الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2071 11
الدرس الرابع

العقيدة الطحاوية (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البِنَاءِ العِلمي.
وَأُرَحب بفضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حَيَّاكُمْ اللهُ جَمِيعًا.
{نبدأ بقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَغْضَبُ وَيَرْضَى لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آَلِهِ وَأَصحابه، وَمَن اهتَدى بِهُدَاه، أمَّا بعد،،
فنسأل الله -سبحانه وتعالى- لنا ولكم ولجميع المُسلمين العِلمَ النَّافِع والعَمَلَ الصَّالِح، وأن يُثَبتنا على الحَقِّ، وَعَلى الصِّراطِ المُستقيم، ويُعيذنا مِن مُضِلات الفتن.
يقول الإمام الطحاوي -رحمه الله: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَغْضَبُ وَيَرْضَى لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى).
قوله: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَغْضَبُ وَيَرْضَى)، هاتان صفتان، صفة الغضب وصفة الرضا.
قوله: (لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى)، هذا فيه نفي التَّمثيل، فالله -عزَّ وجلَّ- يَغضب ويرضى، قال تعالى عن المؤمنين: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [التوبة:100]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
وكذلك ربنا يغضب، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمً﴾ [النساء:93]، وقال تعالى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ [البقرة:61]، أي: اليهود، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 60]، ﴿فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف: 55]، آَسَفُونَا يعني: أغضبونا.
فنحن نُثْبِتُ مَا جَاء في القُرآن، وَمَا جَاءَ في سنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- مِن صِفات الله، وأسمائه الحُسنى كما جاءت، مُعظمين الله -عزَّ وجلَّ- مُقدسين له، مُعتقدين أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- ليس كمثله شيء، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]، وهذا هو مَذهب السَّلف الصَّالح، وهذه هي طريقة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وطريقة الصَّحابة والتَّابعين، وأَتباع التَّابعين، وأئمة الدين، وأئمة السُّنة؛ كلهم على هذا المنهج، يُثبتون ما ورد في القُرآن والسُّنة مُعظمين لله، مُؤمنين بما أخبر به عن نفسه، وبما أخبر عنه رسوله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- الذي هو أعلم الخلق به.
وفي نفس المقام يُنزهون الله عن مُشابهة خَلقه ومماثلتهم، ويقطعون بأنَّه لا يُمكن إِدراك حقيقة وَكُنْه هذه الصِّفات على ما هي عليه؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لا أَحَد يُحيط به، قال تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمً﴾ [طه: 110]، وقال تعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، قال بعضهم في تفسيرها: لا تُحيط به العُقول.
وقال تعالى في المحرمات: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:33]، فالله لا أَحَدَ يُحيط به، ولكن هو أَخبَر عَن نفسه، فَنُؤمن بما أخبر به، فهو الذي أخبرنا أنَّه يَغضب، وأنَّه يغضب على مَنْ فَعَلَ كذا، ويرضى على مَنْ فَعلَ كَذا، فلا مَندوحة ولا مجال لأحد مِن أَهلِ الإسلام إلا بالإِقرار بما أخبر الله -عزَّ وجلَّ- به، وهذا مَذهب السَّلف -كما تقدم- وهو الواجب على جميع أهل الإسلام، أن يُصدقوا بما أخبر الله به عن نفسه، وأن يُمِروا ذلك كما جاء مِن غَيرِ تَحريفٍ، حتى لو سَمُّوه تأويلًا، فبعض أهل البدع وبعض المُنحرفين في هذه المسائل يُسمي التحريفات للنُّصوص الشَّرعية تأويلًا حَتَّى تُرَوج، فمذهب السَّلف خلاف هذا، فهم يُقرُّون بها، ويُثبتون الغضبَ والرِّضا، ويُثبتون صِفة الحُبِّ لله -عزَّ وجلَّ، فالله يُحب المؤمنين، ويُحب المُتقين، ويُحب المُقسطين، كما أنَّه يَكره -سبحانه وتعالى- الكافرين، ويَكره الفاسقين، ولا يحبهم.
وهكذا نُؤمن بِما جاء مِن غَير ذلك مِن الصفات، مِثل: السَّمع، والبَصر، والكلام، والقُدرة، والإرداة، والعِلم، والرَّحمة، والحِكمة، والعُلو، وسائر ما جاء في الكتاب والسُّنة.
المُستَند هُو ثُبوت ذلك، فإِذَا ثَبَتَ في القرآن وصحَّ عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فيجب الإيمان به، وَتَلقيه بالتَّسليم والقبول، مع اعتقاد أنَّ الله ليس كمثله شيء، قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فهو -سبحانه- ليس كمثله شيء في صفاته، وليس كمثله شيء في أسمائه، وليس كمثله شيء في أفعاله.
وهذه المسألة تقدمت -أعني مسألة الإيمان بالأسماء والصفات- وترك التَّأويل -الذي هو التَّحريف- وترك طريقة أهل الأهواء. ولقد تقدمت هذه المسألة في أوائل متن العقيدة الطَّحاوية، عندما قال: (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الربوبية بترك التَّأْوِيلِ وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ)، هذه هي عبارة الطَّحاوي.
وقوله: (ترك التَّأْوِيلِ)، يعني: التَّأويل الذي عليه مَن يُحرفون نُصوص الصِّفات، كمن يقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، يقول: استولى.
وبعضهم يقول: الله -عزَّ وجلَّ- لا يُوصف بالغضب. وبعضهم يقول: إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالرِّضا؛ ويذكرون في ذلك بعض الشُّبهات!
بل يجب عليك أن تُؤمن وتُقِرَّ بما جاء عن الله -عزَّ وجلَّ- وتطَّرح تلك الوساوس والشُّبهات، وتقطع أنَّه ليس كمثل الله شيء قَطعًا يقينيًّا، وتقطع أنَّه لا يُمكن أن يكون غضب الله مثل غضب المخلوق؛ بل نقول جميعًا وكل أهل الإسلام يقولون: مِنْ قَالَ إِنَّ غَضَبَ الله مِثْلَ غَضَبِ المَخلُوقِ فهو كافر.
ونقطع يَقينًا أنَّ مَن قَال: إنَّ رِضَى الرَّبِّ مِثل: رِضَى المَخلوق فهذا كافر، فهذا إجماع أهل الإسلام، وهذا مَا دَلَّ عليه القُرآن والسُّنة، لكن إثبات الصِّفة التي جاءت وأخبر الله بها عن نفسه ليس تمثيلًا، إذا أثبتها كما جاءت مُعظمًا لله ومُنزِّهًا له عمَّا مماثلته بخلقه؛ فهذا ليس تشبيهًا ولا تمثيلًا، فإثباتها هو الواجب، وَنَفْيُها تعطيل، أو القول بأنَّ هذه الصِّفة أو هذا الإثبات يلزم منه التَّمثيل فهذه جهالة أخرى.
ولهذا دائمًا يقول أهل العلم: كُلُّ مُعَطِّلٍ ممثِّل؛ لأنَّه ظنَّ أنَّ الآية تدل على التَّمثيلِ فَهَرَبَ إلى التَّعطيلِ، وكلا الأمرين خطأ!
ولهذا في الاستواء قال الإمام مالك -رحمه الله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"[39]، فالتنتطع في هذه الأمور والتَّدخل فيها بالعقول وبالأقيسة يُعدُّ بدعةً.
قال الطَّحاوي: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ)، النَّفي: التَّعطيل، فنحن لا نَنْفي الصِّفات، ولا نُمَثِّل الخالق بها.
ولهذا نعيم بن محمد الخُزاعي يقول: "مَنْ مَثَّلَ اللهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَر، وَمَنْ نَفَى مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسهُ فَقَدْ كَفَرٍّ، وَلَيْسَ فِيمَا وَصْف اللهُ بِهِ نَفْسَهُ تَشْبِيهٌ وَلَا تَمْثِيلَ"[40]، والحمد لله رب العالمين، فهذا هو دين الإسلام، فهو وسط بين المُعطلة وبين الممثلة، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل.
 
قال المؤلف: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَغْضَبُ وَيَرْضَى لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى)؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- ليس كمثله شيء، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4].
ومن آثار غضبه:
- أنَّه يُعاقب الذي غَضِبَ عليه.
- والنَّار من آثار غضبه.
- وإيقاع العقوبات.
كل هذه آثار، وأمَّا الصفة فَنُثْبِتُها.
وكذلك الرِّضا، إذا رَضِيَ الله عن العبد؛ فإنَّ مِن آَثارِ رضاه: أن يُنعم عليه ويُكرمه بالجَنَّة والطَّاعة، قال: «أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدً»[41]، فهذا كلامه لأهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم ممن يُحِلُّ الله عليهم رضوانه فلا يَسخط عليهم بعد لك أبدًا. اللهم آمين يا رب العالمين.
ثُمَّ إذا جئت عند هؤلاء الذين وقعوا في التَّحريفات تسألهم وتقول: لماذا لجأتم إلى هذا؟
يقول بعضهم: إِذَا قُلت: إنَّ الله يغضب، معنى هذا أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يغضب مثل غضب المخلوق!
نقول: لا تقل هذا.
فينتقل إلى كلامٍ آخر، فيقول: الغضب هو غليان الدَّم في القلب، والله مُنزَّه عن هذا!
ومَن قَالَ لكَ إنَّ الغَضَبَ هو غليان الدَّم في القلب؟
لماذا أنت ألزمتَ نفسك وغيرك بهذا اللازم الغير صحيح؟!
فالله -عزَّ وجلَّ- لا شَكَّ أنَّه مُنزَّه عَن هَذه الكلمات، ولا يُقال في حَقِّه هَذا، فغضب الله يليق به، وليس مثل غضب المخلوق.
ثم نقول: غضب المخلوق حقيقة ليس هو غليان الدم في القلب، غضب المخلوق هو صفة تقوم بالمخلوق ينشأ عنها غليان الدَّم في القلب، والآن يُسمونه في الأعراف المعاصرة "ارتفاع الضغط" صحيح أنَّ الدم يفور وينشر حتى يضغط على العروق، ويرتفع الضغط على العروق ويرتفع الضغط عند الإنسان، وقد يموت بسبب شدة ارتفاع الضغط في بعض الحالا الشديدة.
على كلِّ نقول: هذا أثرٌ مِن آَثَار الغضب، وليس هو الغضب. هذا من جهة المعنى اللغوي.
ثم نقول لهم: أنت الآن لا تُثبت الغضب خوفًا من هذا المعنى، وبيَّنّا لك أنَّ هذا غير لازمٍ.
ثم أنت تقول: إنَّ الغضب هو إرادة الانتقام!
إذن عليك إثبات صفة الإرادة لله -عزَّ وجلَّ، وهذه طريقة بعض الأشاعرة فهم يُثبتون الصِّفات السَّبع، وبقية الصِّفات يَردونها للإرادة، والمعتزلة يُنكرون حتى الصفات، فيفسرون الغضب بنفس الانتقام، وليس إرادة الانتقام يعني: نفس العقوبة التي نزلت، فالعقوبة المخلوقة أو الانتقام الذي حصل؛ فيقولون: هذا هو الغضب، مع أنَّ هذا مخلوق، فنفوا الصفة، فهؤلاء هم المعتزلة.
أمَّا الأَشَاعِرَة فيردونها إلى صفة الإرادة، فيقولون في صفة الرِّضا: إرادة الإنعام، وفي "الغضب" يقولون: إرادة الانتقام.
فيُقال لهم: المخلوق عنده إرادة أو لا؟ سيقولون: نعم، عنده إرادة.
طيب، إذا كنت ستنفي صفة الغضب لأجل أنَّ المخلوق عنده صفة الغضب، فقل في الإرادة مثلما قلتَ في الغضب، فحتى صفة الإرداة يَلزمك أن تَنفيها أيضًا، أتوافق؟!
إن قال: نعم، فهذا هو المذهب الأشر والأسوء وهو مذهب المعتزلة.
وإن قال: لا، أنا لا أنفي هذه الصِّفة، وأنَّ هذا لا يجوز، وهذا مخالفٌ للنُّصوص والأدلة الدالة على إثبات الإرداة، ولكن أُثبت إرادةً تليق بالله، وليست مثل إرادة المخلوق.
نقول: أحسنت، وهذا ما نقوله في الغضب وفي بقية الصفات: فَنُثْبِتُ هذه الصِّفات لله على وجهٍ يليق بالله، ولا يُماثل المخلوق.
وبهذا يُقال لكل هؤلاء في هذا الباب: يجب عليكم أن تَلزموا طريقة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وطريقة السَّلف الصَّالح، ولو كان نَفيكم هذا وتعطيلاتكم وتحريفاتكم محبوبة لله ومرضيَّة عنده لأمرنا بها سبحانه، ولأمرنا بها رسوله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، وهو لم يترك خيرًا إلا ودلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا وحذَّرنا منه -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فهل يُمكن أن يُقال: إنَّه ترك النُّصوص هكذا حتى يَضل الناس؟! معاذ الله!
ولهذا بعض غلاتهم من المتأخرين التزم هذا اللازم، حتى ظنَّ في كتاب الله ظنَّ السُّوء، وظنَّ في سُنَّة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- ظنَّ السُّوء، وبعضهم صرَّح بكلمات خطيرةٍ جدًّا جدًّا، كان يتجاسر عنهم متقدموهم من المحرفين للنُّصوص، وجاء المتأخرون في القَرن العاشر وقالوا: إنَّ ظواهر النُّصوص لا يجوز الأخذ بها؛ لأنَّها تدلُّ على الكفر -أستغفر الله! فهذه كلمة بشعة!
ولهذا أَلَّفَ الشيخ أحمد بن حجر البوطامي -رحمه الله- وهو شافعي ولكنه سلفي المذهب كتابًا اسمه: "تنزيه السنة والقرآن عن أن يكون أصول الضلال والكفران"، فأنا لما قرأت العنوان تعجبت وقلت: كيف لأحد أن يقول عن السُّنة والقرآن إنهما أصول الضلال والكفران؟! فتصفحت الكتاب فإذا به ينقل عن بعضهم قولهم: إنَّ ظواهر نصوص الكتاب والسُّنَّة هي أصول الكفر! نعوذ بالله من الضلال!
وهذا القائل ليس يهوديًّا ولا نصرانيًّا أو عدوًّا حاقدًا على الإسلام، ولكن هذا يَدَّعي أنَّه من العُلَمَاءِ المُنتسبين للإسلام، فكيف يقول هذا الكلام البشع؟! فكل هذا يدل على المذهب السيء.
 
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَبْغُضُ مَنْ يَبْغُضُهُمْ، وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ، وَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَنَرَى حُبَّهُمْ دِينًا، وَإِيمَانًا، وَإِحْسَانًا، وَبُغْضَهُمْ كُفْرًا، وَنِفَاقًا، وَطُغْيَانً)}.
هذه المسألة العظيمة خاصة بمحبة الصَّحابة وبمراتبهم وفضائلهم، وأيضًا الموقف ممَّن انحرف في هذه المسألة، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة نقرأها، يقول: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَبْغُضُ مَنْ يَبْغُضُهُمْ، وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ، وَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَنَرَى حُبَّهُمْ دِينًا، وَإِيمَانًا، وَإِحْسَانًا، وَبُغْضَهُمْ كُفْرًا، وَنِفَاقًا، وَطُغْيَانً).
الجملة الأولى: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم).
المحبة: هي ميل القلب.
الميل القلبي والمحبة الحقيقية الصَّادقة تكون لجميع الصَّحابة بلا استثناء، فيجب محبة جميع أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم.
وهنا يأتي سؤال: مَن هم أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم؟
أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- هم: كُلُّ مَن لَقِيَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- مُؤمنًا به ومات على الإسلام.
فَيَخرج مَن ارتدَّ عَن دِينِه ممَّن ثَبَتَ عليه الكُفر، كَمَنْ تَنَصَّر، وإن كان واحِدًا أو اثنين، ولكن مجموع الصَّحابة لم يقع هذا منهم، ولكنه وَقَعَ مِن واحدٍ أو اثنين، أي: مجموعة قليلة جدًّا، مثل: الذين ارتدوا بعد وفاة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فقاتلهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وقاتلهم الصَّحابة، فمنهم من قُتل على هذه الردة، ومنهم مَن أسلم وَرَجَعَ إِلَى الحَقِّ.
إذن تعريف الصحابي: "كل من لقيَ" لأنَّ بعضهم يقول: "مَن رَأى"، ولكن بعض الصَّحابة أعمى لا يَرى، مثل: ابن أم مكتوم وغيره من الصَّحابة، فهم صَحابة ولم يروا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- لسبب عَمَى العَين، فلهذا يُعبر بلفظ "لَقِيَ".
إذن الصَّحابي: كل من لقيَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- مؤمنًا به، وخرج بذلك الكُفار، كفار قريش، وغيرهم ممن لم يسلم ولم يؤمن.
ومات على الإسلام: يعني مات على إسلامه، ولم يحصل له رِدَّة؛ لأنَّه يوجد أعداد يسيرة -كما تقدم الإشارة إلى هذا- أنَّ بعضهم تنصَّر، فهؤلاء لا يُعدُّون صحابة إذا ماتوا على غير الإسلام.
والدليل على هذا التعريف من القرآن والسنة:
أمَّا من القُرآن فقوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمً﴾ [الفتح: 29].
الشاهد قوله ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ ، وهذه المعيَّة للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- ولو ساعة، فكل مَن قَابَل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وَلَقِيَه ولو ساعةً فهذه مَعيَّة وصحبة، وهذا شرف، وكل مَن حَازَ هَذا الشَّرف دَخَلَ في هذا الوصف، وهو يعدُّ صحابيًا.
ولكنَّ الصَّحابة يتفاوتون، بعضهم أعلى وأكمل من بعض، فأفضلهم الخلفاء الراشدون -كما سيأتي في الدَّرس القَادم إن شاء الله- ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، والسَّابقين الأولين من المُهاجرين، ثم الأنصار، وأهل بدر، ثم أهل أُحد، وهكذا مَن أسلم قبل الفتح أفضل ممن أسلم بعد الفتح، وفي كلٍّ خير، قال تعالى في سورة الحديد عن الصَّحابة: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّه الْحُسْنَى﴾ [الحديد: 10]، أي: الجنة -رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال الله -عزَّ وجلَّ- في الثناء عليهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100]، هُنا يبين الترتيب، كما يُبين فضل الجميع وأنَّهم في الجنة، ففي الترتيب قدَّم السَّابقين الأولين من المهاجرين، وهم الذين أسلموا في مكة قبل الهجرة، ثم الأنصار الذين أسلموا قبل الهجرة بقليل وهم أهل بيعة العقبة الأولى والثانية، ثم الذين أسلموا في المدينة قبل أن يهاجر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، ثم الذين أسلموا بعد هجرته، هؤلاء يُقال لهم: الأنصار من الأوس والخزرج، وغيرهم ممن كان في المدينة.
وهؤلاء أيضًا مذكورون في سورة الحشر، وفي مواضع أخرى في القرآن، ففي سورة الحشر قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر:8]، ثم انتقل وقال عن الأنصار: ﴿الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر:9].
ثم القِسم الثَّالث وهم الذين جاؤوا من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة، فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر:10]، الله أكبر!
فهذا فيه الثَّناء مِن الله -عزَّ وجلَّ- على المُهاجرين والأنصار، والثَّناء على الذين جاؤوا مِن بعدهم إلى يومِ القِيامة، ولكن مَن هُم الذين جاؤوا من بعدهم وأثنى الله عليهم؟
الذين يَستغفرون لهم، وَيَشهدون لهم بالإيمان والأخوة، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَ﴾ هذا استغفار ﴿وَلِإِخْوَانِنَ﴾ ، لا يُعادونهم ولا يتبرؤون مِنهم كما يفعل الرَّوافض والنَّواصب وبعض المنحرفين من المعتزلة، يَبْرَؤُون مِنْ بَعضِ الصَّحابة، بل هُنا وصفوهم بالأخوة، قال: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ﴾ ، ثم شهدوا لهم بالإيمان ﴿الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ ، ثم قالوا: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ .
فهذه الأصناف الثَّلاثة هُم الذين يَستحقون الفَيء، الفيء وهو العطاء من بيت المال بسبب مَا فَاء على المسلمين مِن آَثار الجِهاد والغنائم، فهذا الفيء يُقَسَّم على المُسلمين، فبعدما يُقسم على المجاهدين، ويخرج الأسهم الخمسة، يُقسم على الفُقَراء المُهاجرين مِن الصَّحابة، ثُمَّ الأنصار، ثُمَّ الذين جاؤوا من بعدهم، ولكن بهذا الوصف.
ولهذا أفتى الإمام مالك -رحمه الله- بأنَّ الرافضة ليس لهم في الفيء نصيب؛ لأنهم يَسبون الصَّحابة ولا يستغفرون لهم، وهذه دعوة لهم أن يتوبوا مِن هذا، وأن يستغفروا الله -عزَّ وجلَّ- مِن هَذا المَسلك الوخيم، وأن يعودوا إلى طريق أهل السُّنَّة والجماعة.
 
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ)، يريد الرَّدَّ على الروافض والخوارج والنواصب.
والإفراط: هو الزيادة، فقوله: (وَلَا نُفَرِّطُ)، أي: لا نزيد.
قوله: (وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ)، فالروافض يدَّعون أنهم يُحبون عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- وَأَهلَ البيت، ولا شَكَّ أنَّ حُبَّ علي وَحُبَّ آل البيت واجب، ولكن مع حب الصَّحابة كلهم، ومع حفظ مكانتهم جميعًا.
ثم هُم يُفرطون في حُبِّ علي حتى وصلوا إلى أنهم وصفوه بأوصافٍ فوق ما يَستحق -رضي الله عنه- مثل: أوصاف الألوهيَّة، فمنهم من يقول: إنَّه يعلم الغيب، ومنهم من يقول: إنه يُدبر الكون، ومنهم من يستغيث به من دون الله -عزَّ وجلَّ- ويناجيه ويقول: يا علي يا علي يا علي، أغثني، المدد، اشفِ مريضي...، ونحو ذلك؛ كل هذا من الشِّرك الأكبر، بل في زمن علي رأى أقوامًا غلوا فيه وادَّعوا أنه إلهًا، فغضب غضبًا شديدًا، وقال:
لَمّا رَأَيتُ الأَمرَ أَمرًا مُنكَرًا *** أَجَّجتُ ناري وَدَعَوتُ قَنبَرا
قنبر هو عامل عنده، فقال له: احفر حفرة وأوقد النار فيها وألقهم، فهؤلاء أجمع الصَّحابة على كفرهم.
ولهذا يجب على كُلِّ من رَكِبَ هذا المذهب أن يتوب إلى الله مِنه، وهو مذهب الغلو والإفراط، ثُمَّ هُم فِيما يَظهر ليس حبهم لعلي حبًّا صادقًا، بل هذا -والله تعالى أعلم- دعوى، ولو كان حبهم لعلي صادقًا لقادهم هذا الحب إلى حُبِّ الصَّحابة، فإنَّ عليًا كان يُحب أبا بكر، وعمر، وعثمان، وكان مَعَهُم مِن خيرة الأصحاب والأعوان، رضي الله عنهم جمعيًا.
فهذا معنى قوله: (وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ)، فأهل البيت لا نُفَرِّطُ في حُبهم.
قال: (وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ)، هذه طريقة النَّواصب والخوارج، وبعض أهل البدع لازال على هذه العقيدة الفاسدة، يقول: لا يصح إيمانك حتى تتبرأ من عثمان، وتتبرأ من علي، وتعتقد أنهم فسقوا، وأنهم كفروا -نستغفر الله ونتوب إليه- فيُحرجون الجَهَلة من أتباعهم، حتى يُلزموهم بهذه العقيدة الفاسدة.
نقول لهم ولجميع أهل الإسلام: هذه العقيدة فاسدة، فنحن لا نتبرأ من أحد من الصَّحابة، ولا نبغض أحدًا من الصَّحابة؛ بل نحبهم جميعًا ونقدرهم جميعًا، ويكفيهم شرفًا صحبتهم للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وأي شرف أعلى من هذا الشَّرف؟!
قومٌ صحبوا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- تأتي وتنتقضهم أنت؟! من أنت؟! ومن شيخك هذا؟! فكلهم أخطأوا وزلُّوا، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً﴾ [الفتح:18]، أَلْفٌ وخمسمائة رجل مِن خِيرةِ النَّاس تسبهم أنت؟! فيهم علي وفيهم عثمان، وفيهم أبو بكر، وفيهم عمر، تأتي أنت وتسبهم؟! يا ويلك إذا قابلت ربك؟!
الله يقول في كتابه: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، وأنت تقول: هؤلاء كذا، وهؤلاء كذا..؟! وكله بسبب اتّباع الهوى، أو النَّظر في بعض الكُتُب السَّيئة التي تتناول الصَّحابة.
ولهذا فإنَّ بعض كُتب التَّاريخ وبعض كُتب الأدب لا يُوثق بها، وليست مَرجعًا، وإنَّما المرجع هو الأحاديث الصَّحيحة الثَّابتة بالسَّند الصَّحيح، أمَّا الأحاديث التي لم تَصح عَن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- أو الأخبار التي لم تَثْبُت عَن الصَّحابة فلا يجوز ترويجها، وبعضهم يَشتغل بما شَجَرَ بين الصَّحابة وَيَشغَل نفسه بهذا، وهذا يقع في أحد طامتين عظيمتين:
الطَّامة الأولى: أن يقع في قلبه زيغ فيبغض الصَّحابة، أو يُبغض أحدًا منهم، أو يُفسِّقهم، أو يُكفرهم، كما قال أبو زُرعة الرَّازي -رحمه الله: "إِذَا رَأيتَ الرَّجُل يَنتقصُ وَاحِدًا مِن أَصحَابِ رَسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فَاعلَم أَنَّه زِنْديق"[42] وفي رواية: "فاتهمه على الإسلام".
والطَّامة الثانية: أقل أحواله أنه تُشوِّش فكره وباله، ويقع في حيرة، حتى ولو لم يتكلم، ولكن يقع في قلبه شيء مِن هذا الصَّحابي، وهذا خطير جدًّا، فالصَّحابة -رضي الله عنهم- هُم خَير القرون كما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وخير النَّاس بعد الأنبياء، قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[43]، وقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»[44]، المُد مِن بُر، وأنت عندك جبل أُحُد تحول لذهب وتفرق على النَّاس وتتصدق به؛ لن تبلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَهُ، يعني: الصحابي يتصدق ببرٍّ أو بحنطةٍ أو بشعير أو بتمرٍ، هذا المُد أعظم من صدقتك أنت لو كانت مثل: جبل أُحُدٍ ذهبت تقسمه على النَّاس؛ لأنَّ الصَّحابة هُم أساس الإسلام.
مَن الذي حفظ القرآن وحفظ السنة؟
من الذي دافع عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وآمن معه وآزره، وجاهد معه؟
من الذي ضحى بنفسه وماله وَبِوَقْتِه وبكل حياته في سبيل الإسلام؟
هم ذلك الجيل العظيم، جيل الصَّحابة، ما كان ولن يكون مثلهم، فهم خير النَّاس بعد الأنبياء -رضي الله عنهم وأرضاهم- فلا يجوز أن نتخذ مما شجر بينهم سببًا لإيغار الصدور، أو التَّنقيب عن الأشياء التي دُفنت، وبعضها غير صحيح، بل أكثرها غير صحيح، وبعضها زيد فيه ونُقص وغُيِّرَ عن وجهه، والصَّحيح فيما حصل من بعضهم قليل ومغمور في حسناتهم وبحر فضائلهم، ويكفيهم شرفًا جهادهم مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- ويكفيهم شرفًا أنهم كانوا يُصلون مع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- ويشهدون الجُمَع والجماعات، ويسمعون حديثه ونصائحه وتوجيهاته، ويعاونونه، ويساعدونه، يذهبون ويجيؤون معه، وكل الصَّحابة لهم حق ومكانة، فلا يجوز لك أن تعتقد في أحد أن يُتبرَّأ من الصَّحابة.
كما لا يجوز أن نُفَرِّط في أحدٍ منهم، فلا نغلوا ولا نجفوا في أحد من الصَّحابة، قال المؤلف: (وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ)، ولهذا نعتقد أنَّه يَجِبُ الكَفَّ عمَّا شَجَرَ بين أَصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، والكَفَّ يعني: الإمساك بلسانك وبقلمك عَمَّا شَجَرَ بين أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم.
هل كل الصَّحابة شجر بينهم؟
لا، شَجَرَ في آخر عهد عثمان، ثُمَّ في عَهدِ علي -رضي الله عنه- حدثت بعض الأمور الاجتهادية، ونعتقد أَنَّهم بَينَ الأَجر والأجرين، وأنَّهم -رضي الله عنهم- إن أصابوا فَلَهم أَجران، والمخطئ منهم له أجر مع حِفظ مكانته وحقه ومحبَّته، ولا يجوز لنا أن نعتقد أنَّ أحدًا منهم في النَّار، أو نعتقد أنَّ أحدًا منهم يُتبرَّأ منه، أو يُلعَن، أو يُتَّهم بالفسق، أو بالظُّلم، هذه الكلمات لا تجوز، وهذه كلمات أهل البدع في الصَّحابة.
أمَّا أهل السُّنة فلا يقولون هذا، ومن رأيته يَسُبّ أحدًا من الصَّحابة ويتهمه بهذا؛ فهذا علامة أنَّه ضالُّ في عقيدته -نسأل الله العافية والسلامة.
النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- يقول: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي»، وسبب هذا الحديث أنَّه شجر بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء من الكلام، فغضب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- على خالد بن الوليد، وهو سيفٌ من سيوف الله.
إذن الصَّحابة بشر، وليسوا مَعصومين، وقد يقع منهم الغلط.
وهنا نلحظ أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- نَهَى مَن لَه صُحبةً آَخِرًا أَنْ يَسُبَّ مَن لَه صُحبةً أولًا. لماذا؟
لأنَّ مَنْ أَسلَمَ مِن قَبْلِ قد امتَازَ عَنْهُم بالسَّبق، وامتَازَ عَنهُم في الصُّحبة بما لا يُمكن أن يُشاركونه فيه، فإذا كان الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد فتح مكة قد نُهوا عن سبِّ مَن أَسلم قَبل، فما بالك بمن لم يُسلم بعد فتح مكة، ولم تحصل له هذه الفضائل، وإنما جاء في القُرون المتأخرة؟!
فمن باب أولى نقول: إنه يُنهى عن السِّبِّ والكلام والخوض في الصَّحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم.
وكل ما نعمل من الخير الآن، وكل ما نعمل من الأعمال الصَّالحة فَرْضُها وَمُستَحَباتها؛ فإنَّ للصحابة فيه أَجْرٌ؛ لأنَّهم هُم الذين نقلوا هذا العِلم، وحفظوا هذا العِلم، وهكذا مَن جَاءَ بعدهم له أَجر، ثُمَّ إلى يومِ القِيامة، فَكُلُّ مَن سنَّ في الإسلام سُنَّة حَسنةً ودَلَّ النَّاس على شَرعِ الله -عزَّ وجلَّ- فهؤلاء لهم أجر، فالصَّحابة مِن باب أولى لهم الأجور الفاضلة والكاملة -رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال: (وَنَبْغُضُ مَنْ يَبْغُضُهُمْ، وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ).
يعني: نحن أهل السُّنَّة والجماعة نُبغض مَن يُبغض الصَّحابة؛ لأنَّ مَن يُبعض الصَّحابة صار عدوًّا للصَّحابة، وإذا صار عدوًّا للصَّحابة صار عدوًّا للرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- يجلس مع أبي بكر ويحبه، ومع عمر، ومع عثمان، ومع علي؛ فهؤلاء هم خِيرة أصحابه، فإذا جاء مَن يقول هؤلاء فيهم، وهؤلاء كذا، وهؤلاء أنا أبغضهم...، لَزِمَ من هذا أن يُبغض الرسول، ولهذا فنحن نُبغض هؤلاء.
وليس هذا خاصٌ بالخلفاء الأربعةِ بل حتى بقيَّة الصَّحابة، مَن أَبْغَضَهُم فنحن نُبغضه؛ لأنَّه مُنَافق أو كافر، ولا يُغادر هاتين الصفتين، وفي هذا حديث صحيح صريح، ففي صحيح البخاري قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ»[45]، وجاء أيضًا في شأن أبي هريرة أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- دعا له ولأمه أن يحببهما إلى كل مُؤمنٍ ومؤمنة، فكل مُؤمن ومؤمنة يَسمعون به يُحبونه ويحبون أُمَّه إذا عَلِمُوا خَبَرَها وإسلامها -رضي الله عنها- فهذا دليلٌ على أنَّ مَن يُبغض أبا هريرة -رضي الله عنه- ليس بمؤمن.
والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- يقول: «لا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ»[46]، هذا دليلٌ على أنَّه حتى لو وَقَعَت منهم ذنوب؛ لأنَّ هذا خبر والله -عزَّ وجلَّ- يُوحِي إليه، والخبر لا يُخلَف، فهذا دليلٌ على أنَّ الصَّحابة الذين شهدوا الحديبية وبيعة العقبة تحت الشَّجرة لا يدخلون النَّار، حتى لو وَقَعَ مِنهُم مَا وقَعَ مِن الأخطاء أو الذنوب، وهذا يَدُلُّ على أنَّهم بين الأجر والأجرين، ورب العالمين قال: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبي وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:117]، الله -عزَّ وجلَّ- يَشهد لهم ويَشهد أنَّه تَاب عليهم، تأتي أنت وتُؤثِّمهم وتفسِّقهم وتكفرهم؟! تبًّا لهذا المذهب الذي يتعرض للصَّحابة وينتقصهم، ولا شك أنَّه مَذهب سوء من أخبث المذاهب.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ". رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومن العَجائب أنَّه لو سُئل اليهود بالرغم من كفرهم: مَن خياركم؟ لقالوا: الذين صَحِبُوا موسى عليه السلام.
ولو سُئل النَّصارى: مَن خِياركم؟
لقالوا: الذين صَحِبُوا عيسى عليه السلام.
ولو قيل للرَّافضة: من شر أهل مِلتكم؟
قالوا: الذين صَحِبُوا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم!
فتبًّا لهم، صاروا أَشَرَّ مِنَ اليهود والنَّصارى -نسأل الله العَافية والسَّلامة- وأن يهدي ضال المسلمين.
فنقول: لا نُفَرِّط في حُبِّ أحد من الصَّحابة، ولا نَتَبَرأَ مِن أَحَدٍ مِنهُم.
ومن الكلمات التي يغلط فيها الرَّافضة وغيرهم، أنهم يقولون: "لا ولاء إلا ببراء"، ويريدون بهذا أنك لا تُحِبُّ عَليًا -رضي الله عنه- إلا إذا تبرأت مِن أبي بكر وعمر!
وهذا غير صحيح، أَنَا أُحِبُّ أَبا بَكرٍ، وَأُحِبُّ عمرَ، وَأُحِبُ عُثمانَ، وأحبُ عليًا، وأحبُ الحسنَ، وأحب الحُسينَ، وأحبُ أهلَ بيت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وأحبُ العَشرةَ، وجميع الصَّحابة، حتى الذين أسلموا بعد الفتح، نحبهم كلهم، ولا نَتَبَرَّأ مِن أَحدٍ مِنْهُم، ونقول: مَن أَخْطأ منهم فهو مغفور له -إن شاء الله- وله أَجر، وَمَن أَصَابَ فَله أَجران، ولا نخوض في أعراضهم، ولا ننشر الأخبار التي فيها مساوئ وفيها ما يُغير الصُّدور، فهذا لا يجوز.
قوله: (وَنَبْغُضُ مَنْ يَبْغُضُهُمْ، وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ).
هُناك أقوام لا خَير فيهم من أهل البدع، إذا جاء ذِكر الصَّحابة أخذوا يَهمزون ويَلمزن، ويذكرون عبارات تَنَقُّص، فالواجب على المؤمن أن يَحذر مِن هَؤلاء، ولهذا بعض الكتَّاب -مع الأسف- وبعض من انشغل بما يُسمى بالفكر الإسلامي؛ وصلوا إلى بعض المراحل المتقدمة في الكلام في الصَّحابة، حتى إنَّ بعضهم يتناول عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ويتناول معاوية -رضي الله عنه- وبعضهم يتناول المغيرة بن شعبة، وبعضهم يتناول عائشة -رضي الله عنها- أم المؤمنين الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق.
وهذه قاعدة: إذا رأيتَ رجلًا يَعمد إلى هؤلاء الصَّحابة أو غيرهم فيتنقصه ويزدريه أو يصفه ببعض الأوصاف التي تدل على سبٍّ أو تنقُّص، كأن يتهمه بأنه خرج، أو يتَّهمه ببعض التُّهم الأخرى التي هي صعبة على اللسان قولها، ولكن -مع الأسف- موجودة في كتب هؤلاء المبتدعة، فهذه كتب سوءٍ يجب الحذر منها ومن أصحابها، وألا يوثق بهم؛ لأني وجدت في بعض الكتب لبعض المفكرين ممن يسمي نفسه بالمفكر الإسلامي أو الأديب؛ إذا به يتكلم عن عثمان -رضي الله عنه- ويقول: "فترة عثمان كانت فترة مظلمة"!
يا أخي أنت المظلم! عثمان هذا تستحي منه الملائكة، فاستحِ على وجهك يا من تقول هذا الكلام، وهذا يجب أن يُحرق كِتَابه ويُبعد عن المسلمين، يتكلم في الخليفة الثالث؟! وآخر يتكلم في مُعاوية ويتهمه بالنفاق وأنه فتح باب شرٍّ، وأنه كذا وكذا؟! يا أخي اتقِّ الله -عزَّ وجلَّ.
وكما قال بعض السلف لما فوضِلَ بين عمر بن عبد العزيز ومعاوية، فعمر بن عبد العزيز من أتباع التَّابعين، فقال بعضهم: "أيهما خير عمر بن عبد العزيز أو معاوية؟
فقال: لغبارٌ دخل أنف معاوية في غزو مع الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- خير من أمثال عمر"[47]، فشرف الصُّحبة لا يَعْدله شرف، فالواجب الإمساك عن الصَّحابة، ومعرفة مكانتهم، وأن نتقي الله -عزَّ وجلَّ- ونحبهم -رضي الله عنهم.
قال: (وَنَرَى حُبَّهُمْ دِينًا، وَإِيمَانًا، وَإِحْسَانًا، وَبُغْضَهُمْ كُفْرًا، وَنِفَاقًا، وَطُغْيَانً).
إي والله! حُبُّ الصَّحابة دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، فإذا أحببت الصَّحابة فهذا دين، هذا الحب الذي في قلبك دين، وهذا الحب ينشأ إذا قرأت أخبار الصَّحابة وأحوالهم، وصلاحهم، ومواقفهم العظيمة الشُّجاعة في نُصرة الدين، وفي الدفاع عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، وفي القيام بأمر الله -عزَّ وجلَّ- فوالله الذي لا إله غيره إنك لتجد العجب العُجاب مِن هذا الجيل الفريد والعظيم، جيل الصَّحابة -رضي الله عنهم.
فالذي يُبغضهم حقيقة هذا دليل نفاقه، ودليل على أنَّه يُبغض الدين نفسه، حتى لو زَعَمَ أنَّه يُحب الدين، فهو كاذب، فبغضه للصَّحابة أو لبعضهم دليلٌ على نفاقه، وقد تقدم الحديث «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ»[48]، فعلامة النِّفاق الواضحة بُغض الأنصار.
فإذا كان حُبُّ الأنصار آية الإيمان وبُغضُهم آية النِّفاق، فَمِنْ بابِ أولى المهاجرين؛ لأنَّهم في القرآن مُقدَّمِين، فنقول: آية الإيمان حب المهاجرين والأنصار، وآية النفاق بغض المهاجرين والأنصار -رضي الله عن الصَّحابة أجمعين.
وكثير من أعداء الإسلام يحاولون النَّيل من الصَّحابة، وهذا المنهج السَّيء يَسلكه بعض النَّاس حتى يتوصلون إلى الطَّعن في أحاديث الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فالصَّحابة هُم الذين نقلوا أحاديث الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فهم نقَلَة الشَّريعة وحَفَظَة الدين، فإذا جاء الطَّعن فيهم والشَّك في ثقتهم فحينئذٍ يُهدم الإسلام، ولهذا يجب الحذر من هذه المذاهب أشد الحذر.
وأهل العلم يقولون: إنَّ الصَّحابة -رضي الله عنهم- كلهم عُدول ثِقات، فلا يُمكن أن يقع منهم الكذب، لكن ليسوا بمعصومين، فقد يقع مِن أحدهم الخطأ، إمَّا الخطأ في الفَهم، أو الخطأ في النقل، وهذا يقع من أفراد قليلين، لكن ولله الحمد يتبين الصَّواب من خلال النظر في الأحاديث وفيما نُقل عن الصَّحابة، وإذا جرى خلاف بين الصَّحابة في مسألة فقهيَّة، أو نحو ذلك.
إذن هذه المسألة العظيمة وهي حُبُّ الصَّحابة، والحذر كل الحذر مِن الكلام فيهم بالسبِّ أو التَّنقُّص أو البغض.
وهنا فائدة: وهي أنَّ الطَّحاوي سبق أن قال: (وَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ)، ولم يذكر العمل! وهذه من الأغلاط التي سبق التَّنبيه عليها.
وهنا ذَكَرَ الحُبَّ، والحُبُّ عملٌ قلبي، فَسَمَّى الحُبَّ إيمانًا، فهذا دليلٌ على مَذهب أَهل السُّنَّة والجماعة أنَّ العمل من الإيمان، وهذا هو الصَّواب، أنَّ عمل القلب والجوارح من الإيمان.
قال: (وَبُغْضَهُمْ كُفْرًا، وَنِفَاقًا، وَطُغْيَانً)، مَنْ أَبغَضَ الصَّحابة كلهم فهذا كافر، أمَّا مِن أَبْغَضَ بعضهم فهذا في تفصيل:
- إِذَا أَبغَضَ أَبَا بكرٍ وَعُمَرَ وعثمانَ وعليًا وخيرة الصَّحابة، فهذا كافر.
- أمَّا إذا أبغض بعضهم، فهل هذا يكون فاسقًا وظالمًا أم يكون كافرًا؟
هذا فيه تفصيل، فيُراجع في هذا كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ويُراجع في هذه المسألة الكتب التي وضَّحت حُكم سَبِّ الصَّحابة -نسأل الله العافية والسلامة.
وعلى كلٍّ يجب علينا الحذر كل الحذر مِن بُغضِ الصَّحابة، أو التَّعرض لهم بسوء، وإنَّما نَذْكُرَهُم بالخير، وَنَذْكُر مَآثرهم، وسِيَرِهم العطرة، وَنُعَلِّم أولادنا سيرة أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- ونسأل الله -جل وعلا- أن يجمعنا مع الصَّحابة في جنات النعيم، إنه -سبحانه وتعالى- سميع مجيب الدُّعاء، وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم، نبعثها إليكم، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[39] لقد اشتهر هذا الأثر عن الإمام مالك -رحمه الله- شهرة بالغة، ورواه عنه طائفة من تلاميذه، وهو مرويٌّ عنه من طرق عديدة، وقد حَظِي باستحسان أهل العلم، وتلقَّوه بالقبول، وهو مخرَّج في كتب عديدة من كتب السنة.
[40] تفسير القرآن العظيم ج2 ص 247، دار الخير. ونصه عن نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: من شبَّهَ اللهَ بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف اللهُ به نفسهَ فقد كفر، وليس فيما وصف اللهُ به نفَسه ولا رسولهُ تشبيهٌ؛ فمن أثبتَ لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى
[41] البخاري (6549)، ومسلم (2829)، عنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا.
[42] الكفاية في علم الرواية 97
[43] البخاري (2652) ، ومسلم (2533)
[44] رواه مسلم (2540) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
[45] البخاري (17)
[46] مسلم من حديث جابر.
[47] مرقاة المصابيح على مشكاة المصابيح عن عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله تعالى.
[48] تقدم تخريجه

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك