الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2071 11
الدرس السادس

العقيدة الطحاوية (3)

السَّلام عليكمُ ورحمةُ اللهِ وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حَلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البِنَاء العِلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكُم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
 
{نقرأ من قول أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله: (وَأَنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَشَّرَهُمْ بِالجَنَّة نَشْهَدُ لَهُمْ بِالجَنَّة عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ؛ وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَان، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بِهُداه.
أمَّا بعد: فيقول الطَّحاوي -رحمه الله- في العَقيدةِ الطَّحاوية في أثناء ذِكر مَا يتعلق بالصَّحابة مِن وُجوب حِفظ مكانتهم ومحبتهم، ومعرفة فضلهم، وأنَّهم أفضل هذه الأُمَّة، ممَّا يتعلق بهذه المسائل: مَعرفة العشرة المبشَّرين بالجَنَّة، وأننا نشهد لهم بالجَنَّة كما شهد لهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وسمَّاهم بأعيانهم.
قال: (وَأَنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَشَّرَهُمْ بِالجَنَّة نَشْهَدُ لَهُمْ بِالجَنَّة عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ).
 تقدم معنا في الدُّروس الماضية: أنَّ الشَّهادة لِمُعين بِجَنةٍ أو نارٍ لا تَجوز إِلَّا لِمَن جَاء ذِكْرُه والشَّهادة له بالكتابِ والسُّنَّة بِأَنَّه في الجَنَّة، ومِن هَؤلاء العَشَرة المُبَشَّرُون بالجَنَّة. وهذه مسألة أجمع عليها أهل الإسلام.
ولذا فإنَّ العَشَرَة المُبَشَّرون بالجَنَّة نصَّ عليهم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وسمَّاهم، وهذه الشَّهادة ليست خاصة بهم فقط، حيث ثبتت هذه الشَّهادة بالجَنَّة لهم ولغيرهم أيضًا، لكن ذُكِرَ لفظُ العَشَرة المبشَّرين بالجَنَّة؛ لأنَّ الأحاديث وردت في تعداد العشرة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- مِن عدة أوجه ثبتت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وبالتَّالي ذُكر هذا الاسم "العشرة المبشَّرين بالجَنَّة"، وإِلَّا فهناك غير هؤلاء ممن ثبت أَنَّهم في الجَنَّة، مثل:
بلال بن رباح، وعبد الله بن مسعود، وفاطمة بنت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- والحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وثابت بن قيس بن الشَّماس، وأبو هريرة، وخديجة بن خويلد، وأُمهات المؤمنين.
فكل هؤلاء شهد لهم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- بالجَنَّة، والأحاديث في ذكر الشهادة بالجَنَّة ليست خاصة بالعشرة المبشَّرين بالجَنَّة، ولكن -كما تقدم- أنهم خُصُّوا بهذا الوصف؛ لأنهم وردوا في حديث واحدٍ مِن عِدَّة أوجه عَن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- في عِدة مُنَاسبات سمَّاهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- بأسمائهم -كما سيأتي.
فنشهدُ لهم بالجَنَّة على ما شَهِدَ لهم رَسُول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قوله الحق، ولا يقول إلا الحق: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم:4]، ومَا دَام أنَّ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- شهِد لهم بالجَنَّة فنشهد لهم بالجَنَّة، وأنَّهم يدخلون الجَنَّة مِن أول وهلة، ولا يدخلون النَّار؛ بل هُم خِيار هذه الأمَّة، بل هم السَّابقون إلى الجَنَّة، بل هم في مُقدمة مَن يَدخل الجَنَّة مع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وفي هذا أعظمُ رَدٍ على أهل البدع الذين أخذوا يتكلمون في بعضٍ أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.
وعلى هذا فشهادة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- لهم بالجَنَّة هي شهادة قطعيَّة ثابتة مُجمَع عليها، وبالتَّالي فالكلام في واحدٍ مِن هؤلاء هُو قَدحٌ في المُتَكَلِّم، فالمبتدعة الذين تكلموا في العَشَرة فكلامهم في الصَّحابة دليلٌ على ضَلالتهم، ودليلٌ على أنَّهم خرجوا عن سبيل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وشاقُّوا الله والرسول -نسأل الله العافية والسَّلامة.
 
فكون النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يَشهد لهم بالجَنَّة، ثُمَّ يأتي أحد المتأخرين مِن السُّفهاء ولو قرأ كثيرًا أو درس كثيرًا؛ ثُمَّ يتكلم في أحدٍ منهم؛ فهذا هو السَّفه والضَّلال والعَمَى -نسأل الله العافية والسَّلامة.
إذن ثبتت البشارة بالجَنَّة لغير العشرة المبشَّرين بالجَنَّة، وكما تقدم ذكرنا عِدَّة أمثلة فيها أحاديث كثيرة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.
قال المؤلف: (وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَان، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ).
كُلُّ واحدٍ مِن هَؤلاءِ له مَناقب وله فَضَائلَ كثيرة كما تقدم، ويُراجع في هذا كُتب المناقب في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما.
من الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها: حديث سعيد بن زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو من ضمن المبشَّرين بالجَنَّة، قال: (أشهد على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أني سمعته يقول: «عشرة في الجَنَّة، النَّبي في الجَنَّة، وأبو بكر في الجَنَّة، وعمر في الجَنَّة، وعُثْمَان في الجَنَّة، وعلي في الجَنَّة، وطلحة في الجَنَّة، والزبير في الجَنَّة، وسعد بن مالك في الجَنَّة، وعبد الرحمن بن عوف في الجَنَّة»، العدد الآن تسعة، ثُمَّ قال: (ولو شئت لسميت العاشر)، من العاشر؟ هو سعيد بن زيد.
والحادي عشر: هو أبو عبيدة، وقد ذكر في حديث آخر قال: «طلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وأبو عبيدة».
وعن عبد الرحمن عوف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قال: «أبو بكر في الجَنَّة، وعمر في الجَنَّة، وعلي في الجَنَّة، وعُثْمَان في الجَنَّة، وطلحة في الجَنَّة، والزبير بن العوام في الجَنَّة، وعبد الرحمن بن عوف في الجَنَّة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجَنَّة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجَنَّة».
هنا ذكر أبو بكر وعمر، وقدَّم عليًّا في الرواية هنا، لكن في الرواية الأخرى عند أحمد قدَّم عُثْمَان على علي، فهؤلاء هم الخلفاء الأربعة.
ثُمَّ قال: طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وأبو عبيدة.
فهؤلاء خمسة مع الأربعة، صاروا تسعة، بقي سعد بن أبي وقاص، وقد ورد في حديث آخر، فهؤلاء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كلهم في الجَنَّة.
عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: "أَرِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ" يعني: أصابه الأرق. فَقَالَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ»، قالت: إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ فقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «مَنْ هَذَا؟» قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَحْرُسُكَ، فَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ[67].
وقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي»[68]، فجمع له أبويه يوم أحد.
وفي صحيح مسلم عن قيس بن أبي حازم قال: "رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ الَّتِي وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَلَّتْ".
وعن أبي عُثْمَان المهدي قال: "لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ"[69]، يعني: سعد بن أبي وقاص.
والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قال في الزبير: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ»[70]. ولما انطلق إلى بني قريظة ورجع، قال له النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي»[71].
وأمَّا أبو عبيدة عامر بن الجرَّاح فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- في شأنه: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»[72].
قال الطحاوي: (وَهُوَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ)، لما ذكر أبو عبيدة، وهذا لقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»، وهذا صحيح في البخاري ومسلم.
وأيضًا في الصحيح من حديث حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "جاء أهل نجران إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فقالوا: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلًا أمينًا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ»، فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ» فَلَمَّا قَامَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ»[73]، فهذه منقبة عظيمة جدًا لأبي عبيدة عامر بن الجراح -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقد تُوفي قبل استشهاد عُمر، ولهذا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "لَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَيًّا لاسْتَخْلَفْتُهُ؛ لأني سمعت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يقول: «وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»"، فهذا يدل على فضل أبي عبيدة بن الجراح -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
وجاء في الصحيح من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتْ الصَّخْرَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اهْدَأْ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ»، النَّبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- والصديق أبو بكر، والشهداء هؤلاء قد حصلت لهم الشهادة.
هل معنى هذا أنهم ليس لهم في منزلة الصديقيَّة شيء؟
لا، ولكن أكمل النَّاس تصديقًا هو أبو بكر، وإلا فالصَّحابة كُلهم فيهم هذه الصفة -التَّصديق والإيمان- ولكن أبو بكر بلغ المنزلة العُليا -رَضِيَ اللهُ عَنْه.
فهؤلاء نشهد لهم بالجَنَّة ونترضَّى عنهم، وعن جميع أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.
{هل أبو عبيدة غير قريشي؟}.
أظنه مِن السَّابقين الأولين مِنَ المُهاجرين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويُراجع هذا في ترجمته.
قال الشَّارح: (وقد اتفق أهل السُّنَّة على تعظيم هؤلاء العَشرة وتقديمهم لِمَا اشتُهِرَ مِن فضائلهم ومناقبهم، وَمَنْ أَجهَلُ مِمَّن يَكره التَّكلُّم بلفظ "العشرة" أو فِعل شَيءٍ يَكون عشرة؛ لكونهم يَبغضون خِيَار الصَّحابة).
الشَّارح هُنا يتكلم عَن الرافضة أنهم يَكرهون كلمة "العَشَرة"؛ لأنَّهم يُبغضون العَشرة المبشَّرين بالجَنَّة، مع أنَّ مِنهُم علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا مِن مَخازيهم، والله -عز وجل- قال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً﴾ [الفتح:18]، وكل هَؤلاء العَشَرة مِمَّن بايع تحت الشَّجرة، إِلَّا أَنَّ عُثْمَان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد أرسله النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- إلى مكة فحُبسَ هناك، حَبَسَه أهلُ مكة الكفار، فظنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أَنَّهم آَذَوه أو قتلوه، فبايع الصَّحابة على القِتال، ثُمَّ قال بيده اليمنى: «هذه لعُثْمَان»، وضرب بها بيده الأخرى، فجعل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يده نيابة عن يد عُثْمَان، ولاشك أنَّ نيابة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- في هذا مِن أَعظَمِ مَنَاقِبِ عُثْمَان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
والرَّافضة أيضًا يَتبرؤون مِن جمهور الصَّحابة، وليس مِن العَشَرَة فقط، إلا تسعة أو سبعة أو خمسة؛ يستثنونهم من أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وهذا كُله من ضلالتهم، والواجب هو محبة الصَّحابة وتوليهم والتَّرضِّي عنهم جميعًا، ومعرفة أنهم خير القرون، لا كان ولن يكون مثلهم، وأنهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قاموا بنصرة الإسلام، ونصرة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وحفظ القُرآن والسُّنَّة، وحفظ الوحي، وبذل النَّفس والنَّفيس، وبذلوا المُهَج والأنفس والأرواح والأموال في سبيل الله، وتركوا أوطانهم وأموالهم لله -عز وجل- وَنُصرةً لدينهِ وَلِرَسُولِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ، لكن هكذا بعض المبتدعة قد انقلب على عقبيه، وخالف دلائل الكتاب والسُّنَّة وَمَا أَجمَعَ عَليه المُسلِمُون.
والنَّصيحة لهؤلاء: أن يَتوبوا إلى الله -عز وجل- وأن يَستغفروا الله، وأن يعرفوا فَضل الصَّحابة ومناقبهم، وأن يَكُفوا ألسنتهم عَن أصحابِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وأن يَعرفوا أنَّ شرفَ صُحبة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- لا يَعدِله شَرف، ولا يَعْدله شيء، فمن كان مُصاحبًا للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ومُلازمًا له، والوحي ينزل على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وهم بين يديه، ويعلمهم، ويأمرهم، وينهاهم؛ فَلا شَكَّ أنَّ هؤلاء هُم خِيارُ هذه الأمة، وقد قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[74].
والرَّافضة بدلًا مِن أن يُوالوا الصَّحابة صاروا يُوالون الاثني عشر إمامًا، ولا شَكَّ أنَّ أَولهم عليٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ونحن نُواليه كما نُوالي الصَّحابة جميعًا، وكذلك الحَسَن والحُسين وعلي بن الحسين؛ فالصَّحابة والتَّابعون لهم بإحسان نحبُّهم ونتولاهم مِن أَهلِ بيتِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وَمَن غَيرهم ممن كان مِن أَهلِ الإسلام والإيمان، لكنَّ الرَّافضة يُوالون اثني عشر إمامًا، ويعتقدون أنَّ الوَصي بعد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- هو علي بن أبي طالب، وأنَّه قد اغتُصبَت مِنه الخِلافة والإمامة، وأنَّ مَن اغتصب الخلافة هُم أَبُو بكرٍ وَعُمَر وعُثْمَان والصَّحابة، وبالتَّالي يُكفِّرونهم أو يُفسِّقونهم، ويتَّهمونهم بالظُّلم والطُّغيان، ويسبُّونهم؛ وكل هذا بسبب هذا الضلال في مسألة الإمامة، فيعتقدون أنَّ الإمامةَ تكون بالنَّصِّ وبالوصاية، وأنَّ الوَصي بعد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- هو علي بن أبي طالب، ثُمَّ بعد علي الحَسَنَ، ثُمَّ الحُسَين، ثُمَّ ذرية الحسين وهم:
- علي بن الحسين -يُسمى بـ "زيد العابدين" رحمه الله- وهم من الصَّالحين لا شَكَّ، وَمِن خِيار النَّاس في زمنهم.
- ثُمَّ محمد بن علي، ويُقال له: "الباقر"، وهذا رجلٌ صالحٌ مِن أهلِ العِلمِ والعِبَادة.
- ثُمَّ جعفر بن محمد، ويقال له: "الصادق" ولا شَكَّ أنَّ هذا معروف بالسُّنَّة والإمامة، والفضل والخير، ولكن لم يتولَّ ولاية، ولكنه معروفٌ بالخير، وقد أكثروا في الكَذب عنه، فتجد الكتب التي عند هؤلاء، يقولون: "قال أبو عبد الله" ويَقْصِدُون جعفر الصَّادق، ولكن أكثر ما يُنقل عنه ليس بصحيح، ثُمَّ بعد جعفر يذكرون بقيَّة الأئمة الاثني عشر، وذكرهم في الشَّرحِ، وُهم:
-       مُوسى بن جعفر، يسمى: "الكاظم".
-       ثُمَّ علي بن موسى، يسمى: "الرضا".
-       ثُمَّ محمد بن علي، يسمى: "الجواد".
-       ثُمَّ علي بن محمد، يسمى: "الهادي".
-       ثُمَّ الحسن بن علي العسكري.
-       ثُمَّ محمد بن الحسن.
-       ثُمَّ محمد بن الحسن.
وهذا (محمد بن الحسن) الذي يَقولون: إنه وُلد وإنه في السِّرداب، وتجاوزوا في الحد تجاوزًا عظيمًا، وبالغوا في هذا الأمر مبلغًا وصل إلى الخُرافات، ووصل إلى الأشياء التي لا يقبلها صاحب فطرة سليمة ولا عقل سليم، فضلًا عمَّن هداه الله بنور القُرآن والسُّنَّة، فالمؤرخون وأهل المعرفة اتفقوا على أن الحسن بن علي العسكري لم يُولد له، وهؤلاء زعموا أنَّه وُلد له ولد اسمه محمد، وغالوا في محبته، وزعموا أنَّه هُو المهدي المنتظر، وأنَّ النَّاس ينتظرون خروجه، وأنَّه في السِّرداب موجودٌ، وأنَّه سيخرج ويملأ الأرضَ قِسطًا وعدلًا، وَسَيَقْتُل مَن عَادى أهل البيت -بزعمهم- وهذا يُسمونه "المهدي المنتظر"، ويقولون: إنَّه موجودٌ مِن عام 256هـ، وإلى الآن ينتظرونه! فمضى قرابة مئتين سنة ولم يخرج إلى الآن! فهذا كله يدل على الإنحراف والضَّلال.
والحقيقة ذكر الاثني عشر إمامًا لم يرد إِلَّا على وجهٍ يُبطل مَقولة الرَّافضة، فَوَرَدَ عَن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أنَّه قال: «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلً»[75]، ثُمَّ تكلم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- بكلمة خفيت على الراوي جابر، قال جابر: فسألتُ أبي ماذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ؟ قال: "قال: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»"، وفي لفظٍ: «لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»، وفي لفظ: «لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً»، فلاحظ قوله: «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيً»، «لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزً»، «لَا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ عَزِيزً»؛ إذن لا يُمكن أن يكون فيه قهر وظُلم وضياع للحق.
فهذه الأحاديث تَدُلُّ على إبطال عَقيدة الرَّافضة الذين يقولون: إنَّ أَبا بكرٍ اغتصبَ الخِلافةَ، وأنَّ الخليفةَ الحَق هُو "علي" مقهورٌ ومظلومٌ!
فكيف يكون الإسلام عزيزًا! فتمسُّكهم بهذا الحديث ضدهم وليس معهم، وهم لا يتمسَّكون إِلَّا بِمَا يَهوون، ويتركون ما لا يَهوون، ولكن لو نظرت في التَّاريخ الإسلامي، ونظرت في الواقع؛ وجدت أنَّ عِزَّة الإسلام وقوَّته في زمن الخُلفاء الرَّاشدين بالإجماع، في زمن أبي بكر، وعمر، وعُثْمَان، وعلي؛ ثُمَّ معاوية تولى أمر المسلمين، وصار إمامًا بتنازل الحسن بن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»[76]، فأثنى على الحسن بتنازله وإصلاحه، ولا يتنازل الحسن إلى من هو مفسد كما يزعم هؤلاء المبتدعة؛ بل هذا دليل على فضل معاوية أيضًا كما هو دليل على فضل الحسن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
وتقدم أن الخلفاء الراشدون تولوا الخلافة ثلاثين سنة، ثُمَّ معاوية تولى عشرين سنة، ثُمَّ جاء يزيد بن معاوية وتولى ثلاث سنوات، ثُمَّ حدث فُرقَة ونزاع بعد موت يزيد ببضع سنوات، ثُمَّ استتبَّ الأمر لعبد الملك بن مروان، وجمع الناس بالقوة والغلبة، فأذعن الناس له، وانقاضت له جميع الأقطار واجتمع الناس عليه.
فإذا عددنا الخلفاء الأربعة، ثُمَّ مُعاوية ويَزيد وَعَبدَ الملك؛ فيكونون سبعة، وأولاد عبد الملك أربعة -الوليد بن عبد الملك بن مروان- وسليمان بن عبد الملك بن مروان - ويزيد بن عبد الملك بن مروان- وهشام بن عبد الملك بن مروان- وفي المنتصف تولى عمر بن عبد العزيز؛ فصار المجموع اثنا عشر خليفة تَوَلوا أَمْر المُسلمين.
وفي زمن هؤلاء كان الإسلام عزيزًا جدًّا، فبلغ الإسلام أقاصي الأرض في شَرقها وَغربها، وَشَمالها وجنوبها، والحمد لله على انتشار الإسلام وظهوره، فوصل إلى أقاصي الصين مِن جهة الشَّرق، ووصل إلى أقاصي المَغرب وأفريقيا مِن جِهة الغَرب، وبلغ الأندلس وتلك الجهات، والحمد لله على نعمة الإسلام.
فهؤلاء هُم الاثنا عَشر المقصودون في الحديث الذي كان الإسلام في وقتهم عزيزًا، وهم:
الخلفاء الراشدون، ثُمَّ معاوية، ويزيد، وعبد الملك بن مروان، وأبناؤه الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وبينهم عمر بن عبد العزيز -رحمهم الله.
ثُمَّ أَخَذَ الأمر في التَّناقُص حتى زالت دولة "بني أميَّة"، ثُمَّ جاءت دولة "بني العباس"، وحدث فيها خير واجتمع النَّاس، ولكن حدث فيها نواقص كثيرة، وظهر بعض الشيء فيها، ثُمَّ في وسط دولة بني العباس حصل ضعف وتفكُّك، وفي آخرها اشتدَّ الأمر وظهرت كثيرٌ من البدع والخرافات والفِرَق والضلالات، ثُمَّ بعد زوال دولة بني العباس جاءت الدويلات، واستمر الأمر على هذا الضعف والتَّفكُّك، يقوى أمر المسلمين أحيانًا، ويضعف أحيانًا، ولكن -ولله الحمد- كما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»[77]، فالإسلام محفوظ، والقُرآن محفوظ، والسُّنَّة محفوظة، ولابُدَّ مِن وجود أهل الحق، باقين ثابتين عليه -ولله الحمد.
وَمِن هُنا نعلم مِن هذه النَّظرة التَّاريخية أنَّ أفضل هذه الأجيال على الإطلاق هو جيل الصَّحابة، فهم القُدوة لهذه الأمة، وهم الأُسوة، والذي تَولى الأمر مِن الصَّحابة هم أفضل مَن تَولى على المُسلمين، فأفضلهم: أبو بكر، ثُمَّ عمر، ثُمَّ عُثْمَان، ثُمَّ علي، ثُمَّ الحسن، ثُمَّ معاوية بن أبي سفيان، ولا شكَّ أنَّ هؤلاء أهل رحمة وعدل وعلم وخير، فَرَضِي اللهُ عنهم أجمعين.
ثُمَّ مَن جاء بعدهم، ولكن ليسوا كالصَّحابة، ولكن أقل منهم، ولا يزال الأمر في تناقص، ولكن في الجملة الدِّينُ محفوظ، والقُرآن محفوظ، والسُّنَّة محفوظة، والعِبرة بما قاله الله ورسوله، وبما أجمع عليه الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
 
{أحسن الله إليكم..
من يضرب في الصَّحابة هو لا يهمه أصلا الانتصار لعلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أو ما شاكل ذلك، إنما يريد هَدم الكتاب والسُّنَّة}.
لا شكَّ أنَّ مِن أعظم وسائل القَدح في القُرآن والسُّنَّة والقَدح في الدِّين هو القَدحُ في الصَّحابة، وصرَّح بهذا الباطنية، وَذَكَرَ هَذا الأَمرُ عنهم عبد القاهر البغدادي في كتابه: "الفَرقُ بين الفِرَق"، وَذَكَرَ هَذا أَبُو حامدٍ الغَزَالي في "فضائح الباطنية"، وأقرَّ هذا جمعٌ مِن أهلِ العِلم عَن هؤلاء العلماء، وذكروا أنَّ الباطنية قالوا: إنَّه لا سَبِيلَ لَكُم -أي: إلى القَدح في القُرآن والسُّنَّة- إِلَّا بأن تُظهروا محبة علي رضي الله عنه؛ لينخدع بعض النَّاس بأنَّكم تُحبون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنَّه هو المظلوم، وأنَّه حصل له كذا وكذا، وأنَّ الذي ظلمه هُم هَؤلاء الصَّحابة، فبهذه الطريقة يحتالون على السُّذَّج وعلى الأغرارِ حتى يوقعوا في قلوبهم بُغْض بَعْض الصَّحابة، فإذا أبغضوا بعض الصَّحابة توسَّع الأمر، ثُمَّ يُبغضون مَن مَعَهُم، وهكذا حتى إذا جاء الحديث عن أبي هُريرة -مثلًا- وَقَعَ فِي نفسهِ شَيء؛ لأنَّه يتَّهم أبا هريرة -بزعمهم- أو إذا جاء الحديث عن عُمر وقع في نفسه شيء؛ بسبب ما حصل من تلك التَّشكيكات من أعداء الإسلام، ولهذا يجب رفض هذه المناهج الباطلة للمبتدعة، ويجب معرفة فضل الصَّحابة، والدفاع عنهم، والذَّبّ عنهم، ولا شكَّ أنَّ الدِّفاع عنهم هو دِفاعٌ عَن الشَّريعة الإسلامية، ودفاعٌ عَن القُرآن، ودفاعٌ عَن السُّنَّة؛ بل دفاعٌ عَن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ونُصرةً للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.
ولهذا إذا قدحتَ في أصحاب الرَّجُلِ وخلَّانه وأخدانِه والذين يُعاشرهم ويُماشيهم؛ فأنت قدحتَ فيمن يصاحبهم ويكون معهم، وتقدم قول علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما حضر جنازة عمر، فترحم عليه ودعا وقال: "ما كنت أرجو أن ألقى الله بعمل أحب إلي من ألقى الله بمثل عملك، وطالما سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يقول: «وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ »[78]، فأرجو أن يجمعك الله مع صاحبيك".
يقولها لعمر، فإذا جاء في قلب أحدٍ من النَّاس سُوء الظَّنِّ بعمر، أو سوء الظَّنِّ بأبي بكر؛ فإنَّه سيسوء ظنُّه برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ويقع في الكُفر، ولهذا فإنَّ هذ الباب يجب سدَّه، ويجب معرفة فضلهم، ويجب معرفة مناقبهم وبثَّها بين النَّاس.
 
ومن الأشياء الطيبة: أن يُبيَّن لمن غلط مِن هؤلاء أنَّ أَهْلَ بيت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وأصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وأهل البيت مِنَ الصَّحابة أيضًا بينهم مِنَ المَودة والمحبَّة والولاء والاتفاق في أمور الدِّين مَا يَقْطَع تلك الشُّبهات، وتلك الأكاذيب والافتراءات، ونشر هذه المسائل وبيان فضائل أهل البيت ومحبَّة أهل البيت للصحابة وموالاتهم لهم، ومحبة الصَّحابة لأهل البيت ورحمتهم بهم؛ هذا -بإذن الله- مِن أسباب الرَّد على هؤلاء الذين ضلوا في هذه المسائل الخطيرة.
قد يقول بعض النَّاس: هذه الأمور فرَّقت بيننا، ولماذا هؤلاء سنَّة وهؤلاء شيعة؟
نقول: الواجب أن نَرُدَّ النَّاس جميعًا وَنَرُدَّ أنفسنا إلى كتابِ الله وَسُنَّةِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وقد دَلَّ القُرآن ودلَّت السُّنَّة على محبة الصَّحابة وفضلهم ومناقبهم، وثناء الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم، وأمَّا الأكاذيب التي يَرويها المبتدعة، أو يَرويها بعض النَّاس لإيغار الصُّدور ضد الصَّحابة؛ فهذه لا يجوز أن نروجها، إذ كيف نروج الكذب ونترك الحق وما قاله الله وقاله رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ؟!
هذا حديث العَشرة المبشَّرين بالجَنَّة دليلٌ قاطعٌ على بُطلان القَدح في واحدٍ منهم، وفي غيرهم أيضًا، فؤلاء العشرة كل الصَّحابة أصحابهم وجلساؤهم، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قال: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»[79]، وقال: «هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»[80]، فكيف نتكلم في أحد منهم؟!
بل إنَّ محبتهم مِن أَسبابِ دخول الجَنَّة، ومحبتهم مِن أَسباب الاقتداء بهم، والتَّأسِّي بهم، ولا شَكَ أننا لا يمكن أن نَلحق الصَّحابة في العمل إطلاقًا، لكن إذا أحببناهم واشتقنا إلى أفعالهم وإلى أخلاقهم، واشتقنا إلى رُؤيتهم، فهذا يَحدُونا إلى أن نُصلح أنفسنا، ونُصلح قلوبنا، ونُصلح أعمالنا، وأن نجتهد في العبادة والطَّاعة، ونجتهد في البُعدِ عَن ما ابتعدوا عنه مِنَ الفِتن، وما ابتعدوا عنه من الفسق والفجور.
فحيقية سِيَر الصَّحابة عطرة جدًّا، ومن أسباب تقوية الإيمان، ولهذا يجب أن تُربَّى أجيال الأمة ذكورًا وإناثًا على محبَّة الصَّحابة والاقتداء بهم، والاستفادة من أخلاقهم وسيَرهم، واليوم شبابنا وشابَّاتنا أحوج ما يكونون إلى النظر في سيرة الصَّحابة الكرام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بدلًا من أن ينظروا إلى سِيَر أو أخلاق الفَجَرة، أو بعض الممثلين، أو بعض المغنيين، أو بعض الفُسَّاقِ، أو بعض الكُفَّار؛ فهؤلاء لا خَير فِيهم، ولا يُقتدى بهم، فينبغي لنا أن نغرس في أبنائنا وبناتنا، فولي الأمر كالأب والأم يذكرهم بأخلاق الصَّحابة، وأخلاق الصحابيات -رَضِيَ اللهُ عَنْهُن- أمهات المؤمنين وأزواج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ونساء الأنصار ونساء المهاجرين؛ أخلاقهم عظيمة في كل أمور الدين، وكل ما يتعلق بالنساء.
فمن أسباب علاج المشاكل في الأمة اليوم: أن نُربي أَجيالَنا على الاقتداء بجيل الصَّحابة قدر المستطاع، ولا نيأس مِن روح الله، وكما قال بعض السلف: "قراءة سيَر الصالحين سياط القلوب"، فكما أنَّ الخيل وهي تمشي إذا ضُربت بالسِّياط اشتدَّ سَيرها وأسرعت في الإقدام، فهكذا قلوب النَّاس، يُصيبها النِّسيان والغَفلة والتَّكاسل، فإذا نظرت في سيرة الصَّحابي الجليل، وأعماله، وأخلاقه، وعبادته، وتقواه لله، وخوفه من الله، ورجائه لفضل الله؛ يحدوك وتجتهد، كالسَّوط الذي يضرب الفرس، فهذه القصص تشجعك على السَّيرِ على منهاج الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
فشتَّان ما بين منهج أهل البدع الذين يَقدحون في الصَّحابة ويسبونهم ويُغيرون الصدور ويُثيرون الفتن، وبين منهج أهل السُّنَّة والجماعة الذي يُبين للنَّاس أنَّ هؤلاء هُم القُدوة، وأنَّهم «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي»[81] كما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وأنَّهم هم الأسوة لهذه الأمة بعد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.
فنسأل الله -جل وعلا- بمنَّهِ وكرمه أن يجعلنا وإياكم ممن يقتدي بالصَّحابة، وممن يسير على منهجهم، فهؤلاء القوم -كما قال بعض السَّلف- قد حطوا رحالهم في الجَنَّة، ولَغبارٌ دخل في أنوفهم في غزوة مع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- خير مِن ملئ الأرض من الموجودين الآن، هؤلاء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ماذا أصابهم في مكَّة قبل الهجرة، وماذا حصل لهم في المدينة من التعب والجوع، بعض الصَّحابة لما جاؤوا يكفِّنونه ما غطوا رجليه، فإذا غطوا رأسه انكشفت رجليه، وإذا غطوا رجليه انكشفت رأسه!
ولذا كان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- والصَّحابة يربطون بطونهم برباط حتى يتحملوا الجوع، فالصَّحابة يوم حفر الخندق بعضهم ربط بطنه بحجر، فلمَّا رأوا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وإذا به قد ربط حجرين، جوع عظيم أصابهم وَهُم صَابرين وَمُحتسبين، فأخبارهم عطرة، وما أجملها!
ولو نقرأ في فضائل الصَّحابة لا شَكَّ أنَّ هذا مِن أَعظمِ أبوابِ زيادة الإيمان، فمن أسباب زيادة الإيمان النظر في سِيَر الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ومن أسباب صلاح المجتمع، ومن أسباب صلاح الجيل، فاليوم نعاني من أجيال وشباب انبهروا ببعض الغربيين الكفرة أو بعض الفجرة والممثلين الضالين الذين لا همَّ لهم إِلَّا التَّبرج والسُّفور ومخالطة النِّساء الأجانب، فصار بعض الشباب ينبهر بهذا أو ذاك، ويتابع ذلك المغني وتلك المغنية، وكذلك بعض الفتيات يُتابعونهم في قصَّاتِ شعورهن، فهؤلاء مَساكين وبحاجةٍ إلى أن نأخذ بأيديهم، وَنَدُلَّهم على القُدواتِ الصَّحيحة، وَنَدُلَّهم على النَّاسِ الذين ينبغي أن يُقتَدى بِهم، وَهُم أَصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- مِن الصَّحابة والصَّحابيَّات -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
هذا ما تيسر في هذا المجلس، والموضوع الذي بعد هذا يحتاج إلى بسطٍ، وهو الكلام في أمهات المؤمنين، ووجوب إحسانِ القول في جميع الصَّحابة.
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإيَّاكم ممن يَستمع القول فيتبعُ أحسنه، وأن يَهدينا سواء السَّبيل، ويُعيذنا وإيَّاكم مِن مُضلات الفِتن مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَن، والحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وَصَلَّى الله ُوَسَلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تُقَدمونه، وأسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------------
[67] رواه البخاري (2885)، ومسلم (2410).
[68] رواه البخاري (5830) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَدِّي أَحَدًا غَيْرَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ.
[69] رواه البخاري (3517)
[70] رواه الترمذي (3745)
[71] رواه مسلم
[72] رواه البخاري ومسلم
[73] رواه البخاري (4142)
[74] رواه البخاري (2652) ، ومسلم (2533) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود.
[75] رواه البخاري (رقم/7222) ومسلم واللفظ له (رقم/1821).
[76] رواه البخاري (2704) عَنْ أَبِي مُوسَى
[77] رواه البخاري (7311) ومسلم (156) عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
[78] البخاري (3482)، ونصه: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ وَحَسِبْتُ إِنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
[79] رواه البخاري (6169) ، ومسلم (2640) عن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ
[80] رواه البخاري (6408) ومسلم (2689) - واللفظ له – عن أبي هريرة
[81] البخاري (2652) ، ومسلم (2533) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك