء.
وليس هذا مُختصًّا بما ذُكرَ في القُرآن فقط؛ بل ثبت في السُّنَّة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه ذكر كراماتٍ لبعض ما تقدَّم من الأمم السَّالفة من صالحيها ومتَّقيها، مثل الثَّلاثة الذين انطبقت عليهم الصَّخرة في الغار[92]، فهم قد آووا إلى المبيت في الغار، فانطبقت عليهم صخرة أغلقت الغار، فدعوا الله -عَزَّ وَجَلَّ- بصالح أعمالهم، فكشف الله -عَزَّ وَجَلَّ- عنهم هذه الصخرة، والقصة معروفة في الصَّحيحين.
وكذلك حديث جريج العابد[93] الذي أنطق الله -عَزَّ وَجَلَّ- الصَّبي الذي قال: "أبي راعي الغنم"، وقد كانت امرأة بغي اتَّهمت جريجًا بأنَّه هو الذي أتاها وتغشَّاها حتى حملت منه بالزِّنا، وهو رجل عابد، ولكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنقذه منها، فتكلَّم الصَّبي وشَهِدَ، وهذه آية وكرامة أكرمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها.
ومثل هذا كثير؛ بل أخبر نبيُّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن بعض الصَّحابة أنَّه مُستجاب الدَّعوة، وعن بعض التَّابعين أنَّه مُستجاب الدَّعوة، واستجابة الدُّعاء من الكرامات.
وكذلك أخبر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ رجلًا من هذه الأمَّة يقف أمام الدَّجال في آخر الزَّمان، فيقول: "أنتَ الدَّجال الذي أخبرنا عنك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"[94]، فيأمر به الدَّجال فيُشقُّ نصفين، ثم يُقال له: عُد، فيعود كما كان، فيقول له: "والله ما ازددتُّ فيكَ إلا بصيرة، أنت الدجال الكذاب الذي أخبرنا عنك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، والحديث في صحيح مسلم، وفي المرة الثالثة لا يُسلط عليه، فلا يستطيع الدَّجال أن يتسلَّط عليه كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يدلُّ أن هذه كرامة أكرمها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهذا الشَّاب.
فموضوع الكرمات موضوعٌ عظيم، يُبته أئمة أهل السُّنَّة في كتب العقدية، ويُقرِّرون هذه المسألة ردًّا على ضلالات المعتزلة العقلانيين الذين يُنكرون الكرامات ويجحدونها، بل حتى المعجزات، وردًّا على مَن يغلو في الكرامات، لأنه قال: (وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ)، أما الذي لا يصح كالأكاذيب والظُّنون أو الافتراءات أو الحكايات التي لا سند لها، أو المنامات التي لا عبرة بها؛ فهذه لا يُعتمدُ عليها في إثبات كرامةٍ لشخصٍ حصلت له.
 
وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى، وهي:
ما الفرق بين الكرامة والمعجزة والسِّحر والشَّعوذة، والمخاريق التي يفعلها شياطين الإنس والجن وأعظمهم الدَّجال؟
الجواب عن هذا، نقول:
Ø   النوع الأول: المعـــجزة.
فما كان فيه خرقٌ للعادة وجرى على يدِ نبيٍّ من أنبياء الله فهو دليلٌ على قُدرة الرَّب -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- وأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعله نبيًّا، ودليلٌ على نبوَّته، ومثل ذلك:
-        عصا موسى التي ضرب بها البحر فانفلق البحر وانشقَّ وصَار كالطَّود العظيم، وصاروا يمشون في برٍّ يابسٍ بعدما كان بحرًا مليئًا بالأمواج يغرق فيه مَن مشى فيه.
-        وكذلك الآيات التسع التي أُعطيها موسى.
-        وكذلك ما أعطى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عيسى من الآيات.
-        وكذلك ما أعطى الله -عَزَّ وَجَلَّ- جميع الأنبياء، فإنَّ كلَّ نبيٍّ يُعطيه الله -عَزَّ وَجَلَّ- آية، يُسمِّيها بعض العلماء "المعجزة"؛ لأنَّه يُعجِزُ غيره، وبعض أهل العلم يُحب أن يسمِّيها بالتَّسمية القرآنيَّة النَّبويَّة مثل: "آية" أو "دليل" أو "بيِّنة" أو "برهان" أو نحو ذلك.
ولهذا فإنَّ البخاري في صحيحه يقول: "باب علامات النُّبوَّةِ فِي الإسلامِ"، والبيهقي له كتاب بعنوان: "دلائل النُّبوَّة" والله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة الحديد يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد: 25]، وهذا كثير في القرآن وفي السُّنَّة، فيُسمَّى ما يُعطيه الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنبيائه ولرسله من الحُجَج الدَّالَّة على أنَّهم رُسُلِ الله حقًّا بهذه الأسماء التي سبَقت "آية، دليل، علامة نبوة، دليل نبوَّة، وبرهان، وبيِّنة"، ولكن تسميتها بــ "معجزة" لا إشكال فيها؛ لأنَّه لا مُشاحَّة في الاصطلاح، ولكن يُلحظ إلى أمرٍ مهمٍّ، وهي مسألة التَّحدِّي، أنَّ بعض الذين يُعرِّفون المعجزة بأنَّها "أمرٌ خارق للعادة يُجريه الله -عَزَّ وَجَلَّ- على يد نبيِّه يتحدَّى به الأعداء -أو الكفَّار"، أنَّ التَّحدِّي لم يرد في هذه الآيات إِلَّا في القرآن العظيم قوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرً﴾ [الإسراء: 88]، فالتَّحدي لم يُذكَر إِلَّا في شأنِ القرآن، في أربعة أو خمسة مواضع في القرآن، أمَّا الآيات التي أُعطيها نبيُّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يُنقل عنه أنَّه تحدَّى الكفَّار فيها، فلم يقل: أتحدَّاكم أن تفعلوا مثلما فعلتُ أنا، أو أتحدَّاكم أن تأتوا بشيءٍ مثل هذا!
وعلى كلِّ حالٍ فالأمر في ذلك قريب، ولكن الأفضل أن نُعبِّر بالتَّعبيرات الشَّرعيَّة العلميَّة.
هذا هو المعنى الأوَّلُ وهو البرهين ودلائل النُّبوَّة التي يُسمِّيها بعض العلماء: "المعجزات"، فهي: يُجريها الله -عَزَّ وَجَلَّ- عل يد أنبيائه ورسله، ليستدلَّ بها العباد على أنَّهم أنبياء الله حقًّا.
وفي هذا جاء الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[95]، اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
ولا شكَّ أنَّ القرآن آيةٌ باقيةٌ إلى قيام السَّاعة، فهذا القرآن لا ريبَ فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيه حُجج الله وبيِّناتُه، وفيه ما على مثله يؤمن البشر، لو أقبلوا عليه عرفوا الحق.
Ø   النَّوع الثاني: الكرامـــة.
وهي: أمر خارق للعادة يُجريه الله -عَزَّ وَجَلَّ- على يد عبدٍ صالحٍ من عباده، المؤمن أو المسلم، ولكن لا نقول: إنَّه نبي، ومَن قال: إنَّه نبي صار ليس بمؤمنٍ ولا مُسلمٍ، فيكون قد ادَّعى النُّبوَّة وصار كذَّابًا، فهذا هو الفرق بينَ ما يكون على يدِ النَّبيِّ أو ما يكون على يد المؤمن الصَّالح الولي، فالذي يجري على يد المؤمن الولي الصَّالح يُسمَّى عند أهل العلم ويُسمَّى في الشَّرع: "كرامة" فيُكرمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها.
والمقصود من هذه الكرامات: هي تقوية دينه، وتثبيته على الدِّين، أو قضاء حاجة من حاجاته الدُّنيويَّة. فهذا هو تعريف الكرامة.
Ø   النَّوع الثَّالث:
ما يجري على أيدي المشعوذين والسَّحرة والكذَّابين والدَّجالين وأمثالهم، فهذه الخوارق للعادات التي تجري على أيديهم كأن يمشي على الماء أو يطير في الهواء، أو يتصرَّف بتصرفاتٍ لا يقدر عليها عامَّة الناس، فهذه تُسمَّى خوارق للعادة، فهذه الأشياء لا عبرة بها، ولا يُحتجُّ بها.
والعلامة البارزة بينها وبين ما يكون من كرامات: هو حال الإنسان، فإذا كان مؤمنًا تقيًّا صارت كرامة، وإذا كان فاجرًا أو كافرًا صارت سحرًا وشعوذةً وكذبًا، وأمرًا خارقًا لا عبرة به.
والناس يتأثَّرون بهذه الأشياء، فيتأثَّرون بما يخرج عن العادة التي اعتادها الناس، فالناس يعتادون على أشياء مُعيَّنة، فتجد المجتمع الذين في سنٍّ مُتقاربة يتقاربون في طريقة تعاملهم، في أكلهم، في بيعهم، في شرائهم، في قدراتهم، في ذكائهم؛ فإذا وُجدَ مَن يخرج عنهم وينبو عنهم ويزداد عنهم زيادة معقولة فلا يُستغرَب هذا، أمَّا إذا وُجدَ مَن يزيد عليهم زيادة عالية جدًّا؛ فهذا ينبهرون به، ويتعجَّبون منه، وربَّما يأخذ بلبِّهم.
وأصول هذه الأشياء ثلاثة: العلم، والغنى، والقدرة.
ولهذا تُسمَّى هذه الصِّفات "صفات الكمال"، وهذه لا تكون على وجه الإطلاق إلا لربِّ العالمين، ولا تكون لمخلوق، فكمال العلم، وكمال الغنى، وكمال القدرة؛ لله ربِّ العالمين، ولهذا أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- نبيَّنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبرَّأ من دعوى هذه الثَّلاثة في سورة الأنعام، قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ فيه نفى الغنى ﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ ، نفى العلم ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ فيه نفى القدرة ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: 50].
حتى نوح -عليه السلام- أمره الله -عَزَّ وَجَلَّ- بذلك، فقال في سورة هود: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [هود: 31]، فسبحان الله! هذا أوَّل رسول أُرسلَ إلى أهل الأرض.
وهذا خاتم الأنبياء والرسل محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الرسل- كلُّهم تبرؤوا من هذه الثَّلاث، وهي ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ ، وتارة يأتي بعض النَّاس ويقول: إنَّ عنده أموالٌ عظيمة، وقدرات ماليَّة ضخمة جدًّا أتته من غير سبب، هذا خارق إذا أتته من غير سبب! لأن غالب الناس يكون لديهم سبب كالبيع والشِّراء، ويربع ربحًا معقولًا أو ربحًا هائلًا، ولكن يكون في حدود ما يقع بين النَّاس، ولكن أن يأتي بشيءٍ فوق مستوى البشر فهذا يُعتبر خارقًا للعادة.
فهذه الأمور الثَّلاثة كلُّ مَن ادَّعى خرق العادة فيها من الكذَّابين والدَّجالين والسَّحرة والمشعوذين والذين يأكلون أموال النَّاس بالباطل؛ فإنَّما يأتون إلى هذه الأمور الثَّلاثة، فإمَّا أن يُظهر قُدرات خارقة، أو يُظهر معلومات ليست عند البشر يدَّعيها، أو يُظهر غِنًى وقُدراتٍ ماليَّة، أو قُدراتٍ على إيجاد الأطعمة، وهكذا...، وهذه طرائقهم، فلا يغتر المؤمن بهذا الشيء.
حتى أهل الإيمان الذين رزقهم الله ببعض الكرمات، فلا ينبغي أن يكون هذا محلًّا للغرور؛ بل يجب أن يكون محلًّا للتواضع، ويجب أن يخاف أن يُفتَن، لأنَّ بعض النَّاس يُعطى كرامة، ثمَّ تكون فتنة له واستدراج، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:175-176]، ذكر المفسرون أنَّه بلعام بن باعوراء، وكان في بني إسرائيل، وقد أعطاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- كرامة، وهو أنَّه لا يدعو إِلَّا ويُستجاب دعاؤه، فطلب منه بعض اليهود -قبَّحهم الله- أن يدعو على مُوسى، فدعا عليه؛ فانسلخ من آيات الله -عَزَّ وَجَلَّ- بسبب الدُّنيا -نسأل الله العافية والسلامة.
فحتى المؤمن التَّقي لا يغتر بالكرامة، ثمَّ إنَّ الكرامة ليست هي كل شيء، فلو لم يقع من المسلم كرامة فلا ينقص إيمانه، ولو وُجدت عنده كرامة فهذا لا يدلُّ على كمال إيمانه؛ بل قد يكون ضعيف الإيمان ويُعطَى كرامة، وقد يكون قويَّ الإيمان ولا يعطَى كرامة، فليست الكرامة من الله -عَزَّ وَجَلَّ- للإنسان -وهي الأمر الخارق للعادة- ليست دليلًا على صلاحه أو نقص صلاحه أو زيادة صلاحه؛ بل هذا تابع لتقدير الله وفضله ورحمته، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يُقدِّر ما يشاء ويقضي ما يشاء، فعلى المؤمن أن يلتزم بالطَّاعات وبالإيمان وبالعمل الصَّالح، وبفعل الواجبات وترك المحرَّمات، ولهذا قال كثير من أهل العلم منبِّهين: "أعظم كرامة هي الاستقامة"، فأعظم كرامة يُكرمك الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها هي أن تستقيم على طاعة الله وطاعة رسوله، وليس أن يحصل لك خارق من خوارق العادات.
بعض النَّاس يحصل له خارق، ولكن يستعين به على المعاصي، فقد يكون عند أمر خرَقَ العادة، ويكون سببًا لزيادة ذنوبه، قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم:44- 45]، فلا تغتر إذا أعطاكَ الله المال الوافر، أو أعطاك الله قُدرة، أو أعطاك الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهمًا ثاقبًا في الأمور؛ فلا تغتر بهذا، بل عليك أن تتواضع لربِّك، وأَلَّا تتمادح، ولهذا فإنَّ من علامات الضَّلال عند الهالكين أنَّه إذا وقع له شيء من هذه الأمور أخذَ يتحدَّث بها بين النَّاس من باب تزكية نفسه وتكثير أتباعه، ومن باب طلب أن يلحظه الناسُ بقلوبهم وأن يلتفتوا إليه، ويقولون: ما أعظم فلان كذا...، هو يُريد هذا، وإذا وقع في قلبه هذا المراد هلك!
قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادً﴾ [القصص: 83]، فهذا من العلو في الأرض، ولهذا فإنَّ أهل الإيمان هم أشدُّ النَّاس تقوى لله، وأشدُّ الناس تواضعًا لعباد لله، وأشد النَّاس هضمًا لأنفسهم -نسأل الله جل وعلا أن يعافينا من الفتن.
ولهذا نقول: أعظم كرامةٍ هي الاستقامة، حتى قال بعض أهل العلم: "كن طالبًا للاستقامة لا طالبًا للكرامة، فإنَّ الكرامة حظُّ نفسِكَ، والاستقامة مرادُ ربِّكَ"[96]، فأطِعْ ربَّكَ -عَزَّ وَجَلَّ.
 
{سؤال: هل الكرامة مقصودة لذاتها؟}.
بعض المتعبِّدين والمجتهدين في العبادة سمعوا أنَّ بعضَ السَّلف وقعت لهم كرامات وبعض الأشياء، فصاروا يجتهدون في العبادة ويتمنون أن يحصل لهم مثلما حصل لفلان التَّابعي أو لفلان الصَّحابي أو لفلان تابع التَّابعي، ويتمنى بقلبه أن يُرزَق شيءٌ من هذا، ويبقى منكسر القلب إذا ما حصل له شيء من هذا، وإذا حصل له شيء فرح به وطار به، وظنَّ أنَّه قد وصل!
لا يكن قلبُكَ مُلتفتًا لهذه الأمور إطلاقًا، إنَّما يكون قلبُكَ مُلتفتًا إلى أنَّك تقوم بالأمر وتجتنب النَّهيَ، هذا هو الذي عليك، وهو علامة أنَّك أقبلتَ على الله بصدقٍ ويقينٍ، وخضعتَ له وذللتَ له، أمَّا أنَّك تبحث عن أشياء لحظِّ نفسكَ، أو تظنَّ أنَّه لا يكون الإنسان في حالٍ متقدمَّة أو حالٍ طيِّبَة إلا وقعَت له كرامة؛ لا، فهذا غير صحيح.
وكثير من السَّلفِ أيضًا لم يقع لهم هذا الشيء، بل أكثرهم لم يقع له هذا الشيء، يعني مثلًا: مَن يرى ضوءًا يسير في الظلام، أو يُؤتَى بطعامٍ وهو جائع؛ فجماهير السَّلف لم يقع لهم هذا الشيء، وهل هذا دليل على نقصهم؟!
لا والله، ليس بدليل على نقصهم! بل هم خيرٌ منَّا.
فإذا فُتِحَ لك بابُ العبادةِ وفُتِحَ لك باب العِلم وباب قراءة القرآن وباب صلاة اليل؛ فهذه أعظم كرامة، وأعظم نعيم في الدُّنيا أنَّك تُقبِلُ على الله -سُبْحَانَه وَتَعَالَى، وأمَّا الأمور الأخرى فلا تلفت إليها؛ لأنَّها ربَّما تكونُ فتنةً لكَ، يعني ربَّما لو أنَّ إنسانًا حصلَ له هذا الشَّيء، كأن يرى يده مثلًا أنَّها تُنير الطَّريقَ له؛ فيظنُّ أنَّها كرامةً، فصارَ يُعجَبُ بنفسه، ويرى أنَّه قد وصلَ، وأنَّه مثل الصَّحابة؛ فيَهلك بهذا العلو والاستكبار الذي وقع في قلبه والظَّن الفاسد الذي ظنَّه!
فصارت هذه المسألة التي وقعت له سببًا في هلاكهِ -نسأل الله العافية والسلامة- قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا...﴾ [الفجر: 15]، ليس الإكرام الذي حصل لك دليلٌ على هذا، وليس الابتلاء الذي حصل لك وتقدير الرزق وتنقيصه دليل على الإهانة، فليس الفقير مبغوضًا لله، وليس الغني محبوبًا لله، فلا يظنَّ أنَّه لمَّا صار غنيًّا أنَّ الله يُحبُّه، أو لمَّا أعطاه الله أولادًا أنَّ الله يُحبَّه، وإذا صار فقيرًا أنَّ الله لا يحبُّه! لا، قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحً﴾ [سبأ: 37].
فبعض الناس في هذا المقام إذا جاءهم أمر خارق العادة وفوق قدرته وطاقته وفتح الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه بشيء:
-       بعضهم ينتفع بهذا ويزداد إيمانه وتواضعه، ويكتم هذا ولا يتحدَّث به خوفًا من الرِّياء.
-       وبعضهم يتعرَّض لعذاب الله -كما تقدم- بسبب العجب والاستكبار وتزكية النَّفس، ومَنِّه على الله.
-       وبعضهم تكون له من باب المباحات.
وعلى كلِّ حالٍ؛ هذه الكرامات مسألة عظيمة حقيقةً، وبعض الناس يقع فيها ما بين الغلو والجفاء، وإلا فنحن نُؤمن ونُقرُّ بها، وقد ذكر أهل العلم جملةً كبيرةً جدًّا من الكرامات التي وقعت للصحابة، أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الماتع "الفرقان بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان"، وذكر نحو ثلاثين كرامة وقعت للصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- والتَّابعين، فليكن هَمُّ المؤمنُ هو طلب الجنَّة والنَّجاة من النَّار، وطلب رضا الله -عَزَّ وَجَلَّ- والحذر من سخط الله -عَزَّ وَجَلَّ، ولا يكن همُّه أن يقع له أدنى خارق.
ثم إنَّ الإنسان إذا اتَّقى الله -عَزَّ وَجَلَّ- التَّقوى الكاملة؛ فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُحقِّق له ما يُريد من خير، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 2]، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [الأنفال: 29]، فالمؤمن إذا صدقَ مع الله -عَزَّ وَجَلَّ- فتح الله له أبواب الخيرات، ودرأ عنه أبواب الشُّرور، نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يحفظنا وإيَّاكم.
فالمقصود: أنَّ من الضَّلالات إنكار الكرامات، وهذا معروف عند المعتزلة، بل إنَّ بعضهم يُنكر دلائل نبوَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نسأل الله العافية والسَّلامة!
وفي المقابل لهؤلاء ضُلَّال الصُّوفيَّة والخُرافيينَ والقبوريينَ يغلون في الكرامات ويُبالغون فيها ويكذبون فيها، وبعضهم يفتري أشياءً ويقول هذه كرامة، وهو يكذب!
وقد سبق في الحلقة الماضية أن ذكرنا بعضَ الناس كان يحفر في حفرة ويضع طعامًا، ثُمَّ يقول: هاهنا طعام، دعوتُ الله فاستجاب لي!
هو يكذب حتى يُكثِّر أتباعه، فهؤلاء مُجرمون ودجَّالون، وما أكثرهم!
فهناك حِيَلٌ كثيرةٌ يفعلونها لأجل تكثير الأتباع، ولأجل أن يكون له جاه وصِيت عند جماعته.
وبعضهم يفتري كرامات ما أنزل الله بها من سلطان، مثل أن يقول: فلان يُخرج يده من قبرِه فيُصافحنا، وهذه كرامته! ومن كرامات فلانٍ أنَّه ينظُر في اللوحِ المحفوظ فيمحو ما يشاء! نعوذ بالله من هذا!
يغلون غلوًّا فاحشًا حتى يقعون في الشِّرك الأكبر، في الشرك في الرُّبوبيَّة -نسأل الله العافية والسَّلامة- فهذا كلُّه من الضَّلال المبين.
أمَّا ما يتعلَّق بالبرمجة اللغويَّة العصبيَّة؛ فهذه أمور حدثت الآن، وصارت تروَّج بين الجَهَلة، وصار بعض النَّاس يُصدِّق هؤلاء، فيزعمون أنَّهم يجعلون لديك خوارق للعادات!
وحقيقتها:
- إمَّا أنَّها ترجع للفراسة، وستأتي الإشارة إلى الفِراسَة والتَّفرُّس، وهذا عِلم معروف.
- وإمَّا أن ترجع إلى ما كان عليه السَّحرة والمشعوذون، والذينَ يحتالون على النَّاس بأنواع الحِيَل، مثل المشي على الجمر، وكاستطلاع المستقبل -أو استشراف المستقبل- وهذا يلتحق بالكهانة والتَّنجيم، ومثل بعض الرِّياضات الشَّاقة على النَّفس التي تُولِّد عند الإنسان بعض التَّصوُّرات؛ فيظنُّ أنَّه يرى أنوارًا وأشياءً، وحقيقتها أنَّه ضغط على نفسه ضُغوطًا مُعيَّنة حتى فقدَ الاتِّزان وفقدَ التَّصوُّر وتشوَّشَ دماغُهُ، فصار يرى أنوارًا واشياءً هي ليست موجودة في الحقيقة، ولكن هذا من شدَّة الإشقاق على النفس، وغير ذلك من التَّصرُّفات، حتى يقول بعضهم: "أطلق العملاق الذي في نفسك"، وهكذا ينقلون شركَ المشركين وسحر السَّاحرين ودجل الدَّجَّالين إلى بلاد الإسلام باسم دورات تطوير الذَّات، ودورات المهارات؛ فيجب الحذر من ذلك، فأنتم الآن تدرسون العقيدة، إخواننا الكرام من الطلاب والطالبات يجب الحذر من هذه المسالك وتحذير إخواننا المسلمين من هؤلاء.
أمَّا الفِراسَة فهي صحيحة، وهي التَّفرُّس، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة الحجر: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: 75]، قال ابن عباس وجماعة: "أي المتفرِّسينَ".
والتَّفرُّس: هو نور يُقذَف في القلب.
Ø   النَّوعُ الأوَّل: الفِراسَة الإيمانيَّة، فالمؤمن تثِبُ إلى قلبه كوثوبِ الأسدِ معرفةُ الحق من الباطل بسبب ما عنده من الآيات القرآنيَّة، وما عنده من العلم عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما عنده من كلام الصَّحابة، فإذا مرَّت به بعض البدع أو بوادر البدع والضَّلالة كشَفَها وانكَشفَت له، بسبب ما أعطاه الله من علم القرآن، درسَ القرآن وحفظه وفهم الآيات، ودرسَ السُّنَّة والعَقيدَة؛ فصار ينتبه مباشرة، بينما كثير من الناس يقرأ الكلام ولا يدري أنَّ هذا الكلام غلط، أو يسمع المتحدِّث ولا يدري أنَّه يتكلَّم بالغلط، فيأتي هذا يتفرَّس ويسمع ويقول: هذا يُؤسس للبدعة، أو هذا يُؤسس لضلالة؛ لأنَّه قال كذا وكذا، هذا ليس بخرصٍ؛ وإنَّما مبني على سبب، وهو ما يتعلَّق بالفِراسَة الإيمانيَّة.
Ø   النَّوعُ الثَّاني: فراسَةٌ رياضيَّة: يعني بالرِّياضة والتَّمرُّن والتَّدرُّب، فبعضهم يعمل أعمالًا حتى يتقوَّى على هذه الأنواع، وهذه مشتركة بينَ المؤمن والكافر، فتقع للمؤمن والكافر.
مثال للفراسة الرِّياضيَّة: تأتي عند صاحب الذَّهب وتأتيه بأشياء من الذَّهب، فيقول لك: هذا ذهب صحيح وهذا ذهب مغشوش، أو يقول هذا ذهب عيار كذا وهذا ذهب عيار كذا مباشرة؛ لأنَّه قد تعوَّدَ وتروَّضَ على هذا الصِّنف من البيع والشِّراء.
لو ذهبت عند بعض القضاة مثلًا، فبعض القضاة من كثرة ما يأتيه من الخصوم والنِّزاعات؛ يعرف أحيانًا أنَّ هذا صادقٌ وأنَّ هذا كاذبٌ، فهذا ليس علم غيبب، ولكن من خلال التَّفرُّس والنَّظر في تعابير الوجه، ومن خلال بعض القَرائن المحتفَّة.
ويُنقَل عن بعض قُضاة المسلمين بعض الأخبار العجيبة في هذا، وكذلك بعض الحكَّام وولاة الأمر يعرفون النَّاس من خلال كثرَة ما يمرُّ عليهم من أحوال الناس، فيعرفون المحتال من الصَّادق من الفقير، وهكذا...
وتجد بعض الأطباء عنده مهارة شديدة، يرى المريض ويقول له: أنت فيك كذا أو كذا...، فهذا ليس علم غيبٍ؛ بل هذا من خلال الفراسَة.
Ø   النَّوعُ الثَّالثُ: الفِراسَة الخَلقيَّة، ينظر إلى خلقِ الإنسان وحجمه، وطوله، ولونه، واتِّساع عينه، وأنفه، وأُذنه، ونحو ذلك؛ فيستدل ببعض الأمور على بعض، وهذا النوع يُلحق بالنَّوع الثاني، ولكن قد يقع الغلط في هذا، ويُنقَلُ في هذا قَصصٌ الله أعلم بصحَّتها.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فالفِراسَة ليست علمَ غيبٍ، فهي مثل الحِكَم والتَّجارب، والناس يقولون: اسأل مُجرِّبًا ولا تسأل طبيبًا؛ لأنَّ مَن جرَّب الأمورَ يعرفُ الأمر هذا وجرَّبه، وهكذا إذا جاء بعض النَّاس يشتري سيارة، أو يشتري منزلًا، ويسأل عن الجيران؛ فهذا الأمور ليست من علم الغيب، ولكنها قرائن.
نرجع إلى موضوعنا الأساسي: أهل السُّنَّة والجماعة يؤمنون بكرامات الأولياء الثَّابتة الصَّحيحة من غير غلوٍّ فيهم، وليس معنى إثبات الكرامات أنَّنا ندعوهم من دون الله أو نستغيث بهم أو نعتقد فيهم أنَّهم يعلمونَ الغيبَ، أو أنَّهم يُدبِّرون الكون؛ لا؛ بل إنَّ هذه الكرامات التي أجراها الله على أيديهم ليست ملكًا لهم، وليسوا مستقلِّين بها، بل هم متقرون إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ.
ولا يعني وجود الكرامات أنَّنا نرفعُ منزلَتهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- إيَّاها، فهُم من جملة المسلمين، ومن جُملة عباد الله المؤمنين، فنؤمن بما صحَّ وبما رواه الثِّقات عن كراماتهم، فالرويات التي جاءت عن الصحابة والسَّلف الصَّالح ما ننكرها ونقول: إنَّها كذب؛ لإنَّ أهل السُّنَّة والجماعة يؤمنون بذلك.
{شيخنا أحسن الله إليكم..
ذهب بعض أهل الكلام إلى أنَّه ما كان معجزةً لنبيٍّ جاز أن يكونَ كرامةً لوليٍّ، فما صحَّة هذا الكلام؟}.
الذي يُؤتاه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا يُمكن أن يُعطاه غيرهم على وجه الكلام، فلا يُؤتى مثلما يُؤتَى النَّبي، فالذي يُؤتاه الأنبياء من الآيات ودلائل النُّبوَّة ومعجزات هذا أمرٌ فوقَ ما يُؤتاه الأولياء والصَّالحونَ، وما ذُكِرَ عن بعض السَّلف أو بعض الصَّحابة أنَّه أُلقيَ في النَّار مثل أبي مسلم الخولاني، وقال عمر: "هذا جرى له مثلما جرى لنبي الله إبراهيم"، فالجواب: أنَّ هذا أقل ممَّا حصل لإبراهيم، فهي ليست مثل نار إبراهيم، وليست مثلما وقع لإبراهيم، فهي أقل بكثير، وهكذا ما جرى لبعض الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أقل مما جرى للأنبياء.
ولكن نقول: كل ما جرى على يد ولي فهو دليل على نبوَّة النَّبي الذي آمنَ به.
فمثلًا: الكرامات التي جرَت على أيدي الصَّحابة والتَّابعين إلى زماننا هذا وإلى ما شاء الله؛ هي دليل على صدق نبيِّنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذا ما يتعلق بهذا الموضوع، وعلى كل حالٍ فالمسألة المهمَّة والكبرى: أنَّ الأولياء هم المؤمنون المتَّقون، ولا يُمكن أبدًا أن تسقط التَّكاليف عن الولي بحجَّة أنَّ عنده كرامات، ولا يُمكن أبدًا أنَّ الولي يُدعى من دون الله ويُستغاث به من دون الله، أو يعلم الغيب، أو يُدبِّر أمرَ الكون، أو يُلجأ إليه في الشَّدائد والنَّوائب؛ لا والله؛ فكل مَن في السماوات والأرض آتِ الرحمن عبدًا، فكلهم عباد لله -عَزَّ وَجَلَّ- فلا يخرج أحد عن عبودية الله -عَزَّ وَجَلَّ- مهما بلغَ من الصلاح، ومهما بلغ من التقوى؛ فواجب عليه أن يقوم بأمر الله، وينتهي عمَّا نهى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عنه، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً»، ومع ذلك قام بأمر الله حتى توفَّاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، اليقين هو: المــوت.
فما ترك أمرًا من أمور الله، ولا قصَّر في واجبات، بالعكس...، وهكذا أتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أمَّا أن يأتي شخصٌ معروفٌ بترك الصلاة والصيام، ويقولون: إنَّ هذا وليٌ؛ لأنَّه جرت على يده كرامات! فهذا كذَّاب ومُجرم، وهذا عدوٌّ لله ولرسوله، فلا يغتر أهل الإسلام بهؤلاء، ويجب مناصحتهم لعلهم يتوبون، ومَن تاب تابَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه، وإلا فيجب محاربتهم والقضاء عليهم.
وكذلك ما يتعلق بالاستعانة بالجنِّ: فبعض النَّاس يستعين بالجنِّ ويُناديهم ويقضون حوائجه، ويقول: هؤلاء جنٌّ صالحونَ أو مسلمون!
نقول: لا، هذا الباب بابٌ مُغلق، لم يُفتح في الشَّريعة، ولم يُؤذن به في الشَّرعية الإسلاميَّة.
والدليل على هذا: قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾ [الجن: 6]، فدلَّ هذا على أنَّ أهل الجاهليَّة كانوا يستعيذون بالجنِّ، والاستعاذة بالجنِّ نوعُ استعانةٍ بهم، فاستعاذوا بهم: أي: طلبوا منهم أن يُعيذوهم، فجعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا من أمور الجاهليَّة، وهو من الشِّرك الأكبر.
فلو جاء رجل وقال: أنا أستعين بجنٍّ مسلم! طيب، وما يُدريكَ أنَّهم مسلمين، هم ربَّما يكذبون عليك.
ولو قال: ربَّما بعض الصَّحابة أو التَّابعين وقع له أنَّه سمع هاتفًا يهتف من الجن!
نقول: هذا وقع اتَّفاقًا، ولم يأتِ صحابيٌ يبحث عن الجن أو يقول: يا جن تعالوا! أبد!ا ما أتى أحدٌ من الصحابة يبحث عن الجن ويقول: تعالوا يا جن ساعدونا!
أين الجن المسلمون؟! أليس هناك جنٌّ مسلمون صالحون لقوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وآمنوا به كما في سورة الأحقاف؟
بلى، فهل كان الصَّحابة يستعينون بهم في الغزوات وهم أحوج إلى نقل الأخبار بسرعة؟! فيُتصوَّر أنَّهم بحاجة إلى نقل الخبر، فقد يكون الجيش يواجه صعوبة مُعيَّنَة أو كذا؛ فلماذا لم يقولوا للجنِّ: تعالوا يا جن المسلمين انقلوا الخبر لأبي بكر ولعمر في المدينة وردُّوا لنا الخبر؟!! فما استعانوا بهم!
وما يفعل بعض الرُّقاة اليوم وبعض الجهلة من قولهم: إنَّهم يستعينون بجنٍّ مسلم! فهذا كلام باطل ولا يجوز.
وإذا قيل: إنَّ فلانًا الشيخ الفاضل أفتى بجواز ذلك!
نقول: هو فاضل على العين والرأس، ولكن الفتوى إذا خالفت القُرآن والسُّنَّة وخالفت منهاج الصَّحابة فهي غلطٌ، مع احترامنا لمَن أفتى.
وإذا قيل: إنَّ ابن تيمية في "الفرقان" ذكر أنَّ بعض الناس كان يقول إنَّه رأى الجن، وإنَّ الجنَّ قالوا له كذا...، وأنَّه نادى للجنَّ...!
نقول: هذا غلط، وابن تيمية -رحمه الله- لم يقصد بهذا جواز الاستعانة بالجنِّ، ولكن هذا قد يقع اتِّفاقًا.
وإلى الآن قد يوجد بعض الناس يمشي فيسمع هاتفًا يهتف بالجن، فقد يأتي جنِّي مسلم ويقول: يا فلان انتبه أمامك حفرة، فيتقي الحفرة، وربما يوقظه للصلاة، ولكن كلها اتِّفاقًا، أمَّا أن يقول أنا أقصدهم وأبحث عنهم، أو أستعين بهم لجل علاج المرضى، فهذا غلط، ولهذا فإنَّ بعضهم يمكر ببعض الرقاة، وبعض القراء الجهلة، فيقول لهك: ائتوا بجلد الذِّئب، فهذا من الخرافات!
وبعضهم يقول: نادوني باسمي، فجلس هذا القارئ أو الرَّاقي في غرفته ويُغلق على نفسه، ويقول: يا فلان يا فلان، يُناديه، فيستمتع الن بهذا النِّداء، قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 128]، فقوله: ﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ قال العلماء: استمتاع الجن بالإنسي بأن يتوجه الإنسي له بالعبادة، أو يلبي له بعض طلباته مثل السُّجود له، أو يذبح لغير الله، أو يُهين المصحف، أو نحو ذلك من الأفعال التي تُرضي الجنِّي ويفرح بها ويستمتع بها، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَزَادُوهُمْ رَهَقً﴾ [الجن: 6]، على أحد التَّفاسير: عظمة واختيالًا، فيقولون: غلبنا الإنس. فهذا استمتاع.
أمَّا استمتاع الإنسي بالجنِّي: مثل أن يأتيه ببعض الطعام، أو يأتيه ببعض المسروقات، أو يدل على بعض الأشياء، أو يأتيه بفتاة يُريد أن يفعل بها بالفاحشة، أو يرشده إلى أشياء؛ فيستمتع الإنسي، فلن ينفعهم هذا، قال تعالى: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَ﴾ ، فهذا باب مغلق في الشَّريعة الإسلاميَّة، ولو كان هذا دينًا أو شرعًا؛ بل لو كان مباحًا؛ لدلَّنا عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعلمنا من هذا أن هذا من الضَّلالات وليس من الكرامات، فانتبهوا!
والواجب على أهل الإيمان الحذر من أسباب الشَّر ومن أسباب الفتنة، فهذا من أعظم أسباب الفتنة، فمسألة الكرامات مسألة منضبطة في الشَّريعة.
فلو جاء بعض الناس يحكي كرامات ويقول: والله نحن في المكان الفلاني حصل كذا وكذا...، فننظر في القائل إن كان ثقةً صادقًا وكان هذا الشيء شهد به أكثر من شخص؛ فلا مانع أن يقع شيء من هذا، ولكن كثير من الأحايين يكثر الكذب في هذا، حتى إنَّ بعض الجامعات الضَّالَّة وبعض الأحزاب المفتونة -حتى لو كانت إسلاميَّة- ياتون بالفِرَى والكذب، ويكذبون كذباتٍ مفضوحة ويُضحكون النَّاسَ عليهم، فلا يُقبل منهم مثل هذا الكذب، ولا يُروَّج مثل هذا، فيكون المؤمن على طريقة أهل السنَّة والجماعة.
يقول -رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ)، أمَّا المجاهيل أو الكذَّابينَ الينَ يُريدون مآربَ أخرى، حتى إنَّ بعضهم يقول: يجوز الكذب من أجل الدَّعوة إلى الله! ويأتي بعضهم يقول: كنَّا نمشي في الطريق فرأينا أشخاصًا عليهم ثياب بيض وكذا وكذا...، ثم لمَّا رجعنا اختفوا، وهذه كرامة أنَّهم ساعدونا وذهبوا، لعلهم ملائكة!
وإذا سُئل عن هذا قال: إنَّا نكذب لأجل الدَّعوة، ولأجل أن نُرغِّب الناس في الدين.
فهذا الكلام كلامٌ باطل، وهل الدين يحتاج إلى كذب؟! فالحمد لله الذي أغنانا بالقرآن وبالسُّنَّة عن إفكِ هؤلاء، ولكن هذا تنبيه نبَّهتُ عليه، لأجلِ أنَّه يقع ويجعلونه من الكرامات، وهو من إفكهم وكذبهم وافتراءاتهم.
نسأل الله أن يهدي ضالي المسلمين، ويُعيذنا وإيَّاكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فنسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا الاستقامة على دينه، فهي أعظم كرامة، وأن يجعلنا من أهل طاعته ومرضاته، إنَّه -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- سميع مجيب الدُّعاء، والحمد لله ربِّ العالمين.
{جزاكم الله خيرًا.
وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على تُقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطِرة من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدِثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------
[92] البخاري: (2272)
[93] أخرجه البخاري (1206) (3436) ومسلم (2550) وأحمد (8071) (8072)
[94] البخاري (1882)
[95] رواه البخاري (4696) ومسلم (152)
[96] مجموع الفتاوى (11/ 320).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك