الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2071 11
الدرس الخامس

العقيدة الطحاوية (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء فِي حلقةٍ جديدةٍ مِن حَلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكُمُ اللهُ، وَحَيَّا الله الإخوة الكرام.
في هذه الحلقة -بإذن الله- سنقرأ من قول الطَّحاوي -رحمه الله: (وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، أَوَّلًا: لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ لِعُثُمَّانَ بْنِ عَفَّانَ، ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَمَنْ اهتَدَى بِهُداه، أمَّا بعد:
فنسأل الله -جَلَّ وعَلا- لنا ولكم ولجميع المُسلمين العِلمَ النَّافِع والعَمَلَ الصَّالِح.
هذه الجُمَل التي ذَكَرَها الطَّحاوي -رحمه الله- في العقيدة الطَّحاويَّة تتعلق بأمرِ الخلافة بعد وفاة الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، فنُثبت الخلافة لأبي بكر الصِّديق -رضي الله عنه- ثُمَّ لِعُمر، ثُمَّ لِعُثُمَّان، ثُمَّ لِعَلي -رضي الله عنهم أجمعين.
فلمَّا فَرَغَ الطَّحاوي من ذكر وُجوب محبة الصَّحابة، وأنَّ هذا دينٌ وإيمانٌ، وأنَّ بُغضَهُم كُفر وَنِفاق، ووجوب تفضيل الصَّحابة والكَفِّ عَمَّا شَجَرَ بينهم؛ شَرَعَ في ذِكْرِ مَسألة الخلافة لأهميتها؛ لأنَّ الصَّحابة بعد وَفَاةِ الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- أَجْمَعُوا وأَجمَع المسلمون على تقديم أبي بكر، ومبايعته خليفةً لرسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وأميرًا للمؤمنين.
وهذه المسألة أجمع عليها أهل الإسلام، ولم يُخالف فيها إِلَّا بعض أهل الأهواء والبدع، فأبوبكر الصديق هو عبد الله بن أبي قحافة، وهو خير هذه الأمة وأفضلها بعد النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- بإجماع المُسلمين، ولهذا قال: (تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ).
والنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- صرَّح في أحاديث كثيرة مُبَيِّنًا فضل أبي بكر ومكانته ومنزلته من الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم-، ومن ذلك:
·       قوله: «ولو كنتُ مُتَّخِذًا خَليلًا غيرَ رَبِّي لا تَّخَذْتُ أبا بكرٍ، ولكِنْ أُخوَّةُ الإسْلامِ ومَوَدَّتُهُ»[49].
·       ومن ذلك لما ذكر النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- المبشرون بالجنَّة، فبدأ به فقال: «أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثُمَّانُ فِي الْجَنَّةِ»[50]، ثُمَّ ذَكَرَ بقية العشرة -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم.
·       ولما ابتُدِئ به المرض الذي تُوفي بسببه -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- قال لعائشة: «ادْعُوا ِلَيَّ أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابً»، ثُمَّ قال: «يَأْبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»[51]، وهذا الحديث في الصحيحين.
وقد عُلم بالتواتر أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- قدَّمه في الصَّلاة حتى يُصلِّي بالنَّاس لما أصاب المرضُ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، وَثَقُلَ عَن الوُصول إلى المسجد بسبب شِدَةِ المرض -اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه- أَنَابَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- أبا بكر في الإمامة في الصَّلاة، فعلم المسلمون أنَّه أولى النَّاس بَعدَ رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم.
ولهذا كان الصَّحابة لما بايعوه يقولون: "رضيك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟![52]".
وَمِن هَذا المُنطلق اختلف العُلماء في خلافة أبي بكر، هل كانت الخلافة بالنَّصِّ أم بالإشارة؟
وذكر هذه المسألة الشارح ابن أبي العز، وذكرها جمع كبير من أهل العلم، مما يدل على أنَّ هناك من أهل العلم من قال: إنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- قَد نَصَّ على أبي بكر أنه خليفة، وذكروا في هذا بعض الحُجَج، ولكن هذا فيه نظر!
والصَّواب -والله تعالى أعلم: أنه بيَّن فضله وتقدمه، وأنه –عليه الصلاة والسلام- رضيَه للناس إمامًا بعد ما مرض -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وقال: «فَلا يَطْمَعُ فِي هَذَا الأَمْرِ طَامِعٌ»[53]، ولما أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، قَالَتْ: "أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ" كَأَنَّهَا تَقُولُ: الْمَوْتَ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ»[54] فالمسلمون يَعلمون أنَّ أبَا بَكرٍ هو أفضلهم، لمَّا رأوا من النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- تقديمه، ومن بيان مكانته ومنزلته.
فالخليفة بعد موت النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- هو أبو بكر الصِّديق، وبَايَعَه المُسلِمون جميعًا.
ثُمَّ بعد وفاةِ أبي بكر -رضي الله عنه- عَهد بالخلافة إلى عُمر، وأجمع المسلمون على مُبايعة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خليفة بعد أبي بكر.
ثُمَّ لمَّا أصيب عُمر في آخر حياته بسبب هجوم أبي لؤلؤة المجوسي وغدره في صلاة الفجر، فقد كبَّر عمر للصَّلاة، فانطلق هذا المجوسي الخبيث فطعن عُمَر عدَّة طعنات حتىَّ سَقَطَ، فَلَمَّا رأى ما نزل به جعل الأمر شُورى في ستَّة من الصَّحابة -كما سيأتي- فاجتهدوا بعد وفاة عمر، فاختاروا أمثلهم وأفضلهم، وهو عثُمَّان بن عفان -رضي الله عنه.
ثُمَّ بعد استشهاد عثُمَّان -رضي الله عنه- أَجْمَعَ المُسلمون على أنَّ عليًّا هو الخليفة بعد عثُمَّان، وبايعوه، ولهذا فإنَّ ترتيب الخِلافة كترتيبهم في الفضل، فأفضلهم أبو بكر، ثُمَّ عمر، ثُمَّ عثُمَّان، ثُمَّ علي، وهكذا في الخلافة، فالخليفة بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- أبو بكر، ثُمَّ عمر، ثُمَّ عثُمَّان، ثُمَّ علي.
وليس بين أَهل السُّنَّة خلاف ولا نِزَاع في هذا الترتيب في الخلافة، فلم يَقل أحدٌ بتقديم واحدٍ منهم على الآخر، ولكن في أمر التفضيل وقع نزاع يسير في المفاضلة بين عثُمَّان وعلي، والجمهور والذي استقر عليه أهل السُّنة والجماعة وهو الذي عليه الجماهير قديمًا وحديثًا: هو تقديم عثُمَّان على علي، وأنَّ ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
 
ويُقال هذا حَتَّى يعرف طالب العلم بعض الآثار المنقولة عن بعض المُتقدمين، وأنَّ المسألة في التفضيل، أنَّ بعضهم قدم عليًّا على عثُمَّان، وبعضهم ثلَّثَ بعثُمَّان وتوقف، ولكن الذي عليه أهل السُّنَّة واستقروا عليه هو التثليث بعثُمَّان، والتربيع بعلي -رضي الله عنهم.
أمَّا أمر الخلافة فليس بين أهل السُّنَّة والجماعة نزاعٌ في أنَّ الخليفة بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- هو أبو بكر، ثُمَّ عمر، ثُمَّ عثُمَّان ثُمَّ علي؛ ولهذا فإنَّ "مَن قَدَحَ فِي خِلافة واحدٍ مِن هَؤلاء فَهُوَ أَضَلُّ مِن حِمَار أَهله"، وهذه عبارة الإمام أحمد. وقال: "مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ"[55].
أَزْرَى: يعني تنقَّصَ وعابَ واستصغر؛ لأنَّ المُهاجرين والأنصار الذين كانوا أحياءً لما استُشهِد عمر وجعل الخلافة شورى في واحدٍ مِنَ الستَّة، ويُختار منهم، فاجتهد المسلمون غاية الاجتهاد، وقام بهذا الحِمل العظيم عبد الله بن عوف، فسأل المهاجرين الأحياء جميعًا، وسأل الأنصار الأحياء جميعًا، حتى اجتمع رأيهم على تقديم عُثُمَّان عَلَى عَليّ -رضي الله عن الجميع- فمن قدَّم عليًّا على عثُمَّان فقد أَزْرَى بالمهاجرين والأنصار، ولا يليق بمسلم أن يتخطى ويتجاوز طريقة الصَّحابة -رضي الله عنهم.
 
قال: (وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، أَوَّلًا: لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ لِعُثُمَّانَ بْنِ عَفَّانَ).
في هذا ردٌّ على مَن طعن في الصَّحابة كالرافضة، فإنهم يزعمون أن الخليفة والإمام بعد النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- هو علي -رضي الله عنه- وأن الصَّحابة اغتصبوا الحكم من علي، ويزعمون أن عليًّا هو الوصي على الإمامة، وأنَّه الإمام بعد النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم!
وهذا لا شَكَّ أنَّه مخالفٌ للواقع، ومخالفٌ للشَّرع، ومخالفٌ للقُرآن، ومخالفٌ للسُّنَّة.
قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمً﴾ [الفتح: 16].
أَجْمَعَ المُفسرون على أنَّ المراد بِهم أهل الرِّدَّة، والذي دعا إلى قِتال أَهل الرِّدة بالإجماع هُو أبو بكر الصِّديق، وكان هذا بعد وفاة النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم.
قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ ، وهم بنو حنيفة الذين ارتدوا في نجد وغيرها، وصدَّقوا مُسيلمة.
﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ ، فالذي دَعَاهُم إِلى هَذا القِتَالَ هُو أبو بكر الصِّديق، وفي هذا مَدْحٌ مِنَ الله -عزَّ وَجَلَّ- وَثناء على مَن قَامَ بهذا؛ لأنَّه قال: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ ، فعُلم أنَّ المقاتَلين غَير مُسلمين، وهم مُرتدون، والذي قام بهذا الواجب العَظيم هو أبو بكر الصِّديق، فهذا أحد الأَدِلَة مِن عَشرات الأَدِلَة.
ومن ذلك قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَ﴾ [التوبة: 40]، فالله -عزَّ وَجَلَّ- أثبت معيَّته له، وهي معية توفيق وتسديد ونصر، وتأييد، وأثبت الصحبة بين أبي بكر والرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- في قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَ﴾ .
وقال في سورة الليل: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ [الليل 17 - 19]، فهذه الآيات في أبي بكر.
وفي سُورة الزمر قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: 33]، فأعظم الناس تصديقًا بالنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- هو أبو بكر الصديق -رضي الله عنه.
والأخبار في فضله ومكانته ومنزلته ودلائل القُرآن والسُّنَّة على خلافته كثيرة جدًّا.
فالمقصود: أنَّ هذه المسألة يُشغِّبُ بها أهل البدع، ويحاولون أن يقولوا لبعض الجهلة من باب التشويش وإثارة الفتن والأحقاد: أنَّ الخلافة لعلي واغتُصبَت منه، فكأنَّ المسألة عندهم مسألة توريث، بينما هي نبوَّة، فالخلافة نبوة، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون، يَسيرون على مِنهاج النُّبوة، أمَّا الملك فقد جاء بعد هذا.
فالمقصود: أننا نعرف غلط هؤلاء المبتدعة الذين زعموا أنَّ الخلافة والإمامة لعلي -رضي الله عنه- وأنَّ الصَّحابة اغتصبوها منه، وبناء على هذه المسألة يتهمون الصَّحابة بالنِّفاق، وربما يكفرونهم، ويقولون: إنَّ الصَّحابة ظَلَمَة، وقد اغتصبوا الخلافة، وقهروا عليًّا، ويقعون في تناقضات مِن ضمنها أنهم يقولون: إنَّ عليًّا -رضي الله عنه- أشجع الناس، وقد صدق من قال هذا فهو من أشجع الرجال، ولكنه ليس بأشجع مِنَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- ولا بأشجعِ مِن أبي بكر وعمر وعثُمَّان، فهم أفضل في كل صفات الخير -رضي الله عنهم- وهو مثلهم من أفضل البشر بعد الأنبياء، ولكنه بعد أبي بكر وعُمر وعثُمان، ومع هذه الشَّجاعة والإيمان وقوة القلب في علي -رضي الله عنه- إلا أنهم يصفونه بأنه كان ذليلًا -بزعمهم- وأنه مقهورًا، وأنه سكت عن حق -هكذا يقولون- فلهذا كان مذهبهم فيه تناقضات وضلالات.
ومن أعظم من كشف هذه المسألة: علماء أهل السنة والجماعة، ووضحوا أغلاط هؤلاء وتناقضاتهم.
ومن الكتب التي يُوصى بها في هذا المقام:
"منهاج السنة النبوية في الرد على الرافضة الشيعة والقدرية" لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية-رحمه الله- وهو كتاب كبير مطبوع في تسع مجلدات، المجلد التاسع فهارس.
والذهبي -رحمه الله- عمل له ملخصًا، وكذلك فيه ملخص للشيخ عبد الله الغنيمان -جزاه الله خيرًا.
فالمقصود: أنَّ هذا الكتاب كتاب طيب لمن أراد التَّوسع في نقض الشبهات التي يُثيرها هؤلاء الذين قدحوا في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- وفي خلافة عمر وعثُمَّان، وزعموا أنَّ الخلافة لعلي -رضي الله عنه- وأنها اغتصبت منه، وهذا كله مِن الزُّور والبُهتان، فصار هؤلاء الرَّافضة ينظرون لكل وصف في القُرآن فيه ذكر الشِّرك يُلحقونه بالصَّحابة؛ لأنَّ التَّوحيد عندهم هو أن تقول بإمامة علي والاثني عشر، فإذا قلت بإمامة علي والاثني عشر الذين يَنُصُّونَ عَلَيهِم فأنت موحد، وإذا لم تقل بهذا فأنت مشرك، وظالم وفاسق، وفاجر، وكل وصف ذميم يلحقك إذا لم تقل بهذه العقيدة الفاسدة، وهذه من الأغلاط التي عند هؤلاء.
ولهذا فالعلماء -كما فعل الطحاوي هنا- ينصُّون في كتب العقيدة على مسألة الخلافة؛ لأنها مِن أَهم المسائل التي يُباين فيها أهل السُّنة غيرهم من أهل الأهواء والبدع.
وغير الرافضة أيضًا مثل بعض الخوارج، ومثل بعض المعتزلة يتناولون عليًّا، أو يتناولون عثُمَّان وعلي بالتنقُّص والذَّمِّ والعيب، ويتهمونهم بعظائم الأمور، فهؤلاء أيضًا يُقال عنهم -مثلما تقدم- أنهم يشغبون، ويوغرون صدور أهل الإسلام على الصَّحابة، ولهذا يجب الرد عليهم وبيان فضائل الصَّحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم.
من الأحاديث الواردة في هذا المقام: أنَّ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بعثه النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيت فقلت: "يا رسول الله، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ»، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟، فَقَالَ: «أَبُوهَ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب»، فَعَدَّ رِجَالًا"[56] وهذا الحديث في الصحيحين.
وجاء أيضًا في الصحيحين عن أبي الدرداء، قال: كنت جالسًا عند النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه، فقال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ»، يعني أصابه الغمر، وهو الغضب الشديد، فسلَّم أبو بكر فقال للنبي -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: "إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ"، يعني: نوع من الاختلاف، قال: "أَسْرَعْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَدِمْتُ"، يعني حصل مني هفوة، ثُمَّ ندمت على ما حصل مني. قال: "فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ"، يعني: أصاب أبو بكر الغَمر -وهو الهم والحزن- لأنَّ عُمَرَ لم يُسامحه، ولم يحلله فيما حصل بينهم، وربما هو شيء يَسير جدًّا -رضي الله عنهم أجمعين.
فقال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثً»، مرتين أو ثلاثة، فبينما هم كذلك إذا عمر قد ندم، والواقعة كلها في أقل من ساعة، وبعض الناس اليوم يتخاصمون مدة طويلة، فندم عمر فأتى منزل أبا بكر يُريد الاعتذار من أبي بكر في بيته، فلم يجده. قال: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثً»، فأتى النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- فسلم على النَّبيّ، فجعل وجه النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- يتمعَّر من الغضب، حتى أشفق أبو بكر، فجثى أبو بكر على ركبتيه، وقال: (وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ)، يعني أنا السبب، فلا تغضب على عمر.
فقال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَ»، قال أبو الدرداء: فما أوذي بعدها. وهذا الحديث في صحيح البخاري.
فهذا كله يدل على فضل أبي بكر ومكانته عند النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وعند عمر، وعند الصَّحابة كلهم، فهل يليق بمسلم أن يقول: إن أبا بكر اغتصب الخلافة! أو أنهم أذلُّوا عليًّا!
لا والله؛ بل هم أهل البيت ويحترمونهم، وأهل البيت يعرفون فضل أبي بكر وعمر وعثُمَّان، وليس بين الصَّحابة في هذا -ولله الحمد- أي نزاع، ولهذا فإن هذه المسألة هي مسألة عقيدة، فيجب أن نعتقد في الخلافة أنها بالترتيب، وأنَّ أول الخلفاء هو أبو بكر، ثُمَّ عمر، ثُمَّ عثُمَّان، ثُمَّ علي -رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأمَّا عمر فنأخذ بعضًا من أخباره.
سَبَقَ حديث عمرو بن العاص لمَّا سَأَلَ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم وقال: "يا رسول الله، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ»، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟، فَقَالَ: «أَبُوهَ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب»، فَعَدَّ رِجَالًا" فبعد أبي بكر عدَّ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- عمرَ، فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر.
وقال -عليه الصلاة والسلام: «اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرَ»[57]، وأيضًا ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "وُضِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى سَرِيرِهِ، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ، وَيُثْنُونَ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ، قَالَ: فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَأيْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَذَاكَ أَنِّي كُنْتُ أُكَثِّرُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم، يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَوْ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا"، رواه البخاري ومسلم، فاللهم ارضَ عن أبي بكر وعمر، وعن عثُمَّان، وعن علي، واجمعنا بهم في جنات النعيم يا رب العالمين.
وجاء أيضًا عن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- أنه قال في عمر: «إِيهًا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ»[58].
وقال -عليه الصلاة والسلام: «قَدْ كَانَ فِيمَا كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَهُوَ عُمَر»[59].
وفضائل عمر -رضي الله عنه- كثيرة جدًّا، أُلِّفت فيها مؤلفات، ومن أراد أن يرجع إلى السِّيَر فليرجع إلى التراجم، مثل: "البداية والنهاية" لابن كثير، أو "سير أعلام النبلاء" للذهبي، فقد ذكر جملة صالحة في ما ورد عن عمر، وهو مذكور أيضًا في كتب مناقب الصَّحابة التي في صحيح البخاري ومسلم، وغيرها، وأيضًا هناك كتب مؤلَّفة في فضائل أصحاب النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم.
أمَّا الخليفة الثالث فهو: عثُمَّان بن عفان.
ونُثْبِتُ الخلافة له بعد عمر، وذلك أنَّ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- جاء عنه ذكر عثُمَّان، وذكر فضائله، وأنَّه مُبَشَّر بالجنة، وأحاديث كثيرة ثابتة عن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم.
لما استُشهد عُمر جعلَ الأمر شورى في ستَّةٍ، فلمَّا أصيب -كما تقدم- بسبب ذلك المجوسي أبي لؤلؤة، قال عمرو بن ميمون راوي الخبر في قصة استشهاد عمر في صلاة الفجر: "إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس، وكان يُسوي الصفوف، ويقول: استووا، حتى إذا لم يَرَ خللًا تقدم، وربما قرأ سورة يُوسف أو النَّحل"، فكان -رضي الله عنه- يُبكِّر بالإقامة في صلاة الفجر، فيطيل في القراءة حتى يجتمع النَّاس.
يقول: "فما هو أن كبر فسمعته يقول: أكلني الكلب. فطار العلج بسكينٍ ذات طرفين، لا يمر على أحدٍ يمنًا أو شمالًا حتى طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا من المصلين، مات منهم سبعة، ولمَّا رآه رجلٌ من المسلمين طرح عليه برنسًا -الثَّوب الواسع- فنحر نفسه الخبيث، فقدَّم عمرُ عبدَ الرحمن بن عوف ليكمل الصَّلاة، فقرأ وصَلَّى بالنَّاس، والنَّاس تعجبوا خلف الصفوف أنهم لا يسمعون صوت عمر، إنما هو عبد الرحمن بن عوف، فَصَلَّى صلاةً خفيفة، فلمَّا انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فقال: غلام المغيرة. فقال: الصُّنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدَّعي الإسلام"، وجَلَسَ في هذه الأثناء ثلاثة أيام ثُمَّ استُشهِد وقُبِضَ -رضي الله عنه- فجعل الأمر شُورى في ستَّةٍ: عثُمَّان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله؛ وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء.
واختيار عمر لهؤلاء الستَّة دليلٌ على فَضْلهم، وَأَنَّهم أَفضَل المُؤهلين لِتَحَمل أعباء الخلافة، فتشاور هؤلاء الستة، وأَجْمَعَ رَأيهم على عثُمَّان وعلي، ثُمَّ تشاوروا، وجلس عبد الرحمن بن عوف لا يبيت ثلاث ليالي يَسأل المُهاجرين والأنصار حتى اجتمع رَأيُهم على أنَّ عثُمَّانَ أَفضَلَ مِن عَلي، وفي كلٍّ خير، فبايع المُسلمون عثُمَّان بن عفان على الخلافة.
فهذا شأن الستة الذين جعل فيهم عُمر الشُّورى، وَهم عثُمَّان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.
 
ومن فضائل عثُمَّان -رضي الله عنه: ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثُمَّانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم وَسَوَّى ثِيَابَهُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ، فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثُمَّانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ، فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ»[60]، وهذه منقبة عظيمة لعثُمَّان -رضي الله عنه- وهذا ممَّا أُثِرَ عنه أنَّه مِن أَعظم النَّاس حياءً.
ومِن مَنَاقِبه المشهورة، أنَّه لما كان يوم بيعة الرضوان، قبل صُلح الحديبية قال الله فيهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]، وكانوا ألف وأربعمائة، فأرسل النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- عثُمَّان إلى مكة ليفاوضهم، وكان مُحرمًا، فقال له أهل مكة: اعتمر. فقال: والله لا أفعل حتى يطوف رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- وهذا مِن شِدة اقتدائهم بالنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم.
فحبسوه عدَّة أيَام، فظنَّ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- أنَّهم أرادوا شرًّا، فبايع الصَّحابة تحت الشَّجرة على الجهادِ والقتالِ في سَبيلِ الله، فلمَّا بايعوه قال النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- بيده اليُمنى: «هَذِهِ يَدُ عُثُمَّانَ»، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الأُخْرَى عَلَيْهَا، فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثُمَّانَ»[61]، فجعل النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- يَدَهُ مَكَانَ يَد عُثُمَّان، وهذا يَدُلُّ على مَنقبةٍ عَظيمةٍ لعثُمَّان -رضي الله عنه.
وبعد عثُمَّان نُثْبِتُ الخلافة لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه.
لما قُتل واستشهد عثُمَّان -رضي الله عنه- بايع المسلمون عليًّا، وصار إمامًا حقًّا، وخليفة راشدًا، وهو الخليفة الرَّابع، ووجبت له الطَّاعة، وهذا أمر مُجمَعٌ عليه، حتى الذين اجتهدوا من الصَّحابة وأرادوا إقامة القِصاص على مَن قتل عثُمَّان، ورأوا أن ينتظروا البيعة حتى يُقتصَّ من قتلة عثُمَّان؛ كلهم مُتفقون على أنَّ عليًّا هو خيرهم، وهو الخليفة، والأولى والأحق بالبيعة، ولا أحد ينافسه إطلاقًا، ولم يكن يَدُرْ في خُلدِ معاوية أو عمرو بن العاص أو المغيرة، أو الزبير، أو غيرهم؛ أن ينازع عليًّا في هذا الأمر إطلاقًا، ولكنهم حدث بينهم اجتهاد في كونهم يريدون القصاص من قتلة عثُمَّان، ثُمَّ يُبايعون عليًا، لكنَّ علي بن أبي طالب رأى خلاف هذا الأمر، وحدث ما حدث، ولكن الجميع مُتففقون على أنَّه هو الخليفة بعد عثُمَّان، وأنَّه المستحق للبيعة، وبايعه المسلمون ولله الحمد، وهو الخليفة الرَّابع مِنَ الخلفاء الراشدين.
والمُدَد التي تولاها هؤلاء الخلفاء الأربعة ثلاثون سنة تقريبًا، ورد من حديث سفينة -رضي الله عنه- أن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- قال: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ»[62].
·       فكانت خلافة أبي بكر: سنتين وثلاثة أشهر.
·       وخلافة عمر: عشر سنوات ونصف.
·       وخلافة عثُمَّان اثنتي عشرة سنة.
·       وخلافة علي: أربع سنين وتسعة أشهر.
فالمجموع: تسعة وعشرون سنة وستة أشهر.
·       ثُمَّ تولى الحسن بن علي -رضي الله عنه وعن أبيه- الخلافة بعد استشهاد علي -رضي الله عنه- ستة أشهر، فصار المجموع: ثلاثون سنة.
ثُمَّ لما اجتمع الحسن بمعاوية -رضي الله عنهم أجمعين- تنازل له عن الخلافة في سَنَةِ أربعين مِنَ الهجرة، وَسُمِّي ذلك العام بعام الجماعة، وقال النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- قبل ذلك عن الحسن: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»[63]
فقوله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ»، فضل عظيم للحسن، وهو مِنْ سَادَات أَهل الجَنَّةِ مَعَ الحُسين -رضي الله عنهم أجمعين.
وفي قوله: «وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»، دليلٌ على أنَّه لا يجوز اتهام أحد بالكفر، أو التَّخوين والنِّفاق والفسق، وأنَّ المطلوب هو الإصلاح وَكَفِّ اللسان، وهذا الذي تَسَبَّبَ به الحسن -رضي الله عنه- هو الإصلاح بين المُسلمين، وجمع الكلمة؛ ولذلك سُمي بعام الجماعة.
ولو كان الحسن فوَّض الخلافة إلى فاسق -كما يزعم بعض المبتدعة- أو لكافرٍ -كما يزعم غلاتهم- لكان قد أساء إلى المسلمين، فلمَّا مَدَحَه النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- بهذا المدح وأنه سبب للإصلاح عُلِمَ أنَّ مُعاوية -رضي الله عنه- مِن خِيرَةِ المُسلمين، وأنَّ الحَسَنَ أَخير وأفضل، وأنَّ جَمعَ الكَلِمَة هُو المَقصد الأعلى والأعظم، ولا شَكَّ أنَّ مَا حَدَثَ بين الصَّحابة نَكفُّ أَلْسِنَتَنَا وأقلامنا عنه، ونعتقد أنَّه بين الأجر والأجرين، فالمُصيب له أجران، والمُخطئ مِنهم لَه أَجر واحد.
ونعتقد أنَّ عليًّا -رضي الله عنه- أقرب إلى الحق، وأولى بالحق لعدَّة أحاديث وردت في هذا المقام، وما جَرَىَ يوم الجمل ويوم صفِّينَ، وما جرى بعد ذلك من كلام وقيل وقال نُمسِكُ عنه، ولا نخوض فيه، ولا ننشره بين النَّاس حتى لا نوغِر صُدور النَّاس، وكثير مما ذُكِرَ في كُتُبِ التَّاريخ لم يثبت في الحقيقة، وكثير ممَّا في هَذه الكُتب له أجوبة ترد على بعض الإشكالات التي وردت، فبعضُ النَّاس يغلط وينقلها أمام الآخرين دون أن يُبين القَرائنَ المحتفَّة وبعض الأمور التي وقعت.
ثُمَّ الواجب -كما تقدم- أن نذكر مناقبهم وفضائلهم، وأنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- رضيَ عنهم، وَنَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- أَنَّهم في الجَنِّةِ، ونقول كما قال -عزَّ وَجَلَّ: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر:10].
وفي هذا المقام أيضًا نرد على الخوارج، وعلى النَّواصب، وعلى بعض المعتزلة، وأهل البدع؛ الذين تكلموا في علي -رضي الله عنه- فإنَّ مَن قدح في علي -رضي الله عنه- فهو ضالٌ مُضل وَمُبتدِعٌ، والنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- قال له: «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي»[64]، والنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- قال يوم خيبر: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا، أَوْ لَيَأْخُذَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِ»[65]، فأعطاها عليَّ بن أبي طالب، فهذه شهادة مِنَ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- على أنَّ عليًّا يُحبه الله ورسوله، وهو يحب الله ورسوله، فمحبته -رضي الله عنه- إيمان، والكلام فيه كُفر ونفاق، وهكذا نقول في عُثُمَّان، فَمَحَبته إيمان، والكلام فيه كُفْرٌ وَنِفَاقٌ، وكذلك عُمر وأبو بكر، فرضي الله عَن الصَّحابة أجمعين.
 
قال الطحاوي -رحمه الله: (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ).
الخلفاء: جمع خليفة، سمي خليفة لأنه يتولى الأمر بعد مَن قبله، ويتولى أمور المسلمين فيما يتعلق بالحرب والغزو والقتال والجهاد، وفيما يتعلق بالقضاء والفصل بين الناس، وفيما يتعلق بحفظ الثغور وحمايتها، وفيما يتعلق بالزكاة والأموال، وفيما يتعلق بأمور الناس؛ كل هذه الأشياء تحتاج إلى إمام، ولهذا يسمى بالخليفة.
الراشدون: جمع راشد، لأنهم رَشَدون، والرَّشَد: ضد الغيِّ، فالله -عزَّ وَجَلَّ- عصمهم من الغي، ووفقهم للرشد والهدى.
قال: (وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ).
الأئمة: جمع إمام، والإمام هو الذي يُقتَدى به، فلهذا فإن سيرة الصَّحابة -خصوصًا الخلفاء الراشدون- سنَّة متَّبعة.
مهديون: يعني أنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- هداهم، فنعتقد أنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- هداهم، فأعمالهم وما اتفقوا عليه وما كانوا عليه هذا هدى.
ولهذا ثبت في السنن من حديث العرباض بن سارية، قال: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[66]
فإن هذا الحديث صريح في تسميتهم بالراشدين والمهديين -رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأيضًا تقدم حديث: «اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرَ»، فحال أبي بكر وعمر أكمل لا شك، وحال عثُمَّان وعلي أكمل ممن بعدهم.
فلهذا ما اتفق عليه هؤلاء الصَّحابة يكون سنَّة ماضية، لقوله -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»، فهذا هو المطلوب من أهل الإسلام من معرفة الخلفاء الراشدين وترتيبهم، وأن أولهم أبو بكر وهو الخليفة بعد النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم- ثُمَّ بعده عمر وهو الخليفة الثاني، ثُمَّ بعده عثُمَّان بن عفان وهو الخليفة الثالث، ثُمَّ بعده علي بن أبي طالب وهو الخليفة الرابع -رضي الله عنهم.
فنحبهم ونعتقد خلافتهم، وأنهم مرتبون في الخلافة هذا الترتيب، وهذا الذي وقع قدرًا هو الأمر مشروع شرعًا، والذي يجب اعتقاد أنه حق، فأبو بكر خلافته حق، وعمر خلافته حق، وعثُمَّان خلافته حق، وعلي خلافته حق، ولا يجوز الطعن في خلافة أحد من هؤلاء -رضي الله عنهم أجمعين.
هذا ما تيسر حول هذا الموضوع المهم، فنسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرضى عن هؤلاء، وأن يجمعنا بهم، وأن يلحقنا بهم، وأن يجعلنا ممن سلك سبيلهم، واقتفى أثرهم، وسار على منهاجهم، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب الدعاء.
 
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تُقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم، وهذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة.
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 ------------------------
[49] صحيح البخاري (3654).
[50] مسند أحمد (1608).
[51] أخرجه مسلم (2378) مختصراً، وأحمد (25156)، والنسائي في «السنن الكبرى» (7081) باختلاف يسير.
[52] مسند الشافعي بترتيب السندي (ص: 362)، و (الإحكام)  لابن حزم (7/423)
[53] أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (2:  549) واللفظ له، وأبو نعيم في «فضائل الخلفاء الأربعة وغيرهم» (صـ141).
[54][54] صحيح البخاري (3409).
[55] رواه البغوي في شرح السنة عن سفيان الثوري (بابُ مُجَانَبَةِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ).ورواه كذلك ابن تيمية في مجموع الفتاوى من كلام سفيان الثوري (ص 33).
[56] رواه البخاري في "صحيحه" (رقم: 3662)
[57] أخرجه الترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وأحمد (23293)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/227) واللفظ له
[58] صحيح البخاري (3430).
[59] صحيح البخاري (3689)
[60] صحيح مسلم (4421).
[61] صحيح البخاري (3445).
[62] سنن أبي داود (4030).
[63] صحيح البخاري (2518).
[64] صحيح البخاري (3453).
[65] صحيح البخاري (3912).
[66] سنن أبي داود (3993).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك