الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2072 11
الدرس الثالث

العقيدة الطحاوية (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، ووأرحب أيضًا بفضيلة الشيخ الدكتور:  فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يحييك ويبارك فيك.
{سنشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ؛ وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"؛ نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللهِ.
وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمِهِ، وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ؛ غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبْدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء])
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رَسُولِ الله، وَعلى آلهِ وأَصحَابِه وَمَنْ اهتدى بهديه. أمَّا بعد،، فنسألُ الله -جلَّ وعَلا- لنا ولكم ولجميع المُسلمين العِلم النَّافع والعَمل الصَّالح.
هنا في قول الطحاوي -رحمه الله تعالى: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ؛ وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"؛ نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللهِ).
هذه الكلمة العظيمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" كنز من كنوز الجنة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى الأشعري: «يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»[24].
فهذه الكلمة معناها عظيم جدًّا، وتدلُّ عليه معانٍ جليلةٍ، مِن أَجَلِّ هذه المعاني: التبرؤ من حول العبد وقوته وقدرته، والثِّقة بالله، والتَّوكل عليه والاستعانة به، وهذا هو تحقيق قول الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [النساء:131].
 
فالمؤمن يَتوكل على الله في كل أموره وأحواله، ويَستعين بالله، ويرجع إليه، ويُفوض جميع الأمور إلى الله -سبحانه وتعالى- قال تعالى: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: 44]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]، وقال تعالى: ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر: 38]، وقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
فالمؤمنُ لا يَثِق في نفسه، ولهذا فمن أخطاء بعض النَّاس أنَّهم يقولون: عليك أن تَثِقَ بنفسك؛ إنَّما المؤمن يثق بالله ويتوكل على الله، نعم هو يبتعد عَن الوَساوس وعن العَجز الذي حذَّر مِنه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ»[25]، فَمَا يُسَمَّى بـ "الثقة بالنفس" إن كان مُراد المُتَحدثين بهذا المصطلح أنَّ الإنسان يبتعد عن العَجز والوسوسة والتَّردد في الأمور الصَّالحة والنَّافعة؛ فَنَعَم، ولكن لا يُعبرون عنه بهذا التعبير، بل يُعبرون عنه بما يَدل عليه، أمَّا التعبير بمصطلح "الثقة بالنفس" فهو خطأ لا شك في هذا، وإنما الواجب أن نقول: "الثقة بالله، والتوكل على الله، وتفويض الأمور إلى الله -سبحانه وتعالى".
 
"لا حول ولا قوة إلا بالله" كلمة استعانة، كلمة توكل، كلمة ثقة بالله، وركون إلى الله -عزَّ وجلَّ- وَمَن يَركَن إلى الله ويتوكل عليه ويثق به فقد هُديَ إلى صراط مستقيم، حتى الطَّاعات، حتى في الانتقال من الكفر إلى الإسلام، والثَّبات على الإسلام، حتى في الأرزاق، حتى في صلاح الأولاد وصلاح الأسرة، وغير ذلك مِن أُمُورك؛ فإنَّه لا حول ولا قوة إِلَّا باللهِ العَلي العظيم -سبحانه وتعالى.
ولهذا جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ»[26]، فالإنسان إذا وُكِلَ إلى نفسه وُكِل إلى عَجزٍ وضعفٍ وتفرقٍ وهوانٍ، وإذا وُكِلَ إلى رَبه -جلَّ وعَلا- وُكِل إلى الغني الحميد، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [محمد: 38].
فعلى المسلم أن يُكثر من هذه الكلمة، وأن يتدبر معناها، وأن يعمل بمقتضاها.
 
قال: (كُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمِهِ، وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ).
كل المقضيات وكل ما قدره الله -عزَّ وجلَّ- في هذا الكون فإنه يجري ويقع على حسب ما عَلم الله -عزَّ وجلَّ- وَكَتَبَ في اللوح المحفوظ، فكل هذه الأمور التي تَحْدُثُ في الكون هي تدبير العزيز الحكيم-سبحانه وتعالى.
وهنا مسألة مهمة: وهي أنَّ مَا قَدَّره الله -عزَّ وجلَّ- وَقَضَاه لا يَعني بالضَّرورة أنَّه مَرضيٌّ لله -عزَّ وجلَّ- من جهة أنَّه شرع ودين، فقد قَدَّر الله -عزَّ وجلَّ- أن يقع الكُفر، وأن تَقع المعاصي؛ فهذه مسخوطة لله -عزَّ وجلَّ- ومبغوضة، قال تعالى: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: 7]، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أنَّ الله لا يُحب هذه الأمور التي نهى عنها وَحَرَّمَها، وأبطلها، كالشِّركِ، والكُفر، والإلحاد، والفُسوق، والعِصيان؛ وإن كانت هذه الأمور تقع بقضاء الله وقدره الكوني، لكن لا يعني هذا رضاه عنها -سبحانه وتعالى.
 
ولهذا يقول العلماء: المشيئة لا تكون إلا كونية، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 89].
وكذلك القدر كوني، أمَّا القَضَاء والإرادة فقد ورد في النُّصوص الشَّرعية التعبير عنها مرة بما يُقصد به الأمر الكوني، وقد ورد ما يدل على أنَّ المراد به الأمر الشَّرعي، ولهذا أمثلة، ويمكن للمسلم الرجوع إلى القُرآن الكريم، وسيجد أنَّ لَفظَ القَضاء والإرادة وَرَدَ في كتاب الله على معنيين واضحين ظاهرين تمام الظهور.
المعنى الأول: هو القدر بمعنى المشيئة، مثل قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْر أَنَّ دَابِر هَؤُلَاءِ مَقْطُوع مُصْبِحِينَ﴾ [الحجر: 66]، قضينا يعني: قَدَّرنا، فهذا بمعنى المشيئة.
المعنى الثاني: تَرِدُ بمعنى الشرع، وهذا عكس الأول، مثل قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، يعني: أَمَرَ ووصَّى، فهذا جعله شرعًا.
أمَّا قوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْر أَنَّ دَابِر هَؤُلَاءِ مَقْطُوع مُصْبِحِينَ﴾ ، هذا قضاء كوني، وله نظائر في القرآن، وذكر الشَّارح على هذا أمثلة، ومنها: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: 12]، القضاء هنا بمعنى المشيئة، الشيء الكوني الذي قَدَّره وأمضاه.
وأمَّا القَضَاء الشَّرعي فمثل ما ذكرنا من قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، يعني: أَمَرَ ووصَّى، فبعض العباد لم يفعل هذا، وعَصَى الله -عزَّ وجلَّ- كالكافرين والمنافقين، ونحو ذلك.
 
كذلك الإرداة تأتي في كتاب الله بمعنى المشيئة، وتأتي في كتاب الله بمعنى المحبة والأمر المشروع.
فمن الأول: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، هذا لكل المقادير، وهنا بمعنى المشيئة.
ومثال الثاني في معنى الإرادة: قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، يعني: شرع لكم اليُسر، ولم يشرع العُسر، فهذه الإرادة الشرعية الدينية بمعنى المحبة.
وهذا له نظائر في كتاب الله وفي سُنَّةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
بعض الألفاظ مثل: "الإرادة، والقضاء، والأمر، والإيحاء، والكتابة، والإرسال، والكلمات، والإذن، والحكم، والتحريم" َتَرِد مرة بمعنى المشيئة فيكون معناها الشيء المقضي المقدر، وَتَرِد مرة بمعنى المحبة، فيكون معناها الشيء المشروع المحبوب لله -عزَّ وجلَّ- وهذا يُعرف بالسياق ومراجعة كلام العلماء.
هذا التعليق على قوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمِهِ، وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ).
قوله: (قَضَائِهِ) القضاء يأتي مرة كونيًا بمعنى المشيئة، ويأتي مرة شرعيًا بمعنى المحبة.
سؤال: هل المشيئة تأتي مرة بمعنى الشيء القدري الكوني، وتأتي بمعنى الشيء الشرعي المحبوب؟
نقول: لا، المشيئة في كتاب الله وفي سُّنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تأتي إلا بمعنى واحدٍ وهو الكوني القدري.
كما أنَّ المحبة -في المقابل لهذا- ما أحبه الله ورضيه، ولا يلزم أن يكون بمعنى المشيئة -الشيء المقدر الكوني- إنما يكون أمر شرعي محبوب لله -عزَّ وجلَّ- ولا يكون بمعنى المشيئة، ولا بمعنى الأمر القدري الكوني.
هذه المسألة بعض الناس زلَّ فيها وغلط غلطًا شنيعًا، ولكن إذا تدبرت الآيات عرفت.
نأخذ على هذا مثالًا: في سورة البقرة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183]، عبر بلفظ "الكتابة" فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ .
وقال تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ [فاطر: 11]، هنا قال: ﴿كِتَابٍ﴾ .
الآية الأولى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ ، أي: شُرع، ولكن هل كل الناس صاموا؟
لا، منهم مَن صام، ومنهم مَن لم يَصُم، المؤمنون صاموا، والكفار أعرضوا.
الآية الثانية: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ ، هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، جميع العباد دخلوا فيه بدون استثناء، إذن هذا أمر كوني، أمَّا ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ فهو أمر شرعي ديني، محبوب إلى الله -عزَّ وجلَّ- وأمر به وأوجبه على العباد، وهكذا قِسْ على هذا.
قال المؤلف: (غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَ)، مشيئة الله نافذة، بخلاف مشيئة المخلوقين فإنها غير نافذة، يعني: ما شاءه الله لابد أن يقع، لا يمكن أن يحول أحد بين مشيئة الله وبين وقوعها، فما شاءه الله كان -يعني: حصل ووجد- وما لم يشأ لم يكن، ولو اجتمع العباد كلهم على أن يردوا مَشيئة الله عجزوا، فمشيئة الله غالبة، وهذا معنى قوله: (غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَ).
قال المؤلف: (وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ)، يعني: قدر الله. (الْحِيَلَ كُلَّهَ)، ولهذا فتوكل على الله، فلو اجتمع من في السَّماوات والأرض على أن يكيدوا لك بأعظم الكيد وأراد الله -عزَّ وجلَّ- أن يُنجيك؛ جعل الله لك فرجًا ومخرجًا، والحمد لله رب العالمين، فمن توكل على الله كفاه، وهذا فيه حديث عبد الله بن عباس: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»[27]، فتوكل على الله.
قال المؤلف: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبْدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ ).
هذا كما قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود: 107]، وقال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: 253].
 في قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ ، الإرادة هنا كونية قدريَّة؛ لأنَّها تابعة للمشيئة، فما شاءه الله وَقَعَ وفعله، فما من أحد يرد قدر الله، لا معقب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه -سبحانه وتعالى.
بخلاف العباد، فلو شاؤوا شيئًا ولم يشأ الله هذا الشيء؛ لم يكن، فما شاءه الله -عزَّ وجلَّ- وُجِدَ وكان.
 
ثم قال: (وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبْدً) الله -عزَّ وجلَّ- تنزَّه عن الظُّلم، ونزَّه نفسه عن الظُّلم، قال تعالى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]، وقال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44]، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمً﴾ [طه: 112]، وقال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: 76]، وقال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [ق: 29]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فالله -عزَّ وجلَّ- تنزَّه عن الظلم، لا يظلم ربك أحدًا.
وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «قَالَ اللهُ تَعَالى: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُو».
إذن هذا الظُّلم نزَّه الله نفسه عنه وحرَّمه على نفسه، ولا يقع مِنَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- هذا الظُّلم لكماله، ولكمال عَدْلِه، وهذه من الصفات التي تُنفَى عن الله -عزَّ وجلَّ، وتسمى بالصفات المنفيَّة عن الله، وهذه الصفات يَقتضي نفيها إثبات كمال ضدها، كما دَلَّت على ذلك النُّصوص.
ما ضد الظلم؟
العدل، إذن لا يَظلم رَبُّكَ أحدًا لكمال عدله، ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255] لكمال حياته وقيُّوميَّته، ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق: 38]، لكمال قوَّته وقدرته، وهكذا..
فهذه الصفات المنفية عن الرَّب -سبحانه وتعالى- نُفيَت عن الله -عزَّ وجلَّ- لكمال ضدها؛ لأنَّ الله مُتَّصفٌ بالكمال المطلق. وهذا معنى قول المؤلف: (وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبْدً)، يعني: أفعال الله -عزَّ وجلَّ- لا يقع فيها الظلم، فيما هو مُضافٌ إلى الرَّب -عزَّ وجلَّ.
 
لكن قد يظلم العباد بعضهم بعضًا، وبعض الناس قد يظلم نفسه، وأظلم الظُّلم وأخبثه وأقبحه هو الشِّرك بالله -عزَّ وجلَّ- قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، فالعبد يظلم نفسه، ويظلم غيره، وقد يقع منه الظلم لربِّه عندما يعبد غير الله -عزَّ وجلَّ- ويُشرك في عبادة الله.
ولهذا فالعباد فيهم هذا النقص العظيم، حَتَّى أَكمَل النَّاس وهم الصَّحابة -رضي الله عنهم- عَلَّمَهُم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوا بهذا الدعاء، "
فَعن أَبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه، أَنَّه قَالَ لِرَسولِ اللَّه ﷺ: عَلِّمني دُعَاءً أَدعُو بِهِ في صَلاتي، قَالَ: «قُلْ: اللَّهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كثِيرًا، وَلا يَغْفِر الذُّنوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِر لي مغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ، وَارحَمْني، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفور الرَّحِيم»"[28].
 
فالعبد يَقع مِنه الظُّلم لنفسه وهو لا يشعر، مثل: من لا يقوم بشكر النِّعَم كما ينبغي، أو يقع في الذنوب وهو لا يشعر، وهذا ملازمٌ للإنسان من حيث هو إنسان، ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾ [الأحزاب: 72]، لكن إذا آَمَن وأَسلَمَ قَلَّ ظُلمه، ومن قوي إيمانه كَادَ الظلم أن يَتَلاشى، ولهذا كان المؤمن مأمورًا بأن يتوب إلى الله -عزَّ وجلَّ- ويستغفر، ولهذا دعاء سيد الاستغفار كما في حديث شداد بن أوس: قال النبي -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»[29]، انتبه لهاتين الناحيتين:
- الاعتراف بالنِّعم، والقيام بشكرها.
- الذنوب التي يقع فيها.
قال -صلى الله عليه وسلم: « أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ».
فعندما يُقصر الإنسان في شُكر النِّعم فهذا نوع من أنواع الظُّلم، أو عندما يقع في الذنوب فهذا نوع من أنواع الظُّلم، ولكن هذا الظُّلم لا يُنافي الإيمان، بل يجتمع مع الإيمان، ويجمتع مع صفات الصِّديقين إذا قلَّ، فالصديق يقع منه هذا الشيء ولكنه قليل جدًّا، وهو مع ذلك مأمور بأن يرجع إلى الله؛ بل حتى الأنبياء والرسل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً»[30]، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه.
فكلَّما زَادَ عِلمُ العبد بربه كُلَّمَا زادَ تعظيمه لله، وَزَادَ شُكره لله -عزَّ وجلَّ- وزادت عبادته لله، وزاد قيامه بحق الله، وهذا معنى الإحسان، والناس في هذا على مراحل.
 
نرجع إلى الموضوع السَّابق، وقوله: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبْدً) هنا ضلَّت طائفتان في مسألة الظلم:
 الطائفة الأولى: المعتزلة والقدرية وما شابههم، قالوا: كلُّ ما كان ظُلمًا مِنَ العِباد فيما بينهم فهو ظلم في حَقِّ الرَّبِّ.
فقاسوا الخالق على المخلوق، حتى إنهم ضربوا أمثلة في كتبهم، وأعيذكم بالله أن ترجعوا إلى كتبهم أو أن تنظروا فيها، فإنَّ كتب أهل البدع كتب ضلال، وكتب سموم، يجب الحذر منها وإتلافها والبعد عنها، ولكنهم هم في ضلالاتهم يقولون: إِذَا أَمَرض السَّيد عبده بكذا؛ فهذا قبيح منه وظلم منه لعبده، إذا قال: كذا وكذا...، إذن فالرب -عزَّ وجلَّ- إذا قال لعباده: كذا...، فيقيسون الخالق على المخلوق! وهذا من جهلهم وضلالهم. ويقولون: ما كان من بني آدم ظلمًا وقبحًا فهو في حق الله ظلم قبح، ويقيسون الرَّب الغني القادر على العبد الفقير العاجز النَّاقص من كل وجه.
 
هذا المعنى الفاسد ألجأهم إلى ضلالات كثيرة، مِن ضمنها أنهم قالوا: إنَّ الله لم يخلق أفعال العباد، فنفوا عموم خلقهم، والله -عزَّ وجلَّ- هو خالق كل شيء، أفعال العباد وغيرها مخلوقة لله -سبحانه وتعالى.
والرد عليهم بأن نقول:
أولًا: لا تقيسوا الخالق على المخلوق، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل: 74]، وقال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ [مريم: 65].
ثانيًا: نقول لهم أيضًا: إنَّ إلزاماتكم التي تُلزمون بها مَن تناقشونهم أو تجادلونهم غير لازمة؛ لأنَّ الحِجج ليست في عقولكم ولا في أقيستكم، إنما الحجج في كلام الله، وفي كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: نقول لهم: إنكم التزمتم بهذا القول الفاسد بلوازم باطلة، منها:
- إنكار عموم خلق الله لأفعال العباد وغيرها
- أنكم وضعتم في باب القدر وضللتم فيه.
الطائفة الثانية في المقابل لهؤلاء قالوا: الظُّلم عبارة عن الشيء الممتنع، وهو أن يتصرف في غَير ملكه، والله -عزَّ وجلَّ- له كل شيء، فأي تصرف يقع من الله -عزَّ وجلَّ- فليس بظلم. وهذا هو قول الأشاعرة والجبرية.
إذن هُم ضَلَّوا في الظُّلم أيضًا؛ لأنَّهم جَعلوه كأنه يتصرف في غير ملكه، وهذا غلط، والتزموا لهذا لوازم فاسدة، مثل قول بعض الأشاعرة:
- إنَّ الله يجوز له أن يعذب أنبياءه ورسله ويدخلهم النار!
نستغفر الله ونتوب إليه، مع أنَّ القرآن والسنة فيهما بيان مكانة الرسل والأنبياء.
 
يقولون: يجوز ذلك؛ لأنَّ الله يملك الشَّيء، فإذا فعل ذلك فليس بظلم!
سبحان الله! هذه الضلالات يَنبَني عليها أقوالاً فاسدةً كثيرة، ولا نُريد أن نُعدِّدها، ولكنك تَعرِف قُبح القول من بعض أمثلتهم.
أمَّا عند أهل السُّنَّة والجماعة فالظلم ليس بهذا المعنى الذي عند المعتزلة، وليس بالمعنى الذي عند الأشاعرة، فمعنى الظلم في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم: هو أن يُنتقَص من حسنات العبد، أو يُجعل عليه مِن سيئات غَيره من غير أن يعملها، وهذا معنى قوله: ﴿فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمً﴾ [طه: 112]، ولهذا قالوا في الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمً﴾ [طه: 112]، فلا ينتقص الله -عزَّ وجلَّ- من حسناتك أبدًا، ولا يضع الله عليك من سيئات غيرك مما لا تفعله، وليس لك سبب فيه. فها هو معنى الظلم.
 
أمَّا أن نقول: إنَّ الظُّلم هو تصرف في غير مُلكه؛ لا، فالله -عزَّ وجلَّ- له أن يتصرف بما شاء، ويفعل ما يشاء، ولكنه أخبر سبحانه عن نفسه فقال: «إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُو»[31]، فهل يجعل أولياءه مثل أعدائه! ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54]، هل يُدخل أنبياءه ورسله النَّار -كما يزعمون؟!
هذه كلها أقوال فاسدة وسيئة جدًّا، ولها لوازم باطلة.
أمَّا حديث «لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ، وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ»[32]، فليس فيه جواز أن يُدخلهم النَّار، ولكن هذا في بيان أنَّ أعمالهم لا تقوم ولا تقابل رحمته، وأنَّه لو قَدَّر أَنَّه يُعذبهم فهو لا يَظلمهم -عزَّ وجلَّ- من جهة أنَّ الذنوب التي عملوها ووقعت منهم؛ فالله -عزَّ وجلَّ- يعذبهم بها، وهذا الأثر في سنده مقال، ولكن هذا معناه أنَّ نِعَمَه على عبادهِ أكبر من حسناتهم وأعمالهم؛ لتقصيرهم في الشُّكر أو إسرافهم على أنفسهم بالذنوب؛ فلو عرف حق الله وقدره، وهو أن يُطاع فلا يُعصَ، ويُذكَر فلا يُنسَ، ويُشكر فلا يُكفر، ويكون له كمال الحب والإنابة والعبودية على وجه الكمال؛ فهذا مقدور في الجملة، ولكن النفوس قد تضعف عن كماله وواجباته.
على كل حال؛ فالمؤمن عليه دائمًا أن يعترف بنقصه، وأن يتذكر حاجته إلى ربِّه، وأنَّ الله هو المتفضل عليه، حتى إذا عمل الصَّالحات تذكر فضل الله عليه.
ونضرب لذلك أمثلة: في قوله -سبحانه وتعالى- عن موسى: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]، فتذكر افتقارك لله -سبحانه وتعالى- وتذكر حاجتك إلى الله -سبحانه وتعالى- في كل الأمور، فإذا كان أبو بكر -رضي الله عنه- يُعلَّم أن يقول: «اللَّهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كثِيرًا، وَلا يَغْفِر الذُّنوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِر لي مغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ، وَارحَمْني، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفور الرَّحِيم»، فما بالك بمن دون أبي بكر -رضي الله عنه- وهو أفضل هذه الأمة!
ولهذا كان من الجرائم أن يستكبر الإنسان على الله -سبحانه تعالى- ويرى نفسه فوق الاستغفار، وأنه لا حاجة له لأن يستغفر، ولا حاجة له لأن يتوب إلى الله، ولذا خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الناس وقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ»[33]، فاللهم صلِّ وسلم عليه.
فهذا هو الواجب على أهل الإسلام، أن يعترفوا بفضل الله عليهم، وأن يرجعوا إليه، وأن يُكثروا من الاستغفار والتوبة، وأن يتذكروا أيضًا نِعم الله -سبحانه وتعالى:
قال المؤلف: (تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ)، يعني: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- مُقدَّس عن كل النَّقائِص، وأنَّ الله نَفَى عَن نفسه كل نقصٍ، وكل سوءٍ كذلك، وهذا معنى اسم الله تعالى: "القُدوس"، يعني: المنزَّه عن كل عَيبٍ ونقصٍ -سبحانه وتعالى.
قال المؤلف: (﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ )، يعني أن الله -سبحانه وتعالى- لكمال عدله، ولكمال صفاته، ولكمال أسمائه الحسنى؛ فإنَّه -سبحانه وتعالى- لا يحق لأحد من العباد أن يتعقَّبه، وأن يعترض عليه، ويقول: لماذا فعل الله كذا؟! ولماذا كذا؟!! لا، الله -عزَّ وجلَّ- له الكمال المطلق، فلا يُسأل عما يفعل.
بخلاف العباد فهم يُسألون، تقول: لماذا صنعت أنت اليوم كذا؟ لماذا فعلت كذا؟ فلا بأس أن يُسأل العبد ويُحاسب، ولكنَّ الرَّب -سبحانه وتعالى- لا يُسأل، فلا أحد يعترض على الله تعالى؛ لأنَّ أفعال الله كلها أفعال كمال، وصادرة عَن عِلمٍ وَحِكمَةٍ وعدلٍ، ورحمةٍ، وإحسانٍ، فكون بعض العباد لا يُدرك الحكم، ولا يُدرك الغايات العظيمة والفوائد الجسيمة؛ فكونها لا يدركها لا يعني هذا أنها غير موجودة، ودائمًا العباد فيهم جهل وقصر نظر، فلا يُدركون المآلات، ولهذا رب العالمين بيَّن كماله، وهو أنَّه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ .
 
هل معنى قوله: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ ، أنَّ أفعال الله لا تُعلَّل؟ يعني: ليس لها حكمة؟
نقول: لا، أفعال الله -عزَّ وجلَّ- مبنيَّة على العلم والحكمة، ولكن العباد لا يُحيطون بها، ولا يُمكن أن يُحيطوا بها. ويحيطوا، أي: يُحصوا- ولا عشر معشارها، فأفعال الله كلها علم، وحكمة، ورحمة، وعدل، وإحسان، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49].
ولهذا فإنَّ الله إذا فعلَ شيئًا فإنَّه يكون في موضعه، بخلاف العبد، فأفعال العباد حتى لو كانوا في الجودة والإتقان ما شاؤوا إلا أنهم يقع منهم النقص، ويقع منهم الخلل، ويقع منهم الغلط.
وحتى المقاصد عند العباد، عندهم ظلم، وحسد، وكبر؛ ولهذا يقع فيهم التناقض والاضطراب، أمَّا الرب -سبحانه وتعالى- فإنه له الكمال المطلق، ولا يمكن أن يكون في أفعاله -سبحانه وتعالى- نقص ولا خطأ، فهو مُنزهٌ عن ذلك -جل جلاله وتقدست أسماؤه.
 
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ. وَاللهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ. وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ)}.
قوله: (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ)، هذه مسألة فقهية ولكن لها ارتباط بالعقيدة، وهي دعاء الأحياء هل يصل للأموات؟ وكذلك هل تصل صدقات الأحياء للأموات؟
الحيُّ في الدنيا قبل أن يموت إذا دعا للأموات سواء لوالديه، أو دعا لمن مات من أقاربه، أو دعا لعموم المسلمين؛ هل يصل نفع ذلك الدعاء للميت؟
نعم، من عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ دعاء الأحياء ينفع الأموات، وكذلك الصدقات، طبعًا هذه دعوات شرعًا، وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[34]، فالصدقة الجارية مثل: بناء مسجد، أو حفر بئر، أو مصحف، ونحو ذلك مما يبقى ويجري أجره على الميت.
الثاني: العلم الذي يُنتفع به، يعني علَّم طلابًا فصار هؤلاء الطلاب يُدرسون الناس ويعلمونهم أحكام الدين، ويفقهونهم في دين الإسلام، أو وضع كتابًا نافعًا جمع فيه ما يُفيد المسلمين في دينهم.
«أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، فهذا بيَّن أنَّ الدُّعاء من عمل الإنسان لا ينقطع، فإذا مات انقطع عمله، كان يُصلي الصَّلوات الخمس، كان يتصدق، وكان يفعل كذا وكذا، بموته انقطعت هذه الأعمال، ولا يُضاف إلى حسناته شيء، ولكن هذه الثَّلاث تُضاف إليه، ويكون له أجر وثواب وحسنات بسبب هذه الثلاثة.
وقد بيَّن الله -عزَّ وجلَّ- أنَّ هذا نافعٌ فقال في الصنف الثالث من المهاجرين والأنصار: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
قوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ﴾ لو كان قوله: ﴿وَلِإِخْوَانِنَ﴾ لا فائدة فيه، ولا يصل منفعته لهم؛ لكان لغوًا، ولم يمدحهم الله بهذا!
فعُلم أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- مدحهم بهذا؛ لأنَّ سؤالهم المغفرة لمن مات مِن إخوانهم دليلٌ على أنهم ينتفعون به، وهذا يدل على أنَّ دُعاء الأحياء ينفع الأموات.
وكذلك الصدقات، جاء في السُّنَّة عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ أحد الصَّحابة قال: إِنَّ أُمِّي افْتَلَتَتْ نَفْسَهَا وَأَرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « نَعَمْ »[35].
فالصدقة على الميت -خُصوصًا للوالدين- تنفعهم وتصلهم -بإذن الله تعالى- ويكون لهم الأجر والثواب، كما أنَّ هذا الابن البار -أو البنت البارة- له أجر البر والإحسان، وربك واسع الرحمة والجود، فيعطي الميت من والدٍ أو والدة -أو كلاهما- ويعطي أيضًا الثواب والأجر لهذا الولد البار، أو لتلك البنت البارَّة.
وكذلك جاء في هذا المعنى: الحج والعمرة عن الميت، فثبت في السنة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ»[36]، فيمن مات أبوه وأراد أن يحجَّ عنه.
وكذلك الصوم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[37]، وبعض أهل العلم يجعل هذا خاصًّا بالنذر، وهذا منقول عن الإمام أحمد -رحمه الله.
بعض أهل العلم يوسِّع ويقول: هو في كل صوم تعلق بالذمة، سواء كان نذرًا أو كفارة، ونحو ذلك.
وبعضهم يقول: سواء في النذر أو غير النذر، كصيام الفريضة.
ولكن المشهور والمُرجَّح عند كثير من أهل العلم: أنَّه في صيام النذر أو ما تعلقت به الذِّمَّة من كفارات ونحوها.
لكن غير هذه الأعمال -الدعاء، الصدقة، وصيام النذر، والحج والعمرة- هل يصل أول لا؟
مثال ذلك: أن يُزكِّي عنه، أو يُصلي عنه صلاة الفريضة أو النَّافلة، أو يُسبِّح عنه -يقول سبحان الله- أو يقرأ القرآن عنه؛ فهل هذا يصل؟
هذه القُرَب اختلف الفقهاء في وصول أجرها وثوابها للأموات، والصحيح -والله أعلم: أنه يُقتَصر على ما ورد به النَّص.
وبعض الناس يجعل مُقرئين يَقرؤون القُرآن على الميِّت، فإذا مات ميِّتهم قالوا: نأتي بمقرئ يقرأ القرآن، ويُعطون هذا المقرئ أجرةً ومالاً، فسبحان الله!
حُرِمُوا منَ السُّنة ووقعوا في البدعة، فبدلًا من أن يفعلوا السُّنَّة وهي الصدقة عن الميت أتوا بمقرئ يأخذ أجرًا على قراءته، فصار هذا المقرئ لا ثواب له؛ لأنَّه أراد أَمرَ الدُّنيا أو مالًا دنيويًّا، ولا يريد أجرًا أُخرويًّا، وهم أيضًا فعلوا بدعة لم يفعلها خير هذه الأمة، وهم الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم.
فهذه المسألة أوردها أهل العلم في العقيدة؛ لأنَّ بعض الفلاسفة يُنكر أثر الدعاء، وكذلك بعض ضلال الصوفية، وبعض القدرية، يقولون: ما الفائدة مِنَ الدُّعاء إذا كان الله قَدَّر الشيء فيقع؟!
نقول: هناك فائدة من الدعاء، الله -عزَّ وجلَّ- أمر بالدعاء، فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186]، وأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- رتَّبَ المسببات على أسباب، ومن أعظم الأسباب: الدعاء.
والأموات بحاجة إلى الدعاء، ولذلك ندعوا الله -عزَّ وجلَّ- للأموات كما ندعوا للأحياء، وندعوا للأنفسنا قبل ذلك.
هذا معنى قوله: (وَاللهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ).
{مسألة يا شيخ...
ما كيفية الصدقة؟ هل تكون مطلقة؟ أو عند القبر؟}.
الصَّدقة على الميِّتِ لا تُشرع عند القبرِ، فبعدما يُدفن الميت يُستغفَر له فقط، ولا يُتصدَّق عند القبرِ، وهذا من الأدلَّةِ على نفعِ الدُّعاءِ للميِّتِ، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ»[38]، فالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- يُوحى إليه، وهو يعلم متى يُسأل، فقال «فَإِنَّهُ الآنَ»، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم من جهة الوحي، أما أنا وأنت والثَّاني والثَّالث ما نقول "فهو الآن"؛ بل نقول: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت"، هل يُسأل الآن أو قبل قليل أو بعد قليل؟! الله أعلم!
فقوله «فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ» خاصٌّ بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فإذا جئت تُذكِّر إخوانك بعد الدَّفنِ تقول: "استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت".
قال: (وَاللهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ)، فنلجأ إلى الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، فاسأل الله كلَّ حاجاتك، حتى الحاجات التي يراها النَّاس ضئيلة وصغيرة، فاسأل الله كلَّ شيءٍ حتى لو انقطع شسع نعلك، حتى لو احتجت الملح؛ فالجأ إلى الله تعالى في كلِّ أمورك، صغيرها وكبيرها، وأنزِل حاجاتك بالله -عزَّ وجلَّ- وأبشر بالخيرِ، فاللهُ يستجيب الدَّعوات ويقضِي الحاجات -سبحانه وتعالى.
{قال المؤلف: (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ.
وَلَا غِنًى عَنِ اللهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ)
}.
قوله: (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ)، الله -عزَّ وجلَّ- يملك كل شيء، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 189]، ﴿ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير﴾ [الملك: 1]، وقال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26]. فلا أحد يُنازع الله في ملكه أبدًا، فليس له شريك في الملك.
قوله: (وَلَا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ)، أي: لا يملك معه أحد شيء، فالله -عزَّ وجلَّ- هو الخالق البارئ المصور، الملك، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، ولا أحد يفرض على الله شيء، ولا أحد يُلزِم الله بشيءٍ، فالناس والعباد، والجن والإنس؛ كلهم مفتقرون إلى الله، ومحتاجون إليه، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68]، فهذا معنى قوله (وَلَا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ).
قال: (وَلَا غِنًى عَنِ اللهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ).
لا غنى لنا عن الله، الله -عزَّ وجلَّ- هو الذي أحيانا، الله هو الذي أوجدنا، الله هو الذي أمدَّنا بالنِّعمِ وصرفَ عنَّا النِّقم، الله -عزَّ وجلَّ- هو الذي جعلَ فينا هذه الآلات من سمعٍ وبصرٍ وفؤادٍ وقلبٍ ودمٍ وروحٍ، إلى آخره؛ فلا غنًى لنا عن الله، حتى في أمورِ الدِّين لا غنى لنا عن ربِّنا -سبحانه وتعالى- طرفةَ عينٍ.
قال: (وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ)، أهل الحين: هم أهل الكفرِ والشِّرك، فمَن زعم أنَّه يستغني عن الله فهذا كافر.
قال الله تعالى في سورة العلق: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ * إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ﴾ [العلق 6-8]، فهذا تهديد له.
والله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر 15 - 17]، فالمؤمن يرجع إلى الله -سبحانه وتعالى- ويستشعِر فقرَه وحاجَتَه إلى اللهِ، وإذا حصلت غفلة عندَ الإنسان ونظرَ إلى جسمِهِ، ونظرَ إلى صحَّتِهِ، ونظرَ إلى شبابِهِ، ونظرَ إلى مالِهِ، ونظرَ إلى عيالِهِ، ونظرَ إلى أملاكِهِ، ومزارعِهِ، ومُلكِهِ، ونحو ذلك؛ فاغترَّ بهذا؛ فعليه أن يتوبَ ويستغفرَ، وأن يعلمَ أنَّه فقيرٌ وعاجزٌ، ولو جلسَ في بروجٍ وحصونٍ محصَّنةٍ؛ فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قادرٌ على أن يأخذَ روحَه ويُهلكَه ويُميتَه في لحظةٍ، فلا تُغني عنه أملاكُه ولا حُرَّاسه، ولا تغني عنه أموالُه، ولا تغني عنه زوجاتُه ولا أولادُه، فالعبدُ مفتقرٌ إلى الله -سبحانه وتعالى.
فمَن استغنى عن اللهِ كفرَ، فلا يستغنِ عن الله مؤمن؛ بل يستشعر حاجتَه وفقرَه إلى ربِّه، فالمال مالُ الله، والصِّحةُ من الله، والشَّبابُ والقُوَّة والأصحاب والجند؛ كلُّ هذا من الله -سبحانه وتعالى- لو شاء لسلبها مِن العبد، فكلُّ مؤمنٍ يجب عليه أن يرجعَ إلى الله، ويستشعرَ حاجتَه وافتقارَه إلى اللهِ.
ثم إنَّك إذا قام بقلبك الافتقارُ إلى الله -عزَّ وجلَّ- فهذا علامة قوة إيمانك، ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَ﴾ [القصص 23،24]، فجاء الفرج، فبمقدار افتقارك إلى الله يأتيك الفرجُ، ويأتيك الخيرُ، ويأتيك التَّوفيقُ، ويأتيك المددُ من الله -سبحانه وتعالى- أسأل الله أن يُصلح قلوبَنا، وأن يهدينا إلى ما يُحبه ويرضاه، وأن يستعملنا في طاعته.
فهذه الجُمَلُ جملٌ عظيمةٌ، وهي من عقيدةِ أهلِّ السُّنَّة والجماعة، أسألُ الله أن يُثبِّتنا وإيَّاكم على طريق أهلِ الإيمانِ، أهل السُّنَّة والجماعة، والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين.
{وفي الختام أشكركم فضيلة الشَّيخ على ما أجدتُّم به وأفدتُّم، وأيضًا أشكركم أنتم أيُّها المشاهدون على حسنِ استماعِكم وإنصاتكم، إلى أن نلقاكم في الحلقة القادمة.
إلى ذلكم الحين، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------
[24] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ النَّسَائِيُّ: وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ.
[25] رواه مسلم (2664).
[26] أبو داود (5090)، وأحمد (20430)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 3:  250، وفي صحيح الأدب المفرد، 260، وقد حسن إسناده أيضاً العلامة ابن باز في تحفة الأخيار، ص 24.
[27] روى الترمذي (2516) وصححه، وقال ابن رجب: عن طريق الترمذي هذه: "حسنة جيدة" انتهى من "جامع العلوم والحكم" (1: 483)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
[28] متَّفَقٌ عليهِ.
[29] متفق عليه
[30] رواه مسلم
[31] رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري
[32] رواه أحمد (241).
[33] رواه مسلم (2702)
[34] رواه مسلم (426)
[35] البخاري (2609)
[36] متفق عليه.
[37] رواه البخاري (1851)
[38] سنن أبي داود (3221)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود .

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك